يكتب الشاعر الإماراتي إبراهيم الملا قصيدته بصفاء ورهافة وعذوبة. تنمو القصيدة بين يديه مثل حلم.. مثل غيمةٍ تتشكّل وفق منطقها الداخلي، بما فيه من شروخٍ وعتمات وشظايا وبروق. تترحّل في السؤال وفي التيه ما بين الغَمْر وبين الجدب؛ يلحّ عليه الماءُ مرةً وتطوّقه الصحراءُ مرات. يجذبه إقليم الحنين إلى مدارات ينزف معها وفيها، وتخلعه خارطة الأسفار بعيداً في هيام الأثر والأسطورة التي فقدت معالمها وظلّت نواةً تعتمل تحت السطح؛ مخبوءة في الظلال وفي مرموزاتٍ دانية حال تلامس مجال الخصوبة الفنية، بما هي ذاتٌ مرّ عليها طويلاً زمنُ الاختمار منذ فجر الطفولة وحتى منتصف شمس المتاه. التجربة التي تعاود وتتوسّع حدودها وتَغْمقُ حواشيها وتندَى هوامشها. البؤرة التي يطالها التركيز، وتسفر عن محرقة بها من الهمهمات ومن العطش؛ ما يطلق النداء ويفجّر علامات الاستفهام عن الباقي بعد التقشير والتلف والصدوع والحطام، حيث ( لا جهة سوى الخراب/ الفاغر في القلب ).. دودةُ السؤال تنخر الجذعَ، وتوقف صاحبَها على الحافة، تؤرجحه غائصاً في " هـاوية النظر "، يتلمّس شقوقاً للعزاء لا تبـين؛ لا ينـبس بها جدار ولا يندُّ عنها قاع. ومهـما أطال " المكوث في الهاوية "، فإن الإفصاح من نصيب الأسى والألم والخيبة. هذا هو الإرث الذي لا يستطيع التخلّص منه، ينقله مثل وديعةٍ لن يأتي، أبدا، مَن يستلمها ويحرّره من الإصر. وليس عجيباً أن يمر العنوان نفسه " الإرث " في مجموعة الشاعر الأولى ( صحراء في السلال، دار الجمل، كولونيا ـ 1997 ) ومجموعته الثانية ( تركتُ نظرتي في البئر، الشارقة ـ 2003 ) كأنه الجرح الملازم للجسد والوشم المطبوع في أخاديد الذات، أليس الجرح كما يكتب يانيس ريتسوس في إغريقياته يحكي قصة الحياة عضّةً عضّة. وإنْ كان النص في نسخته الأولى ومضةً وفي صيغة احتمال، إلا أنه هنا تفصيلٌ وتشقيق وتقليب ونبش وفي صيغة يقينٍ، يفزّز المكامنَ ويطيّر الهدأة. بلاغُ " الإرث " يحتشد لبيان الحال، يُعَرِّف ويخبر بما ينهش ويعذّب: ( إنني قادمٌ من عراء/ وذاهب لعراء/ وكل البيوت تراءتْ لعيني/ ولم تشفع لخطوتي عتبة/ ولا عالجتْنِي النوافذُ بالفضول ).. ذلك المتروك المهمل الذاهل من إقامةٍ في الرماد ومن ماسةٍ في القلب مطفَأة؛ يشعل فتيلةَ السؤال ويذخر بندقيةَ النفي بطلقات اليأس والخسران وتمديد التيه إلى الأقاصي؛ نشيداً يرفعه بحرقة، وابتهالاً يصوغه من الجمر، وترنيماً يتصاعد من فجوةٍ تشقّ الروح وتَدْلَعُ بحيراتِ الملح: ( قولي لهم يا حبيبة/ إني عثرت على النهار الضرير/ وإني اتّكأتُ على وردةٍ عابرة/ فما عثرتُ على طريق ولا استرحت/ وإني عانقتُ السراب/ واكتحلتُ ببرق/ فأين السبيل/ لغايةٍ مشتهاةٍ كالحب؟/ أين القناديلُ التي هشّمتها بذهولي؟/ أين السكونُ محتشداً في ضجّة الأجراس؟/ وأين القبورُ السعيدة للعصافير العالية؟)..الأسئلةُ تترى، والنفي يعزّز الضربةَ، ويثخن؛ يحاصر الأملَ في أشد المضايق، ويفتّت أثر مسعى الجائل في سهرٍ وظمأ؛ باحثاً عمّا يعود بالألق إلى لغته، ويعيد النضارةَ إلى المشهد، وينهض به من العتمة، ويريق ماءَ الألفة على جفاف القلب:
( فما عثرتُ على ذَهَبَ الكلام/ ولا فضّة تتدلّى من الشحوب/ ولا نارَ بقربي كي أهيم/ والفراشاتُ بعيدة ). إنّ ما يستحيل القبض عليه والظَّفَر به، شأنَ خشبةٍ لا تطالها يدُ غريق.. شأن فراشةٍ تخذل طالبها وتمعن في الابتعاد، هو محض الإرث والصندوق الذي كلّما حركته؛ انبعثتْ الصرخة؛ تمجيداً للألم.. تمجيداً للطريق ولعابره الخاسر، إذْ يمضي ماخوذاً بـ " الهوّة المظلمة الآسرة " ـ والتعبير أيضاً لريتسوس في مسيرة المحيط ـ يطيل التحديق " للمصير التالف " الذي أصبح لا يخـصّه وحده؛ فالسـد عندما يندكّ، فإن ماءه المتدفق بجلجلة يجرف، سويّةً، الشجرةَ والبـيت والطفل والأهل والأصدقاء. يحملهم إلى التفرّق والتشتت والتمـزّق في بيـداء التيه: ( ثيابنا تورّمتْ في الريح/ وأشـلاؤنا على كل ساحل ).. ( هناك.. نغيب/ بعيداً وعميقاً/ مثل موتى بشفاهٍ ضاحكة ).. ( ولا بيت سوى في المتاهة ).. هناك في أرض الفقد التي تهشّمت، على أديمها، " فكرة الأمل " تتأجّج الذاكرة مرّة.. تتوهّج مرّة على جمرات حنينٍ بسبيله إلى الرماد.. وتخبو، أخيراً، في " نسيانٍ أبيضَ " هو الخلاص وهو الموت، الذي يطمر العتبات ويجفّف الينابيع والأسماء، ويمحو الأسلاف ويبعثر ألبوم الصور، حيث ( لا شيء يبقى ) يخبّر غير " عصفورٍ أخير ".. و" وردة جافة على التابوت"؛ لعلّها يوماً تبتلّ بما تُرِكَ في بئر الأسرار.