ترجمة عن الفرنسية: عبداللطيف الوراري
(المغرب)
وإنْ كان واهياً وغير مدرَك،
يظلّ الصمت في قلب ضجة العالم.
ربما يمكن سماعه في أغلب الأحيان،
إنما فقط بعد فوات الأوان.
**
لانهائية الذات هي الحداثة .لهذا فهي تتجاوز المحدثين، لكن المحدثين ليس بإمكانهم تجاوزها. وبقدر ما تكون المزايدات مخادعة، بقدر ما تعرض سذاجتها أكثر. حسابات، تجميلات. مراوحة النظرية التقليدية. حيث يلحق علم الجمال والأخلاق، المقولة تلو الأخرى، أزواج الفرد والمجتمع، الشكل والمعنى، القديم والجديد، بمخزن الموروثات التي تصنع الراهن.
بعد نهاية الطلائع (التي لم يكف عن تنخيلها حتى تُحْسب حداثةً بمشقة)، ونهاية المسيحيات السياسية (على الأقل مسيحيات أوربا، في القرنين الأخيرين)، ونهاية بعض العلمويات المعتبرة علماً، والمنايا المتقاربة لكل من بارث Barthes، سارترSartre، لاكان Lacan، ياكبسون Jakobson، رايموند أرون R. Aron، فوكو Foucault، والموت الاجتماعي ـ وقتئذٍ ـ لألتوسير Althausser، باتت البعض الأخرى، من بين النهايات الأكثر تأثيراً، مقتنعة، قبيل ساعة من رحيله، بجنازات القرن، وبمآتم الألفية العالمية، حيث يُرى استنفاد الأفكار الكبرى، وانقضاء الأعمال العظيمة، وانطفاء أنوار العقل. وهذا ما يمثل نهاية الحداثة.
كل نهايات القرن التي تسبق –لما يقبل اللعب بهذه الواقعية الأولية التي تقاسم رديفتها الدينية ،ويحسب الزمن تاريخاً– نهاية القرن السابع عشر للميلاد، الفاتح، ونهاية القرن الثامن عشر، الفلسفي والثوري، تتراءى كنهاية –بداية. غير أن نهاية القرن التاسع عشر، في أوربا تقدم ، وهو ما لا يمكن نفيه، علامات يائسة. هذا الإعتقاد، عكس الصورة الطليعية للقرن العشرين، لم يحجبه تفاؤل البداية حتى يعود كزوال -زوال الإنسان، وليس زوال الآلهة- في نهاية القرن.
نهاية القرن - نهاية العالم، في القرنين التاسع عشر والعشرين، هي نفسها النهاية المطردة الوحيدة. لسببين. لم يغير فيها احتداد المستقبلية- الآلية الإيطالية شيئاً. بالأحرى يؤكد ذلك. طالما أن السبب الأول، والأكبر، هو النزاع المستمر، غير المكتمل، بين تصنيع الجمهور وسحق النزعة الإنسية الفردية، وليدة القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، كما أوضح ذلك غروثيزن Groethuysen.
من هنا إضراب الشعراء، كما قال به رامبو وملارمي. والمعنى الأخلاقي للرسم عند ماني Manet وكوربيCourbet . وتندرج سعادات القرن العشرين الأوربي وتعاساته (الوجيزة) فيها كمجرد حلقات. هوذا التاريخ الذي يعتبر زمناً.
السبب الثاني الذي ينمي ركود المستنفدات من المعنى هي اللاهوتية الهيغلية، التي أتخمتنا بالنهايات، نهاية الشعر، نهاية الفن… الخروج النيتشوي لم يكن يلعب أكثر من دور صورة البلاغة في الخطاب حول العقل، الحداثة، الأزمة. خروج ناشز، مثلما في المسرح. عدا الأمر بالنسبة لنيتشه نفسه، طبعاً.
هكذا تمثل نهاية -ال- قرن "سؤال التقنية"، بالفعل. والتي،بدوْرها، سؤال الفن، الشعر. لكن بمعانٍ شتى إلا معنى هيدغر. لأنه أكثر منْ غيْره الذي أعرض عنه، فيما هو يعرض عن الذات ، عكس الظهور الذي ألمعه، وبقدر ذاته الوهم الذي أشاعه. عن التعاضد الضروري بين المعنى، الذات ، التاريخانية والحداثة.بذلك فإن هذه النهاية، التي لم تنته فيها من الإنتهاء، هي بداية ،بدوْرها.
إن بداية صيغ أخرى في التفكير والرؤية و الإحساس هي بدايات الذات. هذه البدايات، في اللغة والتاريخ، هي لانهائية. من خلالها لا يمكن للمعنى أن يستنفد. في نظرهم فحسب يكون المعنى نهائياً، ويجملونه، ويشعرون بأن النهاية ستأتي عليه. طالما أنهم يطابقونه بالطقوس القديمة، باللاهوتي أو بالعقل. يتوهمون داخل الخطاطات. لكننا نحن داخل الإيقاعات : إيقاعات التحولات التي من خلالها تؤكل الأفكار المركزة، بشكل غير محسوس، من طرف كل ما تهمشه،لكن الذي يظفر. وهو ما يخاله حابسو المعنى وحبيسوه نهايةً.
لهذا يفهم جيداً، سواء لدى همبولدت أو والتر بنيامين اللذين فكرا في مقولات عصرهم، مقولات المنقطع في اللغة ومقولات الدليل نحو المتصل اللغة-التاريخ، لماذا يعدانها – همبولدت، رمزيا- صعبة: أي غير قابلة للتفكير بمقتضى معنى العالم، وغير قابلة للإختزال بمقتضى مقولات القرن التاسع عشر الميلادي، التي تواصل التحكم في القرن العشرين. هكذا يُقرأ همبولدت عبر هيغل، أو يعرج على كانط . وهكذا يحال على والتر بنيامين من مقولة الى أخرى، من الماركسية إلى المسيحية. و الصيغة التي تتقبله، بشكل متأخر، اليوم، تظل مقترنة بهذه الأرجوحة حيث غلبة المسيحية. لكن ،إلى وقت قريب ، عبر الكليشيهات الحداثية للمقطعي، داخل طقس "الفشل". السلبية، داخل الثنائي . بينما هو يصعد بصاحبه "بودلير المسيحي الذي تحمله ملائكة محض يهودية" إلى السماء.
همبولدت، والتر بنيامين-رمزا التعارض ،المتعرف عليه عبر بودلير، والذي يظل مفارقاً، بين المحدثين والحداثة. الحداثة : هي ما لا يستوعبه المحدثون. بذلك فهي تمثل، بشكل لا محدود، جزءا من المستقبل الذي لا يوجد في الحاضر. مثلما يشيخ الفن المضاد أسرع من الفن، والعمل المضاد يصدر التكرير أكثر من العمل لأن العمل وحده يكون عملاًمضاداً، شاخ الفن والمجتمع، وشاخ القديم والجديد.
أما التي لاتزال يوتوبيا داخل اليوتوبيا، والتي تبدأ كل لحظة فيها ثمة عمل، إنما هي الذات:الأنا في وصْفها مستقبل المعنى وكل تاريخ ولاداته التي تتم عن الحداثة، عبر كل أشكال "كيف يمكن أن نكون حديثين" ـ بتعبير أرثر رامبو ـ التي تمضي، والحاضر يبقى حاضراً.
Meschonnic,henri
*ModernitèModernitè.Gallimard,èd verdier, 1988,p.303
إقرأ أيضاً:-