- كما يتكلّس الخريف وينزوي/ تحت غطاء شجرة/ أعلق في نبض ريحٍ وأحمل دربَها./ الريح/ إذْ تولف الجدار كي أنحت صورتها/ عليه.
- يلحس ضوءٌ غشاء عنكبوت وينزوي/ تحت/ أهداب امرأةٍ أسبلتْ هسيسَ روحها/ على حيرتي كي تخبو./ فلا/ غيابها يتكلّس مطره/ ولا ينشف ذاك الجدار إذا حرّكت/ أصابعَها على ندمي.
- أنا/ دائما بصدد حديثها المتقطّع الأنفاس/ عالقٌ في صوت قدم. في قبضة باب./ مبلّل/ بزُلال خوفي تحت قشرة مجيئها./ عالق/ كالظل/ وراء/ الأذن).
هذا النص مستل من مجموعة (الفراغ كلب نربيه في البيت) الصادرة توا عن دار التكوين ـ دمشق/2004 ـ للشاعر السوري الشاب معتز طوبر الذي تندرج تجربته مع جيل جديد في سوريا يصدر في صوتٍ خافت لكنه واضح ويصل رغم الضباب الكثيف الذي يهيمن على المشهد حيث السيادة تنصرف لبضعة أسماء، إنْ في المراكز أو الأطراف، يحجب رنينُها العالي تلك النغمات الوئيدة التي تتسلل في "العجقة" محتفظة بمسافتها المملوءة بمحبة الشعر وبمكابرته أن ثمّة من ينتظر ويفتح القلب على مصراعيه. أحسب أن معتز واحدا من هؤلاء وتجربته الأولى تقول بالاشتداد وبالعصب المُترَع؛ يحتفي بطراوة الحياة اليومية، واختزال ما فيها من نبض وتصعيده على نحوٍ يلمس الوتر ويتردّد كحالةٍ لها فرادتها التي تدنو من الغرائبيّة المتفلِّتة من نَحْتِ الصور في تجاور يعزّز الأثر، وتستطيبه الذائقة.
يتألّف النص من مقاطع شأن بقية نصوص المجموعة ـ أو على التحديد في غالبها الأعم ـ تعمل كحزم ضوئيّة تتوجّه في كل مرة إلى بقعة غير منظورة تكشفها وتضيف بانكشافها البقعة الأخرى، توسّع من مساحتها وتصل فيما بينها درجا يربط ما نظنه متناثرا منقطعا بفاصل الترقيم الثلاثي.. مقطع للخريف والريح، مقطع للمرأة والغياب، مقطع للعلوق والانتظار؛ فيما الشاعر في كلٍّ يلوب بالحيرة والندم والخوف. يترصّد الخارجَ يحلّه في كيانه؛ فلا الخريف هو الخريف ولا الضوء هو الضوء. إنما ميقاتٌ وإشارة يستحضران الحاجزَ.. كِلْسَ الغياب المتحجّر حيث لا ريح ولا مطر يمكن لهما أن يغيّرا مصير العالق في ردهة الانتظار، ينصت بوجيب القلق إلى وهم المجيء يتشكّل من سيولة أطرافٍ تحمل بشارة القدوم؛ طارقاً يخرج من جدار تحتّه الريح. تلك الريح الذي يقول عنها في نصٍّ آخر إنها ( تجلب نهاراً فائتا ـ ص27 ).. ذلك الجدار السيّالُ بملامح تمعن في جريرة الغياب. تلمع ببرقٍ لا يحضر أبدا. إنما هي الإمكانية المخبوءة والمعروفة سلفاً لـ: (ملامح مخبّأة في الجدران/ تسطع/ كلما ازددتِ غيابا) كما يكتب في نص سلّة النهارات. ولأمرٍ نتأدّى إلى هذه الخلاصة.. الإحالة إلى الامتناع حين نقرأ الخريفَ وفي ركابه الذبول ورسوم النهاية، والضوءَ الملدوغَ بعطب الانكسار والاحتواء الضيّق في شباك عنكبوتٍ فيه العتمة والتقادم ومآل الخطى يصبغها قعودُ الحيرة وهبوب الندم. التنازع الذي لا يشفي ولا يشقّ جهةً يتنفس فيها الشاعر "من هسيس" روحِ امرأة؛ تحوطه، تغلِّفه بأثرٍ من هوائها، تسرِّبُه من حديث.. من قدمٍ.. من قبضة.
القاعد.. العالق برجاء النقرة الأخيرة، تكسر قشرة الكلس؛ لينهض إلى ميلادٍ معافى تنحسر مع بهجته ظلالُ الألم ورصيدُ الخسائر. لكن بنية النص محكومة بأن يرى ولا يقترب.. يشعر ولا يلمس. والضربة الأخيرة تنزل بقرارها اللافت بغرائبية الصورة ونفاذ مدلولها (عالق/ كالظل/ وراء/ الأذن).. تعرف أن تلك المرأة موجودة سوى أنك لا تستطيع أن تدمجها في حياتك، يلازمك ظلُّ حضورِها وليس في الإمكان أن تقبض عليه وتدنيه من روحك. هي أبدا حَدَبَةُ الأمل.. والصخرة المُرجَأة أبدا. اِحملْها ـ أيّها الشاعرـ وأخبرْنا كيف تنام.. كيف تعيش؟!.