جائزة سلطان بن علي العويس للإنجاز الثقافي والعلمي، وهي الأرفع علي صعيد الجوائز العربية في تقديري الشخصي، لم تتأخر كثيراً في إنصاف الناقدة الكبيرة والشاعرة والمترجمة الفلسطينية سلمي الخضراء الجيوسي، سيّما حين يتذكّر المرء لائحة الفائزين في الدورات السابقة: محمد مهدي الجواهري، نزار قباني، حمد الجاسر، إدوارد سعيد، يوسف القرضاوي، مجلة العربي الكويتية، أدونيس، محمود درويش، ثروت عكاشة، ثمّ جمعة الماجد الذي تقاسم الجائزة مع الجيوسي.
والأعمال العديدة الهامّة التي أشرفت الجيوسي علي تحريرها باللغة الإنكليزية (وأشير، دون إبطاء، إلي الموسوعة القيّمة الفريدة تراث إسبانيا المسلمة ، 1156 صفحة في طبعة Brill) كانت تتباري في الفاعلية الثقافية والأهمية العلمية والوظيفة التربوية مع ترجماتها الشاملة الموسوعية بدورها (أنطولوجيات الأدب الفلسطيني، والشعر العربي الحديث، وأدب الجزيرة العربية، والقصّ العربي، والمسرح...). وأمّا التباري في هذا كلّه مع أعمالها النقدية الصرفة (خصوصاً كتابها الموسوعي الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث ، الذي صدر بالإنكليزية أوّلاً، ثم ترجمه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة إلي العربية) فقد ارتدي طابع التكامل الأقصي بين النصوص الإبداعية والحقول البحثية والأنظمة الدراسية.
وفي أيلول (سبتمبر) من العام 1994 كانت شهرية الكاتبة قد نشرت ملفاً خاصاً عن الجيوسي، كان لي شرف المساهمة فيه بدراسة مفصّلة شئت فيها أن أتوقف عند جانب واحد محدّد في النقد الشعري المبكّر الذي مارسته الجيوسي، أي نقاش الشعر والنثر، أري اليوم أيضاً أنه يظلّ أحد ألمع إنجازاتها النقدية، وأرفعها بصيرة وبُعد نظر. ومن المعروف أنّ الجيوسي كرست قسطاً واسعاً من تلك الكتابات لمناقشة قصيدة النثر، وتأطير علاقة هذا الشكل الشعري الوليد بحركات الحداثة والتحديث في الشعر العربي المعاصر، فضلاً عن تدقيق المصطلح ذاته. وكانت في طليعة قلّة قليلة تجاوزت التنظير النقدي الغائم، والتهويم اللفظي، والتأتأة الإنشائية، والهروب من مواجهة المشكلات الفنية الفعلية الخاصة بهذه المغامرة الشكلية. وفي الآن ذاته أفلحت الجيوسي في الإفلات من مطحنة المصطلحات المتشابكة العائمة المتدافعة (مثل الحدس ، و التوهج ، و الكثافة ، و إطلاق الشعر من كلّ قيد أو شرط ، و الصراع من أجل الحرّية الفنية ، و الحوار اللانهائي بين هدم الأشكال وبنائها ...)، المستقاة في معظمها من تنظيرات غربية (فرنسية، أساساً) يُعاد إنتاجها مقلوبة علي رأسها.
والحقّ أن موقف الجيوسي اتخذ صفة تركيبية وجدلية منذ البدء، فهي من جهة أولي كانت في قلب حركة التحديث الإجمالية (إذ كانت تكتب الشعر الحرّ، أو قصيدة التفعيلة في مصطلحات زماننا)؛ ولكنها لم تكن بعيدة عن مجموعة (وأيضاً: حركة) مجلة شعر من جهة ثانية. ولم يكن هذا الموقع وسطياً قلقاً في انتمائه إلي أحد طرفَيْ معادلة التحديث الخمسينية (مجلة الآداب وشعر الإلتزام، أو مجلة شعر وقصيدة النثر)، ولكنه كان مهادنا ومتسامحاً وتعددياً وديمقراطياً بمعني ما، أتاح للجيوسي أن تتفادي الإنضواء في أيّ من الأقصيَيْن: نبذ الشكل الجديد ورفضه أو حتي تخوينه سياسياً؛ أو نعي عروض الخليل جملة وتفصيلاً، وإهدار الثروة الوزنية والإيقاعية العربية بأسرها.
ولا يظنّن أحد أنّ هذا الموقف المتوازن، المتزن، كان يسيراً متاحاً في تلك الأحقاب العاصفة الصاخبة، حين كان التيّار الجمالي ينقلب سريعاً إلي حزب وعصبة وعصبية، وإلي برنامج فلسفي وروحي وجمالي وسياسي كونيّ أو يكاد، لا يجبّ ما قبله فقط، بل يحرّمه ويُبطله. خذوا، مثلاً، ما كتبه أدونيس سنة 1960، في وصف الإنسان الذي تبتغيه حركة مجلة شعر : الرائد، إنسان الرفض، المستبق، الخالق، الناطق باسم السهم، باسم النهار، الرائي، الإنسان البكر، النقيّ المغسول، إنسان البداية والتموّج أبداً، هذا ما نتطلع إليه ونبشّر به . وقبل أسطر قليلة كانت هذه الرؤيا التبشيرية القيامية المشبوبة قد اختصرت نفسها في قول رهيب صاعق: لا يمكن لأيّ عربي أن يعتبر، بعد الآن، شعراً ذا قيمة إلا إذا كان داخلاً بشكل أو بآخر في مجال هذه الرؤيا، داخلاً بعمق وشخصانية. هذه الرؤيا غذاء، وسيكون خاوياً كلّ شعر عربي مقبل لا يأخذ نصيبه منه !
كيف كانت الجيوسي تردّ؟ هنا مثال واحد بليغ: إصدار الأحكام المطلقة في الفنّ مسألة بالغة الخطورة، ولكننا نعرف أنّ أية ثورة كفيلة بدفع أبطالها إلي الحدود القصوي. أوزان الشعر ليست مسألة سهلة وفي متناول الجميع، والعديد من أصحاب الهوي الشعري لا يفلحون في امتلاكها والتمكن منها. ولكن، في المقابل، لا ينبغي لأيّ شيء أن يمنعهم من التعبير عن أنفسهم في الوسيط الوحيد المتبقي لديهم: النثر. ومن المُفقر لأيّ فنّ أن يحصر فضاء تعبيره . وفي هذا الصدد تكشف الجيوسي النقاب عن واقعة ذات دلالة: كان توفيق صايغ، أحد أبرز شعراء الحركة، قد أبلغها في عام 1958 أنّ أذنه عاجزة عن التقاط بحور الشعر العربي. ولكن، تقول الجيوسي رأيها في طرف المعادلة الثاني، كان شعره المنثور قد انطوي علي إيقاعاته الخاصة ذات الشخصية الدلالية والعاطفية.
القابضة علي الجمر كان عنوان دراستي تلك في مجلة الكاتبة ، مستوحياً تلك الجمرات/الصراعات المبكّرة التي خاضتها الجيوسي آنذاك وكأنها لم تكن تعيش اليوم وحده، بل تستشرف الغد أيضاً، وتستبصر السنوات والعقود التي تليه.
القدس العربي
4 فبراير 2008