يرتبط الظل في المتخيل بالشجرة، فيأخذ قدسيةً ترتبط بالطبيعة وبالشعر. حين يثار لفظ الظل يتجه فكرنا إلى النخلة أو الصفصاف أو الزيتون أو الكرمة، وقلما نعير اهتماما للظل الناتج عن ناطحات السحاب. ظلُّ الشجرة متغير متحرك باستمرار، ظل ناطحات السحاب ثابت يحجب نور الشمس ليل نهار، الغمام ظل الشمس في حمى الأربعين أو أكثر، والظل لباس كل جرم وجسم ثابت أو متحرك . هكذا يتخيله الشعراء على الأقل .
يرتبط الظل إذن بالمظل أو المظلل. ظل النخلة مستطيل، ظل الكرمة دائري مثقب، ظل الزيتون يشبه حبات الزيتون، ظل النملة لا لون له، ظل الغمام متحرك متأثر بحركة الرياح، وظل الضبع يخيف بمجرد التفكير فيه...
لون الظل واحد في ظاهره إلا أنه متعدد في العمق، قد يكون أسود في واضحة النهار، وقد يصير باهتا خفيفا مع دنو الليل ومع بزوغ فجر كل يوم أيضا...
مجمع الظلال هو مجمعٌ لقصب مائي يثير شهية الناظر والمتلظي بِحَرِّ الهجير في يوم شديد الوقع. تقول العرب:" ليس شيء أظل من حجر، ولا أدفأ من شجر، ولا أشد سوادا من ظل، وكلّ ما كان أرفع سمكا كان مسقط الشمس أبعد، وكلًّ ما كان أكثر عرضا وأشد اكتنازا كان أشد لسواد ظله…… والظل بيت الشاعر الذي يقيم فيه …ويقال للبيت العظيم مظلة… والظل العز والمنعة … ويقال فلان يعيش في ظل فلان أي في ذراه وكنفه.
والظل هو الضوء الثاني، وهو الحاصل من مقابله المضيء بغيره، وقيل هو الضوء الثاني الحاصل من مقابلة الهواء المضيء … ثم إن للظل مراتب كثيرة متفاوتة بالشدة والضعف، وطرفاه النور والظلمة، فالحاصل في فناء الجدار أقوى وأشد من الحاصل في البيت لكونه مستفادا من الأمور المستضيئة من مقابلة الشمس الواقعة في جوانبه… وينقسم الظل في داخل البيت ( والبيت مكون أساسي في القصيدة وفي الشعر ) بحسب مراتبه في الشدة والضعف إلى غير النهاية، ولا يزال الكل يضعف بسبب صغر الكوة حتى ينعدم بالكلية وهو الظلمة .
من امتزاج النور بالظلمة يتكون الظل، وبناء عليهما يتم تقسيمه، ومن ثَمَّ تتعدد أساميه، "فالظل الأول هو المأخوذ من المقياس المنصوب على موازاة سطح الأفق كوتد قائم عموما على لوح أو جدار
قائمين عموديين على سطح الأفق، ويسمى أيضا الظل المعكوس والمنتصب والمستعمل والمطلق، والظل الثاني هو المأخوذ من المقياس القائم عمودا على الأفق، فهو ثان بالقياس إلى الأول، ويسمى المستوي لاستوائه في الوضع وانطباقه على الأفق، ويسمى المبسوط لانبساطه على سطح الأفق
ما هو ظل الشاعر ؟ يصعب الفصل بين الشاعر وظله كما يصعب الفصل بين الشجرة و ظلها الوارف الممتد المنجد من الحر، المؤدِّي إلى الاستراحة.
ولكن إذا كان الارتباط الحميمي بين الظل والمظل هو نفس الارتباط بين الشعر والشاعر، فلم نفرق عادة في تحقيبنا للشعر وأجياله بين شعراء العراء وشعراء الظل.؟
الظل والعراء هل هو شعر وشعر رغم تأكيدنا على مقولة: الشعر شعر إما أن يكون أو لا يكون؟ إشكالية الظل واللاظل هل هي إشكالية الحداثة واللاحداثة وحتى ما بعد الحداثة ؟
الشاعر هو ظله أي شعره، كلما مال الظل مال الشاعر معه، ظل يستظل بظله، يتناسخ فيه، يتناسل منه، يستطيل باستطالته ويمحي بزواله. ولكن هل يزول الظل ظاهريا ؟ قد يحصل ذلك . ولكن الشعر هو الشاعر، والشاعر لا يموت، والظل يستوي في المخيلة رغم ظلام الليل وظلام النهار.
قد ترفض الحداثة وما بعدها هذا الهذيان باعتباره مجازا وهي تروم الاسترسال، ولكون هذا الهذيان رومانسي التقاسيم وهي فيزيقية الملامح، وهو نظام وهي فوضى، هو متماسك وهي تدعو إلى التفكيك، قاعدة ثابتة في مواجهة أسلوب شخصي. ولكن الظل أيضا أسلوب شخصي فهل هو ابن الحداثة بامتياز ؟
في الظل يتم كل شيء، من تقرير مصير أمة بكاملها، إلى التعاقد على إنتاج نسل في غرف شخصية، على أسرة شخصية جدا بظلال قد تكون حمراء أو لا لون لها، أو بظلال ممتزجة بظلامها. في الظل تحاك المؤامرات وفيه أيضا تعقد مصالحات متسامحة. في الظل ينشأ الحب وفيه يقترف العنف أيضا . تناقضات تحيل إلى تناقضات الشعراء أنفسهم، إلا أنه لا تناقض بين الشاعر وظله، ففي استجواب صحفية إسبانية لشاعر الرسامين "سالفادور دالي" استغربت فيه تناقض كلام الرسام بين جوابه في بداية الحديث، وبين جواب مناقض له في نهايته، ضحك دالي ضحكته المعروفة مشيرا إلى أنه قادر على تغيير رأيه باستمرار تبعا لتغير ظله، ليس تناقضا، ولكنه ظل الشاعر.
لكل شاعر جِنِّي يسكنه هو الذي يقول الشعر بدلا عنه فما هو ظل الجني ؟ الجني لا ظل له لأنه هو نفسه ظل. ففي المتخيل الشعبي نقول: رأيت ظلا أي رأيت جنيا. وفي اللسان: الظل : الخيال من الجن وغيرها لا يُرى . ظل الشاعر هو جنيه، هوسه الذي ينفخ فيه الروح، ولكن الفرق هو أن الجني لا يرى بالعين ولكن بالرؤيا فكيف يمكن ملامسة الظل؟.
الظل كالشاعر، لا معنى له لدرجة يصعب معها تحديد مفهوم واضح الدلالة له، لنجربْ ذلك بصيغة تقريبية انطلاقا مما سبق: الظل هو الانعكاس الذي يتركه جسد ما ـ مادي في الأصل ـ على خارج الذات، انطلاقا من الذات إلى خارجها، في تمازج متلون بحركات الليل والنهار ودوران الشمس والقمر. "والظل هو ما يجعل من الهواء المضيء بالذات كالشمس أو بالغير كالقمر والظل في الحقيقة إنما هو في ظل شعاع الشمس دون الشعاع، فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل. ظلال البحر أمواجه: لأنها ترتفع فتظل السفينة ومن فيها… ومنه عذاب يوم الظلة،وهي سحابة أظلتهم فلجئوا إلى ظلها من شدة الحر فأطبقت عليهم وأهلكتهم .و"يوضع الظل من جهة مقابل الضوء، ومن جهة أخرى فهو صورة للأشياء العابرة غير الواقعية والمتغيرة…… وهو يجسد التعارض الثنائي بين الضوء والظلام، والذي يدل على كل التعارضات الموجودة في كل الأشياء"
إذا اعتبرنا الشاعر كائنا ماديا يقف على الهاوية باستمرار ليتحول إلى كائن جمعي معنوي يتكلم بصوت الجميع، فلن يكون الظل في هاته الحالة سوى التجسيد المادي لصوت هذا الكائن الذي هو الشاعر. صوت ومعنى، كلام وإنصات، تأمل في فراغ اللحظة بهجيرها وقرها إذ إن الظل لا ينتهي بانتهاء الشمس إلا ظاهريا.
بنية الشاعر هي بنية الظل. ظاهر وظاهر يمتحان من باطن هو الشعر، فهل يمكن عقليا أن يحدث تطابق ما بين اللفظ والمعنى؟ في الشعر يتم الاختلاف ومنه يبدأ، وبه تتأسس الحداثة وما بعدها، طبيعة تستند إلى أصل هو خلخلة المعاني بألفاظ أخرى، أي بأشكال أخرى وتأمل مغاير . العمود واحد ومحدود ،والتفعيلة ظل ممتد له، فهل تلغي قصيدة النثر ظل قصيدة التفعيلة؟ لا نستطيع الجزم بجواب قاطع ،لأننا لا نستطيع إثبات أو نفي التطابق بين اللفظ والمعنى. والأجوبة الجاهزة والسريعة في هذا المقام تخرج عن نطاق الشعر لأنها تتعداه إلى البحث في مفهوم ظل الشاعر.
"كان الإغريق يقدمون القرابين للموتى في الساعة الثانية عشرة زوالا لأنها ساعة بدون ظل" ، فمتى يفقد الشعر ظله ؟ لن ننتظر بالتأكيد حلول منتصف النهار تماما ليحصل ذلك، فامتزاج الشاعر بظله أمر حتمي ولو بحلول منتصف النهار، ولو بتقديم القرابين.
قرابين الشعر حياة لا موت، استطالة وامتداد يرمي بجبته على الأفق المرئي وغير المرئي. صورة لأصل، من أجل أصل آخر وصورة أخرى، إذ " لو كان في وسع أحد أن ينتج الأصل وصورته معا، فهل تراه يكرس جهوده لصنع الصور ويتخذ منها غاية قصوى لحياته وكأنه لا يملك ما هو أفضل منها"
حركة الظل تلغي سكون الجماد، فنحن "عندما نتأمل الظلام المخيم خلف العارضة (في بيت ياباني قديم) أو حول مزهرية أو تحت رف ركن، ونحن نعرف أن هذا الظلام ليس سوى ظلالا قليلة جدا، نشعر أن الهواء في هذه الأماكن يتضمن كثافة الصمت وأن سكونا لم يتغير من الأزل يسود هذا الظلام"
الظل صامت يتحرك بمُظِلِّه. الظل المبسوط على الأفق هو الشعر المرتبط بذات الشاعر، هو المحرك بمقياس النور والظلمة والشمس والقمر لخلق الجمال. " إن الجمال ليس في حد ذاته ماهية وإنما هو مجرد رسم ظلال، مجرد لعب على الضوء والظلام يتولد من تجاور ماهيات مختلفة، ومثل حجر فوسفوري يرسل إشعاعا حين يكون في الظلام، ويفقد كل سحره كجوهرة ثمينة حينما يعرض في وضح النهار، فإن الجمال يتلاشى عندما نُلغي تأثيرات الظل .
يمتزج الشعر بالشاعر كما يمتزج الظل بالرجل إذن، " فمنذ أسطورة المغارة التي جعلها أفلاطون أسطورة شهيرة، لم تكف هذه الثنائية بين الرجل وظله، بين الحقيقية ومظاهرها من ملء عالم البشر
العقلي: وعاد "بندار" إلى إثارة المشكلة فيما بعد حين قال: نحن الكائنات المؤقتة ما نحن ؟ وما ليس نحن ؟ إن الإنسان ليس إلا حلم ظل. ألم يقل عمر الخيام:
وهذا العالم الذي نتحرك فيه
شبيه بفانوس مسحور
الشمس هي الضوء والعالم هو الفانوس
ونحن نتحرك أشبه ما نكون بالظلال"
و " ما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال ……. ألا ترى الظلال تقرب إلى السواد تشير إلى ما فيه من الخفاء لبعد المناسبة بينهما وبين أشخاص من هي ظل له ؟ وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة، ألا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية وليس ثَمّ علة إلا البعد
لون الظل يتلون بلون المظل وكذا الشعر " فالنور أخضر لخضرة الزجاج وهذا النور ممتد عن ظل وهو عين الزجاج فهو ظل نوري لصفائه"
الشاعر والظل، ارتباط لوني يذيب حرارة الشمس في اليوم القائظ. امتداد من المعقول إلى المتخيل يُفصل بينهما بشعرة رقيقة لا ترى بأي منظار،… " ألست أنا و أنت مجرد خيال وإذا لم نكن فاعلم أنك خيال وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال . فالوجود كله خيال في خيال . بالخيال وفيه يعيش كل شيء، أي الشعر، من أجل الشعر الذي هو مملكة الشعراء، والملاذ الروحي لكل حي.
لا روح للظل لأنه هو الروح ذاتها، ففي عدد كبير من لغات هنود أمريكا الجنوبية تدل كلمة ظل على الروح الصورة. جسد الظل صورة مرئية لروح لا مرئية، امتداد يمتد مع حركة النور والظلمة مع الشمس والقمر، مع نور المصباح. روح النور هو الظل: روح الإنسان، روح الشعر. ظل الشعر وشعر الظل، ولكن حذار " فالإنسان الذي يبيع روحه للشياطين حسب بعض التقاليد يفقد ظله مما يجعله فاقدا لوجوده الروحي" .
في الموت الظل هو الروح، حين ينتقل الجسد ويفنى، يبقى الظل مرابطا في القبر ليشكل تواصلا مستمرا مع الأحياء ويمكن للروح أن ترجع إلى ظلها حين يفنى الجسد. وفي عالم الموتى لا اقتيات إلا بظل الأشياء .
الظل، الروح، الصورة مسميات متقاطعة يلبس كل منها آخَره، في التصاقها حد الهذيان. في الساعة الثانية عشرة زوالا يتم التوقف قليلا، فيتم الانتقال من الأصل إلى الصورة، انقسام وامتداد من اليمين إلى اليسار أو العكس حسب التواجد، حسب الاقتراب أو الابتعاد من ظل الكعبة، مركز الظلال الرمزية بامتياز، من تعليق القصائد على أستارها، إلى الاستراحة على جنباتها في خطبة يوم قائظ. إذ " لما كانت بلاد العرب في غاية الحرارة وكان عندهم من أعظم أسباب الراحة جعلوه كناية عن الراحة وعليه "السلطان ظل الله في الأرض" الحديث" .
بعض الشعوب تمنع السير على ظل الآخر، بعضها تمنع الأطفال من اللعب به تقديسا لجسد الآخَرِ، الباطن المغيب المتمثل في الظل، تقديس يرتبط بالرؤيا لا بالرؤية .
يفنى الجسد ويبقى الظل، يفنى الشاعر ويبقى الشعر، ظل الشعر هو ظل الشاعر. حقيقة خياله فإن "الخيال لا يعطي أبدا إلا المحسوسات غير ذلك ليس له…و"الظل موجود بلا شك في الحس إذا كان ثم من يظهر فيه ذلك الظل: حتى لو قدرت عدم من يظهر فيه ذلك الظل: كان الظل معقولا غير موجود في الحس بل يكون في ذات الشخص المنسوب إليه الظل" .
الظل يحتاج إلى ذات يقع عليها وإلى نور ينسبه، لا وجود للظل خارج هذا إلا في عالم الموتى، الظل منطقي في هذه الحالة محسوس موجود بغيره، وهو يتحول إلى انتقال تام في انتقال الروح وعودتها"
الصورة، الروح، المرآة، الشعر، خلاص من قيظ الوقت وأغلال التاريخ وتحقيبات المحقبين . راحة واستراحة. يمتد الظل مع النور أسفل النور. لكي ترى ظلك عليك أن تثبت عينيك إلى الأسفل قليلا أو كثيرا، لا وجود للظل في الأعلى، مع نور الشمس لا تستطيع أن تحدق إلا في الظل، أي في ذاتك في روحك في شعرك.
تهرول قليلا فيهرول الظل خلفك، يتقدمك بعد الضحى، يغيب مع غروب الشمس، وإذا ظهر ليلا بفعل أضواء اصطناعية حديثة، فقد يظهر ممسوخا، ظل لظل، صورة لصورة لا صورة لأصل. الشعر: نفس الخصائص في مواجهة نور الشمس، وحتى في مواجهة المعايير الكهربائية الاصطناعية أحيانا.
الظل غير الفيء في العربية، " فالظل ما نسخته الشمس وهو من الطلوع إلى الزوال، والفيء ما نسخ الشمس وهو من الزوال إلى الغروب ، والظل والشعر ارتباط أبدي ليل نهار، لا تفريق فيه بين الصباح والزوال ولا حتى الليل، لأنه يحصل بالرؤيا لا بالرؤية رغم استناده ظاهريا على المعاينة والكشف، ومن ثم فمديح الظل العالي هو مديح للشعر. إن الظل هو الملجأ والمأمن الروحي أولا، وكذا الشعر .
الخيط الفاصل بين مطلع الفجر ومطلع الشمس هو أبهج لحظات ازدهار الظل يقول الآلوسي في تفسيره : المراد بالظل على ما رواه جماعة عن ابن عباس …وغيره..: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وذلك أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر منها الطباع، تسد النظر، وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ومن هنا كان ظل الجنة ممدودا كما قال سبحانه: " وظل ممدود "
فالظل استقامة ممتدة ترفض التقسيم، فقد نهى الرسول الكريم أن يقعد بين الظل والشمس( ) ، ونهى أن يجلس بين الضِّحِّ والظل وقال مجلس الشيطان( ). فما عليك إلا أن تقوم إذا كان بعضك في الظل وبعضك في الشمس. لا تقسيم بين الشيطان والإنسان بين الجن والإنس،لأوسلم: مبارك نتحول إليه حين تشتد حرارة الشمس ، وهو لذلك يتخذ ميقاتا لزمن الصلاة .[ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل عليه السلام جاءكم بعلمكم دينكم، فصلى الفجر حين طلع الفجر، وصلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين رأى الظل مثله ..الحديث ]"
زمن الظل مقياس لمقاربة الذات، لتنظيمها وضبطها، ولخلخلتها أيضا. مقارنة طول الظل وطول الجسد تنبيه للشعائر والطقوس الدينية
بين الظل والماء علاقة شفافة، حين تهب عليها الريح تحدث تموجات في جسد الروح، ومع الليل يلبس الظل جسده بروحانية قد لا يدركها حتى العارفون.[ أورد الآلوسي في تفسيره للآية الكريمة : " إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " ما يلي : عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وينزل الله تعالى في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي ؛وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال ": يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء . فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب" ]
في الظل يجد المريض راحته والمسافر وكل ذي علة، وفيه ترد أرواح الأموات منهم إلى الأجساد وتطيب نفوس الأحياء.
ولكن الشعر وظلاله تستمد رائحتها من الجنة ... الظل ملجأ الناس يوم لا ظل إلا ظله، لا ظل إلا مع الشمس ولذلك لاوجود للظل في الجنة إذ لا شمس فيها .
الشعر عذاب وتعذيب للذات من أجل راحة أكثر، سقوط إلى الهاوية، إلى الجحيم الآن،ي من أجل جنة أفضل، لكي يتم الصعود لابد من نزول …والارتباط بالأرض هو الذي سيؤدي إلى السماء ومن في السماء لا ظل له" .
ميقات الظل نهاري يرتبط بحركة الشمس، ولكنه في الشعر ارتباط بالليل أكثر من غيره، يقول صاحب اللسان: " ظل نهاره يفعل كذا... لا يقال ذلك إلا في النهار لكنه قد سمع في بعض الشعر ظل ليله"
الشعر العربي هو شعر ليلي لا نهاري، لذلك فإن ظل الشعر يظهر في الليل وقد يختفي في النهار على غير المعتاد. الشعر يأتي في ظل الليل أي في ظل الظل. بمعنى أن اختباء الشاعر في مجاز اللغة وابتعاده عن وضوحها الظاهر صوب عوالم الخيال والتخيل، هو شبيه بالتصاق الظل بالجسم ليلا ونهارا، والفرق هو كيفية استغلال اللغة .
لن يكون الظل كذبة الجسد، ولن يكون الشعر كذبة اللغة. فإذا كان الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله ،فماذا سيفعل الشاعر؟
ظل الشاعر التصاق حد الذوبان إلا أنه قد ينفصل عن جسده في أقصى لحظات اختلال العلاقة بين الضحية وسيدها.
يتجه الشاعر وجهة ما تبعا لبوصلة الوقت، إلا أن ظله قد يضيع بوصلته فيقف أو يعود باحثا عن ظل آخر يؤويه. انزياح وانسلاخ للجلد عن البدن سيؤدي حتما إلى الكارثة، إلى بحر القرابين دون مناسبات، إلى تركيب الأقنعة في غير محلها، أليس الظل قناع الروح أي لباسها الذي لا يمكن أن تنسلخ عنه؟ وحين يحدث ذلك تقع الكارثة في الفكر والعلم والشعر معا . ألوان الظل سوداء تخضر وتحمر في الشعر حسب الحاجة، فما هي حدود الظل ؟ كم طوله وكم عرضه ؟ وما تأثير ذلك على المظل أي الشاعر ؟
قد يتحول الظل من الفيء والأمن إلى الإحراق والذبح. إحراق الشاعر وذبحه إما من أجل الظل نفسه أي من أجل الشعر بكل أبعاده الرمزية كما حصل للحلاج، وإما من أجل شيء آخر لا علاقة له بالشعر، كما يحصل للكثيرين حاليا.
ظل وظل أحدهما ملجأ والآخر محرقة ،وفي كليهما يظل الشاعر نهاره وليله باحثا عن لحظة انفجار، ومحاولة تخلص كمحاولة تخلص السجين من جلاده والضحية عن سيدها. وهذا الالتصاق الذي يذيب كل جزئية في آخرها هو عين ما يرمي له كل كائن بشري سواء كان شاعرا أم ناقدا ...
الظل اقتراب ودنو، والشعر نفي وابتعاد لتعويض الخسارات أو تمجيد نصر وهمي، فهل نستطيع أن نتعرف على الرجل من خلال ظله فقط دون النظر إلى تقاسيم وجهه؟
ظل الشعر وظل الشاعر، صورة وأصل، ظلمة لنور، سواد لبياض، جسد وشبحه، وجه بارز وصورة وجه، في وجه الجسد يتقدم الأنف عادة مقدمة الجسد، سواء كان المشهد مواجهة أو جنبا، فأين الأنف في جسد الظل ؟. لا ظل بلا جسد . الجسد المجدوع الأنف يشكل عيبا أساسيا في بناء الجسد واستقامته فهل يشكلها في جسد الظل؟
في الظل لا نستطيع تحديد ملامح الوجه بالضبط مواجهة كما أننا لا نستطيع أن نرى الأنف مواجهة، قد نلمحه جنبا، ولكن ليس تماما.حركة الجسد وحركة الظل هل هما متساويتان؟ الظل يحاكي الجسد، الظل شعر الجسد أيا كان هذا الجسد، شريطة أن تكون له روح: إنسانية، حيوانية، نباتية، في الظل حركة حتى في الكائنات التي نعتقد أنها جامدة: عمارة، سور، طلل. في الظل روح هي ما يعطي للشعر جماله. " فبعضهم يريد نصا (فنيا ، لوحة) لا ظل له مقطوع الصلة "بالإيديولوجيا السائدة" ولكن ذلك يعني أنهم يريدون نصا لا خصوبة فيه ولا إنتاجية ، نصا عقيما ( انظروا أسطورة المرأة التي لا ظل لها) . إن النص في حاجة إلى ظله : وهذا الظل هو قليل من الإيديولوجيا، قليل من الذات : أشباح ، جيوب، نُثار ، غيوم ضرورية: لا بد للانحراف أن ينتج مفعول تعارضه الخاص ، ضوء/ظلمة"
الظل والجسم هو مقابلة بشكل ما بين الشعر والشاعر، التصاق وامتداد رغم الفصل الظاهر بين الظل والمظل، واحد في كثرة ومتعدد لا ينفصل عن الوحدانية . الظل يدخل في نطاق الواحد الذي يقال على كثرة بالجنس، إذ الظل والجسم من جنس واحد، فإذا قارنا بين الفرس والحمار ، وهما من جنس واحد، جاز لنا أن نقول : إن ظل الحمار هو ظل الفرس بالواحدية التي تدخل في الجنس، وقد يدخل الظل والمظل في نطاق الواحدية بالعدد، الظل والشعر واحد بالعدد في تخريجنا، ثم هو واحد لأنه يدخل على ما شأنه أن ينقسم ، ومنه المتصل " ويقال الواحد على ما هو متصل بما هو متصل، ووحدته هي اتصاله، والمتصل إنما يكون متصلا بأن تنتهي أجزاؤه إلى نهاية واحدة بالعدد مشتركة لها. فإذن لأجل أن نهاية أجزائه واحدة صارت جملته واحدة وذلك في الخط والسطح وفي الجسم المصمت . خط ممتد بين الظل والمظل بين الشعر والشاعر لا فصل بينهما ولا موت لأحدهما إلا في الآخر وحتى في القبر، وبعد الموت يبقى الظل مرتبطا بالروح.
في صحراء قاحلة قد يسير الشاعر وحيدا حافي القدمين، عاري الرأس، قد يتبع سرابا يرميه لآخر إلى ما لا نهاية ….عطش وجوع، اضطرابات في أجهزة الذات بفعل الحر الحرور ، وهو شدة الحر ليل نهار، مسيرة طويلة قد تستغرق ما لا يقاس من السنين، مسيرة طولها هو طول الظل الممدود، والظل الممدود مسيرة بسبعين ألف سنة . قد يقع الشاعر أرضا في مسيرته هاته، لكنه يظل سائرا سير الظل، سير الشعر، مناعته في ذلك هو الظل نفسه، أي الشعر ذاته، به يستظل، هو غمامته ، هو أريكته، هو متكؤه، الذي يستند إليه كلما ضاقت أبواب الدنيا، وحين تضيق الدنيا يزدهر الشعر. ومن التأزم ومع الألم تخرج القصيدة ، وفي الحر الشديد تمتد ظلال أشجار غير مرئية، وتغطي غمائم مارة رأس الشاعر الحافي، وتقي قدميه لهيب رمل الصحراء الحار الحرور.