كتابة : راشيل زوكر
ترجمة: أمين صالح

أمين صالحكتب جاك سبايسر ذات مرّة: "أجيال من شعراء مختلفين في أقطار مختلفة يسردون، بصبر، القصة ذاتها، ويكتبون القصيدة ذاتها".
وأنا أتفق معه. تأمل، على سبيل المثال، قصيدة جيمس رايت "مستلقياً على أرجوحة شبكية في مزرعة وليام دوفي في باين آيلاند، مينيسوتا" وقصيدة راندال جاريل "رجل يلتقي بامرأة في الشارع". في قصيدة رايت، المتكلم، فيما هو مستلق على الأرجوحة الشبكية، يرى فراشة على جذع شجرة. يلاحظ الرنين البعيد لأجراس معلقة في أعناق البقر، وروث الحصان في الحقل المتاخم. الصقر، مفترس الدجاج، يحلّق في الفضاء. المساء يقترب. والمتكلم يقول، بغموض، "لقد أضعت حياتي".
في قصيدة جاريل، المتكلم يسير وراء امرأة شقراء جميلة. هو يصف المرأة ثم يفكر في كونراد لورينز، ريتشارد شتراوس، مارسيل بروست، غريتا غاربو، المشي في الصباح الباكر، الاختلاف بين الطيور والبشر، طبيعة العلاقات الإنسانية. المتكلم يلحق بالمرأة، التي يتضح بأنها زوجته. يتلمسها، يقبّلها، يتمشى معها عبر المتنزّه المضاء بأشعة الشمس، ويدرك أن رؤيته إلى العالم شبيهة برؤية الطائر أكثر من الإنسان، إلى حد أنه يبدأ يومه "بأمنية طائر: ليكن هذا النهار/ النهار نفسه، نهار حياتي".
حين ينظر المرء إلى هاتين القصيدتين عن قرب، قربٍ يكفي لرؤية حركات الفرشاة والتراكيب والألوان، سوف يلاحظ بأن ليس ثمة قاسم مشترك بين القصيدتين. لكن من مسافة بعيدة، القصيدتان تبدوان متماثلتين.. في الوصف، أجزاء السرد، المظهر.
المتكلمان كلاهما في حالة حركة (أحدهما على أرجوحة شبكية، والآخر يتمشى) ويعيان وجود شيء آخر في حالة حركة (الفراشة المرفرفة، المرأة التي تتمشى). في كلتا القصيدتين، المتكلم يبدأ وهو في يقظة عالية، ومهتم بشكل أساسي بالإختلافات الدقيقة والمميزة للألوان (فراشة برونزية على جذع أسود أشبه بورقة نبات في ظل أخضر. أو المرأة التي شعرها الذهبي مغزول من ضوء الشمس). إنهما يحاولان أن يميّزا الخاص عن العام. الشاعران معاً ينظران عن قرب، ثم يتراجعان.
جيمس رايت يصف أصوات أجراس البقر التي تتحرك مبتعدة في واد صغير ضيق لا يستطيع هو أن يراه. جاريل يهيم ليلج أرض الذاكرة. ثم يعيدهما شيء ما. المساء يأتي ليطوّق رايت. جاريل يتلمس زوجته ويكف عن التظاهر بأنها امرأة أخرى. عند اتصالهما بالعالم الفيزيائي وحضوره المباشر، كلاهما يشعران بهزّة اليقظة.

القصيدتان معاً أحدثتا لدي رعشة مفاجئة حين قرأتهما للمرة الأولى. وعليّ أن أعترف بأني أفضّل قصيدة جاريل لأنها مفعمة بالأمل أكثر، وبسبب رومانسيتها. لقد أحببتها قبل أن يتكوّن لدي إحساس واع أو تجربة حياتية تجعلني أتعاطف مع الرجل الذي يحب زوجته ويشعر بالإكتفاء والإشباع. في الواقع، أعتقد أن السبب الرئيسي في تفضيلي لقصيدته أنها طويلة.
أود أن أؤكد بأن بنية هاتين القصيدتين، وشكلهما وحركتهما، هي متماثلة تقريباً، وأن الاختلاف الأكبر بينهما يكمن في حقيقة أن قصيدة رايت تتألف من 13 بيتاً، بينما قصيدة جاريل تتألف من 97 بيتاً. إنه في الأجزاء "العرَضية التي يعوزها الترابط" لقصيدة جاريل، في استطراداته وتحولاته، توصلت إلى معرفة المتكلم في القصيدة، والتعاطف معه، وبدأت في معرفة ذهنيته، والإحساس بالتورط، بالانغمار.
إن وجدنا قصيدتين متماثلتين لكن إحداهما أطول من الأخرى، فهل القصيدة الأطول هي الأفضل دائماً؟ بالطبع لا. إذا كانت القصيدة مكتوبة بشكل سيء، فسوف تثير الاستياء وخيبة الأمل، وكلما كانت أطول، ازدادت معاناة القارئ ودامت أكثر. من جانب آخر، لا أعتقد أن قصر الحجم بذاته يعد فضيلة أو ميزة حسنة.

***

القاسم المشترك بين القصائد الطويلة ليس الطول فحسب بل هناك أشياء أخرى أهم:

القصائد الطويلة متطرفة.
هي جسورة أكثر مما ينبغي، اعتيادية أكثر مما ينبغي، متمتعة بالاكتفاء الذاتي أكثر مما ينبغي، رحبة أكثر مما ينبغي، جليلة أكثر مما ينبغي، عادية أكثر مما ينبغي، غريبة أكثر مما ينبغي، لديها وفرة أكثر مما ينبغي.
إنها تجد متعة بالغة في الذهاب إلى أبعد مدى. تتحاشى الاحتراس والنزوع العملي والتصنيف، بل ربما حتى الشعرية نفسها، التي كشكل، هي تنزع إلى تقييم اقتصاد اللغة. القصائد الطويلة مضادة لتغريدات التويتر رغم أنها غالباً ما تحتوي لغة مماثلة للتغريدات.

القصائد الطويلة تتشبث بالسرد.
كبشر، نحن مولعون بتشييد القصص من العالم المحيط بنا. الخاصية المميزة للقصائد الغنائية القصيرة أنها قادرة (تقريباً) على تحقيق الاتصال بالطريقة التي يفعلها الرسم أو الرقص أو الموسيقى. إنها تعني شيئاً، وتجعل القارئ يشعر بشيء من غير أن يكون "عن" شيء بالضرورة، أو يكون عن شيء قابل للتفسير أو الشرح بالكلمات. ليس كل القصائد القصيرة تحاول أن تتجنب السرد، لكن كل القصائد (القصيرة والطويلة) تحاول أن تكون أكثر من مجرد سرد.
القصائد الطويلة حساسة بشكل خاص تجاه جاذبية السرد. أليسْ نوتلي شرحت لي ذات مرة قائلةً: "القصيدة القصيرة مركّبة من قوى محرّكة توجد بين كل كلمة. في شعر مؤلف مثل شوسر Chaucer هناك قصة، والتي هي شكلياً أشبه بحوت تحت سطح المحيط. من ناحية أخرى، عند مؤلف مثل هوميروس، الشكل هو القصة، لكن الشكل هو بيت.. طول ووزن ذلك البيت".
للسرد دوماً حضور مهم في القصيدة الطويلة، إما بوصفه "حوتاً تحت سطح المحيط" أو في الشكل نفسه.
إذا كان على القصيدة الطويلة أن تهدم السرد، فينبغي أن تكون راديكالية. حتى لو كانت كذلك، فإن التقنيات المستخدمة في القصائد القصيرة لتجنب تأليف قصة – التعويل على الصور، تكثيف اللغة، تقويض القوانين العادية بشأن بناء الجملة والقواعد – غالباً ما تفضي إلى قصيدة طويلة تبدو أشبه بقصة ممدودة يرويها صوت مضطرب. القصائد الطويلة يمكن أن تكون ملفوظة (كما في قصيدة ألين جينسبرغ "عواء" أو قصائد ديفيد أنتين) أو تُقرأ كيوميات أو تبدو كبورتريه بالكلمات لشخص ما أو مكان أو فكرة، لكن ثمة دوماً صوت يتكلم أو حضور إنساني. ثمة دوماً قصة.

القصائد الطويلة تتشبث بالسرد لكنها ليست نثراً.
القصائد الطويلة لا تستطيع أن تساند العلاقة الديناميكية الكثيفة بين الكلمات، لكنها مع ذلك تجد الوسائل لتجنب التقسيم إلى فقرات. يقول الشاعر د. أ. باول، الذي لا يكتب القصيدة الطويلة لكنه يحب أن يقرأها ويدرّسها: "القصيدة الطويلة التي تتقوّس من البداية إلى النهاية مع وعي مركزي، وقصة قابلة للاقتفاء بشكل مباشر، وغاية فردية (ليست منفردة بالضرورة)، تفقد هويتها كقصيدة لتصبح رواية.. لكنها الرواية التي تعتمد على موسيقى الشعر وصوره البلاغية. اللغة لا تزال لها أهميتها وثقلها، وتهدف إلى الإدهاش والإمتاع، والتقيّد بنفسها، وأن تكون، على مستوى معين، غير قابلة للتلخيص، إذ يتعذّر اختزالها، وليس مقصدها الاتصال فحسب".

القصائد الطويلة تحتاج وقتاً لقراءتها.
قراءة القصائد الطويلة تقتضي نوعاً مختلفاً من الانتباه، التزاماً زمنياً أطول، لكن أيضاً، واقعياً، اهتماماً أقل بالتفاصيل. ذهني يهيم حين أقرأ قصيدة طويلة، وبهذه الطريقة، قراءتي تكون اختبارية أكثر، والتجربة تكون تعاونية، تبادلية تقريباً.
أحلام يقظتي والمعطيات الحسيّة للعالم من حولي تشق طريقها على نحو متمعج، وعلى نحو سريع الزوال، نحو القصيدة الطويلة فيما أقرأ بحيث أشعر بنفسي حاضرةً كلياً في القصيدة حتى لو كان ذهني يهيم ويضل طريقه. إن حياتي تقاطع القصيدة التي لا أستطيع أن أقرأها دفعة واحدة لما يتطلبه التركيز من جهد عنيف، والقصيدة بدورها تقاطع حياتي حيث أكتشف أنني قضيت الظهيرة كلها أتجول بين تضاريسها ومواقعها.

القصائد الطويلة اعترافية.
ثمة دائماً كائن بشري يتكلم. ثمة دائماً مرور للزمن. ثمة تغيير، والقارئ يدلي بشهادته عن حياة الشاعر أو ذهنه. على المستوى الأساسي، كل القصائد الطويلة اعترافية حتى لو كان كل ما تعترف به هو كيف بدّد الشاعر الكثير من وقته.

القصائد الطويلة كلها عبارة عن قصائد حب.
كتبت ماكهوغ في قصيدتها "ليست صلاة" تقول: "ضرب من الاحترام الذي يعني أن تتريّث، أن تقضي وقتاً مع شخص ما، وقتاً لشيء ما. يعني أن تبقى".

القصائد الطويلة تخلق حميمية.
الزواج أو العلاقة الطويلة الأمد ليست كالعلاقة التي تدوم لليلة واحدة طويلة فيها شخص واحد لا يذهب إلى البيت أبداً. القصيدة الطويلة ليست كالقصيدة القصيرة التي ينسى الشاعر أن ينهيها. كلتاهما تتطلبان وضعاً ذهنياً مختلفاً، إيقاعاً مختلفاً، طريقة وجود مختلفة، مستوى مختلفاً من الحميمية مع شخص آخر أو مع الذات. حين أقرأ قصيدة قصيرة أو متوسطة جيدة، أشعر بهزّة الاهتمام الخاص، مثل لحظة اجتذابك لنظرة شخص غريب في نفق المترو. لكن هذه الصلة الكثيفة، سريعة الزوال، تؤكد الانفصال بيني وبين القصيدة، بين آخرية الشاعر وعالمه وبين ذاتي وعالمي. بسبب الانقطاعات أو الراحات القصيرة ومواضع الدخول – وببساطة - بسبب الفترة التي أكون "موجودةً" فيها مع القصيدة وداخلها، أكون مودعة ومغروسة في القصيدة الطويلة بطريقة لا أستطيع أن أكونها قط مع القصيدة القصيرة.

القصائد الطويلة تنظر إلى "الصورة الكبيرة"، تنمّي الأفكار، وهي "عن" شيء ما. القصائد الطويلة لا تتحدث إلا عن نفسها.
يقول د. أ. باول أن القصائد الطويلة "تتقدم بمطالبة أكثر جسارةً بالحقل الزمني للشعر، مضحيةً باللحظات الفردانية في سبيل أفكار أرحب". ثمة "حكائية" محتومة في القصائد الطويلة. الأفكار الرئيسية تتراكم. الثيمات التي هي "أفكار أرحب"، أو تبدو كذلك، تتطوّر.
القصائد الطويلة هي جدارية أو مشكالية أكثر مما هي متقوسة. بإمكان القصائد الطويلة أحياناً أن تقوم بإنقاذ اللحظات الفردانية وصيانتها على نحو أفضل مما تستطيعه القصائد القصيرة. في القصيدة القصيرة، اللحظات الفردانية غالباً ما تُستخدم لتكون في القصائد الطويلة، من جهة أخرى، تميل إلى مقاومة اللغة المنمقة أو الطنانة. وقد اكتشفت أن القصيدة الطويلة غالباً ما تكون "عن" نفسها: عملية الفضول الممتد، الملاحظة، التفكير، الإدراك. اللحظات الفردانية في القصيدة الطويلة هي وافرة ومتعددة إلى حد أنها تبدو وكأنها لا ترمز إلا إلى وعي الكاتب، أو الحضور المستبد، أو عملية كتابة القصيدة.

القصائد الطويلة تكتشف نفسها.
ديفيد ترينيداد، الذي يكتب القصيدة الطويلة والقصيرة معاً، قال: "أيضاً أتذكر أنني، في منتصف كتابتي (قصيدة تحت التأثير)، خطر لي أن قصيدتي (إزاء القصيدة الأقصر، التي تبدو أكثر شبهاً بالكانفاس) هي أشبه بجدارية طويلة وعريضة إلى حد أني لا أستطيع رؤية ما يوجد حول الزوايا أو أين سوف تنتهي".
تماماً مثلما المقالة هي شكل فيه الكاتب يكتشف ما يعتقده، كذلك القصيدة الطويلة هي شكل فيه الشاعر يكتشف نفسه ومظهر قصيدته في الكتابة.

القصائد الطويلة تتيح للشاعر أن يغيّر رأيه.
هذا هو جزء من المتعة التي توفرها القصيدة الطويلة.
"هل أناقض نفسي؟
حسناً، إذن، أنا أناقض نفسي،
أنا ضخم، أسع أعداداً وافرة"..
هكذا كتب والت ويتمان.

القصائد الطويلة تغيّر الذهن.
في مقابلة لها مع جنيفر ديك (عن قصيدتها: التغيير المزدوج)، تقول أليس نوتلي: "ما أفعله هو خلق – بالأحرى محاولة خلق – وعي مختلف... واعتقد أن هذا يحدث لبعض الناس. إنه في الواقع يجعل ذهنك مختلفاً".

القصائد الطويلة طموحة.
وأنانية. مغرورة. بغيضة. كيف يمكن لشاعر أن يثق بأن الآخرين راغبون حقاً في الاستماع إليه وهو يستمر من دون توقف؟ من يكون هو لكي يسرد حكاية القبيلة؟ من يكون هو لكي يتكلم عالياً إلى هذا الحد، لفترة طويلة جداً، وعلى نحو متواصل بلا توقف؟

القصائد الطويلة تجعل الشاعر يتواضع.
تقول الشاعرة إيليني سايكليانوس (في حوار لها مع مجلة Jacket، 2007): "كلما كتبت أكثر، بدا لي الحقل وقد ازداد اتساعاً ورحابة. وكنت أعرف أن من المستحيل أن أغطي (أو أتلاعب) بكل ما يحتويه. لذا كان عليّ أن أكتفي بنبش موضع صغير واحد بقدر ما أستطيعه من جهد واتقان".
الشاعر الذي يكتب قصيدة طويلة هو أشبه بنملة تحمل شيئاً من الخبز أثناء نزهة فخمة ومهيبة، وهي دائماً تدرك نواقصها ومواطن ضعفها. الشاعر الذي يكتب قصيدة طويلة هو فنان يعمل، وليس قسيساً يقدّم الموعظة إلى جمهور أمّي.
"وعندئذ،
سوف لن تعود تأخذ الأشياء بطريقة غير مباشرة،
ولن تنظر من خلال عيون الموتى
ولن تتغذّى بالأشباح في الكتب.
أيضاً سوف لن تنظر من خلال عينيّ، ولن تأخذ شيئاً مني.
سوف تصغي إلى كل الجوانب وترشّحها من خلالك"..
هكذا كتب والت ويتمان.

القصائد الطويلة هي عن عملية الكتابة وإلقاء الضوء على العملية.
رسومات جاكسون بولوك هي تسجيل لحركات جسده وحضوره الجسماني في علاقته بالكانفاس. القصيدة الطويلة هي تسجيل لذهن الشاعر طوال الوقت.
ليس على نحو مفاجئ، الزمن والارتقاء غالباً ما يكونان ثيمات محورية وجلية في القصيدة الطويلة كما عملية الكتابة نفسها. ثمة وعي بالذات (ثمة حرج أحياناً) بشأن مشروع الكتابة.. أيضاً هناك دافع لا يقاوَم للاستمرار. القصيدة الطويلة مدعومة بفضول لا يتناقص ولا يضعف تجاه العالم.
الشاعر يواصل الكتابة، يستمر في الكتابة. يستمر في فعل شيء شاذ وغريب. يمارس طريقة غريبة في تبديد الوقت، لكن هناك العالم بهالاته وأمجاده التي لا تُعد ولا تُحصى.. وماذا بوسع الشاعر أن يفعل غير أن يكتب؟
الاهتمام بعملية الكتابة يجعل القصيدة الطويلة اصطناعية ومتكلفة جداً، شيئاً مصنوعاً بشكل واع. من جهة أخرى، هذا التقبّل للنتاج الاصطناعي يجعل القصيدة تبدو صادقة أكثر من القصائد التي تهدف إلى الإفصاح عن شعور ما فيما تخفي صفتها كقصائد.

القصائد الطويلة حزينة ومليئة بالفرح.
الموت، الزمن، وتغيّر الفصول غالباً ما تكون الموضوعات، الجلية أو الضمنية، الصريحة أو الكامنة، التي تتناولها القصيدة الطويلة. على الرغم من، أو بسبب، هذه الثيمات، القصيدة الطويلة تكون دائماً، عند مستوى معيّن، نتاج ارتباط قوي وعميق، والذي هو أيضاً ضرب من الفرح.
أغلب القصص القصيرة والكثير من القصائد القصيرة هي جرداء وكئيبة. إنها تبدو منتهية، مقفلة، منغلقة. بينما القصيدة الطويلة، بمحاولاتها في احتواء كل شيء، هي، بحكم طبيعتها، فسيحة، رحبة، وافرة، مشاركة، وفائضة.

القصائد الطويلة ليست كاملة بل ناقصة.
الشعراء يحسّنون القصائد القصيرة بإزالة كل ما هو زائد عن الحاجة، وكل ما لا يكون وجوده ضرورياً. القصيدة تتعرض للشحذ أو الصقل بالطريقة التي يتبعها قاطع الماس في صقل الحجر الكريم ليعطي الشيء لمعاناً وتألقاً. الروايات القصيرة، القصص القصيرة، وبعض الروايات تكافح من أجل بلوغ هذا النوع من الكمال أو الصحة، الإحساس بأن كل كلمة هي ضرورية، صحيحة.
لكن القصيدة الطويلة تقبل النقص، اللاكمال، ثم ترفضه، ثم تعيد قبوله. أحياناً هي تفعل ذلك لأنها تحاول أن تصف "الحياة الواقعية"، والحياة هي ناقصة، متسمة بالفوضى، مليئة بالأجزاء غير المنجزة من الأعمال.
أحياناً تكون القصيدة الطويلة ناقصة لأنها الصوت الإنساني الذي يتكلم، أو العقل الإنساني الذي يفكر، والكلام والتفكير من الأشياء الملتفة، المعقدة، الزائفة، الريائية، المتناقضة، المتشظية. أحياناً القصيدة الطويلة تكون ناقصة لأن النضال من أجل بلوغ الكمال هو مسعى إشكالي، ومشكوك فيه.
كلمة "الكمال" تعني أن الشيء ناضج، مكتمل، منته. القصيدة الطويلة سوف لن تكون أبداً بلا خلل أو عيوب أو نواقص، بل أنها لا تريد أن تكون كذلك. وسوف تظل دوماً غير تامة، غير كاملة.
القصيدة الطويلة تبدأ في المنتصف، منتصف العلاقات، وأي نهاية، مهما تبدو صحيحة وملائمة وحقيقية، هي لحظة حزن لكل من تركتهم القصيدة الطويلة، لكل صوت منطفئ.

للقصائد الطويلة استقامة.
تقول كارولاين فورشيه: "بالتأكيد كل فن هو نتيجة لوجود الفنان في حالة خطر، لخوضه تجربة ما بلا تردد حتى النهاية".
لكن كيف يمكننا أن نكتب عن الحياة، ونحن دوماً نتواجد في المنتصف (غير واثقين إلى أي مدى نكون قريبين من النهاية)؟
القصيدة الطويلة تضطلع بهذه المهمة، عارفةً بأنها سوف تفشل، متقبلة بلا اعتراض هذا الإخفاق والنقص والتناقض والشك. بهذا المعنى، للقصيدة الطويلة استقامة.. لديها القدرة على احراز أهدافها الخاصة، وهي صادقة في هذا الشأن.

القصائد الطويلة جديرة بوقتك.
أظن أن جاك سبايسر كان محقاً حين كتب يقول: نحن جميعاً نكتب القصيدة نفسها، ونروي القصة نفسها.
لكنني أيضاً أعتقد أننا حالما نقول الشيء ذاته بطريقة مختلفة – في شكل مختلف، وبنبرة مختلفة – نكون قد قلنا شيئاً آخر.
القصائد الطويلة هي مماثلة للقصائد القصيرة، للرواية، للأحاديث الصاخبة، لليوميات.. غير أنها تقدم شيئاً خاصاً بها وتروي قصصاً لا يمكن روايتها في أشكال أخرى.

راشيل زوكر: شاعرة وباحثة أميركية.

المصدر:
American Poet, issue 37.