سميرة عوض
(الأردن)

Darweeshزين توقيع الشاعر محمود درويش أكثر من 1500 نسخة من مجموعته الشعرية الأخيرة "كزهر اللوز أو ابعد" ، الأمر الذي عكس حجم جماهيريته للشعر، خصوصا وأنها المرة الاولى التي يوقع فيها درويش احد مجاميعه الشعرية في عمان، موجها السؤال لذاته : "كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع من العمر؟".

وامتد حفل التوقيع الذي أقيم في مسرح البلد في وسط المدينة ، الى التاسعة مساء يوم الخميس، بزيادة ساعة كاملة عما كان مقررا سلفا، في الأمسية التي أقيمت بالتعاون بين أمانة عمان الكبرى ومسرح البلد، وحضرها مندوبا عن أمين عمان المهندس نضال الحديد ، نائب الأمين العام المهندس عبدالرحيم البقاعي وعدد كبير من الكتاب والشعراء والمثقفين.
وكان درويش تمنى في مستهل كلمة الطمأنينة والخير والازدهار للبلد العزيز الكريم.
فهو عماني الإقامة والمحبة، ويسكن في منطقة عبدون منذ أكثر من عقد من الزمان.
يذكر ان عمان المحطة الثانية لتوقيع درويش، بعد رام الله، تليها حفلة توقيع في معرض بيروت الدولي للكتاب خلال الشهر الجاري.
ولبى درويش رغبة جمهوره العريض بقراءة قصيدته "فكر بغيرك" من الجزء الأول للديوان "أنت" وفيها يقول:

وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك
(لا تنس قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك ، فكر بغيرك
(لا تنس من يطلبون السلام)
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك
(من يرضعون الغمام)
وأنت تعود الى البيت، بيتك، فكر بغيرك
(لا تنس شعب الخيام)
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك
(ثمة من لم يجد حيزا للمنام)
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات ، فكر بغيرك
(من فقدوا حقهم في الكلام)
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
(قل: ليتني شمعة في الظلام)

رياض : درويش وقهر الظلمات

وكان الشاعر طاهر رياض أكد في كلمة قدم فيها الشاعر درويش قائلا :
نحتفي بديوان محمود درويش الجديد، ونهنئ أنفسنا به، وكلنا ثقة ان عبقريته لن تبخل علينا بأعمال قادمة أخرى، شعرا، ونثرا، تضيف الحادثة، بل اننا جميعا ما يقوينا على وعي الحياة ، وقهر الظلمات معبرا عن ترحيبه باسم أمانة عمان ومسرح البلد وجمهور الشاعر بقوله: الشاعر الجميل محمود درويش... نحبك.

وقال رياض: نحن محظوظون. اعني نحن، عشاق الشعر، عشاق الحياة عشاق الفن الرفيع، حين يتجلى بإتقانه، ويفيض بجمالياته.

محظوظون ، على الرغم من كل مرارات عصرنا، وخيباته ومآسيه، على الرغم من كل البشاعات التي ترتكب كل ساعة في حق إنسانيتنا، تارة باسم الحرية، وأخرى باسم الدين، وثالثة باسم الوطن.

محظوظون... لأننا عشنا في زمن عاش وأبدع فيه محمود درويش.... لأنه يكتب بلغتنا، ويحمل هويتنا، وينهض بشعرنا العربي وثقافتنا العربية ليضعهما في أعلى مراتب الإبداع الإنساني.

وأضاف: منذ تفتح وعينا الأول وهذا الشاعر يؤثث وجداننا بحب الوطن وحب الحياة وحب الجمال وحب الحرية.

وها هي السنوات تكبر، ونكبر معها، ويكبر حبنا لهذا الشاعر الذي ما خذلنا قط، ويكبر حبه لنا، وهو يبتكر مع كل ديوان، بل مع كل قصيدة جديدة يكتبها، افقأ جماليا بكرا، يمنحنا بكرا، يمنحنا الى جانب المتعة، الأمل والجرأة على الحلم.

وزاد: قلة من المبدعين، في حقول الفن كافة ، وعبر العصور كافة، تمتعت بتلك المقدرة على امتلاك القلوب بالغبطة ، وتغوير الأرواح نحو أغوارها الأعمق أصالة وبراءة بالشعر وما تزال ، وهي في قمة مجدها، قابضة على أوج توهجها.
محمود درويش واحد من هؤلاء.
ونحن محظوظون لأننا بينه الآن.
ولأنه اختار الأردن بلد مقامه الثاني، بالتوازي مع وطنه الأم، الذي لا بديل له: فلسطين.

سيرة درويش

وتحفل سيرته الشعرية ب(22) كتابا من المجاميع الشهرية إضافة لديوان الأعمال الأول في ثلاثة أجزاء صدرت عن "رياض الريس للكتب والنشر" كما صدرت من ذات الدار "الأعمال الجديدة" ولا تعتذر عما فعلت، "لماذا تركت الحصان وحيدا، "سرير الغريبة" ، "جدارية"، "حالة حصار" ، و"كزهر اللوز أو ابعد" الذي لاقت فيه الذات الإنسانية وهمومها وقلقها وتوقها للاهلين والحياة والحب التي امتدت على 202 صفحة توزعتها 34 قصيدة موزعة ثمانية أبواب أولها: أنت ، هو ، هي، أنا ، هي وأضفى 1، 2، 3، 4 وجاءت منفى (4) بعنوان "طباق" وهي القصيدة المهداة الى ادوارد سعيد.

كما صدر للشاعر عن عدة دور نشر 16 ديوانا هي "أوراق الزيتون" عاشق من فلسطين، "آخر الليل"، "حبيبتي تنهض من نومها"، "العصافير تموت في الجليل"، "أحبك أو لا احبكر"، "محاولة رقم 7"، تلك صورتها، وهذا انتحار العاشق، "أعراس"، مديح الظل العالي، "حصار لمدائح البحر"، هي أغنية هي أغنية، "ورد اقل"، "مأساة النرجس"، ملهاة الفضة، "أرى ما أريد" و"احد عشر كوكبا".

كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع*

القارئ المجهول
الشكر والامتنان لكل من أسهم وشارك في هذا اللقاء: لمسرح البلد، ولأمانة عمان، وللعاملين في الحقل الثقافي، وللأصدقاء والزملاء من الكتاب والشعراء في هذا البلد العزيز الكريم الذي نتمنى له الطمأنينة والخير والازدهار.
أما التحية الخاصة، فإنها موجهة الى القارئ المجهول، الذي تربطني به علاقة سرية لا مجاملة فيها، ومعاهدة أدبية لا وصي عليها غير الثقة المتبادلة والمشاركة الطوعية في حركة النص الشعري في اتجاهين:
من الذات الكاتبة الى الذات القارئة التي تمنح النص حياته الثانية، حين تعيد كتابته المجازية بطريقتها الخاصة كلها وجدت فيه صوتها وصورتها. إذ لا حياة حقيقية للقصيدة دون تحرك القارئ في اتجاهها ودون تحركها في اتجاه القارئ. فالذات الكاتبة ليست ذاتية الا في الظاهر. إنها طرف في عملية مركبة يشكل المتلقي أو القارئ طرفا حيويا في تحققها.

من هنا، أجد في نفسي القدرة على البوح بأنني بعيد، الى حد ما، عن ساحة الشكوى العامة من خطر القطيعة الذي يهدد العلاقة بين الشاعر والقارئ. فالقارئ، اعني قارئ الشعر المتمرس الموهوب، وهو ليس كتلة جامدة، بل حيوية متجددة ومتعددة، هو الذي يشجعني على تطوير أدواتي وأساليبي بقبوله اقتراحاتي الشعرية المتغيرة، وهو بصفته ناقدي الأول من يساعدني على تطوير الأفق الإنساني لوطن قصيدتي، ويحرضني على ان نصغي معا الى إتباع الزمن، وعلى عدم التحجر في طريقة تعبير نمطية، نهائية الدلالة، إذ لا شكل نهائيا للشعر، فهو مفتوح على فضاء غير محدود، وعلى ديناميكية حياة تجري تعديلا دائما على ذائقتنا الجمالية.

darweesh


من العبث إذن ان يعيد الشاعر قول ما قاله، وبالأسلوبية ذاتها، مئات المرات. فاللغة هي ايضا عرضة للشيخوخة المبكرة. واذا كانت للشاعر من مهمة تجاه لغته، بالإضافة الى مهامه الأخرى، فهي إعادة الحيوية والفتوة الى الكلمات كلما أصابها الإرهاق، وإنعاشها بالدهشة كلما وقعت في العادي الرماي. "ان الشاعر هو وسيلة وجود اللغة". وحين نتحدث عن دور الشاعر في المجتمع، فإننا ننحني احتراما لمشاركته في المظاهرة والإضراب تعبيرا عن التزامه الأخلاقي والوطني والإنساني. لكن ذلك لا يعفينا من مساءلته عن مسؤوليته الجمالية تجاه الشعر عندما يكتب الشعر. فالشاعر يعرف بالشعرية فيه، لا بالمواطنة فحسب.

القضايا الكبرى قد تخلق وقد لا تخلق شاعرا كبيرا. لكنها تظل قضايا كبرى. والقضايا المقدسة لا تشكل حصانة جمالية لفن يتسلقها كالملصق والشعار. فالشعر، مهما قال وهدد وتوعد وقاتل وناضل، لا يعرف الا بخصائصه الجمالية التي لا تنفصل عن جماليات الحرية، والحب، والمقاومة النوعية لما يجعل الموت أفضل من الحياة، وما يجعل الكينونة عدو الكائن.

لا يملك احد منا تعريفا كاملا أو ناضجا للشعر.. هذا الكلام الخارج عن العادي والمألوف، الباحث عن التعرف على نفسه فيما لا يعرف مما سبق. لكنه يدفعنا الى القول: هذا شعر أو هذا كلام يشبه الشعر. فهو دائما جديد مفاجئ يأتي من اللامتوقع. واللامنتظر. لا يكتمل الا لينتقص.. ولا كمال له الا في وعي النقصان.. لذلك هو صعب وممكن.. لان الحياة على هذه الأرض صعبة وممكنة، ولأن المجهول هو جار الحلم.
لا علاقة بين قولي هذا وكتابي هذا، فبين ما نريد ان نكتب وبين ما نكتب فجوة لا نجتازها الا بإعادة التجربة، وبين صورة الشاعر عن نفسه وصورته في مرآة الناس مسافات لا يختصرها الشاعر الا بتطوير أدوات النقد الذاتي، وبالتمرد الدائم على نتاجه، فإن تضخيم الذات بالنرجس ليس هو الدفاع السليم عن طبيعة الشعر المنفتحة على العالم.
ان نكتب كأننا نكتب للمرة الاولى، وان ندرك ان أوراقنا البيضاء ليست بيضاء، بل ملأى بآلاف النصوص السابقة، وان في داخل كل شاعر خارجا مزدحما بالناس والأشياء، وان الذات الفردية فردية وجماعية في آن واحد، هي إحدى المخاوف الضرورية لكتابة قصيدة جديدة.
لن أتحدث عن كتابي، لأني لا اغبط الشعراء الذين يمتلكون الفصاحة الكاملة حين يتحدثون عن شعرهم، ويعانون كامل الركاكة حين يتحدثون عن غيرهم، ولأنني لن اعرفه من فرط ما استقل عني. ولكنني سأسأل نفسي: كيف أتعلم كتابة الشعر في هذا الهزيع من العمر؟.

* نص الكلمة التي ألقاها درويش في حفل التوقيع

الرأي- 2 ديسمبر 2005


إقرأ أيضاً:-