كلما فكرت في التجارب الشعرية الجديدة في المغرب، تذكرت عنوان رواية لمؤنس الرزاز، "أحياء في البحر الميت"، كناية عن الاغتراب من جهة وعن المفارقة من جهة ثانية، فالشاعر المغربي الراهن يحس بأنه يقود مركباً من خشب هشّ في بحر لن يسلم من العاصفة.
ربما لهذا السبب توقف شعراء كثيرون عن الكتابة، وأنا هنا أستعيد نموذج الشاعر ادريس عيسى الذي فاجأ الناس بقصائد قوية لم يعهدها المغاربة ثم اختفى في جيبوتي تاركا خلفه أكثر من سؤال. أستعيد أيضا مبارك الراجي الذي طلع على الناس بديوان مميز، "ضد اليابسة"، أشاد به أدونيس وسعدي يوسف، ولم نعد نعرف منذ سنوات أين نجد نصوصه. أستعيد كذلك ديوانَي "لن أهادن الزلزال" و"دفاتر الخسران" للراحل احمد بركات، و"تقاسيم على آلة الجنون" لكريم حوماري الذي فضل أن ينتحر بدل أن يواصل العيش في مكان يبدو أنه ضد الشعر.
لم يكن قدر الجيل الجديد في المغرب أكثر سوءا من سابقيه، فمجموعة "على درج المياه العميقة" للشاعر مبارك وساط التي تعتبر من علامات الشعر المغربي لم تحظَ بكرم النقاد. الأمر ذاته ينطبق على محمد بنطلحة الذي يكفي نصه اللافت "بيان حقيقة"، للتدليل على المكانة الرفيعة للرجل وعلى كونه شاعرا في حجم المرحلة، إلا أن الإعلام المغربي والمؤسسات الثقافية في هذا البلد لها وجهات نظر مختلفة، وعلى الأرجح لها قصر نظر ذريع، فالثقافة الجيدة يحتفي بها أهلها القلائل في المقاهي وفي الجلسات الصغيرة، في حين تحتفي المؤسسات الكبرى كعادتها بالفولكلور والأعمال العابرة والرديئة.
ربما لهذا السبب جاء رد الشعراء الشباب معتمدا على القدرات الذاتية المحدودة لمواجهة ما يمكن تسميته الثقافة الرسمية التي لا تعترف بمن يوجد خارج خيمتها، فصدرت خلال التسعينات مجلات ثقافية يديرها شعراء شبان لكنها توقفت بشكل مباغت: "أصوات معاصرة"، "البحور الألف"، "إسراف 2000"...، وكانت تحمل الخطاب نفسه بصيغ متعددة: التمرد على الشعريات القديمة، ذلك أن ما عرفه المشرق وخصوصا لبنان، في مرحلة مبكرة من احتدام المواقف في صدد قصيدة النثر، سيعرفه المغرب فقط خلال التسعينات، ويبدو أن لا أحد صار يهتم بهذا في المغرب الثقافي الراهن، سوى بعض أساتذة الجامعة الذين يعيشون بعيدا عن متغيرات الحركة الأدبية، حيث لم يعد أحد يملك الوقت أو المزاج ليقوم بتقطيع عروضي لنصوص لا حصر لها تنشر في جرائد ومواقع يعجز الناقد أو القارئ عن الإخلاص في متابعتها.
سيبدو للمتتبع بشكل واضح أن التجربة الشعرية التي عرفها المغرب خلال التسعينات أهم وأقوى مما يعيشه اليوم، ويمكننا أن نقف، إضافة إلى التجارب الفردية، عند نموذج للعمل الجماعي. فخلال عام 1994 كان يجتمع في مقاهي مراكش عدد من الأدباء الشباب: ياسين عدنان، رشيد نيني، هشام فهمي، إضافة إلى الشاعر سعد سرحان الذي كان أصدر في العام نفسه ديوانه "حصاد الجذور"، وأخرجوا إلى حيز الوجود مجلة " الغارة الشعرية".
كان لمهندسي "الغارة" مشروع أساسي في ما يتعلق بمسألة تداول الشعر: كيف يعودون بالشعر إلى الحياة الحميمة لأصدقائه. هكذا تبادل أعضاؤها في ما بينهم تلغرافات شعرية في زمن سابق على الإنترنت، وكان مسؤولو مكاتب البريد يتحفظون أحيانا عن إرسال عدد من النسخ بتلك الطريقة الغريبة.
كانت المجلة مجموعة من الأوراق المطوية تشمل نصوصا من داخل المغرب وخارجه. يقول ياسين عدنان عن تلك التجربة: "إنها كنانيش صغيرة مكتوبة بخط اليد الجميل كانت تصل إلى قرائها الذين كنا نختارهم بعناية تماما كما تنتقي عاشقة عطراً أو فستاناً. هكذا ظلت "الغارة" لسنوات مثل مهرجان سري صغير. حتى أن نسخها كانت حينذاك تُتداول بين الشعراء الشباب في القاهرة وبغداد وعواصم أخرى".
وجدت هذه التجربة غواية وصدى كبيرين في نفوس الشعراء الشباب حينذاك، الذين انتصروا في الضرورة للفكرة، واحتفى بها سعدي يوسف في عدد من مجلة "المدى" التي كان يرأس تحريرها آنذاك. لكن الصحافة المغربية لم تعرف كيف تتعامل مع تلك الظاهرة إذ نشرت بعض الجرائد افتتاحية العدد الأول، فيما فضلت جرائد أخرى أن تغض الطرف، لكون "الغارة" لا تتمتع برقم إيداع. صدرت من تلك المجلة "غير القانونية" أعداد جيدة ضمت قصائد لعدد من الشعراء العرب ونصوصا أخرى مترجمة، إلا أن أبرز ما كان ينتظره القراء هو تلك الافتتاحيات والبيانات التي يمتزج فيها الإغراء بالتحذير، وأيضا بالسخرية.
في موازاة ذلك، كانت "الغارة" تصدر بالطريقة نفسها لمجموعة من الدواوين الشعرية لم يتمكن أصحابها من الوصول الى دور النشر. جاء في ما يشبه تقديما لديوان "مذبح المرئي" لعبد الرحيم حمو :"إنها إحدى طرقنا في الضحك من صعوبات النشر، بها نستجير من فظاظة الآلات الحاسبة التي لا يتورع الناشرون عن إشهارها في وجه أي مخطوط مهما يكن وديعا، وهي أيضا إبرتنا في بوصلة خرقاء اختلطت عليها الجهات فما عادت تميز شمال الشعر من جنوب الهراء".
يحسب ل"الغارة" أنها أول من أصدر ديوانا شعريا على الانترنت. حدث ذلك عام 1996، حينما كانت الانترنت في المغرب شأناً سريا غير متداول. وبدا واضحا أن العلاقة بين أعضاء "الغارة" لم تكن علاقة تشابه وتآلف في الأسلوب الشعري كما حصل في تجمعات شعرية أخرى، بل على العكس، كان الأصل فيها هو الاختلاف والانفلات الحر لكل شاعر على طريقته. فنصوص سعد سرحان مثلا كانت عبارة عن شذرات مأهولة بالحكمة، بينما كانت نصوص هشام فهمي عنيفة وصعبة على الهضم وخصوصا لدى القراء الذين اعتادوا نمطاً أليفاً من الشعر. واختلفت كتابة طه عدنان عن ياسين عدنان، فالأول استثمر معطيات الحياة التقنية الجديدة في نصوصه بينما احتفى الثاني بأحزانه الصغيرة وغربته عن المكان، وكتب رشيد نيني نصوصا لافتة عن حبه الفاشل، بينما استدعى جمال بدومة كل مجانين العالم من أدباء وفنانين وشعراء ليدسّهم في قصائده.
في كانون الثاني 2000 وزّعت "الغارة" عددا هائلا من البطاقات حملت عشرين لوحة، على ظهرها عشرون قصيدة لشعراء مثل عبد اللطيف اللعبي، سعد سرحان، قاسم حداد، هشام فهمي، ياسين عدنان، أمجد ناصر، عبد الرحيم الخصار وآخرين. وكان اختيار العدد 20 أشبه بتأبين للقرن الماضي وترحيب بالألفية الجديدة
أما آخر ما قامت به "الغارة" فتنظيمها معرضاً شعرياً سرياً متنقلاً ضم قطعاً من التحف الصغيرة: نقش مقاطع شعرية قصيرة على الخشب والزجاج والحجر والجلد ومواد أخرى.
لا تزال "الغارة" تشن هجماتها من حين الى آخر، لكن بطرق تبدو أكثر رأفة. ، إلا أن رشيد نيني – أحد مؤسسيها- أصبح في الآونة الأخيرة يغير بشكل أكثر شساعة – عبر جريدته الجديدة ذائعة الصيت "المساء" - ويسقط القذائف على رؤوس كثيرة لا تنتمي إلى الأدب فحسب، بل أيضا إلى الاقتصاد و السياسة.
khassar@gmail.com
النهار
الجمعة 14 آب 2007