سعدي يوسف

سعدي يوسفنيويورك
آخرون سيرّونّ مراكبّ مانهاتِن شمالا وغربا
ومرتفعاتِ بروكلِن جنوبا وشرقا .
آخرون سيّرّون الجزرّ ، كبيرة وصغيرة .
وبعد خمسين عاما من الآن ، آخرونّ سيرّونّها وهم يعبرون ،
الشمسّ بعد نصف ساعةي من مّطْلعِها.
وبعدّ مائة عامي ، بعد مئاتِ الأعوامِ ، آخرون سيرّونّها ، سيستمتعون بالغروبِ ، باندفاعةِ المّدٌِ .
بانحسارِ الجّزْرِ .
أنا أيضا عشت _ بْروكْلِنْ ذات التلالِ ، كانت لي .
أنا أيضا طوٌفت في شوارعِ جزيرةِ مانهاتِن ،
واستحمّمْت في المياهِ المحيطةِ .
كنت مانهاتيٌا ، ودودا ، وأبِيٌا !
والت ويتمان _ عبور معّدٌِيةِ بروكلِن

لأّقلْ إن وِيتمانّ قد عبّرّ الجسرّ ...
مثلي
صباحا ، وفي شهرِ آبّ اللظي .
ولأقلْ : كان يسهر في مانهاتِنْ ...
وهو الآنّ قد عبّرّ الجسرّ ، طّلْقّ المحّيٌا ، حثيثّ الخطا.
فإلي أينّ يذهب ؟
أيٌ الشوارعِ يختار ؟
أيٌ الزوايا ؟

* * *

أقول له :
والْتْ !
خير لنا ، بعد ليلي عجيبي هنالك ، أن نتأنٌي هنا ...
نتذوٌقّ قهوتّنا في الرصيفِ
ونستقبل الناسّ بالبسمةِ .
الشارع اكتظٌّ بالسالكينّ . الحديقة مفتوحة . والمخازن .
والنهر يبدو من البعدِ أخضرّ ...
فلْنستّرِحْ في الرصيف !

الشمس تقترب منٌا . دعْنا نجلس علي هذه الكراسي الخضرِ .
تحت المظلة الخضراء . لا تّخّفْ ! نحن لا نزال في الرصيف ...
الكراسي والمظلة قدٌمتْها بلدية بْروكْلِنْ لأمثالنا . هل أطلب لك قهوة من
العربة ؟ صاحب العربة أسود ، يعِدٌ قهوة لذيذة . كوبان اثنانِ
بدولاري ونصفي !

في شارع فلْتنْ كنت أتمشٌي أمسِ . هل أقول لكّ : إنني لم أكنْ
في شارعي ؟ كنت في مستودعِ بضائعّ هائلي ، له عشرات الأبوابِ .
متاهةِ الأحذيةِ والملابسِ والحلِيٌ الكاذبةِ . لا أزهارّ هنا ، ولا صحف.
لا مشربّ جعّةي أو نبيذي . الماء في قناني البلاستيك . وأجنحة
البنكِ تطْبِق .

أنا وأنت في بروكلِن الآن . لكني أسكن غيرّ بعيدي عن سوهو .
سوهو التي أحببتّ . أتريد أن أحكي لك عنها ؟ عن آخر أخبارِها ؟
أنت لم تذهبْ إلي هناك منذ زمني . منذ مائةِ عامي وأكثر ...
حسنا ، أيها المعّلٌِم : لقد غادرّها الشعراء والفنانون . وهي
تصبح ، مثل شارع فلْتنْ ، معرضا هائلا للأحذية والملابسِ الغالية .
ومطعما إيطاليا تمسي .

الحرب الأهلية انتهت ، يا والتْ وِيتمان . لكن الجنودّ السودّ الذين
قاتلوا في سبيل الحرية . وعبيدّ مزارع القطن العاطلين ، هؤلاء الذين
يسكنون هارلم ، وبروكلِن ، وبرونكس ، ومانهاتِن ...
هؤلاء الذينّ أحببتّهم ، وغنٌيتّ لهم ، وغنٌّوا لك ، لا يزالون
ينامون في الحدائق العامة ، ويأكلون من القمامة ...

* * *

أيها الغريب العابر ! أنت لا تدري كم حننت إلي رؤيتِك...
أنتّ ، إذا ، مّن كنت أبحث عنه ، أو عنها ( لّكأني احلم ) ،
أكيدا أنني عشت حياةّ بهجةي معك ، في مكاني ما .
كلٌ هذا استعِيدّ ، ونحن مع بعضنا ، سهلّينِ ، حنونّينِ ، متعلٌِقّينِ ، ناضجّينِ .
أنتّ ترعرعتّ معي . كنتّ فتي أو فتاة معي .
جسدكّ لم يّعدْ جسدّكّ وحدّكّ . وجسدي لم يّعدْ جسدي وحدي .
أنتّ منحتّني بهجةّ عينيكّ ، وجهّكّ ، لحمّكّ ، ونحن نعبر .
وأنتّ آخذ بلحيتي ، وصدري ، ويدّيٌّ ، بالمقابلِ .
أنا لا أتحدٌث إليكّ . سوف أفكر بكّ حين أجلس وحيدا . أو أستيقظ وحيدا في الليلِ .
عليٌّ أن أنتظرّ . سألقاكّ ثانية ، لا مّحالةّ .
سأجهّد حتي لا أضيٌِعّكّ .

" إلي غريب _ والت ويتمان –

* * *

الغريب الذي أنتّ غنٌيتّه
والغريب الذي لم تغّنٌِ ...
والغريب الذي ظلٌّ أقربّ مني ...
هل أتاكّ ، هنا ، نبأ منه ، يا صاحبي والْتْ وِيتْمان ؟
هل أتاكّ جنود - أبو غْرّيب - ؟
هل حدٌثوك ؟

* * *

مشهد في المخيٌّمِ . في مطلعِ الصباحِ . رماديا ومعتما . وأنا أخرج من خيمتي
مبكرا ، وأرِقا .
وبينما كنت أسير ، بطيئا ، في الهواءِ النقيٌ الباردِ ،في المّمّرٌِ قربّ خيمةِ
المستشفي ، رأيت ثلاثةّ شخوصي يتمدٌدون علي النقٌالات . لقد جيءّ بهم
إلي هناك ، وأهمِلوا . كل واحدي منهم ، مغطٌي ببطٌانيةي من الصوف الخشنِ المربّدٌِ .
بطٌانيٌةي ثقيلةي سوداءّ ، منشورةي ، لتغطٌِي تغطية كاملة . توقٌفت ، مستطلِعا ، ووقفت
صامتا . ثم أزحت بأصابعّ خفيفةي ، الدثارّ ، عن الأولِ .
مّن أنت ، أيها الرجل المتقدم في السنٌِ ، الكالِح ، الأشيب؟ ذو اللحمِ المتهدٌِلِ
حولّ العينينِ ؟ مّن تكون يا رفيقي العزيز ؟
ثم مضيت إلي الثاني : مّن تكون أنتّ ، يا طفلي وحبيبي ؟
مّن أنتّ ، أيها الفتي ، ذو الخدٌينِ المتورٌِدّينِ ؟
ثم إلي الثالثِ¬ وجه ليس كوجهِ الطفلِ ، ليس كوجهِ الشيخِ . إنه لّوجه هادئ ، في جمالِ العاجِ
الأبيضِ المصْفّرٌ ِ.
أيها الشابٌ .
أظنٌني عرفتكّ .
أظنٌ وجهّكّ وجهّ المسيحِ ذاتِهِ .
ميْتا ، ومقدٌسا ، وأخا للجميع .
وإنه لّههنا ، مسْجي ثانية .
" والت ويتمان _ مشهد في المعسكر -
أوّدٌِعكّ الآنّ ...
لا وقتّ عندكّ لي ، يا رفيقي
ولا وقتّ عندي لكّ ...
الساعة استحكمتْ .
والجنود الذين مّهّمٌّتهم قتل شعبيّ لن يسمعوا صوتّكّ .
العشب نّضْر
رفيقيّ :
نّمْ هانئا
واتٌّرِكْ لي مّفازةّ هذا الطريق !

القدس العربي