مراقبة
كان الرجل الأعمى يجلس في ركنِ الحانةِ
تحتَ جهازِ التلفزيونِ تماماً.
للرجلِ الأعمى وجهٌ نضِرٌ
ويدانِ، كباطنِ كفِّ القطةِ، ناعمتانِ
وكان أنيقاً في مَلْبسِهِ، شأنَ الفنانين الفقراءِ.
الرجلُ الأعمى كان يدير أصابعَه اللدْنةَ كي يمسكَ كأسَ البيرةِ محترَماً
وخبيراً،
ثم يعيدُ الكأسَ إلى موضعِهِ فوقَ مُرَبَّعِ بيرةِ Foster's
والحانةُ قد شرعتْ تصخبُ
والظُّهْرُ، هنا، رطبٌ ولذيذٌ...
والرجلُ الأعمى تحت جهاز التلفزيون تماماً ينصتُ للأخبارِ:
فريقٌ إيرلنديٌّ ضدّ فريقٍ اسكتلنديٍّ...
وفريقٌ... وإلخ...
كان اثنان من الروّادِ يقولانِ كلاماً عن مانشستَر.
هبَّ الرجل الأعمى، كالملدوغِ، يصيحُ:
سيخسرُ!
حتماً يخسرُ!
لم يسمعْه الرجلانِ...
فقد فتحا بابَ الحانةِ، متّجهَينِ إلى الشارعِ
لكنّ الرجل الأعمى ظلَّ يصيحُ:
سيخسرُ!
حتماً يخسر!
* * *
لم يضحكْ أحدٌ.
لم يسمعْ أحدٌ.
لكنّ الرجل الأعمى كان سعيداً.
كان يدير أصابعَهُ اللدْنةَ كي يمسكَ كأسَ البيرةِ
مرتشفاً، كالطفلِ، سعادتَهُ!
ثلاثة أيّام
اليوم الأول
ربما كنتُ أنفِضُ عن هدْبيَ الثلجَ. كان البياضُ العميمُ يساوي السماواتِ والأرضَ.
والنبْتَ والخبْتَ. ما كنتُ أقدِرُ أن أتمَيّزَ فارعةَ الدُّلْبِ عن دوحةِ الكستناءِ.
الطريقُ التي كنتُ أعرفُ لم تعدِ اليومَ تلكَ الطريقَ. المدى الأبيضُ امتدَّ وامتَدَّ حتى
توارتْ تضاريسُ قريتِنا. قيلَ إن الثعالبَ قد تظهر الآنَ، إن قطيعَ الذئابِ على عَتْبةِ
البابِ. أرهفْتُ سمعيَ: وووووووووووو. وأرهفتُ سمعيَ: ووووووووووو.
سوف أُوقِدُ ناري إذا عسْعَسَ الليلُ. بابي حديدٌ. وفُوَّهةُ البندقيةِ حِصْني الحصين.
اليوم الثاني
لم يجئْنا قطيعُ الذئابِ. الرجالُ يقولون إن الذئابَ التي أتْخَمَتْها خرافُ المراعي
ستذهب نحو الكهوفِ القريبةِ. قد تسألينَ: وأيانَ تأتي إلينا؟ أقولُ لكِ الحَقَّ: إني
أراها هنا الآنَ. إني أراها هنا تخْمِشُ البابَ. هل تسمعين صريرَ المخالبِ فوقَ الحديد؟
وقضقضةَ العُصْلِ... تلكَ النيوبَ التي سوف تنهشُ طفلاً لنا، أوّلاً، قبلَ أن تغتذي
لحمَنا المُرَّ؟ لا تسألي، واهدأي. هَيِّئي الخبزَ والماءَ والتينَ. أغطيةَ الصوفِ.
صفَّ الرصاصِ. الضِّمادَ. الذئابُ التي تخمشُ البابَ لن تدخلَ البيتَ. حتى لو استعرَتْ بالجنون.
اليوم الثالث
أيُّ طَرْقٍ على البابِ؟
أعرفُ أنّ المخالبَ تخمشُ... لكنني أسمعُ الطَّرْقَ يشتدُّ، حتى كأنّ المطارقَ تنهالُ. أسمعُ ما يجعلُ
القلبَ يرجِفُ. هذا هديرُ الرجالِ الأُلى استذأبوا، لا عواءُ الذئابِ. اقفِزي أنتِ يا امرأتي، عبرَ
سورِ الحديقةِ، ولْتأخُذي معكِ الطفلَ. باقٍ أنا. أتحصَّنُ بالنفسِ لا بالنفيسِ. فإنْ خُلِعَ البابُ
أو هُدِمَ البيتُ صرتُ الجدارَ الأخيرَ...
اذهَبي، أنتِ والطفلَ، ولْتُبْلِغي كلَّ أهلِ القرى أنني في الكمين...
البازنِينُو
The Dragonfly
مع الصيفِ، في أوّلِ الصيفِ، مثل الفُجاءاتِ في عالَمٍ ألِفَ الشمسَ غائمةً، والجداولَ نائمةً، والحياةَ احتضاراً طويلاً.
يجيءُ، وليس له غير أجنحةٍ كالمرايا الشفيفاتِ. أجنحةٍ كفصولِ الطبيعةِ، أربعةٍ. غير أنّ المرايا تشِفُّ إلى أن ترى النورَ
في عُمقِها البَضِّ يغدو خطوطاً من الوهمِ. في الجدولِ، الماءُ منزلِقٌ. والشجَيراتُ تلعبُ، مقلوبةً فيهِ. هَفّةُ حُلْمٍ...
ويندفعُ البازنينو على الماءِ. ليس على الماءِ. ينزلقُ البازنينو على الماءِ. ليس على الماءِ. صار الهواءُ هو الماء. والماءُ صارَ
هواءً. ويندفعُ البازنينو، فتَرجِفُ تلكَ الشجيراتُ مقلوبةً. ثّمَّ أجنحةٌ، كفصولِ الطبيعةِ، أربعةٌ، تجعلُ الكونَ مرتعشاً.
تجعلُ الكونَ ما لم يكُنْ أبداً. إنه البازنينو على اللوحةِ الهندسيةِ، أزرقَ، أبيضَ، رؤيا زجاجٍ مَسيلٍ تطيرُ مع الريحِ. والبازنينو
مع الريحِ، أقوى من النّسرِ، أسرعَ. والبازنينو له الحُلمُ وَكْنٌ. سيصحبنا البازنينو إلى أن نريحَ رؤؤساً مُدَوَّخةً
فوق ريشِ المخدّةِ. إذّاكَ يأتي لنا البازنينو، فيأخذنا نحو نجمٍ بعيدٍ، ويتركُنا في نديفٍ شفيفٍ ننام!
* * *
ليس للبازنينو كلام...
ليس للبازنينو مقامٌ، ولا منزلٌ.
ليس للبازنينو من الوزنِ ما تملكُ الريشةُ...
البازنينو هو المنتهى
حين تنعتقُ الروحُ من كل هذا الزِّحام...