ملف جريدة الحياة
أدونيس: أحب أن أبكي
بين ضوء الكلام، وظُلمة الزمن، عاش محمود درويش.
الأول أسنده إليه الفلسطينيون والعرب لكي يُطفئ الجحيم بماء الفراديس. جعلوا منه مَطْهَراً يتجاوزون به خيبة العدل والسياسة، ورمزاً يلجأون إليه لكي يحنّوا ويتذكروا حيناً، ولكي يستشرفوا ويأملوا، حيناً آخر.
وهو عبء احتضنه، وإن كان طاغياً عليه، وهذّبه وارتقى به، وقرَنَ فيه بين الألم المرير والمتعة العالية، وبين الفجيعة والجمال. وفي ذلك صارع العبءَ الآخرَ، عبء الزمن، وآخاه واحتضنه كذلك.كتب شعره كمثل كيمياء تحوّل الموت الى حركة حية، وتخترع الشطآن حتى للقوارب المحطّمة. وحيثما اغتربَ، أقام عاصمة للأمل، جاعلاً من الشعر أرضاً أخرى، وسماء أخرى.
لكن ماذا تقول لك الكتابة حين تنهار فوق صدرك ذروةٌ من ذرواتها؟ خصوصاً ان محمود درويش لم يكن، بالنسبة إليّ، مجرّد صديق. كان أخاً قريباً، وشريكاً حميماً في الحياة التي جمعتنا في بيروت، قبل الحصار، وفي أثنائه، وبعده في باريس. كنّا في هذه المدينة الفريدة نبني جسور الشعر ونربط الأفق بالأفق.
وكنا في بيروت نفتح لغاتنا على الرياح الأربع. وفي بهاء الصداقة كنا نحتفل – في بيتنا، كل سنة، باليوم الذي ولد فيه مع نينار التي ولدت في اليوم نفسه: 13 آذار.
كان يأخذها بين ذراعيه، فتقول له بطفولتها الشاعرة: «أنت كبير، وأنا صغيرة. شو استفدنا؟».
مع ذلك، فيما بعد، في غلواء الصداقة، والتباس علاقاتها، باعَدَت بيننا الحياة. غير ان الخيط الذي يصل الضوء بالضوء لم ينقطع بيننا ابداً.
الآن، أحب أن أبكي.
***
فلسطين في حِداد
(رام الله - محمد يونس)
احتلّ رحيل الشاعر الكبير محمود درويش هموم الفلسطينيين، من رام الله الى الناصرة الى غزة فإلى الشتات.
في الضفة الغربية التي تشهد حداداً لمدة ثلاثة ايام على رحيل درويش، نكست الأعلام في مؤسسات السلطة الوطنية، ورفعت اعلاماً سوداء.
وفي قرية الجديدة داخل الخط الأخضر التي تعيش فيها عائلة الشاعر المنحدرة من قرية البروة المهدمة، تجمع آلاف الفلسطينيين من كل حدب وصوب لمواساة عائلته الصغيرة، المؤلفة من امه وأشقائه وشقيقاته.
اما في رام الله المستقر الأخير للشاعر فكان للحزن طعم آخر: العشرات من محبي درويش تداعوا الى مركز المدينة «المنارة» عقب شيوع نبأ رحيله وهم يحملون شموعاً مضيئة تعبيراً عن حزنهم على رحيله. وقالت رئيسة بلدية رام الله جانيت ميخائيل لـ«الحياة» إن السلطة الفلسطينية اتفقت مع عائلة درويش على تخصيص قطعة أرض قرب قصر الثقافة لدفن الشاعر وتشييد ضريح له.
واستهلت هيئة الإذاعة والتلفزيون الرسمية، ومحطات الإذاعة والتلفزة المحلية بثها بالحدث الوطني وبثت أمسيات أحياها الشاعر سابقاً. وتحدّث كتاب ومثقفون وسياسيون عن شعره وشخصه.
ومن المقرر ان يصل جثمان الشاعر درويش يوم غد الثلثاء الى رام الله حيث سيشيع ويوارى الثرى في المدينة.
وطالبت عائلة درويش بنقل جثمانه الى قرية الجديدة داخل الخط الأخضر لدفنه هناك، لكن المؤسسة السياسية رأت ضرورة دفنه في رام الله وإقامة ضريح له بصفته رمزاً فلسطينياً، معتبرة ان دفنه داخل الخط الأخضر تحت السلطة الإسرائيلية سيبعده عن جمهوره الفلسطيني الواسع الذي لن تسمح له إسرائيل بالدخول وزيارة الضريح، علماً ان عائلته يمكنها زيارة ضريحه في رام الله وقتما تشاء.
رفضَ أن يتحول إلى تمثال
(محمد علي فرحات)
للفلسطيني وحده (ومعه اللبناني أحياناً) أن يشعر باهتزاز الارض تنذر بضياع وطنه أو بترشيحه للضياع فيتمسك باللغة، العروة الوثقى الحافظة حضارة الانسان وانتماءه المهدد بالمحو أو بالتمزيق، عبر الغزو أوالحروب الأهلية.
للفلسطيني وحده، وهو هنا محمود درويش، أن يرسم من اللغة جسراً الى وطنه المحتل أو المهدد بالاحتلال، لا يتهدم الجسر لأنه مشيد من زهو الكلام ولونه وإحالاته الى محطات حضارية للجماعة ومنحنيات وجدانية للفرد.
محمود درويش شيد وطن اللغة سبيلاً الى الوطن، منفتحاً على جماليات الحضارة العربية، وتلك المشرقية تحديداً، المتمثلة بديانات وطقوس تحمل الغنى الانساني مقروناً برعب التعصب وحروبه المقدسة.
شعره النشيد الدائم والصور تتوالد بلا نهاية، وفرح اللغة بنفسها حين تحيي ذكريات وتجمّل آمالاً، وتهلّ دموعاً على من رحلوا.
يبدأ شعر درويش من الحرية، يكسر معوقات التقليد القائمة ما بين الاحساس والتعبير.
ومع الحرية تتوالى معجزات الغناء وألعاب المواءمة بين الذاتي والموضوعي.
وحتى في الالتزام الاجتماعي والنضالي لم يسمح الشاعر بأي قيد وإن مصاغاً من ذهب العدالة.
حضرت قبل أكثر من عقدين جلسة بين محمود درويش وشاعر لبناني موهوب، اسمه موسى شعيب، كان قيادياً في حزب البعث بفرعه العراقي. نصحه محمود درويش بترك الالتزام السياسي الحرفي والانصراف الى الشعر لأن الحزبية في بلادنا مقتلة للشاعر. لم يعمل شعيب بنصيحة درويش، وفي واحدة من دورات العنف قتل، وكان شعره قتل من قبله.
ولم يكن درويش في حاجة لينصح نفسه، ففي ذروة اعجاب الجماهير بقصائده الأولى الوطنية كان يرفض إلقاءها ويختار قصائد تتوافق مع لحظته الشعرية، وهي لحظة متحولة ومتطورة باستمرار. أراد أن يبقى شاعراً ورفض أن يتحول الى تمثال.
المخضرم المتجدد صنع حداثته الخاصة
(عبده وازن)
رحل محمود درويش في أوج «شبابه» الشعري. الأعوام السبعة والستون التي انطفأت ليل السبت الفائت لم تزده إلا ألقاً. وكان كلّما اكتشف خريف الحياة أوغل في ربيع القصيدة. لغته العذبة الجارية كماء النهر لم يشبها وهن ولا أصابها خمود، بل ظلّت تتوهج وكأنها تسترجع بداياتها ولكن بنضج النهايات التي لم تنته.
كان في الفترة الأخيرة على حماسة شعرية نادرة وعلى قلق لا يعرفه الرواد المكرسون عادة. «القضية» التي صنعته مثلما صنع اسطورتها تخطته كما تخطاها الى الأمام الذي لا وجهة سواه. أضحت هي الماضي الملطخ بالدم والأسى، وأمست القصيدة هي المستقبل القادر على احتواء الأرض التي كانت ولم يبق منها سوى ما بقي. كان الشعر كلّ همّه في أيامه الأخيرة وما قبلها. الوجه السياسي فيه كان قد تغّضن وغزته شآبيب اليأس، أما وجهه الشعري فكان أشد نضاره مما من قبل. كان أدرك ادراك اليقين أن «البيت أجمل من طريق البيت» كما قال مرة. البيت يظل حلماً ببيت قد يصل اليه، حياً أو محمولاً على الأكف، أما الطريق فهي المحفوفة بالاشواك والأخطار. البيت هو الحلم الذي قد يفتح أمامه أبوابه فيما الطريق شأن واقعي، وما أقبح الواقع عندما يغلبه اليأس أو القنوط. لكنّ محمود درويش وصل أخيراً الى البيت الذي بلا شرفة ولا عتبة ولا أبواب، وصل مغمض العينين ولكن ببصيرة لا تخبو وحنين لم تخمد ناره.
كان الشعر هو النهاية التي ارتجاها شاعر «جدارية». السياسة أنهكته والقضية أثقلت ظهره وبات يشعر بحاجة ملحة الى حريته، الحرية التي تجعله فرداً في جماعة بعدما كان جماعة في فرد. كان الوقت حان ليواجه الشاعر نفسه في مرآة نفسه. مرآة الوطن غزاها الصدأ بعدما سقط الوطن في أسر الواقع الأشد مأسوية من التاريخ. اكتشف الشاعر أن «المنفى هو المنفى، هنا وهناك» وأنه شاعر المنفيين اللذين لا نهاية لهما، اللذين أصبحا قدره وقدر الذين هم هو، إخوة في الوطن واخوة في اللاوطن، في الشعر والتيه والترحال.
في آخر أمسية له أحياها في مدينة «آرل» الفرنسية قبل نحو شهر، أعلن محمود درويش جهاراً انفصاله عن السياسة وانتصار الشعر عليها. إنها هزيمة الواقع أمام سلطة الحلم الذي لم تبق له سلطة في هذا العالم المأسوي. قال كلمته بجرأة وكأنه كان يحدس بأنه سائر الى موته، موته الذي لم يمهله كي «يعدّ حقيبته» كما يقول. جاهر بتعبه من عالم السياسة والسياسيين هو الذي كان في صميم القضية – على رغم ابتعاده عنها - ولا يزال، حتى بعد رحيله. البعد هنا قرب كما يقول المتصوّفة، والغياب حضور آخر، حضور بلون الغياب. وكم كان يزعجه في الآونة الأخيرة أن يُحصر في هويته السياسية فقط أو أن يسمى فقط شاعر القضية. كان يشعر أنه أرتقى بالقضية الى مصاف المجاز جاعلاً من النضال السابق معجزة شعرية تخاطب الجميع، جميع المضطهدين والحالمين والمنتطرين. لم يلتفت محمود درويش الى الوراء بعدما وضع يده على المحراث، نظر الى الأمام هو ابن المستقبل الذي عرف كيف يصهر ماضيه في روحه. وظلّ يحدّق حتى أصبح في صميم الضوء.
انتصر الموت على محمود درويش بالجسد وليس بالروح. الروح الأقوى من الموت يعجز الموت عن اختطافها. شاعر في شفافية محمود درويش ورقته، يصعب على الموت أن يسلب قلبه، شاعر في عنفه المقدس وقوّته يصعب على الموت أن يسرق حياته. ليس قلب الشاعر هو الذي توقف عن الخفق، بل الزمن نفسه الذي طالما تصدى له وجهاً لوجه. لم تكن لحظة الموت غريبة عن شاعر الموت في «جدارية» و «في حضرة الغياب». لقد واجهه بعينين مفتوحتين وقلب متوقد. خبره عن كثب وعاشه بل ماته ثم نهض منه وبه جاعلاً منه قصيدة ولغة وصوراً متدفقة. خاطبه ورثاه راثياً نفسه والعالم، حتى بات عاجزاً أمام سطوة كلمته. لكن الموت يأتي دوماً كالسارق، على غفلة يأتي. ومثلما تنبأ في «جدارية»، لم يمهله الموت كي ينهي حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياته، لم يمهله حتى يُعدّ حقيبته. أغمض محمود درويش عينيه رغماً عن الحياة التي كانت تصخب في داخله. شاعر الحياة غلبه الموت في ذروة الحياة التي لم تكن وجهاً آخر للموت بل كانت غريمه الأبدي. كان شاعر «سرير الغريبة» يردد: «أريد أن أحيا»، كان فعلاً يريد أن يحيا كشاعر وشاعر فقط، لكن الشاعر الذي لم يحافظ إلا على سلطة «الحلم» كان أرق من رمح الموت الذي اخترق قلبه في أوج شبابه.
في العام 2004 جمع محمود درويش دواوينه الأخيرة حينذاك، وهي لم تكن الأخيرة، في مجلد واحد سماه «الأعمال الجديدة». كان فرحاً جداً بهذه الأعمال ليست لأنها جديدة بل لأنها نشأت في قلب المشهد الشعري الراهن. شاعر مثله كان يكفيه ما حصد من أمجاد وما احتل من مراتب وما عرف من شهرة عربية وعالمية. لكن الشاعر الذي فيه، الشاعر المجبول بالقلق والحلم والرغبة لم يستكن يوماً. لم يُغر محمود درويش يوماً أن يبلغ ما بلغ من قمم بل ظل يحدّق الى الأبعد، الى ما هو أقصى من الضوضاء والمجد العابر والشهرة الوهمية. كان محمود درويش يعمل بجهد على تجديد نفسه وتحديث لغته وكأنه أحد الشعراء الشباب الذين يتلمسون طريقهم. يقرأ بنهم ويعيش بنهم ويحزن بنهم ويتقدم بنهم كما لو أنه يسابق عدواً لا مرئياً هو الزمن، العدو الذي لا يهادن. واستطاع أن يكون شاعراً مخضرماً بامتياز، بل لعله الوحيد الذي منح «الخضرمة» معنى يتجاوز البعد الزمني، جامعاً بين ماضٍ مشترك وحاضر خاص هو المستقبل نفسه. وكم عرف أن يفيد من قصيدة النثر من غير أن يتخلى عن قصيدته الحرة وعن الايقاع الداخلي أو «العروض» الداخلي الذي كان ماهراً في سبكه. كان شاعراً حراً ينتمي الى جيله من شعراء التفعيلة وشاعراً جديداً ينتمي الى جيل الشعراء الشباب في آن واحد. هذه الميزة لم يحظ بها إلا قلة قليلة من الشعراء في العالم. ومثلما كان متفرداً بنضاله وشعره النضالي وغنائيته كان أيضاً متفرداً بحداثته التي بدت مختلفة عن «الحداثات» التي عاصرتها أو عاصرها. رحل محمود درويش. الألم سيكون كبيراً بدءاً من الآن. هذا الشاعر الذي ورث الهزيمة والأسى والخيبة لم يورّث سوى الجمال والحلم والحب، لم يورّث سوى القصيدة الفريدة التي كان شاعرها. رحل محمود درويش تاركاً اسمه الذي بات يعني منذ اليوم الشاعر المنتصر على الموت بالموت، الشاعر المنتصر على الموت بالشعر.
ليت الذين سيحملون نعشه في الوداع الأخير يضعون عليه «سبع سنابل خضراء» و «بعض شقائق النعمان» كما كتب في ما يشبه الوصية. فهذا الشاعر فعلاً لا يليق به الا جمال القمح الأخضر وخفر شقائق النعمان.
الى محمود درويش
(سميح القاسم)
على ورق السنديان
وُلدنا صباحاً
لأم ندى وأبٍ زعفران
* * *
ومتنا مساءً
بلا أبوين
على بحر غربتنا
في زوارق من ورق السيلوفان
* * *
على ورق البحر،
ليلاً،
كتبنا نشيد الغرقْ
وعدنا احترقنا بنار مطالعنا
والنشيد احترق
بنار مدامعنا
* * *
والورق
يطير بأجنحةٍ من دخان
* * *
وها نحن يا صاحبي،
صفحتان،
ووجهٌ قديمٌ يقلِّبنا من جديدٍ
على صفحات كتاب القلق
وها نحن. لا نحن
ميتٌ وحيٌ
وحيٌ وميت
«بكى صاحبي»
على سطح غربته مستغيثاً
«بكى صاحبي»
وبكى، وبكيت
على سطحِ بيت...
* * *
ألا ليتَ... ليت
ويا ليتَ... ليت
وُلدنا ومتنا على ورق السنديان...
سجلّ الذاكرة
(عبدالعزيز محي الدين خوجة)
تأثرت لهذا الفقد، بخاصة أنه كانت تربطني بدرويش علاقة شخصية وصداقة من نوع خاص. برحيل درويش فقدنا شاعراً عظيماً مميزاً، له بصماته الواضحة على الشعر العربي، إذ كانت له شخصيته الخاصة المميزة، وهو أحد رواد الشعر في العصر الحديث، ونجم مضيء مميز سواء كأحد شعراء المقاومة الكبار أو كشاعر له رؤيته الخاصة وأسلوبه الخاص، وأنا أعتقد بأنه كان شاعراً وناثراً عظيماً ورائداً مميزاً، وسيبقى حاضراً في سجل الذاكرة. ودرويش سيبقى كما نزار وبدوي الجبل لكل منهم بصمته ودوره في إثراء الشعر العربي.
الوجه المشرق
(أحمد عبد المعطي حجازي)
الجميع الآن يشعرون بأن رحيل محمود درويش فقد حقيقي وخسارة عظيمة للشعر ولفلسطين معاً، لأن محمود درويش وجه أساسي مشرق في الشعر العربي المعاصر، ولأنه أيضاً صاحب قضية قدم لها الكثير واستطاع أن يكون رسولاً لها في العالم من خلال شعره الذي ترجم إلى عشرات اللغات، وقرئ في مختلف عواصم العالم، حتى داخل إسرائيل. ولا شك في أن هناك إسرائيليين تعاطفوا مع القضية الفلسطينية من خلال قراءتهم للشعراء الفلسطينيين عموماً ولشعر محمود درويش بصفة خاصة.
الانتصار الأخير
(جابر عصفور)
محمود درويش واحد من أكبر شعراء العربية على امتداد عصور الشعر العربي، بل من أكبر شعراء العالم المعاصر كله استوعب ميراث الشعر وانطلق به إلى آفاق لم يصل إليها سواه، فكان شاعر القضية الفلسطينية، كما تعودنا أن نصفه، نحن النقاد الذين عرفنا قدر شعره والذرى التي وصل إليها، وظل يحاول مجاوزتها إلى ما هو أرقى منها، كأنه لا يتوقف عن الصعود إلا ليصل إلى النقطة المستحيلة التي تنطوي على كل أسرار الشعر والحياة والوجود وظل شعره، منذ قصائده الأولى، شعر قضية لم تفارق إبداعاته المأساة الفلسطينية، فظل منتمياً إلى الفلسطيني المقموع، صاحب الأرض المغتصبة، المغروس في ترابها، النابت من أعماقها، الناطق بحق الفلسطينيين العادل في العودة إلى أرضهم وترابهم، واقفاً بصلابة ضد سارقيهم وقامعيهم، وخائنيهم والمنقلبين عليهم، ورافضاً ومديناً كل من أعان، ولا يزال يعين على بقاء وضعهم الإنساني على ما هو عليه ولأنه وهب حياته الإبداعية كلها للقضية الفلسطينية، حالماً بالعودة، قابضاً على فكرة الحل العادل للمأساة الفلسطينية كالقابض على الجمر، في وطن هو الجمر بعينه، ولأنه كان ثابتاً على المبدأ، عميق الالتزام بقضيته التي نفذ إلى قرارة القرار من أعماقها الإنسانية، فإنه لم يعرف التبدل والتحول، والتراجع والتنازل، ولا الرجوع عن المبادئ التي حلت منه محل الروح في الجسد، فظل يغوص في أعماق الحزن الفلسطيني البعيد الأغوار، إلى أن وصل إلى جذره الإنساني في قرارة القرار من أعماق المأساة الفلسطينية التي رآها مأساة إنسانية، غاص فيها إلى أن رأى الكل في الجزء، والمأساة الكونية في المأساة الوطنية، حيث الموت الغادر الذي يهدد الحياة بأسرها، والعدم الذي يتربص بالوجود كله، فإذا به، مع عمق الرؤية واتساعها، مقابل ضيق العبارة ومحدوديتها، يتوغل وراء تجليات الرموز، باحثاً عن العام في الخاص، الإنساني في المحلي.
وقابله الجدار المستحيل لمدار الوجود المغلق المنكفئ على أسراره، فلم يقف عاجزاً أمامه، بل ظل يقرعه بالأسئلة، ساعياً لأن يحفر بشعره كوة في جدار الصمت الكوني، كي يدخل منها الضوء، ويغدو واحداً من الذين رأوا ما لم يره غيرهم، ويسمع ما لم يسمعوه، أداته في ذلك المجازات والاستعارات والتمثيلات والكنايات التي صاغها الحدس الثاقب والبصيرة المرهفة التي تشف حتى تتكشف أمامها الأستار والحجب عن كل الأسرار هكذا، أصبح شاعر قضية إنسانية، قضيته الوطنية والقومية هي المركز، المبدأ والمعاد، منها تنطلق كل هموم الإنسانية وتعود إليها كما يعود النهر إلى مصبه، والحضور في الوجود إلى منبعه وعلة وجوده الأولى، فأصبح يوصف بأن شعره تحول من محدودية القضية الفلسطينية إلى الأفق اللانهائي لمعضلات الحضور الإنساني، وقيل إنه انتقل من أسئلة الحق العادل في الأرض الفلسطينية وحلم العودة إلى شجرة الزيتون ورائحة زهر الليمون إلى أسئلة المصير الإنساني، وأهمها سؤال الموت وتحديات الضرورة في الوجود ولم يكن الأمر أمر تحول أو انتقال من حال إلى حال، بل حال واحد ممتد، متعدد التجليات، يتحرك في ما يشبه حركة الدائرة التي، مهما تباعدت عن نقطة البداية، تعود إليها، مدركة مأساة الوجود كله في مأساة الشتات الفلسطيني، وصراع الشر والخير في صراع الأخوة الأعداء الذي يعميهم عن الحضور الفاعل في الوجود العام والخاص، وكان لا بد من أن يواجه قضية المصير الإنساني في النهاية، لكن من زاوية المصير الفلسطيني، والمصير هوة تروع الظنون، ليس في أعماقها سوى الموت الذي لا بد من أن يراه، ويواجهه من يطيل التحديق، ولا يكف عن السؤال، ويظل يتلظى برغبة المعرفة المحرقة وكان محمود درويش واحداً من هؤلاء أعني أصحاب الرؤى الوجودية الكبرى من شعراء الإنسانية كلها.
ولم يكن يخاف الموت بسبب قلبه العليل الذي أنهكه الهم الفلسطيني الذي يتزايد تعقيداً ومأسوية، فقد رأى الموت من قبل، كلما فتح الأطباء قلبه ليعالجوا ضعفه، وكان يتحدث عنه، في «جدارية محمود درويش» البديعة، كما لو كان يتحدث عن كائن رأى منه ما لا يُرى، أو كما لو كان يحدِّق في أرض هاديس التي لا يعود منها أحد، ولكنه عاد، متشبثاً بحياة الإبداع التي كان يراها أقوى من الموت، وظل يؤمن بأنها تقهر الموت، ولذلك صوّر، على نحو لا ينسى، صراع الموت والإبداع، في تاريخ البشرية التي لا تكف عن مقاومة الموت المحيط بها، ولا يكف هو عن التربص بها، حتى في كل هزيمة له منها، وذلك في الجدارية التي أراد بها تخليد انتصار الإبداع، دائماً، وفي كل تجلياته وأنواعه، على الموت وحين أثقلت قلبَه علتُه، هذه المرة، ذهب لصراع الموت، وأسلم قلبه الذي تكاثرت عليه الأحزان الفلسطينية، مع تصاعد صراع دامٍ عبثي للإخوة الأعداء الذين نسوا قضيتهم الكبرى، ومع تصاعد قمع إمبراطور العالم الجديد، في العالم المملوء أخطاء، في التابوت الممدد من المحيط إلى الخليج، لم يستطع القلب المثقل أن يحتمل مباضع الجراحين، فتوقف عن النبض لكن محمود، في فعله ذلك، كان يحقق انتصاره الأخير على الموت، بعد أن تأكد أنه قهره بالإبداع الذي يظل خالداً، والدواوين التي يغدو كل واحد منها جدارية لن تفارق أعين الأجيال القادمة وقلوبهم وعقولهم في آن، وكان موت جسد محمود درويش، هذه المرة، تتويجاً لكل مواجهاته للموت الذي ظل يراه منذ دواوينه الأولى في الأرض التي انتسب إليها، إلى دواوينه الأخيرة التي رأى، خلالها، الموت في داخله، فصارعه ليقهره، ومضى محاصراً بالموت في الداخل والخارج، لا يكف عن الصراع، إلى أن انتصر أخيراً على الموت، وخادعه وخدعه، عندما أسلمه الجسد الفاني واستبقى الروح الخالد الذي حلّق بعيداً عن الموت، عائداً إلى جوهره الأنقى وحياته الأبدية، محققاً نبوءته الشخصية التي همس بها إلينا، عندما قال في الجدارية:
«سأصير يوما طائرا، وأسُلُّ من عدمي
وجودي، كلما احترق الجناحان
اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرمادْ».
****
وضع الشعر العربي في أفق العالمية
(فخري صالح)
كتب محمود درويش في مجموعته الشعرية «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1996) أن «... من يكتب حكايته يرثْ/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً!». ويمكن أن نلخص تجربة درويش بأنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية، وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية وأسطرتها والكشف عن البعد الملحمي فيها، بالشخوص والحيوات وحشد الاستعارات والصور المركبة التي تزدحم في قصائده بدءاً من «أوراق الزيتون» (1964) وصولاً إلى «أثر الفراشة» (2008).
لقد تبلورت خيارات درويش الشعرية في سياق هذا الطموح، ولكنه ظل مشدوداً، في مراحل تطور تجربته ونضجها، إلى حالة المخاض التي مر بها الشعر العربي منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وإلى الانتهاكات الشكلية التي أوصلت شعرنا المعاصر إلى ما تحقق على يدي درويش وأقرانه من الشعراء العرب الكبار خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن اللافت في قصائده الأولى هو تلك القدرة على تطويع هذه التأثيرات للتعبير عن التراجيديا الفلسطينية التي طمح شعر درويش إلى إعادة تركيب عناصرها ليبلغ بها مصاف التراجيديات الكبرى في التاريخ. ولعل الرغبة في صنع أسطورة الفلسطينيين المعاصرين.
يكتب درويش شعراً - يزاوج فيه بين الغنائية والدراما التي تتصاعد في قصيدة مثل «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا». وهو، من ثمّ، يفتح عالمه الشعري على الملحمي والحواري ممسرحاً قصيدته التي تغادر صوتها الغنائي لتحتفل بما يدور في أعماق الشخصيات التي تحكي أو يُحكى عنها في القصائد. ففي الوقت الذي كانت قصيدة درويش تصدر، في أعماله الأولى، عن صوت فردي يعيد تسمية العالم والأشياء من حوله، فإنه يتجه في مرحلة «سرحان...»، و «محاولة رقم 7» بعامة، إلى كتابة قصيدة تحتشد فيها الذوات المتكلمة. وعلينا أن ننتبه في هذا السياق إلى أن النقد العربي قد اخطأ عندما صنف قصائد الشاعر بأنها غنائية خالصة، إذ ان درويش يمسرح شعره ويحاول في معظم هذا الشعر صوغ ملاحم عامرة بالشخوص والمتكلمين، وعالمه الشعري يستمد غناه وتعدد معناه من هذه الملحمية المأمولة التي تتحقق في «أحمد الزعتر» و «قصيدة الأرض» (أعراس 1977)، و «مديح الظل العالي» (1983)، وعدد آخر من قصائد درويش التي كتبها خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
من الضروري الإشارة لدى الحديث عن هذه المرحلة، من تطور تجربة درويش الشعرية، إلى الصفاء التعبيري الذي بدأ يميز قصائده. ففي هذه المرحلة تصبح قصائد الشاعر أكثر صفاء، وتتخلص، إلى حد كبير، من تراكم الصور الشعرية وفائض اللغة الذي نقع عليه في القصيدة العربية المعاصرة. وهو ما يهيئ الشاعر لانعطافة حاسمة في شكل قصيدته وصوره الشعرية وطبيعة بناء قصيدته بعامة. وتتحقق هذه الانعطافة في مجموعتيه: «هي أغنية، هي أغنية» (1986)، و «ورد أقل» (1987) حيث تصبح القصيدة أكثر كثافة واختزالاً، وأكثر التفاتاً إلى ما هو كوني في التجربة. ثمة في قصائد هاتين المجموعتين اشتغال على ثيمات صغيرة كانت مهملة ومقصاة في شعر درويش السابق، ومحاولة لأنسنة الهزيمة والخسارات التي يحولها الشاعر إلى أغانٍ للعادي والبسيط والمشترك الإنساني في لحظات الهزائم الشخصية والجماعية.
لقد سعى درويش بدءاً من «أرى ما أريد» (1990)، وصولاً إلى كتابه الأخير «أثر الفراشة» (2008)، إلى تطعيم عالمه بمشاغل شعرية ذات طموح كوني. بهذا المعنى لم تعد عناصر التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر درويش، بل إن عناصر هذه التجربة أصبحت تتخايل عبر الأساطير التي ينسجها الشاعر أو يعيد موضعة عناصرها التي يقوم باستعارتها من حكايات الآخرين، ومن ثمّ يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية كذلك.
أصبح درويش في هذه المرحلة صانع أساطير، يولّد حكايات من حكايات ويبني عالماً أسطورياً تتمازج فيه حكايات الشعوب وأحلامها في أرض القصيدة التي تسعى إلى وضع حكاية الفلسطينيين في أفقها الكوني وتخليصها من محليتها ومباشريتها. وقد انعكس ذلك غموضاً فاتناً على صوره وعالمه الشعري الذي ظل يحاول، لفترة زمنية طويلة، التخلص من حمولته السياسية المباشرة لمصلحة إنجاز قصائد كبيرة قادرة على أن تجدل الراهن بالعابر للتاريخ والمتجدد عبر الزمن.
المستوى الآخر في عملية التخليق الأسطوري حققه درويش في قصائد «هدنة مع المغول أمام غابة السنديان»، و «مأساة النرجس ملهاة الفضة»، و «الهدهد»، وهي تمثل في مجموعها تأوّج تجربة درويش وبلوغها مرحلة مدهشة من النضج الشعري وخصوبة الدلالة والقدرة على جدل الحكاية الفلسطينية بحكايات التاريخ المستعادة. في هذه القصائد تتداخل الحكايات، ويصبح من الصعب على القارئ أن يفصل عناصر حكايتنا عن عناصر حكايتهم؛ وهو ما يرقى بشعر درويش، في هذه المرحلة، ليصبح شعراً إنسانياً خالداً قادراً على التعبير عن حكاية البشر، لا حكاية بعض البشر. وهذا ما تقوم به، خير قيام، الأسطورة التي تعمل على تمثيل الأنماط الكونية من خلال شخوصها الرمزيين ولغتها الرمزية الشاملة.
ينتقل درويش في مجموعته «أحد عشر كوكباً» (1992)، التي لا يزايلها هاجس الأسطرة والتخليق الأسطوري، إلى رواية الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكايات الآخرين مبدداً بذلك شبهة المباشرة، والعاطفية المفرطة، وموفراً كذلك محوراً كونياً للتجربة الفلسطينية ببعديها الرمزي والواقعي. في هذا السياق تحضر الأندلس وحكايات الهنود الحمر وحكاية الشاعر وريتا وسوفوكليس والكنعانيين، ليشكل الشاعر من هذه المادة التاريخية - الشخصية صيغة للتعبير غير المباشر عن حكاية الفلسطينيين الخارجين «من الأندلس». إن شعر درويش يعبر عن الروح الفلسطينية اللائبة المعذبة الباحثة عن خلاص فردي - جماعي من ضغط التاريخ وانسحاب الجغرافيا، لكنه في «أحد عشر كوكباً» يقدم أمثولات تاريخية صالحة للتعبير عن التجربة الفلسطينية، من بين تجارب أخرى. إن صورة العرب الخارجين من الأندلس في قصيدة «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، وصورة الهنود الحمر في «خطبة «الهندي الأحمر» - ما قبل الأخيرة - أمام الرجل الأبيض»، تمثل كل منهما استعارة بدْئية (نمطية) Archetype تتطابق مع صورة الفلسطيني المشرد المقتلع المرتحل بعيداً من أرضه؛ ومحمود درويش يكشف عن سر استعارته حين يضع عبارة «الهندي الأحمر» بين مزدوجين مومئاً إلى هندي أحمر معاصر، هندي أحمر فلسطيني يعرض في «خطبته» مفارقة انتصار الآخر وهزيمته هو.
لكن درويش تحول خلال العقد الماضي بدءاً من «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) و «سرير الغريبة» (1999)، إلى كتابة شبه سيرة ذاتية، إلى توليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي، والحكايات والأساطير والاقتباسات القرآنية والتوراتية، للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي والشخصي. لكن الإنشغال هنا بحكاية السيرة، بتفتح الوعي على هذا العالم، لا تخفف من الشعور الملازم بالغربة والمنفى. كما أن انتصار الحاضر على مشهد الولادة، بتأزم أفق الصراع وثقل الواقع الضاغط، يدفع القصيدة إلى التلون برؤيا الغريب المنفي، ويصبح اليأس والإحباط، من التجربة الجماعية التاريخية، مهيمنين في معظم قصائده في المرحلة الأخيرة.
وهو بهذا المعنى لم يبتعد من جوهر شعره الأول بل نقله إلى عتبة جديدة كان لا بد لتجربة شاعر مبدع مثله من أن يصلها شعره، عندما يتخفف من ثقل الواقعة التاريخية، ويعيد إدراج هذه الواقعة التاريخية في سياق التجربة البشرية الكبرى، كاتباً ذاته، بكل تلويناتها: الوطنية والقومية والإنسانية، وملتفتاً في الوقت نفسه إلى سيرته الشخصية وذاته الجوانية التي لا يمكن الشعر أن يكون من دون التفتيش عنها والكشف عنها في القصيدة.
لكننا خسرنا بموته مشروعاً طموحاً لتحويل مسار الشعرية العربية، كان محمود قد خطط للقيام به من خلال فتح قصيدته على مسارات وآفاق شعرية، وتأثيرات مجتلبة من شعريات عالمية وأشكال تعبيرية أخرى.
توأم القلب
(مارسيل خليفة)
لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس حتى صار اسم أحدنا يستذكر آلياً اسم الآخر. ولا عجب في ذلك، فكل محطات مساري الموسيقي ولثلاثين عاماً، مملوءة بالإشارات الى أعمال درويش، بدءاً بـ «وعود من العاصفة» ووصولاً الى «يطير الحمام» التي لم تسجل حتى الآن، فمنذ أولى محاولاتي وقبل ان يتعرف واحدنا الى الآخر، كنت أحس ان شعر محمود قد أنزل عليّ ولي، فطعم «خبز» امه كطعم خبز امي، كذلك عينا «ريتاه» ووجع «يوسفه» من طعنة أخوته و «جواز سفره» الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون «كرمله»، رمله وعصافيره وسلاسله وجلاديه، محطاته وقطاراته، رعاة بقره وهنوده... كلها كلها سكناها في أعماقي. فلا عجب إن آلفت موسيقاي أبياته في شكل طبيعي دونما عناء أو تكلّف. يقيني ان شعره كتب لأغنيه، لأعزفه، أصرخه، أصليه، أذرفه... أحوكه ببساطة على أوتار عودي، وإذا أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماته وصوتي طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويؤاسي، يحس ويقاوم. محمود، يا توأم القلب أقولها لك، مثلما كتبتها لي، لو في جنة الله شاعر مثلك لكنت صدّقته.
روح فلسطين
(ماجدة الرومي)
وفاة محمود درويش أصابتني بألم وحزن شديدين. لقد كان صوت فلسطين في المنفى، وفلسطين ستزداد غربة في غيابه. كان درويش بالنسبة لي عنصراً أساسياً لأكون قريبة أكثر من أرض فلسطين. إنه روح فلسطين وصوتها. فالتراب لا يعني شيئاً من دون الناس، نحن كنا نتلمس روح فلسطين من خلال محمود درويش، وبغيابه سيكون تلمسها أبعد واصعب. لكنه سيظل حاضراً في شعره وكتبه وإرثه الغني المبدع. ولا خوف على القضية الفلسطينية بعد غيابه، لأنه ترك في نفوسنا وعقولنا من خلال شعره وثقافته وتمسكه بالقضية، ما هو أقوى من الاحتلال. فالمحتل لا يمكنه مصادرة صوت نقي وروح حرة مثل صوت محمود درويش وروحه.
الأشخاص الكبار مثل محمود درويش يقربوننا من الحرية مهما كانت بعيدة عنا. بدءاً من اليوم سنفتقد شخصية محمود درويش الفذّة والاستثنائية لكن روحه ستظل حاضرة فينا.
ليتني عاتبته وليته عاتبني!
(عز الدين المناصرة)
تحت سماء بيروت، وفي ظلّ الثورة الفلسطينية المعاصرة، اجتمع المثقفون الفلسطينيون للمرة الأولى في حياتهم في بيروت، حيث لم يسبق أن جمعتهم عاصمة عربية أخرى. كان ذلك في السبعينات، عندما جاء محمود من القاهرة الى بيروت. تعارفنا للمرة الأولى عام 1973 في (دار العودة للطباعة والنشر)، ولم يستغرق ذلك وقتاً، فقد كان محمود، قارئاً ذكياً، اضافةً الى موهبته الشعرية الكبيرة. ومنذ ذلك العام، وحتى عام 2000، استمرت صداقتي العميقة معه. كنا في بيروت نأكل معاً، ونسهر معاً، ونتجادل في السياسة والشعر، ومصير وطننا المشترك فلسطين، بل كنت حليفه الأساسي في معاركنا الثقافية والسياسية الفلسطينية. كان يقرأ قصائده لي قبل نشرها، وكان يستمع الى ملاحظاتي النقدية، ويُصغي اليها بصمت.
دارت الأيام، وتناثرنا في المنافي الجديدة بعد بيروت. ذهب الى باريس، وذهبت الى الجزائر، وكنا على رغم البعد، نلتقي في مناسبات عدة. وحين عدنا معاً الى عمان في أول التسعينات، كنا نلتقي في منزله. وفي يوم من الأيام وقعت (خصومة ملتبسة) بيني وبينه، لعب دوراً كبيراً فيها بعض (صغار المخبرين الصحافيين)، فلا هو عاتبني، ولا أنا عاتبتُه... ليني عاتبتُه، ليته عاتبني. جاءني الخبر، فأصبت بصدمة، وتساقطت دموع، انه خسارة كبرى للشعب الفلسطيني، وللشعر العربي الحديث.
الشعر يخسر نهراً...
(شيركو بيكس)
عندما يحط شاعر طائر بجناحيه الواسعين على الأرض ليودعنا توديعه الأخير... عندما يرحل «محمود درويش» عن دنيانا التي نجدها أضيق بعده... تتبدل الطقوس وتتغير الألوان... فتنكمش قباب السماء وتهتز أركان اللغة. انه الحزن الذي يتراءى دخاناً... ويتصاعد مغطياً، بلون الرماد، آفاق الكلمات!
لقد بلغ عدد الشعراء العرب، حتى الآن، عدد أوراق شجرة كثيفة الأنغام، لكن «درويش» يبقى النغمة التي تأبى أن تسكن أو تكفّ عن العطاء. انه الطائر الذي لوّن بجناحيه سماء الشعر بمدارات وأطياف ساحرة لما يقارب نصف قرن... وستمتد الى فضاء الأجيال القادمة من حيث الزمان... كما امتدت، من حيث المكان، الى فضاء الشعر الكردي وفضاءات آداب الشعوب الأخرى، فتأثر به جيل رائد من الشعراء الكرد وشعراء المنطقة. لم يكن «محمود درويش» لسان حال الأشجار والأحجار الفلسطينية فحسب... بل كان، كذلك، ناياً غائراً بأنغامه الحزينة والمتمردة معاً أعماق الإنسان أينما أصغى الى نبضه. كان شعره ضوء قمر يمنح متلقيه هدوءاً وزوبعة يمنحهم اليقظة في الآن نفسه. كان صهيل حصان أصيل يعدو على الأرض وتغريد يمامة تبحث، عبثاً، عن عشها في السماء. اننا، الشعب الكردي، لا ننسى أبداً ما غنّاه لكردستان، ولا ننسى قصيدته الأخيرة «ليس الكرد إلا الريح».
ان شعره يأبى أن يموت... لأنه منسوج من كلمات تحفر الذاكرة كما يحفر النهر الأرض ويشق المجرى في الزمان والمكان. ان محمود درويش كان «قدس» الشعر العربي، وسيبقى للإنسانية نورس البحر، الناصع حباً، طالما هناك الحزن والأمل.
جدارية لعالم بكامله
(شوقي بغدادي)
إذاً مات الشعر، ومات الجمال، وماتت فلسطين، وماتت اللغة العربية والعروبة! وإن لا... فماذا تبقى الآن؟ هل تبقى سوى النزاعات الموجعة الدامية بين الإخوة الأعداء؟! وهل يُسمع سوى الصراخ والــعويل والنـــزيف بينهم؟! هل بقي سوى الشعر والأمل الذي يوقظه الكلام الجميل؟!
كان محمود ينبوعاً متدفقاً لا ينضب في زمن الجفاف، ففي كل عام أو عامين يصور له كتاب – أي كتاب – قادر أن يذكرنا بأن فلسطين التي تضيع لن تضيع ما دام هناك جديد متواصل من هذه الهبة الإلهية الخارقة ينعشنا في زمن الموت أكثر من أي زعيم سياسي أو عربي بارع في الخطابة. كان محمود درويش قادراً – ولعله الوحيد الذي كان يملك هذه الموهبة – أن يحرّض في قرائه هذه الثقة العجيبة بأنه ما دام مثل هذا الشاعر على قيد الحياة فإن قضيته لن تموت بالتأكيد.
ليست هذه موجة من الجموح العاطفي تأخذني. انني يائس بالفعل، ومع ذلك فأنا محكوم بالأمل – كما قال المرحوم الجميل الآخر سعد الله ونوس -. وهذا الأمل لا تحركه «حماس» أو «فتح» أو أي منظمة أخرى.
ان النزاع الأخير الذي يمزق الصف الفلسطيني يمزقني ويمزق معي أمل المحكومين به كما قيل. غير ان القلب الكبير توقف الآن وقد عجز الطب الحديث المتقدم عن إنقاذه، فما علينا الآن سوى أن نحني الرأس واجمين كي نقاوم اليأس المطبق. إن الجمال مصابٌ يترنح الآن كي يترك مكانه للبشاعة وليس أمامنا – كما يبدو لي – سوى ما تركه محمود درويش من أشعار يجب أن نخلو اليها كي نعيد قراءتها صامتين إذ ليس أي كلام آخر قادراً على تعزيتنا وتحريض الأمل المهدد في وجداننا، لقد رثى محمود نفسه قبل أن يرثيه الآخرون وها هو الآن يبدع «جدارية» أخرى لن يستطيع أي شاعر أن يكتب مثلها. جدارية لأمتنا بأكملها، ليس سوى ذكرى محمود درويش صدىً لها معينٌ بحق على الاحتفاظ بالشعلة الذابلة الأمل... أمل العرب بألا يخرجوا كالهنود الحمر من التاريخ...
رحمة الله عليك أيها الشاعر الذي لن يتكرر!..
سؤال الكتابة
(الطاهر لبيب)
غاب الشاعر، بـ «أل» التعريف والحرف الكبير. وهو من هؤلاء الذين لا يضيف الموت الى ما قيل عنهم، في حياتهم، شيئاً ذا بال، باستثناء الغياب. ها نحن، اذاً، «في حضرة (هذا) الغياب»، يُربكنا، لا ندري ما نقول فيه، عنه. من أين لنا الكتابة عنه؟ كيف الكتابة عمّن قضى العمر، وأعمارنا، يعلّمنا الكتابة؟ هذه صعوبة أولى، درسُ الغياب، الأول: أن يكون، في ما نكتب عنه، كلّ شيء، ما عدا الكتابة.
ليس للحديث عن «الرمز» حدّ: ستدور الزوايا بما لا ينتهي سبره، من شخصه وعالمه. قد نحسّ، أكثر، أنه كان في كل منا. قد يكتشف آخرون، من غير ثقافتنا، أن «خصوصيته» كانت حامل كونيته، بين «فلسطينياته» و «جدارياته»، على امتداد وجدان العالم. في النهاية، سنعود الى عبارته لنواجه فيها حرج السؤال وأناقته، ولنعجب كيف أمكن له الجمع بينهما.
هكذا يبقى سؤال الغياب سؤال كتابة: هذا الشاعر كان كلّما اقترب من موته ابتعد موته عنه، كما قال. ماذا كان بينه وبين موته من مسافة غير الكتابة؟ كان رأى حياته تذهب منه الى الآخرين فلم يسأل «عمّن يملأ نقصانها». قبل ذلك، «قرأ فصلاً لدانتي ونصف معلّقة»، فإذا لا نراه فكّر، حينئذ، في ما يملأ الناس به حيواتهم، خارج عذاب النص ولذته. ولأن «أثر الفراشة» كتابتها فإنه لا يشيّع جنازتها غيرها، ولا تمشي الا وحيدة الى قبرها. ولنفهم أنه إن كان من يُتمٍ فهو يُتم كتابة.
قلّ من شعراء العرب من قيل فيه، حيّاً، ما قيل في محمود درويش. قلّ منهم مَن سمع الناس يرددون شعره، انشاداً ولحناً. لكن حذار من ذاكرة تحتفظ بشاعر أو بشعره، بدون شعريته. والحذر حاسم مع محمود درويش: كتابته، أي شعريته، هي التي «تملأ نقصان» حياته عند الآخرين. إنها هي التي يجب أن تستمر، أو يمكن أن تستمر، إن أوجدت لها الثقافة والأجيال نسيج كتابة تحيا فيه.
بغياب محمود درويش تشتد الممنوعات وقوفاً، في وجه الشعراء. في «حضرته» كان البعض منها يمرّ. غيابه ينزع عنها شرعية اللياقة... كان يقول الممنوع في الممنوع، ولكن كانت له القدرة على قول الممنوع في «المباح». ولقد أغرت هذه القدرة أنظمة ومؤسسات لا يتسع واقعها لـ «مكر المجاز»، فجعلت من حضوره (الاعلامي) مكسباً. من يدري؟ لعل «المكر» يقاتل بمكر فنرى، في كل عاصمة عربية، شارعاً، باسم محمود درويش، أو نصباً يذكرها به. من يدري؟ لعله ينبت في أرض الممنوعات.
ذكرى واحدة، في الممنوع، أذكرها: ها تغني، في ساعة متأخرة من الليل، لآتيه، على عجل. ركب معي سيارتي وطلب أن نبحث، في المدينة، عن شوارع يُمنع فيها المرور. اتخذنا، عمداً، كل شارع وجدنا فيه علامة المنع. بعدها، قال: كانت عندي حاجة لا تؤجّل في تحدي الممنوعات، ولم أجد غير الشوارع الخالية في هذه المدينة. جلسنا، طويلاً، قرب البحر، الى ان قال: كفى، لقد رأيت حيفا...
شاعر اللحظة التاريخية
(علي بافقيه)
لا شك في أن اللغة العربية فقدت أحد كبار شعرائها بوفاة محمود درويش هذا المساء. وربما يكون صراع الأشكال في المشهد الشعري العربي الآن، يشير إلى الشاعر الراحل كأحد أقطاب قصيدة التفعيلة، إلا أنني لا أرى المسألة بهذه الطريقة. فالشاعر العظيم، وبعيداً من الأشكال الشعرية، يكون حاضراً في الماضي وفي المستقبل بما يتناسب مع عمق حضوره في اللحظة التاريخية التي يعيشها.
من هنا يعيش الشاعر الملهم قلق الأشكال وقلق الإبداع وقلق الوجود ليس من موقع ما في جهة ما. ذلك لأنه يحس في روحه وفي جسده بتمزقات ومخاضات التاريخ البشري في هبوطه وصعوده، وحراكه التاريخي المهول باتجاه الحرية والمعرفة والخلاص. وحيث تحرر قصيدة التفعيلة ضرورة إبداعية نوعية كذلك، فان تحرر قصيدة النثر ضرورة إبداعية نوعية أمام هول الحراك البشري وتلاطمه وتسارعه في ابتكار أدواته المعاصرة في كل مناحي الحياة، وبالأخص منها الإبداعية والفكرية. استطاع محمود درويش أن يكون صوتاً إنسانياً رهيفاً، لأنه استطاع أن يلمس عذابات شعبه وكوارثه كمسألة إنسانية مرعبة في صميم العذاب البشري وزواياه الهمجية. واستطاع من فرط رهافته وبسالته في آن معاً أن يذهب بالتفكير reasoning إلى حيز الشعر، فيحول الكارثة إلى أسطورة. يمكن لإنسان أن يتأمل الكارثة. نعم. ولكن كيف للإنسان أن يتأمل في كارثته هو وكارثة شعبه المقتلع؟ تلك هي معجزة الشعر ومعجزة الشاعر محمود درويش ومقتله أيضاً متأملاً بالكارثة. يفتت شيئاً منها على قهوة الصباح اللذيذة، ويذرّها على كائنات السحب، ويلمسها في البهجة والكآبة ويضعها في حقبة السفر.
هناك من يرى أن محمود درويش تخلى عن شعر المقاومة، فيما أرى أنه ارتقى بشعر المقاومة إلى مستوى العصر، وعلى المقاومة أن ترتقي بنفسها إلى مستوى العصر، لأن المسألة الفلسطينية ليست قضية أيديولوجيا، إنها كارثة إنسانية معاصرة، ودفعها باتجاه الماضي هو مقتلها ومبتغى أعدائها.
المشهد الشعري العربي الآن اختتم فصلاً من فصوله الباهرة. سيكون كئيباً بفقده أحد أهم أصواته، إلا أن عليه أن يذهب بعيداً وعميقاً إلى التعرف إلى تجربة هي محل فخر للشعرية العربية والوجدان العربي، لا شك في أن قضية فلسطين التي هي قضية كل إنسان شريف خسرت واحداً من أهم أبنائها المخلصين لها، وخسرت وجهاً يرفعها ويضيئها كقضية من قضايا الحرية الإنسانية. وكقضية من قضايا الهمجية المعاصرة.
****
ذكريات حيفا
(سلمان ناطور)
حيفا بالنسبة إلى محمود درويش جزء أساس من تكوين شخصيته الأدبية. وصلها في منتصف الستينات، وبدأ نشاطه الأدبي في جريدة «الاتحاد» التي تصدر منذ العام 1944، والسياسي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وفيها بدأ يصدر دواوينه الشعرية، كما بدأت تجربته في المعتقلات والسجون، بعدما ظهر آنذاك صوتاً عربياً فلسطينياً صارخاً حاداً ضد الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على الجماهير الفلسطينية في المثلث والجليل والكرمل.
مع فدوى طوقان
في حيفا، ارتفع صوته بقصيدة «سجل، أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألفاً»، في مرحلة كانت السلطات الإسرائيلية تعمل بأجهزتها القمعية كافة لمحو الهوية العربية الفلسطينية في أوساط من تبقى في وطنه من الشعب الفلسطيني.
التقيته للمرة الأولى في صحيفة الاتحاد في أواخر الستينات، قبل أن يبدأ تحرير مجلة «الجديد» التي صدرت في العام 1951. أخذت «الجديد» مع درويش شكلاً آخر فنياً وعلى مستوى المضمون، لأنه كان محرراً شامل الاطلاع. فتح المجلة على الأدب العربي والأدب العالمي التقدمي. فتعرفنا من خلالها الى الكتاب الفلسطينيين في المنافي مثل غسان كنفاني وأبو سالمة، والكتاب العرب الذين برزوا في الستينات، على رغم الحصار المفروض علينا.
تحوّلت الصفحات الأدبية التي أشرف على تحريرها إلى دفيئة ثورية، انعكست على الناصرة ويافا وحيفا. وفي مرحلة وجوده، نشطت الحركة الأدبية الفلسطينية ليس فقط في الشعر بل في القصة والمسرح والأغنية. وأصبحت حيفا مركزاً ثقافياً عربياً فلسطينياً قدم ثقافة ذات هوية مقاومة متميزة.
وحتى في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له تأثير كبير، على رغم أنه لم يكن يشغل موقعاً في سلّم القيادة. كان من الأصوات المؤثرة جماهيرياً في صفوف الحزب، وكان يلقي قصائده في مهرجاناته. واستقطب بريقه كثيرين من المثقفين العرب والفلسطينيين، بسبب المناخ الذي أسسه حضوره الثوري والفني.
كان متواضعاً وصاحب نكتة وخفيف الظل. وكانت تربطنا علاقة شخصية تجددت بعد عودته إلى رام الله. غيابه خسارة مفاجئة. وعلى رغم أنني أعرف وضعه الصحي ومخاوفه من الجراحة، فإنني لم أكن أتصور أن يتوقف قلبه بهذه السرعة.
بيروت «خيمتنا» ... بظلها العالي
(شوقي بزيع)
الوقت الآن لا يتسع للرثاء. فبين ان تسمع الخبر وأن تصدقه ينبغي ان يمر وقت طويل لتخليص العبارة من تلعثمها. ثم ما الذي تركه الشاعر للشعراء من فضلات اللغة وحواشيها لكي يتمكنوا من رثائه عبر كلمات وصيغ لم يكن قد استهلكها من قبل؟ وكيف أمكن الموت ان يدخله في نعش او قصيدة أو ضريح وأن يلمّ شتاته المتناثر بين العواصم والأفئدة وصفحات المعاجم؟
الوقت الآن لا يتسع للرثاء وجملة (مات محمود درويش) لا تستقيم في اللغة ولا في المجاورة اللفظية ولا في المعنى، فالفاعل في الأصل لا يمكن ان يقوم بفعل الموت، والفعل لا يستطيع ان يصدق فاعله. ونحن اصدقاءه ومحبيه نهيم بين الاثنين غير مصدقين ان من هتف ذات يوم «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» يمكنه ان يخون العهد مع الحياة التي أحبها حتى قطرة الرجاء الأخيرة، وأن من تعهد بتربية الأمل يقبل الآن بالتنحي مع المهمة ويعود شاحباً ومهيضاً ليتقاسم سريره الأخير مع كائنات الظلام النحيلة وترابه الرطب.
الوقت الآن لا يتسع للرثاء، لذلك فإنني سأترك المهمة الصعبة الى زمن آخر لأتحدث قليلاً عن الشروق الأول لشمس بيروت في غياب محمود درويش وعن قصة الحب التي ربطت بمحبس الكلمات النادرة بين سيد الشعراء وسيدة العواصم. أتحدث بما يشبه التأتأة وبما يمكن شاعراً عي اللسان ان ينتزعه عنوة من كنف الكلمات الحرون بعد ليلة الكوابيس الفاصلة بين تلقي النبأ الفاجع في قريتي الجنوبية المتاخمة للشمال الفلسطيني وبين كتابة هذي السطور. كان يمكنني هناك ان أكون أقرب الى هواء البروة المحمول على ظهور الأشجار وانحناء النساء الثاكلات على ضريح اللغة، ولكنني قصدت بيروت آخرة الليل لكي أربت على أكتاف أبنيتها المسكورة من الفقد وأمواجها المثخنة بالشهقات.
وهل كانت بيروت ما أصبحت عليه لو لم يقيّض لهويتها الرجراجة ان تتفتح في عهدة النقصان وأن تنقلها قصائد محمود درويش ونزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وعشرات الوافدين غيرهم، من خانة الغياب الى خانة الحضور؟ كان محمود درويش في طليعة أولئك الذين منحوا المدينة المعنى وحملوها في ضوء شياطينهم النادرة من سفوح البلاغة العرجاء الى قمم التوهج القلبي. خرج محمود من الكرمل في العام 1970 ليبحث في بيروت عما يعيده الى لغته المفقودة فوصلها في العام 1972 بعد عبور سريع في كل من موسكو والقاهرة. كانت المدينة تعيش يومها فوراناتها الأكثر احتداماً وتطل من أقاصي حيويتها المتفجرة على الوهدة المتوحشة التي انزلقت إليها بعد ذلك بسنوات ثلاث. وشارك درويش في العرس كما شارك في الجنازة. بدا الطرفان، العاصمة القلقة والشاعر القلق، كما لو انهما يتقاسمان القدر إياه ويتشاطران نسيم الفردوس ولهيب الجحيم. كان الشاعر يبحث عما يبعده قليلاً من الحنين الغنائي وسطوة الإيديولوجيا الفظة، وكانت المدينة ساحة عراك استثنائي بين الطرفين إياهما. وكنا نحن، شعراءها القادمين من الأرياف، نحاول جاهدين ان نتجنب ما أمكن الارتطام بصلابة اسمنتها الأصم، فيما كان «دمنا الزراعي» يلاحقنا بجراحه الريفية النازفة حتى تخوم الجسد وتخوم اللغة.
وصل درويش الى بيروت ليقف وقفته الأولى على منبر قصر الأونسكو محاطاً بالآلاف من محبي شعره وببعض «العقائديين» المتوجسين من قدومه، والذين أرادوا ان يعيدوه الى فلسطين ولو على صهوة الشعارات والقوافي الرنانة. قال إنه يريد ان يقرأ فلسطينه الأخرى المتمثلة بقصائد مغايرة من مثل «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» وما هو على شاكلتها، وحين انبرى وسط الحشد من طالبه بفظاظة بقراءة قصيدته «سجل انا عربي»، أحس درويش بأن هذا الصوت النافر ليس هو الصوت نفسه الذي انتظر سماعه من مدينة الحداثة العربية، فانبرى في لحظة غضب ليجيب السائل بقوله الشهير «سجل أنت» أنك عربي. وهو لم يقصد التنصل من عروبته بل التنصل من تحويلها الى لافتة أو شعار منظوم. المشهد نفسه تكرر على منبر كلية الآداب حين وجد من يحتج على غموض قصيدته الطويلة الأولى في حب بيروت «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، فما كان منه الا ان اختصر القصيدة ما أمكن وغادر المنبر. والمشهد الثالث الأكثر قسوة بالنسبة اليه كان ذلك الذي حدث له في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية حين كان يقرأ قصيدته المعروفة «أحبك أو لا أحبك»، حيث بادره أحد اليساريين الجدانوفيين بالاحتجاج على قراءة قصيدة عاطفية اشتم منها رائحة الغزل والحب، فيما كانت المقاومة الفلسطينية، بحسب اليساري الجدانوفي تتعرض للذبح على يد قوى السلطة اللبنانية في ذلك الحين. ولا يزال الكثيرون ممن شعروا بالمرارة والمهانة يومذاك يتذكرون وقفة شفيق الحوت الغاضبة دفاعاً عن كرامة الشاعر وكرامة الشعر.
وحدها كلية التربية في الجامعة اللبنانية انتصرت لشاعرية محمود درويش ولمعنى قدومه الى بيروت عبر الأمسية الجميلة والنادرة التي اقامها الشاعر على منبرها والتي جمعته الى نخبة من شعراء الكلية وأساتذتها وطلابها، معيدة الاعتبار الى جوهر المشروع الحداثي للؤلؤة المتوسط. بعد ذلك حدثت المصالحة الحقيقية بين المدينة والشاعر وبدأت العلاقة بينهما تتخذ بعدها الوجداني والمعرفي، حتى اذا سقطت بيروت في وهدة حربها الأهلية الدامية لم تجد أرفق بآلامها وشقائها من لغة درويش وأهدابه وحناياه.
فهنا كتب محمود «أحمد الزعتر» محققاً أولى خطواته على طريق الكتابة الانشادية الملحمية وقافزاً برشاقة العدائين نحو مناطق التخييل المباغتة والغناء المبهر. وهنا رثى اجمل الشهداء وألصقهم بالمعجزة. وهنا حاول بنجاح المواءمة بين الحياة والكتابة، بين ألم الأعماق وفرح السطوح، بين دماء الشهداء وثغور النساء وبين النعوش المرفوعة وأكاليل الزهور. وكانت قصيدته الطويلة «بيروت» هي الثمرة المدهشة لكل المفارقات التي حملتها المدينة في أحشائها والتتويج الأخير لقصة الحب التي تولدت من اتحاد قطرتين من الدم، إحداهما لبنانية والأخرى فلسطينية.
كان حصار بيروت عام 1982 هو الذروة القصوى للقاء بين الشاعر وعاصمته الأثيرة. وكانت قصيدته «مديح الظل العالي» تتويجاً لقصة الحب تلك بقدر ما كانت تصفية حساب أخيرة، وممهورة بالمجازر بالفظاعات بين الشاعر ورهاناته الضائعة. هنا يصل الكلام، كما الايقاع، الى أقصاه ويختلط الذاتي بالجمعي والفلسفي بالسياسي والشعري بالنثري. وفي «ذاكرة للنسيان» يذهب محمود درويش، حيث لم يعد يسعفه الشعر، الى الكتابة النثرية الخالصة مستعيداً ذلك اليوم الطويل من أيام آب (اغسطس) 1982 حيث تعرضت المدينة للقصف الإسرائيلي على امتداد ثماني عشرة ساعة متواصلة.
في «الغريب يقع على نفسه» يقول محمود درويش لعبده وازن: «حنيني الى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن. وعندي مرض دائم اسمه الحنين الى بيروت». وفي «ذاكرة للنسيان» يقول: «ماذا أفعل لو لم أجد احداً أتحدث اليه، لمن أنقل كلامي ومن يشاطرني صمتي؟ سأصفر لحناً هو مطلع أغنية من أغاني بيروت المتفجرة من هذه الحرب. لم تكن بيروت للغناء ولم يستخدم الشعر اللبناني اسم بيروت القابل للاستعمال في كل بحور الشعر. اسم موسيقي ينساب بسلاسة في قصيدة النثر وفي القصيدة». أما الآن، وتحت أول شمس صفراء تشرق على خيمة محمود درويش الأخيرة، فما الذي يمكن بيروت أن تفعله في غياب شاعرها الأثير، وبأي لغة تستطيع الإفصاح عن حنينها وحنيننا إليه؟
تلك العزلة في عمّان
(خليل قنديل)
ربما تظل الجغرافيا التي يحط بها الشاعر على الأغلب هي جغرافيا حبرية طائرة لا تتوخى طعم الإقامة الفيزيائية في الأمكنة. انها الجغرافيا التي لا تتطلب من مساحتها البنائية سوى شرفة صباحية للتأمل وركوة قهوة وبضع أوراق وقلم يقدر لحظة القبض على الدهشة الشعرية، أن يحبرها ويصيغها في جملة شعرية.
والشاعر الراحل محمود درويش ابن بلدة «البروة» الفلسطينية الذي فقد جده الحكاء الأول لطفولته، وفقد مكانه في وقت مبكر ودخل في كوميديا الهجرات المركبة حيث هاجر مع أهله الى لبنان، وعاد الى فلسطين قبل أن تأخذ الكارثة الفلسطينية شكلها الدولي المنظم والتابع لوكالة الغوث الدولية. كان قد دخل في يقينه أن الجغرافيا تظل منزلقة ومترجرجة تحت أقدام الفلسطيني كما قال الشهيد غسان كنفاني ذات مرة. ولهذا يمكن القول وعلى رغم الحميمية التي كان درويش يبديها للمكان في بيروت أو في تونس أو في باريس، ظلت حميمية نزقة ومرتعشة لا تستقر ولا تهدأ إلا إذا استجمعت قواها في قصيدة.
لكن العاصمة الأردنية عمان ظلت لها مذاقها الخاص في طعم الجغرافيا والإقامة عند درويش، فهو يعتبر الأردن الذي يحمل جنسيته هو الرئة الثانية لفلسطين، وهي التي حينما كان يطل من شرفة بيته في «الصوفية» يشعر بأن رائحة فلسطين مقيمة أبداً في الأوكسجين العماني.
وقد كان يمكن الراحل درويش في مكانه العماني أن يستقبل أعز الأصدقاء والأحباء، كي يتحاور معهم عن الشعر وعن فلسطين وقد كان يُجمل جلساته مع الأصدقاء والأحبة بأن ينهض بكسله الجميل ويصنع لهم القهوة بيديه وعلى طريقته.
وقد أتاحت عمان للراحل درويش أن يختصر مسافة الذهاب الى رام الله والى التواصل مع الشأن الثقافي الفلسطيني، أو حتى الشأن السياسي، والعودة الى بيته في عمان حيث السرير والصالة والمكتب الذي يظل يُغريه بمعاودة إلقاء القبض على القصيدة الدرويشية النادرة الحدوث.
ومحمود درويش وخلال اقامته في شقته بعمان ظل عصياً على المشاهدة، بمعنى ان درويش لم يكن متاحاً للمناخات الثقافية الأردنية، أو لتلك الاشتباكات المضجرة التي تحدث عادة بين المثقفين، إلا في النشاطات الثقافية النادرة التي كانت تستدعي حضوره بإلحاح، وفي الأمسيات الشعرية الخاصة به، أو حفلات توقيع كتبه. ولا غرابة ان قلنا بأن درويش كان لا يستطيع أن يتجول في عمان وحيداً إلا بمرافقة بعض الأصدقاء، لا لشيء سوى انه لم يكن يعرف جغرافيا شوارع وأمكنة عمان.
هكذا كان وجود درويش في عمان شفيفاً كنسمة لا تطمح إلا أن تتمغنط بالشعر وتتنشق رائحة فلسطين.
الآن أحاول أن أتصور تلك اللحظة التي سبقت سفر درويش الى هيوستن لإجراء العملية. أحاول أن أجر الزمن من ياقته المُنشاة قليلاً لأرى الشاعر الذي نهض من نومه وجال بخطوات وحيدة ومرتبكة غرفة نومه والصالة ومطبخ قصيدته تلك المنضدة، واحتسى قهوته ومن ثم فتح الهواء للنوافذ، وفكر بالموت قليلاً، وبتركة الشاعر من حبر وورق وقصائد برسم الكتابة، أو بفكرة عدم العودة الى البيت.
أكاد أجزم أن درويش في لحظة المغادرة حدق في نعشه المقبل عليه، وابتسم ساخراً وهو يماحك الموت قائلاً لمكانه العماني: «سأذهب كي أموت قليلاً وأعود لقهوتي وللأصدقاء والشعر».
بدايات القاهرة
(القاهرة - علي عطا)
خلافاً لما هو متداول من أن محمود درويش التحق بالعمل في صحيفة «الأهرام» عند مجيئه إلى مصر في أول السبعينات يؤكد الكاتب المصري يوسف القعيد أن درويش عمل أولاً في مجلة «المصور» عام 1972 وأول مقال نشره فيها كان عنوانه «هل تسمحون لي أن أتزوج؟». ويذكر القعيد أن درويش أنجز في تلك الفترة أيضاً تحقيقاً مصوراً بالاشتراك مع الكاتبة صافي ناز كاظم كان حصيلة جولة على أشهر معالم القاهرة. ويرى أن درويش كان يقيم في بداية وصوله إلى القاهرة في شقة مفروشة في حي الدقي, ثم نصحه أصدقاؤه بالإقامة في الفنادق على اعتبار أنها توفر له قدراً أكبر من الأمن الشخصي.
لكن مستشار الوثائق والمعلومات في مؤسسة «الأهرام» أبو السعود إبراهيم يؤكد أن درويش أقام في مصر بدءاً من 1971. وعمل كاتباً في جريدة «الأهرام» من 1971 إلى 1974 بقرار من رئيس تحرير الجريدة آنذاك محمد حسنين هيكل. وينقل إبراهيم عن درويش قوله عن تلك المرحلة: «عينني محمد حسنين هيكل في نادي كتاب «الأهرام» وكان مكتبي في الطابق السادس مع نجيب محفوظ وبنت الشاطئ ويوسف إدريس, وكان توفيق الحكيم يشغل مكتباً مستقلاً في الطابق نفسه».
في معترك باريس
(باريس – انطوان جوكي)
عشرات الشعراء عبر العالم عرفوا قدراً امتزج فيه مسارهم الخاص بتاريخ بلدهم أو شعبهم وطبعوا بعمق الأدب أو تحولوا الى اسطورة حقيقية. لكن من الجائر مقارنة محمود درويش الذي يشكل نموذجاً مثالياً لهذا النوع من الشعراء بأي واحدٍ من هؤلاء، لأنه تمكن عبر قلمه فقط، من احتلال موقع فريد ومهم في الساحة الشعرية العالمية على رغم انتمائه الى وطنٍ، فلسطين، لم يبصر النور بعد، والى منطقةٍ، العالم العربي، مقطعة الأوصال وينظر اليها العالم المتحضر منذ فترة طويلة من منطلق تخلفها وتطرفها المزمنين، والى لغة، العربية، لا يتقنها إلا العرب ما خلا قلة قليلة. كل هذه الأمور تجعل منه شاعراً لا شبيه له، على الأقل في تاريخنا الحديث.
عرف شعر محمود درويش في ترجماته الفرنسية نجاحاً لافتاً (من مترجميه الياس صنبر، فاروق مردم بك وعبد اللطيف اللعبي)، وبات له حضور في المعترك الشعري الفرنسي ودخل سلسلة شعر «الجيب» في دار غاليمار الشهيرة. وكان أحيا في باريس أمسيات كثيرة، واستضافته أكثر من مؤسسة ليلتقي جمهوره الفرنسي والعربي المهاجر. وكان على علاقة ودّ وصداقة مع شعراء كثر في طليعتهم إيف بونغوا وأندريه فلتير. وكان يردد دوماً أن باريس لا بدّ من العودة اليها لتنفس هواء الحرية. وكان هو أقام فيها فترة في الثمانينات وجعلها منطلقاً لحياته وأسفاره. كان درويش، رغماً عنه، شاعر قضية مقدسة ورمزاً لشعب ووطن، فاستخدم في فترة ما لغةً بصيغٍ وكلمات كان وقعها أقوى من الرصاص واستطاع اختراق صدر العالم وإيقاظ ضميره الهانئ البال. لكنه أيضاً الشاعر الذي جعل من قصائده، بعد نضجه، مرادفاً للحب والسلام فأبى أن يسمى «شاعر المقاومة» فقط، ولم يرغب في أن يحفظ الناس من أعماله القصائد السياسية فقط. وهذا ما يجعل من وفاته خسارة على المستوى الإنساني لا تعادلها وفاة أي شاعر عربي أو أجنبي آخر، بخاصة أن الحال في فلسطين وعالمنا العربي مأسوية اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى ونحن في أمس الحاجة الى صوتٍ ناضجٍ ومسالمٍ ومسموعٍ مثل صوته قادر على أن يعلو فوق هدير الأصوات التي تبشّر بالحقد والموت. محمود درويش شاعر قبل أي شيء، ولهذا حاول التحرر من الصورة التي حاولت الجماهير العربية وغير العربية سجنه داخلها، ففجّر في شكلٍ منتظم اللغة الشعرية المستخدمة في عالمنا العربي وسجل في قصائده الجديدة قطيعة مع كل ما كان كتبه في السابق. وهذا ما يجعل من وفاته خسارة كبيرة على المستوى الشعري، خسارة شاعرٍ مجددٍ وجريء استبق قراءه والنقاد الذين ثابروا على تأويل قصائده كما يرغبون، فبقيت الأم أو المرأة في نظرهم رمزاً للأرض المسلوبة – المرغوبة، وبقي الطفل رمزاً للشعب الفلسطيني. وخلطوا بين الحميم في كتاباته والجماعي وبين قصة الشاعر وتاريخ وطنه، وبين جموحه الى الحياة والنضال السياسي، على رغم انتقاده مثل هذه التفسيرات ورجاؤه أن تُقرأ قصائده «ببراءة»، على تعبيره. ربما لهذا آثر محمود درويش أن يخضع لمشيئة الرحيل عن هذه الدنيا باكراً، لحدسه بأن رسالته الإنسانية والشعرية ستصلنا بشكلٍ أسرع وأمضى.
بغداد ... «المربد» ثم الانقطاع
(بغداد – ماجد السامرائي)
كانت علاقة محمود درويش الشاعر بالعراق علاقة ذات خصوصية: فجمهوره العراقي، كما كان يجده، جمهور فريد من حيث التواصل معه، وكنت دائماً أجده يستشعر ذلك. كان يجد في الجمهور العراقي جمهوراً شاعراً، لأنه يتواصل معه بالشعر من خلال الشعر لا من خلال الشهرة.
وكان هو، في اللقاءات التي جمعته بهذا الجمهور يقدم نفسه كما يريد ويرغب: لم يطلب منه هذا الجمهور يوماً قصيدة بذاتها، وانما كان يترك له حرية الاختيار في تقديم نفسه كما يرى هو أن تكون صيغة اللقاء... وفي كل مرة كان يأتيه بالجديد الذي يقدم نفسه به، ومن خلاله.
منذ السبعينات، حيث كان اللقاء الأول، ومحمود درويش مع جمهور «مهرجان المربد الشعري»، وجمهوره ينتظره، فإذا كان المهرجان في البصرة انتظر جمهور بغداد عودته منها ليكون له لقاؤه، هو الآخر، معه... ودائماً يكون. وكان القائمون على «المربد» ينظرون الى محمود درويش بوصفه شاعراً له خصوصيته: شاعراً كبيراً، ومكانة شعرية متميزة لا بد من التعاطي معها/ معه بالخصوصية والتميز... فيفردون له «جلسة خاصة» تترك له الحرية فيها في التعاطي مع جمهوره.
وحين «اغتاض» بعض الشعراء من ذلك وتساءلوا محتجين: لماذا تعطى لمحمود درويش مثل هذه الخصوصية، وهم شعراء أيضاً، مثلهم مثله؟ كان الجواب ان أقيمت له أمسيات (أو أصبوحات) شعرية في أكبر جامعتين في بغداد: جامعة بغداد (وفي كلية الآداب بالذات)، والجامعة المستنصرية.
بعد الحرب الأولى على العراق (1991) انقطع محمود درويش عن المربد... ولم ينقطع عن العراق: سؤالاً دائماً ظل يحمله، محملاً بالكثير من همومه، لأن هناك أناساً بادلوه الحب.
****
عن المنفى ... آخر نص كتبه ولم يُنشر في كتاب
محمود درويش
للمنفى أسماء كثيرة ووجهان، داخليّ وخارجيّ. المنفى الداخلي هو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته، وتأمُلّ عميق في الذات، بسبب اختلاف منظوره عن العالم وعن معنى وجوده عن منظور الآخرين، لذلك يشعر بأنه مختلف وغريب، وهنا، لا تكون للمنفى حدود مكانية. إنّه مقيم في الذات المحرومة من حريتها الشخصية في التفكير والتعبير، بسبب إكراه السّلطة السياسية أو سلطة التقاليد. يحدث هذا في المكان المضادّ، تعريفاً للمنفى. يحدث هذا داخل الوطن.
المنفى الخارجيّ هو انفصال المرء عن فضاء مرجعي، عن مكانه الأول وعن جغرافيته العاطفية. إنه انقطاع حادّ في السيرة، وشرخٌ عميق في الإيقاع، هنا، يحمل المنفيّ كُلَّ عناصر تكوينه: الطفولة، والمشاهد الطبيعية، الذاكرة، الذكريات، مرجعيات اللغة، دفاعاً عن خصوصيته وهُويّته، ويأخذ التعبيرُ عن حنينه إلى الوطن شكل الصلاة للمُقدّس. هنا يُطوّر المنفيّ اختلافه عن الآخرين لأنه يخشى الاندماج والنسيان. ويعيش على الهامشِ الواسع بين «هنا» و «هناك» يرى أن أرضه البعيدة هي الصلبة، وأنّ أرض الآخرين غريبة ورخوة.
المنفيّ هو اللامُنتَمي بامتياز. لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى. تصبح الذاكرة بلاداً وهُوية، وتتحوّل محتوياتُ الذاكرة إلى معبودات. وهكذا يضخّم المنفيُّ جماليات بلاده ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود. وحيث ينظر إلى التاريخ بغضب لا يتساءل: هل أنا ابنُ التاريخ، أم ضحيّته فقط؟
يحدث ذلك عندما يكون المنفى إجباريّاً، بسبب الحرب أو الكوارث الطبيعية أو الاضطهاد السياسي أو الاحتلال أو التطهير العرقي.
وهناك منفى اختياريّ، حيث يبحث المنفيُّ عن شروط حياة أخرى.. عن أفق جديد. أو عن حالة من العزلة والتأمل في الأعالي والأقاصي، واختبار قدرة الذات على المغامرة والخروج من ذاتها إلى المجهول، والانخراط في التجربة الإنسانية، باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلاً من أشكال المنفى، منذ أن عوقبنا نحن أحفاد حواء وآدم بالتاريخ!
وهناك أدباء اختاروا المنفى لتكون المسافة بينهم وبين ماضيهم مرآةً لرؤية أوضح لأنفسهم وأمكنتهم. وهناك أُدباء، اختاروا المنفى اللغويّ بحثاً عن حضور أكبر في ثقافات اللغات الأكثر انتشاراً.. أو للانتقام من السيّد بلغته السائدة.
وهناك أدباء لم يجدوا مكاناً أفضل من المنفى للدمج بين غربتهم الذاتية وغربة الإنسان المعاصر، فاخترعوا المنفى للتعبير عن الضياع البشري. وأقنعونا أيضاً بأن أدب المنفى عابر للحدود الثقافية، وقادر على صهر التجربة الإنسانية في بوتقة واحدة تعبيراً عن تفاعل الثقافات. ودفعونا الى التساؤل من جديد عن مفهوم «الأدب الوطني» وعن مفهوم «الأدب العالمي» في آن واحد. هؤلاء الأدباء ألغوا الحدود، وانتصروا على خطر المنفى، وأثروا هُويتهم الثقافية بتعدُّديّة المكونات.
لكن، إذا كان الحظّ قد حالف مواهب هؤلاء الأدباء، ووفر لهم طريقة لتطوير التجارب الأدبية الإنسانية، فإن الأمر لا ينطبق على جميع المنفيّين، فليسوا كلّهم كتاباً.
لذلك، ليس من حقّ الكاتب أن ينسى البؤس والآلام والكوارث التي يعيش فيها الملايين من اللاجئين والمنفيّين والمُهجّرين والمشرّدين، المحرومين من حق العودة إلى بلادهم من ناحية، والمحرومين من حقوق المواطنة في البلدان التي يُقيمون فيها، من ناحية أخرى. إنهم بَشَرٌ عائمون مُهمّشون، مُقْتَلعون... لا يستطيعون النظر إلى أمام، لأنّ المستقبل يُخيفهم. ولا يستطيعون العودة إلى وراء لأن الماضي يبتعد. إنهم يدورون حول حاضرهم دون أن يجدوه، في ضواحي البؤس الخالية من الرحمة والأمل.
وفي حالتنا الفلسطينية، تعرّضت أكثرية الشعب الفلسطيني إلى جريمة الاقتلاع والتهجير والنفي منذ ستين عاماً. ما زال الملايين من اللاجئين يعيشون في مخيمات المنافي والدياسبورا، محرومين من شروط الحياة الأولية ومن الحقوق المدنية، ومحرومين من حق العودة. وعندما تُدمّرُ مخيماتهم، وهذا ما يحدث في كل حرب صغيرة أو كبيرة، يبحثون عن مُخَيّم مُؤقت في انتظار العودة لا إلى الوطن.. بل إلى مُخيّم سابقٍ أو لاحق.
ومن المفارقات المأسوية، أن الكثيرين من الفلسطينيين الذين يعيشون في بلادهم الأصلية، ما زالوا يعيشون في مخيمات لاجئين، لأنهم صاروا لاجئين في بلادهم بعدما هُدّمت قراهم وصودرت أراضيهم، وأقيمت عليها مستوطنات إسرائيلية. إنهم مرشحون لأن يكونوا هنوداً حمراً من طراز جديد. يُطلّون على حياتهم التي يحياها الآخرون، على ماضيهم الجالس أمامهم دون أن يتمكنوا من زيارته لذرف بعض الدموع أو لتبادل الغناء الحزين. هنا، يصبح المنفى في الوطن أقسى وأشدّ سادية.
الاحتلال منفى. يبدأ منفى الفلسطيني منذ الصباح الباكر: منذ أن يفتح النافذة حواجز عسكرية. جنود. ومستوطنات.
والحدود منفى. فلم تعرف أرض صغيرة أخرى مثل هذا العدد الهائل من الحدود بين الفرد ومحيطه. حدود ثابتة وحدود متنقلة بين خطوتين. حدود حمولة على شاحنات أو على سيارات جيب. حدود بين القرية والقرية. وأحياناً بين الشارع والشارع. وهي دائماً حدود بين الإنسان وحقه في أن يحيا حياة عادية. حدود تجعل الحياة الطبيعية مُعجزةً يومية. والجدار منفى. جدار لا يفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.. بل يفصل الفلسطينيين عن الفلسطينيين وعن أرضهم. جدار لا يفصل بين التاريخ والخرافة.. بل يوحّدهما بامتياز.
غياب الحرية منفى، وغياب السلام منفى. ليس المنفى دائماً طريقاً أو سفراً. إنّه انسدادُ الأفق بالضباب الكثيف. فلا شيء يُبشّرنا بأن الأمل ليس داءً لن نشفى منه. نحن نُولَدُ في منفى، ويولد فينا المنفى. ولا يُعَزّينا أن يُقال إن أرض البشر كُلّها منفى، لكي نضع منفانا في مَقُولةٍ أدبية.
منذ طفولتي عشتُ تجربة المنفى في الوطن، وعشت تجربة المنفى الخارجي. وصرت لاجئاً في بلادي وخارجها. وعشت تجربة السجن. السجن أيضاً منفى. في المنفى الداخلي حاولتُ أن أحرّر نفسي بالكلمات. وفي المنفى الخارجي حاولتُ أن أحقّق عودتي بالكلمات. صارت الكلمات طريقاً وجسراً، وربما مكان إقامة. وحين عُدْتُ، مجازاً، كان المنفى الخارجي يختلط مع المنفى الداخلي، لا لأنه صار جزءاً من تكويني الشعري، بل لأنه كان كذلك واقعيّاً.
لم تكن المسافة بين المنفى الداخليّ والخارجيّ مرْئيّة تماماً. في المنفى الخارجي أدركت كم أنا قريب من البعيد.. كم أن «هنا» هي «هناك»، وكم أن «هناك» هي «هنا». لم يعد أيُّ شيء عامّاً من فرط ما يمسُّ الشخصي. ولم أعرف أيّنا هو المهاجر: نحن أم الوطن. لأن الوطن فينا، بتفاصيل مشهده الطبيعي، تتطوّر صورته بمفهوم نقيضه المنفى. من هنا، سَيُفَسّر كل شيء بضدّه. وستحلّ القصيدةُ محلّ الواقع. ستحاول أن تلملم شظايا المكان. وستمنحني اللغة القدرة على إعادة تشكيل عالمي وعلى محاولة ترويض المنفى. وهكذا، كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة، وصارت وطنه المجازيّ... صارت وسيلته وجوهره معاً، وصارت بيته الذي يدافع عنه به.
الابتعاد عن الوطن، بوصفه منبَع الإلهام وطفولة اللغة، قد يُدمّر الشاعر. فهذا الابتعاد هو امتحان عسير للقدرة على اختراع ألفَةٍ مع مكان جديد، واختراع صداقة مع حياة لسنا مُؤهّلين لها، والمشي على شوارع لا نعرفها، والتكيّف مع مناخ مختلف، والسُّكنى في حيّ لا تربطنا فيها علاقة ببائع الخبز والصيدلية والمطعم ومغسلة الثياب. وباختصار، هو تدريب الذات على أن تولد من نفسها بلا مساعدة، وأن تستعدّ لمواجهة الموت وحدها. ولكن، إذا لم يُدمّرْكَ المنفى ستصبح أقوى، لأنك استخدمت طاقاتك القصوى وحريتك الداخلية لا لتأتلف أو لتجد مساواةً ما، بل لتصالح نفسك، ولتتفوّق عليها وعلى الخسارة. وعندها، قد يسألك أحدٌ ما: لولا المنفى، هل كُنْتُ سأستمع إليك؟ لن تعرفَ كيف تُجيب. وقد تقول: لولا تلك الأرض التي وُلِدْتُ عليها ومنها، هل كنتُ ما أنا عليه اليوم؟ هل كُنْتَ ستسألُني؟
للمنفى أسماء كثيرة، ومصائرُ مُدمّرة قد لا ينجو منها إلا بعض الأفراد الذين لا يُشكّلون القاعدة. أما أنا، فقد احتلّني الوطن في المنفى. واحتلّني المنفى في الوطن.. ولم يعودا واضحين في ضباب المعنى. لكني أعرف أني لن أكون فرداً حراً إلا إذا تحرَّرَت بلادي. وعندما تتحرَّر بلادي، لن أخجل من تقديم بعض كلمات الشكر للمنفى.
(*) كتب محمود درويش هذا النص في نيسان (ابريل) من العام 2008 ونشرته «المجلة الثقافية» التي تصدر عن الجامعة الأردنية. والمجلة أكاديمية، محدودة الانتشار.
****
رحل وفلسطين تحتضر
(كمال أبوديب)
لم يعرف الشعر العربي إيقاعاً مغاوياً كمثل إيقاعه منذ عصوره الغنائية العذبة الأولى في شعر الوليد بن يزيد وأبي نواس خصوصاً. طفل يلعب بآلات موسيقية برزانة وحبور، يشابك بين نغماتها، ويداخل، ويقاطع، ويناسج، ويستخرج، فتنشأ شبكات من النغم تستسلم لها الذاكرة والأذن والأعصاب، وتزيغ المعنى عن محاوره والرؤيا عن مسارها، لكن بلذة لا تكاد تضاهيها لذة، فلا يأبه القلب لما يزيغ أو يتوه. وقد لعب بالقصيدة في بنيتها الكلية كما لعب بالنغم، ولعب بالحياة أيضاً بالوله نفسه، والطفولة ذاتها، والعشق عينه. وكان يهندم الحب والمشاعر والأرض والوطن، وريتا وفلسطين والإنسانية كلها، في بؤرة سلسبيل فيسبك منها جميعاً نسيجاً مائياً رائقاً تتفجّر فيه هنا وهناك أصوات صراخ وقنابل وصور ممزقة وغضب قاهر وسكاكين، قبل أن يعود إلى صفائه الحليبي الشفاف. وبين نهدي امرأة يغرز ياسمينة سرقها من يافا، وزرّ فلّ اختلسه من البروة، ومئذنة خطفها من القدس. وعلى صدر حبيبة يرسم كنسية القيامة ويتعبد في محراب شولميث.
وكان واحداً من شاعرين وصلا بجماليات شعر الحداثة واللغة الشعرية العربية إلى ذروة ما أظن أحداً سيبلغها أو يتجاوزها خلال قرن من الزمان، وساحر كلمات يكرر ويعيد، فتشعر أن للتكرار لذة الجدة، ومتعة البكارة المفاجئة.
يختلسه الموت إلى منابع الوجود الأولى وهو على غضاضة من العمر، لكن صوته الجميل سيبقى متفجّراً، متوهّجاً، كسيراً، عذباً إلى قرار الأزمنة ونهاياتها الفاجعة.
قال لي مرة ونحن نتسامر في بيت أدونيس في باريس، وكنا وحدنا لحظتها: «كمال، أنا أعرف أنك تعتبرني شاعراً تافهاً». وأزعجتني عبارته، وألححت عليه أن يقول لي إن كان أحد قد نقل له، كاذباً، كلاماً عن لساني، فنحن مجتمع يكثر فيه متقنو الدسيسة. فأصرّ أنه لم يسمع شيئاً، ولكنه يشعر بذلك في قرارة نفسه. وصمتنا. وحدست أنه يشعر بذلك لأنني لم أكن قد كتبت عنه حرفاً واحداً في كل ما كتبته عن الشعر. آه ربي: وعدٌ له أنني سأكتب عنه الكثير، كما فعلت بعد أن تجاوز فلسطين في أسفاره الشعرية الأخيرة وبدأ يكتب شعراً على معارج العظمة بعد أن واجهه الموت المرة الأولى.
ومرة في أمسية شعرية أقامها له في لندن اتحاد فلسطيني سألني برعشة في صوته: «كمال، ماذا أقرأ؟ قل لي، فأنا أثق بذوقك». قلت له: «إقرأ من شعرك الأخير». وكان يمر في منعطف كبير في شعره. قال: «لكن هؤلاء لا علاقة لهم بالشعر. انهم يريدون شعراً للتصفيق». قلت له: «لكن أنت شاعر. إقرأ أحد عشر كوكباً»، وكان قد نشرها قبل ذلك بقليل. واتسعت عيناه دهشة: «صحيح؟ أحد عشر كوكباً؟ أجازف»؟ وقلت: «جازف». واعتلى المنصة وقرأ أحد عشر كوكباً، ومات التصفيق في الأيدي المطرقة حتى نهاية المساء، وهرع إليّ من المنصّة يقبّلني بفرحة طفل كبير، ووجهه تفوح منه الغبطة والإحساس بالانتصار على نفسه وعلى صراخ فلسطين.
كان شاعراً لفلسطين فعكّرت صفاء منابع أغوار ذاته فلسطين ولم ترحمه، وحين تحرّر من فلسطين تدفقت بشائر العظمة من عروقه المحتقنة، وبدأ يعد بالعظمة الحقيقية في الشعر. ليغفر الله لفلسطين من أجل نقاء روحه وبهاء شعره.
قلت في كتاب لي: إن العرب قدّموا تضحيات عظيمة من أجل فلسطين، وإن بين أكبر هذه التضحيات موهبة شاعر كان يمكن أن يكون عظيماً، هو محمود درويش. لكن محمود، في زمن متأخر، افتدى شاعريته من فلسطين، ودخل موكب الكبار بفروسية فاتنة.
محمود، لقد كتبت لك مرثية، أيام كان الجميع يهللون لك، وأنت لا تزال في فلسطين في زهو الشباب، وبشّرتك بأننا سنسمي باسمك أطول شارع، لكنني قرأت لك نبوءتي، وهي أنك ستبقى الصوت الضائع في البرية. وها قد تحققت النبوءة، وها أنت تمضي كسير الروح وتترك فلسطين تحتضر، كأنك لم تعد تطيق أن يقتلوك كل يوم في شوارع غزة ورام الله برصاصهم حيناً وبرصاص إسرائيل حينا.
فما لك تمضي هكذا؟
ولماذا تموت وأنت تحمل الحقيبة القديمة التي طالما حملت، وأنت عن صدرها بعيد قصي؟
حين تذكرت «ردم الأساطير»
(هيثم حقي)
تومض في رأسي فكرة في لحظات فقد الأحبة ، فكرة مرعبة أطردها فوراً: «كيف سيكون هذا العالم إذا غاب محمود درويش وفيروز ؟!! «. أطال الله عمر فيروز. لكن محمود رحل . ولم أصدق . كنت قد علمت بمرضه لكنني داعبت الأمل وقلت: «لقد تغلب عليه مرتين فلم لا يتغلب من جديد ؟!». لكن القلب المتعب خذلني.. ومحمود لم يعد موجوداً. هل حقاً لم يعد موجوداً ؟!!
من أول لقاء لي مع شعره عام 1968 في موسكو أحببت شعره واستمر هذا الحب ينمو ويكبر قصيدة بعد قصيدة ليصل الى ذروته في آخر لقاء مع قصيدته الجارحة المودعة: «لاعب النرد»، فقد كان محمود صورة جيلنا المهزوم من النكبة إلى النكسة إلى اجتياح بيروت إلى أشكال الاستسلام. كان يقاوم السقوط الذي كان يأتينا مهما فعلنا، ثم يعود ليقول شعراً ساحراً يرفع المتعب اليائس إلى لحظة أمل وتغيير. كان أكثر النهضويين الذين عرفتهم موهبة، لذا كان الأقدر على التقاط اللحظة التي تبدو عابرة لكثيرين ليجعل منها لحظة عالية الجمالية، عالية التأثير والحفر في الروح.
حين عرفت محمود صديقاً ازداد إيماني بأنه من الكبار الذين يجود بهم الزمان كل مئة عام. ذلك الصنف من المبدعين الذين يضيفون للفن تلك الدفعة التي ترفعه الى مصاف جديدة. محمود الشاعر والإنسان كان كذلك. ولم يتوقف عن دفع الشعر العربي إلى مراتب نسيها منذ أزمان.
حين طلبت منه تسجيل صوته الذي عشقه محبو الشعر في وطننا العربي لمسلسلي «ردم الأساطير» الذي استقيت عنوانه من رائعته المبكرة «يوميات جرح فلسطيني» قال لي: «ما الذي ذكرك بها؟». فضحكت، إذ كيف يمكن أن يخطر في باله أن شيئاً مما كتب يمكن أن ينسى؟!!
شخصيات وهيئات فلسطينية وعربية تنعى الشاعر
أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حداداً عاماً لثلاثة أيام على «نجم فلسطين وزينة شبابها وفارس فرسانها». وفي حين أعلن عباس الحداد، فتحت وزارة الثقافة الفلسطينية التابعة لحكومة إسماعيل هنية المقالة بيتاً لتقبل التعازي في قطاع غزة.
وقالت وزيرة الثقافة الفلسطينية تهاني أبو دقة لـ «رويترز» إن «الجنازة ستكون على الأرجح الأكبر منذ وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004».
وكانت الصحف الفلسطينية صدرت أمس مكللة بالسواد لسان حالها يقول: «وداعاً محمود درويش»، و «الشاعر الكبير في ذمة الله»، و «فارس الشعر ترجل»، و«رحمك الله يا شاعرنا الكبير».
وفي دمشق، نعى رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» خالد مشعل محمود درويش «الذي يعد أحد أعلام الأدب الفلسطيني والعربي والدولي».
وقال الأمين العام لاتحاد الكتاب الفلسطينيين المتوكل طه في تصريح: «إن توحد الشعب الفلسطيني في نعي محمود درويش جاء لأن كل مواطن فلسطيني ساهم في خلق أسطورة درويش والشعوب بحاجة إلى رموز وأساطير».
واعتبر النائب العربي في الكنيست الإسرائيلية محمد بركة ان محمود درويش كان «شاعر كل الفلسطينيين والوجه الجميل والمقنع لفلسطين».
وفي تونس، بعث الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ببرقية تعزية ومواساة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وقال مصدر رسمي: «إن بن علي أعرب في برقيته للرئيس محمود عباس ولعائلة الشاعر الراحل والأسرة الثقافية الفلسطينية عن أخلص مشاعر التعاطف والمواساة». وأضاف أن الرئيس التونسي، الذي وصف الراحل محمود درويش بـ «ابن فلسطين البار وشاعرها الكبير»، أشاد في برقيته بـ «إبداعات الفقيد الرائعة ونضالاته من أجل القضية الفلسطينية وإسهاماته المتميزة في خدمة الثقافة العربية».
وفي القاهرة، نعى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الأحد «شاعر فلسطين والعرب الكبير محمود درويش».
وقال في بيان: «ببالغ الأسى والحزن تنعي جامعة الدول العربية الشاعر المبدع محمود درويش والذي برحيله تفتقد فلسطين والعرب جميعاً واحداً من ابرز أعلامها الشعرية والثقافية في العصر الحديث». وأضاف: «لقد تجاوز درويش بشعره وحضوره الثقافي والإنساني المميز كل الحدود محطماً قيود الوطنية الضيقة والانتماءات الصغرى ليكون بحق صوت فلسطين الحضاري المتواصل بآلامه وأحزانه وطموحاته مع روح العصر والفكر الإنساني العالمي المبدع».
وفي لبنان، أبرق رئيس المجلس النيابي نبيه بري معزياً الى الرئيس عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل ورئيس المجلس التشريعي الفلسطيني عزيز دويك في معتقله لدى العدو الصهيوني، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون. وجاء في مواساة بري: «بعد محمود درويش ستصبح يوميات الحزن الفلسطينية استثنائية بالألم والمرارة ... والأمل... الشعراء لا يموتون.
وأجرى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة اتصالاً هاتفياً بالرئيس عباس معزياً. وأبرق وزير الثقافة تمام سلام إلى نظيرته الفلسطينة تهاني أبو دقة، معزياً. كما اتصل بممثل منظمة التحرير في لبنان عباس زكي. أنه «كان عملاقاً نسج الكثيرون على منواله».
وكذلك نعى وزير الإعلام اللبناني طارق متري الشاعر: «كان يحلو له القول، إنه فلسطيني بالاختيار الحر، وأن له انتماء إلى بيروت، بالاختيار أيضاً، يبحث فيها عن طفولة جديدة ودور لا يغلق عليه أو يضيق.
وأبرق رئيس كتلة «المستقبل» النائب سعد الحريري إلى عباس، معتبراً أنه «كان له (درويش) في وجدان لبنان واللبنانيين مكانة خاصة تبوأها بالكلمة الحرة والنص الجميل، وبدفاعه الدائم عن العروبة والعرب وقضيتهم المركزية فلسطين».
وكذلك نعى «تيار المستقبل» الراحل «من علم الناس حب فلسطين ومن غرس قضيتها في قلب كل عربي وكل إنسان، رحل عاشق بيروت الذي عاش فيها عقداً من الزمن، وما عاد إليها إلا بعد أن عادت تزهو بنهضتها الجديدة وبرائد نهضتها رفيق الحريري سنة 1990».ونعت الشاعر ايضاً الحركة الثقافية في لبنان.
وأعلنت ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان الحداد ثلاثة أيام، وتقبل التعازي في دار نقابة الصحافة اللبنانية اليوم وغداً وبعده.
ونعى رئيس الممثلية زكي قائلاً: «غاب أحد الكبار الكبار، الذين أعادوا إحياء الشخصية الفلسطينية المعاصرة، وأعادوا اختراع الحلم الفلسطيني».
كما نعاه الأمين العام لـ «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» نايف حواتمة واللجنة المركزية.
الصحافة الاسرائيلية ترثي «شاعر الأمل»
(الناصرة – أسعد تلحمي)
أبرزت وسائل الإعلام الإسرائيلية نبأ رحيل محمود درويش وتصدّر الخبر الصفحات الأولى في كل من «معاريف» و»هآرتس». واختارت الأولى أن تسكتب الأديب المعروف أ.ب. يهوشع ليودع «صديقي وخصمي». وأسهبت «هآرتس» في النشر عن «رحيل الشاعر الوطني الفلسطيني». وجاء في عنوان «يديعوت أحرونوت»: «وفاة رمز فلسطيني».
وتناولت وسائل الإعلام كافة سيرة الراحل ومحطات حياته ودواوين له ترجمت إلى العبرية، وأبرزت تحديداً حقيقة أنه من مواليد قرية البروة المهجرة والمهدمة في الجليل، ومغادرته وطنه مطلع سبعينات القرن الماضي، ثم الدور الذي لعبه في «إبراز الثقافة الفلسطينية في المنابر العالمية». وتناولت الأزمة الحكومية التي كاد يسببها وزير التعليم السابق يوسي سريد عام 2000 حين أصدر تعليماته بتدريس بعض قصائد درويش في المدارس الإسرائيلية، لكن رئيس الحكومة في حينه ايهود باراك خضع لضغوط اليمين الذي هدد بإسقاط حكومته اذا لم يلغ قرار وزير التعليم. وبرر باراك قراره بأن الجمهور الإسرائيلي ليس مستعداً بعد لخطوة من هذا النوع». وتمنى الشاعر اليساري اسحاق ليئور على السلطات الإسرائيلية أن تسمح بدفن درويش في أراضي قريته البروة، «لعل ذلك يمثل بداية رحلة طويلة من التكفير عن الذنوب». ورأى أن الشاعر الراحل «زرع في أبناء شعبه الأمل عبر شعر محدد للغاية» وأن «التاريخ كلّف درويش بأن يؤدي دور الشاعر الوطني».
وكتب يهوشع الذي اعتبر نفسه صديق الشاعر الراحل أن «محمود درويش، الشاعر الوطني للفلسطينيين وشاعر المنفى واللجوء، كان شاعراً كبيراً أولاً وقبل أي شيء وامتلك عظمة شعرية حقيقية».
وأشار محرر الشؤون العربية في «هآرتس» تسفي بارئيل إلى أن «درويش لم يبخل في توجيه النقد الى قادة السلطة الفلسطينية تماماً مثلما عرف كيف يشحذ سهامه ضد الاحتلال الإسرائيلي والقيادة الإسرائيلية». وأضاف: «إن عظمته الأساسية هي في البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية خصوصاً في قضية اللاجئين».
وكتب روني شاكيد وسمدار بيري في «يديعوت أحرونوت» أن درويش، «أحد رموز النضال الوطني الفلسطيني كان بالنسبة الى شباب كثر القوة المحركة للنشاط السياسي الوطني».
****
لماذا تركت الشعر وحيداً؟
غسان شربل
حسناً فعلت.
لا معنى لحزمة سنوات إضافية. لباقة شهور. لحفنة أيّام. لا يستجدي الفرسان السيد الوقت. هذه مهمته مذ ولد التراب. سيّاف وحطّاب. يكره القامات السامقة. والأغاني الشاهقة. والظل العالي. يلاعب ويهندس الكمائن والأفخاخ. يعانق ويتحسس خنجره. ثم تأتي الساعة. لا يليق بملاكم كبير أن يتوارى. يتقدم نحو الضربة القاضية. تفوح رائحة التراب.
حسناً فعلت.
صحّحتَ خطأ مزمناً. هذا قلب يحتاج إلى أجساد كثيرة كي لا تنوء به. هذه مخيلة تحتاج إلى شرايين أكثر وفاء. هذه قصائد تحتاج إلى قاموس أقلّ تجهماً. وما ذنب القلب لتحمّله أثقال هذا الشغف؟ وما ذنب الشرايين لتنهكها بالمناديل والأغاني؟ وما ذنب القاموس لتعرّيه فيفتضح مشاعل وفراشات؟.
حسناً فعلت.
أنت الهارب المزمن. سقطت الخريطة في القفص فأصابتك لعنة الفرار من الأقفاص. تدخل بلاداً لتودعها. تدخل عاصمة لتتلصص على القدس. تنام في بيروت لتشم رائحة الجليل. تعتب على دمشق ولا تنسى أنها دمشق. وتسهر في القاهرة لتستمع إلى تقارير النيل. وتحمل في حقيبتك دموع بغداد. ينافس عدد قتلاها عدد أشجار النخيل. وتستيقظ باكراً في عمّان كي لا يطول الانتظار على شفير الجسر.
أنت المتبرم المزمن. يتبرم القلب من قفص الجسد. وتتبرم المخيلة من قفص الدماغ. تتبرم المفردة من ايقاع القصيدة. والقصيدة من قفص القاموس. والقاموس من حدود اللغة والمخافر المنصوبة عند تخومها. ويكتب على الشاعر أن يقاوم كل هذه الأقفاص. أن يحرر النار من معتقلاتها. والعصافير من الثكن. والمفردات من غرف التحقيق والتعذيب. والخرائط من حبر الاحتلال. والوطن من المستوطنات. والأمة من قفص الماضي. والجامعات من وطأة الليل. والضمير العالمي من إجازة لا تنتهي. يتعب العصفور من مقارعة الأقفاص. يضع نقطة في آخر السطر وينام.
حسناً فعلت.
أكاد أجزم أنك قد تعبت. أيها الإرهابي العتيق. أيها الإرهابي الأبيض. ضبطوك بالجرم المشهود. تنشر وجع المخيمات على حبل الزغاريد. ضبطوك متلبساً بعروبتك الرحبة. ضبطوك تكاتب عصافير الجليل. ضبطوا مناديلك تحرّض الموج في بحر حيفا. خافوا أن يعلن البحر انتفاضته. ضبطوك متسللاً إلى الضمائر. وكتب المدارس. ضبطوا الحمام يروج لحبرك السري. ضبطوك تزرع الياسمين ليلاً في قريتك القتيلة. وتدسّ الياسمين في قهوة أمك. ضبطوك تهرّب المواويل والقناديل. وضبطوا صبية تخفي دواوينك في حقيبة عرسها. جريمتك أكيدة أيها الإرهابي الجميل. أقلقت المحتل. وغسلت روح القاموس.
قبل شهور جلس على شفرة النيل. كانت المناسبة لقاء لمؤسسة ياسرعرفات. شعرت كأنه جاء ليدسّ أحزانه في النهر. كان عاتباً. وكان غاضباً. ويحاول إخفاء يأسه. كان يتجرع سمّ ما حصل في غزة. ولم يتردد في البوح. يكره الظلم. ويخشى الظلام. يؤلمه أن العواصم تضيق وتختنق. طلقت المستقبل وانصرفت إلى حفر الأنفاق وبناء المتاريس. يؤلمه هذا العجز عن قبول الآخر. هذه الرغبة في محوه. تقلقه هذه القدرة على الانتحار. هذه الهجرة إلى القواميس العتيقة.
تذكرت في تلك الليلة ما قاله في 1994 في تونس لدى سؤاله عن اتفاق أوسلو. قال: "أتحاشى النظر إلى الخريطة. انها تهجم علي كالمخرز...". ولم يعد سراً أن الخريطة ليست المخرز الوحيد. اكتشف محمود درويش أن الأمور أقلّ بكثير مما كان يعتقد. اكتشف أن الأمة تغرق في موسم أقفاص ومن دون أن يظهر ضوء في آخر النفق كان يبشّر به دائماً صديقه "الختيار" الذي ينام الآن في تراب فلسطين. وكأن التراب أراد مغالبة قلقه فاستدعى ياسر عرفات ولم يتأخر في استدعاء محمود درويش. كأنه يحتمي بنعشين وعاشقين. بكوفية الأول وقصيدة الثاني.
حسناً فعلت.
اختصرت خيباتك. واختصرت منافيك. وآلام أغانيك. عرفت وأنت الرائي أن الليل يزداد قتامة. والأقفاص تزداد قسوة. لوحت وذهبت. قدر الينابيع أن تنفجر. قدر الغيوم أن تنهمر. قدر الأنهار أن تلقي بنفسها في البحر. هذا حجر الأغاني يتغطى بالتراب. ينزرع نجمة ليراقب الآتي. كان فلسطينياً حالماً من التراب إلى التراب. وكان شاعراً من الوريد إلى الوريد. وكان يتدرب كل صباح على تجديد حلمه وتجديد قصيدته.
حسناً فعلت.
اختصرت أهوال العيش وأهوال اللغة. لكن دعنا نعاتبك. نادراً ما ترتكب أمة أغنية بهذا البهاء. لماذا دفعت الحصان إلى الهاوية؟ لماذا تركت الشعر وحيداً؟.
سجّل: خسرناك. لكن لا تعتذر عما فعلت.
الحياة
11/08/2008
***
قف الآن محمود
وجدت، إذن، أن للموت رائحةً..
مثل قهوة أمك.. تغسل من بركة الشعر
في الروح.. أوضار ذاك المكانْ
وجدت، إذن، في سرير الغريبة..
وصل الأمانْ
سكتَّ، إذن، بعد أن نزفت كلماتك..
وهي تعالج قفل القلوب التي صدئت.. والقلوب
التي تنتشي بالهوانْ
إذن، أنت تركض خلف الفراشة طفلاً..
تجوب الترابَ.. وترجع غض الرجولة..
تمنح فجر فلسطين لون الشقائق..
ترجع ممتشقاً سيف شعرك..
زهوَ الحصان!
* * *
قف الآن محمود! نشهد بأنك ما خنت
دارك... والبعض خانْ
ونشهد بأنك كنت تحارب حتى
النهاية... والغير خانْ
ونشهد بأنك قدمت قلبك في
مذبح الشعر... والكل خانْ
وشاعرنا كنت...
أشجعنا كنت...
أصدقنا كنت...
ما قلت إن الهزيمة عرسٌ..
وما قلت إن الفناء حياةٌ..
وما قلت إن ارتشاف القذى عنفوانْ
قف الآن محمود! لا بد من كِلْمَةٍ في الوداع..
تقول لأمك إن فتاها البهيّ الوسيم.. غدا
الآن طفل الزمانْ
قف الآن محمود! وانظر تر الورد ينبت
من كلماتك يصبغ قبرك..
ترب فلسطين..
ترب العروبة..
بالأرجوان
*****
أن تكون في فلسطين
قبل أكثر من عشر سنوات من الآن، وفي رد على سؤال طرحته صحيفة تونسية على كاتب هذه السطور يتعلق بما اذا كان مستعداً للذهاب الى أرض فلسطين المحتلة، «في ركاب مثقفين عرب كانوا بدأوا يهرولون الى هناك اثر توقيع أوسلو»، بحسب طارح السؤال، كانت الإجابة: «أنا لن أذهب الى فلسطين إلا في صحبة محمود درويش». كان من الواضح ان الجواب ديبلوماسي، طالما ان محمود درويش كان ممنوعاً من السفر الى هناك. لكن المفاجأة كانت بعد نشر الحديث بأيام، حين اتصل محمود درويش بكاتب هذه السطور ضاحكاً وهو يقول له: «لقد أوقعت نفسك في ورطة يا عمّ!» لماذا؟ «لأنني سأسافر الى فلسطين بعد أيام. فهل تأتي؟». وقهقه الشاعر الكبير من جديد، وهو يعرف أنني ما كنت أستطيع أن أفعل، لا قانونياً ولا وجدانياً.
في تلك المكالمة نفسها، تحدث محمود عما هو أهم: انه ذاهب الى مسقط رأسه وسيجول في أنحاء فلسطين مع فريق عمل تابع للتلفزة الفرنسية، تحت ادارة السينمائية المعروفة سيمون بيتون، كي يصوّر عنه برنامج تلفزيوني، ضمن السلسلة الرائعة التي أنتجتها القناة الثانية حول «أدباء القرن العشرين». طبعاً لم يكن الاهتمام منصبّاً في تلك اللحظة على السبل القانونية والقضائية التي ستمكّن صاحب «آخر الليل» من التجول في بلاد تحتلها سلطة اتخذت ضده أحكاماً قضائية عدة، بل على العمل التلفزيوني نفسه. ذلك ان سيمون بيتون، المنشقة بقوة عن اسرائيل والتي تعيش بجواز سفر فرنسي، هي اليهودية من أصل مغربي، كانت معروفة بأفلام رائعة حققتها عن الثقافة العربية لتلفزات متعددة (منها فيلم عن محمد عبدالوهاب وآخر عن أم كلثوم وثالث عن ليلى مراد...)، كما كانت معروفة بالصور «الوقحة» - في نظر اليمين والسلطة الاسرائيليين – التي التقطتها خلال الانتفاضة الأولى لجنود اسرائيليين يكسرون ذراع شاب فلسطيني من دون رحمة أو شفقة. قال درويش: «لا شك في ان سيمون ستعاملني مثل ليلى مراد... على الأقل أرجو ذلك!»، قلت له: «أفضل من أن تلتقط كاميراها صورة لك شبيهة بتلك التي التقطتها للشاب الذي كسرت ذراعه». ضحك من جديد وقال: «الله يستر».
صور الفيلم يومها، وحين عرض على الشاشة الفرنسية كتب كثر انه واحد من أفضل أفلام السلسلة. وزمجر صهيونيون – وعرب – كثر، غاضبين على سيمون بيتون، التي ستواصل مسيرتها حتى قدمت قبل سنوات قليلة فيلم «الجدار» الذي اعتبر أكبر ادانة، بالصورة المتحركة، لجدار الفصل العنصري. ودرويش نفسه كان كثيراً ما يشيد بالفيلم، الذي كان، ليس فقط وسيلة فنية لمتابعة حياته وشعره، بل أيضاً، وسيلة مكنته من أن يتجول في فلسطين. من أن يتصور في فلسطين. ومن أن يدنو منه أهله وأحباؤه هناك بعد غياب طويل. وخصوصاً من أن يلتقي أمه التي كانت سنوات كثيرة قد مرت منذ التقاها للمرة الأخيرة. ومحمود كان في كل مرة يؤتى فيها على ذكر الفيلم يقول مبتسماً: كنت أعتقد أنني بعد عرض الفيلم سأتلقى مئات العروض للتمثيل في أفلام أخرى!
أما كاتب هذه السطور، فإنه، في كل مرة شاهد فيها هذا الفيلم، كان – في زاوية ما من وجدانه – يتمنى لو أنه، وفى بما تعهد به في الحديث الصحافي، وكان مع درويش في تلك الجولة الفلسطينية، خارقاً القوانين والمحظورات، ولو اضطر الى دفع الثمن.
الحياة
12/08/2008
***
الشاعر الذي رفع قضية أرضه الى مصاف التراجيديا الانسانية ...
محمود درويش اتكأ على القصيدة عندما خانه القلب
المرّة الأخيرة التي التقيتُ فيها الفقيد الكبير كانت في مساء السابع من حزيران (يونيو) المنصرم. كان مسرح «الأوديون» الفرنسيّ قد أعدّ برنامجاً مخصّصاً للأدب العربيّ بالتنسيق مع الكاتب السوريّ فاروق مردم بك، مدير سلسلة «سندباد» التي تعنى بترجمة الأدب العربيّ إلى الفرنسيّة في منشورات «آكت - سود». كانت الأمسية مخصّصة لقراءات للشاعر العراقيّ سعدي يوسف. جاء محمود درويش بصحبة الكاتب الفلسطينيّ الياس صنبر، مترجم معظم أشعاره إلى الفرنسيّة. بدا على سحنة محمود شحوب شديد. وما إن انتهت قراءة سعدي حتى غادر محمود، عجِلاً على غير عادته، ليس قبل أن يودّعنا بدماثته الودودة المعهودة. بعد مغادرته بدقائق، عرفتُ من فاروق الخبر الجلل: كان محمود في عصر اليوم نفسه قد تلقّى نتائج فحصه الطبيّ الأخير. أخبره الطبيب الفرنسيّ أنّ الشريان الأبهر في قلبه قد توسّع بصورة قد لا تمنحه سوى أسابيع أو أشهر من الحياة. فجأة وجد محمود نفسه في وضع تراجيديّ تماماً: البقاء بقلب معطوب إلى هذه الدرجة أمر غير مضمون العواقب، وإجراء عمليّة ثالثة للقلب أمر غير مضمون العواقب أيضاً.
ينبغي أن يتخيّل المرء حالة امرئ يجد نفسه بين خيارين كلاهما محفوف بتهديد الموت. وعندما تعرف أنّ محموداً تلقّى هذا الخبر الصّاعق قبل أمسية سعدي بسويعات، وأنّه جاء مع ذلك ليحضر قراءة الشاعر الصديق، فلا تملك إلاّ أن تجلّ ما في موقفه هذا من وفاء نادر مقترن بشجاعة نادرة. بإمعان وعمق، راح محمود يصغي الى «أبي حيدر» وهو يقرأ قصائده. كنتُ شديد الانتباه لنوع من الحوار الصّامت يدور بين صديقين عملاقين: شاعر يقرأ ويوجّه أغلب نظراته لصديقه الكبير، والشاعر الآخر يستمع بجوارحه كلّها لقصائد صديقه. في صوت الشاعر المعتلي المنصّة كلام عن موت عراقٍ معيّن. وفي صمت الشاعر الجالس ما ينبئ بأنّه وجد في رحابة النشيد الشعريّ ما ينسيه موته الخاصّ الذي امتلأ هو ذلك المساء بإشاعته الزّاحفة بصورة أليمة. وإذ أراجع الآن حراجة تلك اللحظات، فإنّ بيت محمود الشعريّ الشهير القائل: «أمّا أنا وقد امتلأتُ بكل أسباب الرّحيل فلستُ لي، أنا لستُ لي»، يمتلئ لديّ بكامل معناه. قلّما عرف الشّعر العربيّ شاعراً قادراً مثل محمود على أنّ «يوزّع جسمه في جسوم كثيرة»، هو نفسه القائل: «أخرجْ من أناك...».
على حاشية هذه الذكرى، وبالاستناد إلى محادثات شخصيّة طويلة جمعتني بالفقيد العزيز، أذكر أنّ محموداً كان واعياً تماماً بأنّهما، هو وسعدي، الشّاعران الأكثر اقتداراً على ضمان مكانة أكيدة للقصيدة الحرّة التفعيليّة أمام الانتشار المتسارع والجذريّ لقصيدة النثر الخالصة ولما أدعوه القصيدة الحرّة اللاّ تفعيليّة (قصيدة النثر على شاكلة الماغوط). ولضمان هذه المنزلة للشعر الحرّ التفعيليّ كان عليهما أن يعملا، كلاًّ على شاكلته، على توسيع مهارات القصيدة الحرّة بحيث تستضيف مرونة إيقاعيّة كبيرة ومجالاً تصويريّاً باذخاً واستدخالاً للمعيش اللغويّ الفوّار، ما يدعوه الفيلسوف ميرلو - بونتي «نثر العالَم».
وما دام الكلام هنا عن محمود، فإلى شعره، طالما أعربتْ تحليلاته للعمليّة الشعريّة عن وعي واضح لخطورة مهمّته التحويليّة هذه. لم يكن محمود ممّن يحبّذون كتابة الأبحاث والمقالات النقديّة، وطالما كان يتعفّف من الحكم على تجارب الآخرين. ولكنّك تجد في إجاباته على أسئلة الصديقين الشاعرين عبّاس بيضون وعبده وازن، في حواراتهما الطويلة معه، التي تُرجمتْ إلى الفرنسية في كتاب حقّق أصداء واسعة في فرنسا، أقول تجد فيها معرفة مكتملة بدقائق اللّغة الشعريّة والموقف من التراث ومن الحداثة الغربيّة ومن العالَم والسياسة، سياسة القصيدة بخاصّة، ومن المعنى وصراعه الدائم مع غواية اللاّ معنى وإغراء الموقف العبثيّ بإزاء عبث التاريخ. وبايجاز أقول إنّني لا أوافق البعض القول إنّ محموداً بقي متناهَباً بين رغبته في إبداع شعر متحرّر أو شخصيّ واضطراره، بباعث من القضيّة التي هو مؤمن بها والتي تسكن كيانه وتؤسّس تاريخه الشخصيّ نفسه، أقول اضطراره إلى إنتاج كلام لا يغرّبه كثيراً عن ذائقة الجمهور. بل تكمن فرادة محمود درويش وعلوّ موهبته في سيره المضني والعنيد على الخيط الضئيل الرّابط بين شروط القصيدة الخالصة والوضوح الكليّ الذي يُطالَب بامتلاكه كلّ من يعنى بالشأن العامّ.
لقد أملى محمود على جمهوره أن يرقى إلى صفاء معيّن للقصيدة، وفي الأوان ذاته أجبر هواة الشعر الخالص على أن يستمعوا عبر شعره إلى عذابات المجموع. ولولا نجاحه في هذا التحدّي الصعب لما اتّبعه الجمهور ولا احترمه حتّى نقّاده من مناوئي «جماهيريّة» القصيدة. وأنا أحسب أنّ الصيّغة العادلة التي تشهد له بهذا النجاح هي هذه التي أطلقها الصديق الشاعر بول شاوول في نعيه للفقيد العزيز، نعي يحيّي فيه ما اجترحه محمود درويش من «لغة مركّبة» تتجلّى في «إنجازاته الأخيرة، الممتدّة على عقدين، والتي اتّسمت بقلق حيّ بالتجديد وبالخروج من العموميّ إلى الخصوصيّ، ومن الشعر كمجرّد سلاح للقضية، إلى الشعر كسلاح للشعر، من دون أن يفترق عن «قدَره» النضاليّ المقاوم. وهكذا تآخت عنده النبرتان، واستوت عنده اللغتان، واحدة تهجس بقلق الناس، وأخرى بقلقه الشعريّ، لكنْ على غير انفصال، وعلى غير تنافر، وعلى غير تضادّ».
ينبغي أن يدرك المرء أنّ ما يطلق عليه البعض هذه التسمية التجريديّة والاختزاليّة: «القضيّة»، كان يشكّل لدى محمود تجربة تأسيسيّة وجرحاً أصليّاً. فإذا كان وراء إبداع كلّ فنّان، على ما يرى مؤسّسو النقد الموضوعاتيّ (أو الثيميّ)، جرح بدئيّ يتمحور حوله مجموع تجربته الإبداعيّة وشبكات رموزه وصوَره، فإنّ جرح محمود، الشخصيّ والوطنيّ في آن واحد، بقي يعيده على الدّوام إلى تلك الليلة الليلاء التي اضطرّ هو فيها، قبل أن يبلغ سنّ العاشرة، إلى الهرب من قريته بصحبة ذويه أمام زحف الفصائل الغازية. شاء سوء حظّ الصبيّ أن يتيه في أثناء الهرب، بعدما فقد أثر ذويه وإخوته، فراح يتخبّط في الليل البهيم، حتّى انتبهت والدته إلى غيابه وعادت لتبحث عنه في الظلام على رغم تهديد العنف الزّاحف. مراراً عدة عمل محمود على تطويع أثر تلك الصّدمة، شعراً ونثراً، وإليها عاد في رائعته الأخيرة «لاعب النّرد»، التي نشرتها «القدس العربيّ» في الثالث من تموز (يوليو) المنصرم. كتبَ محمود، في استعادة لا تخلو، كالعادة، من السخرية المرّة التي تشكّل أحد أهمّ عناصر شعره: «نجوتُ مصادفةً: كنتُ أصغرَ من هدفٍ عسكريّ/ وأكبرَ من نحلةٍ تتنقّل بين زهور السّياج». ويضيف: «ومن حسن حظّيَ أنّ الذئاب اختفتْ من هناك/ مصادفةً، أو هروباً من الجيش...» في مثل هذه الرحلة «في قلب الظلام» حصلت ولادة مبكّرة لوعي جريح. حصلتْ في سنّ هي للآخرين سنّ لعب وطيش واكتشاف للأنا عبر ألعاب الطفولة العابثة.
شاعر «الكرمل»
طيلة ما يقرب من خمسة عشر عاماً من العمل المشترك في مجلة «الكرمل» التي كان هو مؤسّسها ورئيس تحريرها، لمستُ عند محمود شغفاً بالشعر والمعرفة ندر أن وجدتُهما لدى غيره. ولأنّه كان على سفر دائم، ولأنّي غير محبّ لطويل اللقاءات، فقد كانت لقاءاتي به محدودة، وتسير على إيقاع الإعداد لمحتويات المجلّة. كنتُ آتيه بترجمات وخلاصات لأعمال فكريّة وأدبيّة أعتقد الآن أنّها متوسّطة القيمة ولعلّي أقدر اليومَ أن أقوم بما هو أفضل منها. ولكنّه كان يفرح بها ويفرح خصوصاً بتنوّعها.
كان يدعو حقيبتي «حقيبة السّاحر»: مرّة آتيه بنصوص لرنيه شار، ومرّة بنصوص لدريدا، أو لدولوز، أو لجينيه، أو لغويتسولو، أو لباث... وكان قارئاً شديد النباهة لما ينشره في «الكرمل» ولما يصدر في المكتبة العربيّة من ترجمات. أطرح على هذا مثالين اثنين. في العام 1992 حلّت الذكرى المئوية الخامسة لغزو أميركا الجنوبيّة من الإسبان. أوحى لنا الصديق الروائيّ الاسبانيّ خوان غويتيسولو بضرورة تخصيص ملفّ فكريّ لهذا الحدث المروّع الذي ألقى ببصمته النهائيّة على التاريخ. فوضعتُ أنا قراءة مطوّلة لدلالات الغزو وأواليّاته انطلاقاً من نصوص أنطونان آرتو وأوكتافيو باث وجان - ماري غوستاف لوكليزيو وآخرين. ووضع الصديق الناقد السوريّ صبحي حديدي دراسة في مغزى الغزو استناداً إلى الدراسات ما بعد الاستعماريّة. وما هي إلاّ أسابيع وإذا بالشاعر الكبير يطلع علينا بقصيدته الكبرى «خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرّجل الأبيض»، التي ستتضمّنها مجموعته الشعريّة «أحد عشر كوكباً» الصادرة في العام نفسه.
استوعب لشاعر الدلالات الفلسفية والتاريخيّة للحدث ووضع قراءته الخاصّة لما يمكن أن يكونه حوار بين ضحيّة وجلاّدها. بصورة مبرمة وبلغة الشعر وحده كشفَ عن تناظرات وتلاقيات بين إبادة الهنود الحمر والمشاريع الساعية إلى محو الوجود الفلسطينيّ. قبل ذلك، في 1988 أو 1989، سلّمتُه ترجمة لقصائد مختارة لرنيه شار. في اليوم نفسه أعلن عن اندهاشه بشعره وعبّر عن ذلك في رسالة إلى الشاعر سميح القاسم سيضمّها كتاب رسائلهما المتبادلة. لقد استوقفه خصوصاً بيت لشار يحدّد فيه مهمّة الشاعر في «تحويل الأعداء القدماء إلى خصوم صُرَحاء». ردّد العبارة الشعريّة في أكثر من مناسبة. كان يحلم بخصومة صريحة أو أمينة طالما افتقدها لدى الإسرائيليّين، هو الذي طالما اشتكى من لبسهم المعهود ومن عنادهم في إفراغ كلّ تفاوض من فحواه الحقيقيّة. إستقالته من منظمة التحرير بعد اتفاقات أوسلو ما هي في اعتقادي إلاّ ترجمة عمليّة لإيمانه هذا بمقولة شار.
برحيل ابن «البروة» الفريد هذا، سيخيّم على نفوس محبّي الشعر والإنسانيّة رزء كبير لا عزاء له.
ادفنوه في الجليل
وجّه بعض أصدقاء الشاعر محمود درويش نداء طالبوا فيه بأن يدفن في الجليل مسقط رأسه. وجاء في النداء: «في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوماً على خريطة فلسطين، «...» هذا النداء موجه الى أهلنا في فلسطين ويتعلق بحق شاعر الجليل في ان يعانق أرض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية. يحق لابن الجليل وشاعره أن يدفن في أرضه، ويجب أن لا يكون في مقدور أحد أن يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده».
ومن الموقعين: انطون شماس، ليلى شهيد، مارسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي، الياس خوري، انطوان شلحت...
*****
لا... لا نحبك ميتاً أيها المتمرد على الشعر والحياة
"يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا وكان لنا"... (من ديوان) "ورد أقل" لا يا محمود أيها الشاعر العظيم نحن لا نحبك ميتاً لنقول لقد كان منا بل نحن سنقول لقد كنا نحن منك كنا منك كما يكون جمهرة القراءة والمتذوقين وأصحاب الذوق الرفيع جميعاً ينتمون إلى فنانهم الكبير ويستهدون بإبداعاته ويرددون ما يحفظونه منها ولهذا ستظل حياً بيننا إلى جوار أندادك الكبار من شعراء العربية. ستظل حياًَ مثل امرئ القيس والمتنبي والمعري. هؤلاء الذين علمونا وصقلوا وجداننا وأحيوا فينا شعلة الفن المقدسة. علمونا وأنت أيضاً علمتنا. علمتنا أن التمرد الأول أن تتمرد على نفسك أن تتمرد على فنك فلا تستنسخ ذاتك ولا تكرر غيرك.
فمنذ دواوينك الأولى التي طلعت بها علينا كالشهاب منتصف الستينات عاشق فلسطين وآخر الليل إلى حبيبتي تنهض من نومها والعصافير تموت في الجليل وأوراق الزيتون، منذ هذه المرحلة الأولى التي أوقعتنا فيها من دون أن تقصد أو وربما وأنت تقصد في فخ عانينا طويلاً لكي نتخلص منه. هذا الفخ الذي تترجمه هذه الصرخة: نعم عرب ولا تخجل ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل ونبــني المصــنع العصري والمنزل ومدرسة وموسيقى ونكتب أجمل الأشعار".
لقد سقطنا في فخ الهتاف الذي كان يترجم روح المرحلة ولكنك أنت أيضاً الذي أعنتنا في مرحلة تالية على أن نتخلص من هذا الفخ لأنك سبقتنا إلى التخلص منه ودخلت في مرحلة جديدة تابعناك فيها بصوتك الجديد الهادئ العميق الذي يتمرد على لافتة شاعر الأرض المحتلة ويأبى إلا أن يخرج إلى لافتة أكبر لافتة إنسانية كلها وفي يده سلاح لا يقوم به المحتل الإسرائيلي وحده ولكنه سلاح جديد يقاوم به الطغيان والاستبداد في كل مكان ويدافع عن الإنسان مهما كان لونه ودينه وجنسه. هذه المرحلة شديدة الرحابة رفيعة المستوى تجلت في دواوينك الجديدة وقتها منذ ديوان "أحبك أو لا أحبك" وديوان "المحاولة رقم 7" وديوان "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق".
هذه الأعمال التي ألهمت كثيراً من الشعراء في عقد السبعينات وفتحت طرقاً جديدة للقصيدة العربية ولكنك لم تلبث أيضاً أن فاجأتنا كعادتك بفتوحات جديدة في مرحلة تالية جسدتها أعمالك اللاحقة التي اكتشفت منجماً ثرياً هو منجم الذات. عكفت على ذاتك فأخرجت لنا "ورد أقل" و "أحد عشر كوكباً"، و "أرى ما أريد"، وظللت في طريقك تمضي من كشف إلى كشف وكل عمل ليس فيه شبهة من تكرار أو إعادة إنتاج أو ركون إلى تقاليد ثابتة راسخة حتى لو كانت هي تقاليدك أنت وحدك. هكذا وجدناك في أعمالك الأخيرة منذ "جدارية" إلى "كزهر اللوز أو أكثر" إلى "في أثر الفراشة".
هذا هو تمردك الباقي. تمردك ليس على ما أنجزه الآخرون فقط ولكن على ما أنجزته أنت. علمتنا أيضاً أن واجب الشاعر إزاء وطنه هو واجب مقدس ولكن هناك واجباً آخر أكثر قداسة هو واجبه تجاه لغة فحملت لغتك في قلبك نبضاً حياً مشعاً ورفعتها بيديك راية خفاقة فأصبحت لغتك هي وطنك وأصبح وطنك لغتك. لغة هي لا غامضة ولا واضحة وإنما واضحة حتى الغموض، أو غامضة حد الوضوح. أوَلم تقل لنا من قبل: "لن تفهموني دون معجزة. إن الوضوح جريمة وغموض موتاكم هو الحق الحقيقة".
وهكذا مضيت باحثاً بقلق نبيل كأن الريح تحتك عن ذلك الغموض البليغ الذي حدثتنا عنه في ديوانك "أحد عشر كوكباً".
تعلمنا منك أيضاً كيف يتسع صدر المبدع الكبير لسائر المحاولات الجادة متجاوزاً التيارات والتصنيفات الجاهزة والمذاهب المتعارضة. حاولت أن تكتب قصيدة النثر وقدمت لنا نصوصاً مبكرة في "صباح الخير يا ماجد" و "في حالتنا الراهنة"، وقلت لنا مرة إن أخشى ما تخشاه هو ميليشيات قصيدة النثر المنتشرة في كل مكان لكنك لم تخش النثر نفسه.
فقد حاولته وربما تكون صدفت عنه لأنك لم تنجح فيه لا لعجز فيك فأنت أكبر من استطاع أن يقرب بين النثر والشعر، وهــل ننسى كتـــاباتك النثرية التي تنضح بروح الشاعرية وتتفوق حتى على كثير من نصوص الشعر الموزون. هل ننسى كتباً مثل "يوميات الحزن العادي، وشيء عن الوطن ووادعاً أيتها الحرب وداعاً أيها السلام". كنا نقرأ هذه النصوص فلا نعرف أشعر ما نقرأه أم نثر.
لا أيها الشاعر الكبير لن نحبك ميتاً لنقول لقد كان منا، وإنما نحن أحببناك حياً وسنظل نحبك ونقول لقد كنا منك ولن نجد ما نؤنبك به أفضل مما قلته أنت منذ منتصف السبعينات عن رفيقك الكبير بابلو نيرودا: "لك القرنقل واعترافات النساء العاشقات وأبعد قرية في الأرض أول خطوة بعد الزنازين الأغاني في حوانيت الفواكه... آه يا محمود".
*****
القصيدة – الوطن
في قصيدة رثائية يحاور فيها درويش ظل ادوارد سعيد الحاضر/ الغائب، ويتبادل معه الأدوار، ترفض الأنا الشاعرة ميثولوجيا التسمية، وتبقى منشطرةً على ذاتها، مقيمةً مهاجرةً في اللغة فحسب، عصيةً على التعريف: "لا أعرف نفسي تماماً/ لئلا أضيّعها. وأنا ما أنا/ وأنا آخري في ثنائيةٍ/ تتناغم بين الكلام وبين الإشارة". يتجنّب درويش تعريف ما لا يُعرّف، لكي لا يسقط في التسمية، مفضّلاً المحو على التدوين، والغياب على الحضور، والإشارة على الكلام.
ولأن الشاعر يدرك أن الموت هو فعل التسمية الوحيد الذي يلغي المسافة بين الاسم والمسمى، يدخل في غيبوبة طويلة، حالماً باستعارة الليل والنهار في مزهرية واحدة. يقيم درويش في غيبوبته، ليقترب أكثر من مطلق قصيدته، فيصبح المدى أكثر اتساعاً، واللغة أكثر حياةً. لكن غيبوبة درويش لن تكون سوى استعارة أخرى في قصيدة أخرى لن تتوقف عن كتابة نفسها بنفسها، تماماً مثلما ظلّت قصيدة المتنبي أو ويتمان أو ايلوار أو نيرودا، تكتب نفسها بنفسها، من جيل الى جيل. ودرويش، ككل الشعراء الكبار، مقدّر له أن يستمر في كتابة قصيدته، لأنه جزء من ذاكرة ثقافية جمعية، ولأن قصيدته وطن لمن لا وطن له. يرحل الشاعر فيكبر اسمه وتتسعُ صفاته، حتى وان انكسر المسمى ونام على تقشف ظله. ومثل سروته التي انكسرت في احدى قصائده، يغيبُ لكي نرى نحن، قراءه، كم اتسـعت، من بــعده، سماء القصيدة.
الحياة
13/08/2008
يتبع