ملف جريدة المستقبل

بول شاوول

رحل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي هزم الموت مرات، ليهزمه أخيراً، وهو في عزّ وقفته العالية، في عز قدومه، وفي عزّ أحزانه. وأحزان فلسطين، تماماً كما هزم المنافي مرات، وكاد يهزمه الوطن، رحل بين شموس الأحلام الفلسطينية المشرقة، وبين انكساراتها. رحل محمود درويش، ويا للأسف، وفلسطين أمامه، ذلك الذي كان صوتها وجسدها وقصيدتها، مِزَقٌ، وحلمه في قلبه مزق، حتى عاد لا يطيق أو يحتمل، فانفجر جميعه وصمت. لم يعد من احتمال لهذه العددية. ولم يعد من احتمال لهذه الميتات المتراكمة حوله: من عدو يبطش ويفترس وطنه السليب، ومن أخوة يتقاسمون بالدم أرضاً كأنها لم تعد لهم. هكذا، كأنما ترك وراءه ما لم يعد قابلاً للتقاسم من حفى امال وأرض وسماء ودم وقتل واستباحة ومجازر.

غادر فلسطين إلى المنفى، وهي في المنفى. وكثرت منافيه وتكاثرت منافيها. وعندما كاد حُلمٌ بالعودة أن يرتسم، ويحفر، كان لمحمود أن ينفض المنافي كلها عن عينيه، وعن صوته، وعن روحه، يعود إلى حيث لتراب الوطن نكهة القيامة، ولهوائه نَفَسُ الحياة، ولناسه شهادة الانتصار. وهكذا، كان له أن ينتقل من حلم يتجسد ثم يتبدد، إلى حلم يتبدد ثم يلوح. وهذا مصير الاوطان السليبة. وهذا مصير المقاومات الدائمة. ومحمود درويش صوت المقاومة الشعري الأول، وصوت الضمير الوطني الأول، وصوت الحلم الكبير الأول، وصوت الانكسار الأول. لكنه، هذه المرة، عندما عاد، إنما عاد ليبقى. كل المنافي مناف، ومنفى الوطن وطن. ولا يرث الوطن سوى أهله. ولا يرث ترابه سوى أهله. ولا يرث أمله سوى أهله. وهو الوارث في كل الأحوال. من فلسطين المحتلة إلى بيروت، فإلى بلاد أخرى، فإلى أسفار، ليكون سفير فلسطين الحي، سفيرها الشعري، سفيرها المقاوم، سفير ثورتها، سفير شهدائها، سفير شعبها. انه السفير بحجم القضية. السفير بحجم المواجهة. السفير بحجم شاعر كبير، عرف، كيف يرسم فلسطين، بكل وجوهها، وتحولاتها، وآلامها، بقصيدة بدأت صوتاً معلناً، يخترق العقول والقلوب والعالم، بنبرة عمومية، رفيقة، قريبة، شرسة، مباشرة، محسوسة، وكأنما، وهو يكتب، تكتب معه الأمة كلها، والناس كلهم: كان شعر محمود درويش في تلك اللحظات الجمْرية، يُوَقّعه بحبر ناسه وأنفاسهم، وشغفهم وإيمانهم: من الناس إلى الناس. وعندما كان لهذا الصوت العمومي أن يمتد في فلسطين وكل العالم، ويكون الصوت المعلن، عرف محمود درويش، بعدها، كيف يمزج هذا "القدر" الشعري العمومي بذاتية تحترق وتلتهب، وبحميميات، هي إلى خصوصيتها، كمن يمزج هواء الوطن بهواء القلب، وبأنفاس الحبيبة، وبإيقاعات "الغريب"، وبتفاصيل الحياة، واللوز، والليمون.. والموت.
وكان محمود، بذلك، يمزج، بين قوة الإحساس المرتعش بالقريب، وبالقلق الوجودي، وبالحب، وبالتأمل، وبين انفتاح على لغة خصوصية، لغة شعرية تحمل قلقها بقدر ما تحمل قلق الأسئلة، من أسئلة الوطن إلى أسئلة الشعر من اجتراح وطن صعب إلى اجتراح لغة مركبة. تماماً كما فعل الكبار من أهل النضال والقضايا الكبيرة، حين كان للغتهم العالية، وذواتهم الخاصة، الحيز الكبير، والشعرية المتجددة كبابلو نيرودا، ولوركا، والبرتي وناظم حكمت وسواهم. وكأنه يكاد يكون هنا، الاستثناء بين الشعراء العرب، الذين تحسب لكثيرين منهم أعمالهم الأولى ثم يتعبون، وهو، محمود درويش، الذي تعب بشعره النضالي الأول، لتحسب له انجازاته الأخيرة، الممتدة على عقدين، والتي اتسمت بقلق حي بالتجديد وبالخروج من العمومي إلى الخصوصي، ومن الشعر كمجرد سلاح للقضية، إلى الشعر كسلاح للشعر، من دون أن يفترق عن "قدره" النضالي المقاوم. وهكذا تآخت عنده النبرتان، واستوت عنده اللغتان، واحدة تهجس بقلق الناس، وأخرى بقلقه الشعري، لكن على غير انفصال، وعلى غير تنافر، وعلى غير تضاد.
ولهذا، نقول، ان الصديق الأقرب محمود درويش، مات في عزّ مقاومته الشعرية، موتَه في عز مقاومته السياسية، والانسانية، مات في أوجّ تألقه، وتدفقه، وتملكه أدواته، وتحوله، وخروجه على السائد المعمم الى تلك النقاط المستحيلة من القصيدة.

خسرناك يا محمود. وفي "الليلة الظلماء يفتقد البدر". انطفأ البدر، والليلة الظلماء أكثر ظلمة وسواداً.

خسرناك يا محمود، أنت الذي كنت ذاتك في وداعات لا تنتهي، ها أنت تُلوِّح لنا بالمنديل الأخير، من وراء السُّجب والغيوم، والآمال، والموتى. كأنما آن "للفارس ان يترجل"، وأن ليوليس ان يعود الى أرضه. ففي رحيلك عودات. وفي عودتك ألف رحيل. هكذا نبكيك يا محمود، بدمع الأخوة والصداقة والمصير والقدر، نبكيك، وأنت الحصان الذي خلّفت وراءك ما خلّفت من "صهيل" عال، ومن شعر عالٍ، ومن نبل عال!.
هكذا ترحل يا محمود، وكنّا بانتظارك، تماماً، كما ترحل الأوطان، والناس بانتظارها.
أرضك تنتظرك ربما للمرة الأخيرة، لكي لا تغادرها، الى أي منفى. فقد تعبتَ من المنافي، وتعبتْ منك المنافي. فآنَ لك أن تكون حيث لا كان للمنافي، ولا للرحيل، في منفاه الأخير.

كأنك يا محمود اليوم اول الداخلين الى فلسطين، وكأن فلسطين أول الواصلين اليك.

توفي الشاعر الكبير أمس في أحد مستشفيات تكساس في جنوب الولايات المتحدة، اثر عملية جراحية له أجريت في القلب الأربعاء الماضي. وسبق ان أجريت لمحمود درويش عمليتان جراحيتان في القلب عامي 1984، و1998.
ولد محمود درويش عام 1941 في قرية البردة المدمرة اليوم في الجليل، ونشأ وترعرع هناك واعتقل أكثر من مرة من قبل سلطات الاحتلال الصهيونية.
في العام 1972 توجه الى موسكو ومنها الى القاهرة وانتقل بعدها الى لبنان، حيث أقام في بيروت.

ترأس مركز الأبحاث الفلسطينية وشغِل منصب رئيس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية". واستقال من اللجنة التنفيدية لمنظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً على اتفاق أوسلو عام 1993.

عاد الى الأراضي الفلسطينية عام 1996 وأقام في رام الله حتى وفاته.

المستقبل
الاحد 10 آب 2008 - العدد 3043

***

الشعراء والفنانون والمثقفون اللبنانيون والعرب يُودّعون محمود درويش
مات الملك عاش الملك!

مكتب بيروت: جهاد الترك وكوليت مرشليان
مكتب عمان: موسى برهومة
الجديدة (عكا): حسن مواسي

كان لرحيل الشاعر محمود درويش وقع الدويّ، على الناس والشعراء في العالم العربي والعالم. فبين من صدمه النبأ المشؤوم، ومن استقبله بدمعة، أو بصرخة، أو بشعور بالخسارة، يبرز حجم الخريطة الإنسانية التي تحرك عليها. وحضوره شعّ، كالشمس، في كل بيت، ووجه، وبقعة في فلسطين ودنيا العرب. هذا الحضور الذي بناه مدماكاً مدماكاً، طالعاً من المأساة الفلسطينية ومن الأمل، ومن الهزائم، والحلم بالانتظار، من المنافي والعودات.
هذا الحادث الجلل، يقاربه شعراء وكتّاب من لبنان، والعالم العربي، بشهادات، ننشرها بحسب ورودها إلينا.

مدرسة شعرية

مع رحيل محمود درويش فقدنا شاعراً بقيمة مدرسة شعرية، وشخصياً التقيت به مرات عدة وأحببت شعره كما أحبه الجميع خاصة ما فعله مع مارسيل خليفة من أغنيات هزّت مشاعرنا كلنا. وأتمنى أن يكون الشعراء الجدد مثله من ناحية أنه لم يقلد أحداً. أحببت صوره الشعرية وأول دواوينه وآخرها أيضاً لأنه حافظ على جمالية صوره الشعرية حتى آخر قصيدة ومن أجمل ما تحدّاه محمود درويش الشاعر ليس فقط في السياسة وفي حب بلاده بل أيضاً في جرأته على تخطي قوانين الشعر.

ريمون جبارة
(مخرج مسرحي لبناني)

شٍعرك والقضية لا يموتان

على هذه الأرض ما يستحق الحياة، قال لنا ذلك. ولفرط ما يحبها ويحترمها ويعشقها نبضت في قصائده، ناجاها وعاشها في أشعاره وكلماته ضجراً من الموت ورغبة في عيش ما يستحق الحياة الكريمة.

وعلى هذه الأرض نستحق فلسطين ونستحق أن يكون لنا محمود درويش، ونستحق شعره وقلبه الذين وهب دقاته للشعر ثم أخطأ اصابته هذه المرة وتوقف.
ما الذي فعلته يا محمود؟ رحلت وأنت في عز نضارتك. كنت أريد منك ديواناً جديداً يسعدني ويهبني هدية الجمال، الهدية الوحيدة التي تكسر العزلة والألم والإحساس بالإحباط. هدية الكلمة والقصيدة التي تقول لنا إن الدنيا ما زالت بخير ما دام هناك شاعر يهبنا الحياة في الكلمة والقصيدة. لماذا فعلت بنا ذلك؟ ما هذا النقصان الكبير للحياة في غيابك، ونقصان الشعر أيضاً؟ وما قصدك أيها الشاعر الكبير الفارس النبيل الجميل الأنيق المرهف الجواهرجي والإنساني، الإنساني العميق، في شعرك وشخصيتك.

ما قصدك؟
هل تريد أن تقول لفتح وحماس أنتم مُتّم فخذوا هذا موتي أيضاً؟ ولكن أنت تعرف أن شعرك لن يموت كما القضية لا تموت. أنت حيّ يرزق علّهم، إن أحسنوا القراءة، يصيرون أحياء يرزقون. ولكن للأسف هل من تنادي بموتك يسمعون.

علوية صبح
(روائية لبنانية)

يمثّل لي الوطن

حزنت كثيراً على رحيل محمود درويش ولكن أنا سعيدة لأنني عشت في عصره ولكن للأسف لم يتم اللقاء معه ولا مرة ولكنني كنتُ كلّني أمل أن أراه يوماً ما وأقول له كم هو يمثل لي الوطن وكم جسّد في أشعاره وطناً ليس موجوداً في الواقع. يبكيني الكلام عنه وتأثرت فوق طاقة أن أتحدث عنه، وكم كنت أحزن حين كان يقول في مقابلاته أنه يرغب فقط في أن يكون له وطن ويعيش فيه يوميات طبيعية مثل كل الناس.

رولا حمادة
(ممثلة فلسطينية تقيم في لبنان)

دولة الشعر المستقلة

محمود درويش، هو الشاعر الربيعي الذي مات في عزّ صيف.
هو الذي ارتمى في نهر الأردن سابحاً ولاعباً، وأنقذ قصيدته من وحل الثورة..
محمود درويش من الشعراء الكبار الذين أخلصوا لموهبتهم... رعاية وعناية وسهراً وشغفاً وارتقاء...

كان فريد قصيدته، منشداً خارج الكورال الجماعي من الرثائيين، والندابين والمحمسين والطبالين!
رغم جماهيريته، لم يسقط في الشعبوية، أنقذته القصيدة، أنقذه حبه للنرجس...
محمود درويش هو أجمل حلم في منام فلسطين... هو الذي أنشأ لها دولة شعرية حرّة ومستقلّة!

يحيى جابر
(شاعر لبناني)
محمود درويش:

حياة بأكملها لأجل الحياة

غداً حين يتفتّح زهر اللوز، في السنة المقبلة، في سفوح الجليل وهضاب الجنوب، لن يكون محمود درويش هنا. لكن قصيدته ستكون كزهر اللوز أو أبعد. وفي دفاتر العاشقين سيك لها أثر فراشة وأعمق. سوف يعبر العابرون والمحتلون في الكلام العابر ويظل محمود درويش ويظل شعره وتظل "فلسطينه" التي "تضيق في الخريطة وتتسع في صوت المغني ووصايا الشهداء".

لم أحب شاعراً كما أحببت محمود درويش.
أحببته قبل أن ألتقيه بسنوات وحروب واحتلال وشهداء وقصائد كثيرة.
في ليالي الجنوب الحميمة، كانت قصائده تصلنا مشوبة برائحة زهر الليمون والبرتقال، تحملها إلينا دواوينه وأشرطة مرسيل خليفة، كنا نستعين به على حبيباتنا وخيباتنا وأوجاعنا الكثيرة. وكنا نزداد معرفة بفلسطين بواسطة شعره الذي كان دليلنا الى ما هو أبعد من الشعر. وفي شعره كانت فلسطين أكثر بهاء ونضارة، مثلما صارت القضية (خصوصاً في أعماله الأخيرة) أكثر شفافية وعذوبة حتى بات بالإمكان القول أن محمود درويش استطاع وببراعة أن "يؤنسن" النضال الفلسطيني ويعيده من "الأسطورة" الى طبيعته البشرية وإلى كونه فعلاً إنسانياً نبيلاً يصنعه بشر من لحم ودم، والأهم من مشاعر وأحاسيس وأفئدة تحب وتعشق وتفرح وتحزن، وتستحق أن ترى الأحمر في الوردة أيضاً، لا فقط في لون الدم.

لمّا التقيت محمود درويش بعد سنوات من الحروب والمحن، ومن الشعر والحب، أحببت فيه أنه لا يُشبه الصورة النمطية للشعراء (ربما لأنه شاعر حقيقي)، مثلما أحببت الشبه الكبير بينه وبين شعره. وجدت أنه لا يكتب قصيدته باللغة وحسب، بل بالسلوك والتصرّف وبأسلوب التعامل مع الوجود والكائنات. وحين رحت أبحث عن وجه الشبه بين الشاعر وقصيدته، وجدت أنها تلك الغنائية الشفيفة المشوبة، أحياناً بشيء من الانكسار الإنساني أمام عاتيات الأيام، وتلك الروح المشعّة التي تنتقل بالعدوى الجميلة الى كل من يقترب منها، وذاك الدفاع الرائع والانحياز الجميل الى معنى الحياة.
في قصيدتي له التي حملت عنوان "تليق بك الحياة" خاطبته قائلاً: "ليس الحزن ما يجعلك استثنائياً ولا الموت المتربص بك عند ناصية الأيام... بل دفاعك الرائع عن معنى الحياة". فإلى جانب صفاته الكثيرة تظل الصفة الأهم، برأيي، أنه مدافع شرس عن معنى الحياة، ليس فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي مغتصب الأرض ومنتهك الحرية، بل في مواجهة أعداء الإنسانية وقاتلي الحياة في كل مكان وزمان.

في قصيدته المهداة الى إدوارد سعيد (كتاب كزهر اللوز أو أبعد) يخاطبه بقوله: "واصرخ لتسمع نفسك، واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً وحياً، وأن الحياة على هذه الأرض ممكنة. فاخترع أملاً للكلام، ابتكر جهة أو سراباً يطيل الرجاء، وغنّ، فإن الجمالي حرية/ أقول: الحياة التي لا تُعرّف إلا بضدّ، الموت... ليس حياة".

الحياة بكل حلاواتها ومراراتها، بكل خضرتها ويباسها، بكل ما لها وعليها، وهي السمة الأساس في شعر عاشق فلسطين الذي ساهم بإسماع العالم، كل العالم، حق شعبه ووطنه في الحياة، وجعل قصيدته متراساً في مواجهة أعتى أعداء الحياة: المحتل الإسرائيلي، ولم ينسَ، حتى في أشد اللحظات حلكة وقتامة أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وأن فلسطين بالذات تستحق الحياة الحرة الكريمة، وهذا ما ناضل لأجله محمود درويش دائماً: الحياة الحرة. فهل نقول ان قلبه الذي شاكسه طويلاً اختار أن يتوقف في اللحظة التي رأى فيها فلسطين تقتتل، بدل أن تقاتل... ودائماً لأجل الحياة.

زاهي وهبي
(شاعر لبناني)

شعره غابة استوائية

بالنسبة إليّ فإن غياب محمود درويش نهاية مرحلة في الشعر الفلسطيني، تشبه الى حد بعيد خربطة القضية الفلسطينية كما تشبه "نهايتها". شكل درويش قامة كبيرة أو شجرة باسقة حجبت كل الشجيرات والأزهار الشعرية الأخرى في التجربة الفلسطينية. وقد اختصر وكأنما في شعره كل شيء، عن قصد ربما أو من دون قصد. كان لا بد ربما أن يتوقف بعض الشيء مفسحاً في المجال لآخرين. والمحزن أن هذا سيحصل في غيابه. كان لهذا الشاعر طاقة شعرية كبيرة وغزارة رهيبة، لربما كانت بحاجة لبعض الهدوء لبعض التشذيب، فشعره أشبه بغابة استوائية تتوجب بعض الفسحات أحياناً فيها لأجل العبور أو التنفس.

غير أن كل هذا لا يعني أنه لم يكن شاعراً كبيراً، وأن موهبته كانت أكبر وأفضل من شعره. وربما ينتمي الى ما يسمّى عند العرب بشاعر الشعراء وهو نوع أو صنف على طريق الانقراض. إلا أن الإيجابي في حالات شعرية وحضور من هذا النوع أنه يعلن الشعر ويفرضه بحضوره الجسدي والإعلامي، في حين أن التجربة الشعرية أو الشعر عموماً يعاني من الانكفاء في العالم العربي خصوصاً، وفي العالم برمته عموماً.

شارل شهوان
(شاعر لبناني)

مات الملك عاش الملك

في غفلة عنّا، نحن المفتونين به، يلعب الشاعر الكبير محمود درويش مع الموت لعبة استغماية طويلة. لكنه، ولأن الوهم حظ الشاعر، ظنّ فعلاً أن الموت لعبة طويلة، وأن القلب المريض مجرد اختبار جديد للشعر. ومن حظنا، وهمُه ذاك، لكي نقرأ جديداً نحبه أكثر.

لكنه سقط أخيراً مضرجاً بمنفاه الآخر وداخلاً غيبوبة حزنه الأزلية، وتركنا مضرجين بقصيدته الأخيرة "لاعب النرد"، نحن الذين استعرنا نرده مرات كثيرة لكنه يشبه الملك.
مات الملك عاش الملك.

رشا عمران
(شاعرة سورية)

بخس كرنفالي!

ربما يكون من أسوأ ما يحدث لمحمود درويش بعد رحيله هو ما فعله ويفعله الإعلام العربي في حصر شاعريته بوصفه "شاعر قضية سياسية"، مهما كان شأن هذه القضية ومكانتها. ففي تجربة هذا الشاعر تم إنصاف الشخص على حساب شعره من خلال تحويله رمزاً. وعلى الدوام كانت القضية هي الطريق الإجباري لامتداح الشعرية فيه. وأصدقاؤه يعرفون كم كان هذا الأمر يثير حزنه، وأذكر أن تعليقه الأول على عدد مجلة "نقد" الثالث، والخاص تجربته، كان سعادته بمحاولة العدد قراءة شعره بلا شوائب الإيديولوجيا والقضايا الكبرى، أي قراءة درويش المصفّى والنقي. وكما كتبت آنذاك، كان ثمة بخس كرنفالي للفن في سبيل الإيديولوجيا، مع أن درويش لم تنطل عليه هذه "الخدعة" الموقتة، والدليل هو أنه ختم حياته الشعرية بقصيدة نثر.

ماهر شرف الدين
(شاعر سوري مقيم في لبنان)

تحية إليه..

كنت التقيت محمود درويش للمرة الأولى في معرض بيروت الدولي للكتاب حينما كان يوقع كتابه "كزهر اللوز أو أبعد". وكنت برفقة ناشرة كتابي، لينا كريدية. يومذاك، قدمتني كريدية لدرويش بصفتي صاحب كتاب "أنا شاعر كبير"، وقدمت نسخة من هذا الكتاب الى درويش وقرأ الغلاف الخلفي الذي كان يتناول درويش بشكل أو بآخر.

أهديته نسخة من كتابي مع إهداء، فبادلني بإهدائي كتابه المذكور، وكان في الإهداء ما يفرحني لأنه تضمن نوعاً من الاعتراف بشاعرية ما. كان مجرد انتزاعي هذا الاعتراف من درويش مبعثاً للسرور.

عندما سمعت خبر وفاته، كان هناك مزيج غير مفهوم من المشاعر التي التبست بين تصديق الخبر وتكذيبه. وما لبث أن ورد خبر آخر على الشاشات يقول بأن درويش لم يمت بعد وأنه في حال حرجة. إلا أنني لم أجرؤ على الرهان بأنه سينجو لأنني دائماً كنت على يقين بأن الموت ينتصر على الشعر، وبأن المعركة المفترضة عبثية ولا جدوى منها، لأن الموت يفوز دائماً، ولأن الشعراء يلهون بموتهم منذ الكلمة الأولى. هذا ليس رثاء لأن درويش كان يطلب أن نحمي الموتى من هواة الرثاء. إنها فقط تحية الى محمود درويش ومنه الى رفاقه الشعراء الذين يلتقيهم في هذه الأثناء.

رامي الأمين
(شاعر لبناني)

(التتمة ص19)

***

ردود فعل من فلسطين
حزن عارم يجتاح أراضي الـ 48 لرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش

فراس درويش لـ"المستقبل": العائلة تدرس إمكانية طلب دفن جثمان الراحل في الجديدة

الجديدة، عكا ـ حسن مواسي

شهدت الأراضي العربية المحتلة عام 1948، أمس الأحد حالة من الحزن والأسى الشديدين، على رحيل عاشق فلسطين وشاعرها الكبير محمود درويش ابن قرية البروة المهجرة، وفور شيوع خبر وفاته مساء أول أمس السبت، توافدت عشرات الوفود الى منزل عائلته في قرية الجديدة شرقي مدينة عكا، وفي مقدمتهم "شق البرتقالة" الفلسطينية زميله الشاعر الكبير سميح القاسم والنواب العرب في الكنيست الإسرائيلي.
فيما تواصلت أمس الأحد، بيانات النعي من قبل المؤسسات والهيئات التمثيلية والشعبية داخل أراضي الـ48، فقد عنونت صحيفة "الاتحاد" التي تخرج منها محمود درويش صدر صفحتها الأولى "العاشق الفلسطيني في حضرة الغياب"، وكتبت في مقدمتها تقول:" عصيُّ على الغياب" جاء فيها :فقد شعبنا العربي الفلسطيني، والإنسانية كلها، أمس، شاعرًا كبيرًا، وإنسانًا كبيرًا.. فقدت الثقافة العربية والعالمية معلمًا من معالم الشعر العربي الحديث.. وفقدت الثقافة الوطنية الفلسطينية ركنًا مؤسسًا منها، برحيل الشاعر محمود درويش المفاجئ، وتوقف قلب محمود عن الخفقان، أمس، بعد 66 عامًا من ولادته على أرض البروة، على هذه الأرض التي عليها ما يستحق الحياة، فعاصر نكبة شعبنا الكبرى والتهجير، وانخرط في خندق الشيوعيين والوطنيين الشرفاء، السياسي والثقافي، اليومي والقومي، في معركة البقاء تحت نير الحكم العسكري والإقامات الجبرية، ليجد نفسه وشعره يصبّان في القضية الأم، في قضية تحرّر الشعب الفلسطيني، وشتاته في المنافي العربية والأجنبية، وفي المنفى الأكبر، في الوطن الممزق بالحواجز والجدران والأسلاك الشائكة.

فيما وصفت لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطينيي الـ48 رحيل درويش برحيل فارس الشعر والوطن والقضية والجمال والحب والمعنى، وكتب النائب احمد الطيبي رئيس الحركة العربية للتغيير في نعيه الراحل الكبير، مخاطبا اياه يا لاعب النرد انهض، أما النائب واصل طه فقد نعى دوريش إبن فلسطين النكبة والقيامة محمود درويش، وقال:" فقدت فلسطين والإنسانية جمعاء، اليوم (أول من أمس)، أبرز شعرائها ومناضليها، إبن البروة المهجرة وفلسطين النكبة والقيامة محمود درويش، الذي حمل هَم فلسطين والإنسان الفلسطيني في الداخل والشتات والمهاجر والخيام، وأصبح رمزاً للمهجر الفلسطيني.

حزب التجمع الوطني نعى درويش مؤكدا أن فلسطين فقد شاعر المقاومة الكبير، الذي خلد قضية شعبه، وفقد الشعب الفلسطيني احد أهم رموزه في العصر الحديث.

ونعى اتحاد الجمعيات العربية (اتجاه) فقيد الشعب الفلسطيني والأمة العربية وكل أنصار شعبنا وأنصار الحرية ومقاومة الظلم والظالمين في العالم، فقيد الثقافة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والانسانية العالمية، فيما وصف بيان بلدية الناصرة في نعيها الراحل محمود درويش برسول الثقافة والإبداع الفلسطيني، الذي غادر وهو في أوج عطائه، مخلفا تراثا ثقافيا وطنيا، ثوريا وإنسانيا، ساهم في رفع وتثبيت قضية شعبه ووطنه، في ضمير الإنسانية.
الحركة الإسلامية ورئيسها إبراهيم صرصور نعت الشاعر الكبير محمود درويش، أكدت فيها انه فقيد الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، وفقيد كل الأحرار في العالم وكل الثائرين ضد الظلم والظالمين، فقيد الكلمة والثقافة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والإنسانية العالمية، وانه سيبقى الناطق الرسمي وبلا منازع باسم الشعب الفلسطيني... ناطق رسمي عبر عن صوت الشعب من خلال آلة الشعر التي عز نظيرها.

مؤسسة توفيق زياد والثقافة الوطنية والإبداع :محمود درويش زيتونة فلسطين ومنارة للثائرين .

تحني مؤسسة توفيق زياد للثقافة الوطنية والإبداع رأسها إجلالا لذكرى الشاعر الكبير محمود درويش، في يوم رحيل مبكر مفجع، وهو الزيتونة الفلسطينية الوافرة والشامخة دوما، ما كان لنفس وطنية إلا أن تغتني بثمارها، ثمار هي وقود للثورة والمقاومة.

فيما نعت جمعية الشباب العرب _ بلدنا، ووصفته بمنارة فلسطين في العالم، كان نورا لكل شاب عربي فلسطيني يرغب ببناء هويته، أجيالا كاملة ترّبت على أشعار هذا الشاعر العملاق المناضل.

فيما دعت الحركة العربية للتغيير لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطيني الـ48 الى إعلان الحداد على رحيل الشاعر محمود درويش.

النائب جمال زحالقة، رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي، نعى الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وقال إن رحيله هو فاجعة كبرى للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإنسانية التقدمية في كافة أرجاء المعمورة.
وأضاف: "درويش هو ملحمة متواصلة خلدت قضية شعب فلسطين، الامه ومعاناته وطموحاته وأحلامه، وهو يُعد بحق من أكبر شعراء اللغة العربية على مر العصور، ومن أهم شعراء العالم في العصر الحديث.
وأكد: "نحن نطالب أن يدفن في بلده في الجليل في فلسطين التي أحبها واستوطنت في قلبه ووجدانه وشعره".

فراس درويش ابن شقيق الشاعر الراحل قال في تصريح خاص بـ"المستقبل": "خبر رحيل شاعرنا محمود درويش وقع كالصاعقة علينا في العائلة، وهو غالي كثيرا، وموجود في وجدان كل عربي حر، والعائلة تدرس إمكانية دفنه هنا في قرية الجديدة".

وأكد درويش أن والدة الشاعر الراحل الحاجة حورية لا تزال ترفض استيعاب الحدث، وهي كل الوقت تبكي وتقوم منذ سماع الخبر بالنواح والبكاء عليه وهي غير مصدقه الخبر، وحتى الآن نحن لا نعرف أين ومتى ستكون مراسم الجنازة وأين سيدفن.

وقال الأديب محمد علي طه: لقد خسرت أخا كبيرا وصديقا عزيزا، واعتقد أن الشعب الفلسطيني والعربي قد خسر شاعرا عملاقا وكبيرا، لم يظهر في القرن العشرين شاعر عربي في قامة محمود درويش، هو أهم الشعراء الذين عرفتهم الإنسانية، لقد حمل القضية الفلسطينية في قلبه وفي شعره.
الشاعر حسين مهنا: رحيل الشاعر محمود درويش خسارة للعائلة وللأقرباء وللأصدقاء وللحلقة الأدبية وللشعب العربي وللشعب الفلسطيني ولشعوب العالم جمعاء، محمود درويش أعطى أكثر مما أخذ.

أيمن عودة: وفاة الشاعر الكبير محمود درويش ضربة كبيرة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده, محمود درويش انطلق من فلسطين ولكنه شاعر الإنسانية، وله الفضل الكبير أن استطاع أن يوصل رسالة فلسطين الى العالم كله.

كتّاب إسرائيليون:
محمود درويش شاعر كبير أولاً وقبل أي شيء

كان الرحيل المفاجئ لشاعر فلسطين الكبير وعاشقها محمود درويش وقع كبير في الصحافة الاسرائيلية، حيث خصصت الصحف العبرية الكبرى الثلاث حيزاً لهذا الحدث الجلل والذي فقدت فيه فلسطين والعرب جميعاً معلماً بارزاً.
فقد دعا الشاعر الإسرائيلي إسحاق لاؤور إلى دفن شاعر وعاشق فلسطين محمود درويش في قريته، البروة مشيرا إلى أنه "يتحدثون كثيراً في العالم عن الاعتذار" تجاه ضحايا الاحتلال والاقتلاع والتهجير، في أميركا وأستراليا وجنوب أفريقيا، وهنا لم يتحدثوا عن ذلك بعد، وربما في إمكان تشييع جثمان درويش إلى قريته أن يمثل بداية رحلة طويلة من التكفير عن الذنوب".
وكتب لاؤور، في مقالة نشرها في "هآرتس"، اقتباسا من قصيدة درويش الأخيرة "سيناريو جاهز"، اعتبر أن "الشخصية" في القصيدة ليست شخصية تماما، لأنه لا توجد للفلسطينيين حياة "شخصية"، لكن درويش زرع فيهم الأمل بواسطة شعر محدد للغاية". ورأى لاؤور أن "التاريخ كلّف درويش بأن يؤدي دورا وهو أن يكون الشاعر الوطني، وانه مثلما تنقل في أماكن سكناه، تنقل أيضا في كتاباته، مثل إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي كتبه في العام 1988 وتأبين إميل حبيبي وإدوارد سعيد وياسر عرفات، فقد تنقل بين الشعر والمقال الفكري، وبين التورية والخطابة".

فيما وصف الأديب الإسرائيلي البارز أ.ب.يهوشواع الشاعر الراحل محمود درويش انه الصديق والخصم، حيث يرى الإسرائيليون في درويش أنه الشاعر الوطني الفلسطيني، الذي عبّر عن أماني وتطلعات الفلسطينيين ووصف حالهم خلال العقود الأربعة ونيّف الماضية، وينظرون إليه على أنه الخصم، الذي استفزهم بشعره وثقافته وعمقه، ورغم ذلك ربط بعض أدبائهم وسياسييهم اليساريين علاقات صداقة معه. وتمت ترجمة عدد من دواوين شعره إلى العبرية.

وكتب يهوشواع "أولا وقبل كل شيء، كان درويش شاعرا كبيرا وامتلك عظمة شعرية حقيقية، حتى إن إنسانا مثلي، قرأه عبر ترجمات أشعاره لا باللغة الأصلية، كان في إمكانه أن يعجب بشكل عميق من مخزون الصور والأفكار الغنية لديه، ومن الحرية الشعرية التي سمح لنفسه بانتهاجها".
وأضاف أن "محمود هاجر من إسرائيل طواعية وأنا أسفت دائما على ذلك، أذكره في مؤتمر تضامن عقده الشاعر الراحل يونا بن يهودا، المعروف بكنيته "ييبي"، في نهاية سنوات الستين في حيفا، مع الشعراء والأدباء العرب "الإسرائيليين" الذين خضعوا لأوامر اعتقال وتم تقييد تحركاتهم، كان هذا لقاؤنا الأول، وأعجبت بالقوة اللاذعة الكامنة في كلماته، وبعد ذلك، عندما علمت أنه غادر إسرائيل ولن يعود إليها، شعرت بخسارة. إذ بدا لي شريكا جديرا. كان صعبا ونقديا، لكنه جدير".

وأشاد يهوشواع بقرار وزير التربية والتعليم الإسرائيلي الأسبق، يوسي سريد، بتدريس قصائد محمود درويش في المدارس اليهودية، وأكد أن هذا القرار كان صحيحا ومناسبا. وكتب أن درويش أصبح بعد خروجه من البلاد في العام 1972 "الشاعر الوطني للفلسطينيين، شاعر المنفى واللجوء، ولذلك تنقل من مكان إلى آخر وتحول إلى اسم هام في مؤتمرات ومهرجانات الشعر في أنحاء العالم. وعلى هذه الخلفية كان قرار يوسي سريد كوزير للتربية والتعليم، الذي قضى بشمل قصائده في البرنامج الدراسي، صحيحا ومناسبا على الرغم من الانتقادات ضد القرار".

وتحدث يهوشواع عن لقائه الأخير مع محمود درويش في حيفا قبل عام ونصف العام، وقال "لقد التقيت به في مقهى وتحدثنا بودٍ، أهديته نسخة من الترجمة الفرنسية لـ"العروس المُحررة"، وهي اللغة التي قرأ بها الأدب الأجنبي، وطلبت منه أن يقرأها ليرى بأي قدر من المحبة وصفته في مخيلتي، في تلك السنوات التي سبقت الانتفاضة. لا أعرف إذا كان قد قرأ أم لا، وتقت دائما لالتقائه مرة أخرى في المستقبل، وها هو قد توفي، الشاعر الذي كان لنا خصما وصديقا على حد سواء".

محرر الشؤون العربية في "هآرتس"، تسفي بارئيل، أكد أن "عظمته الأساسية هي في البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية وخصوصا فيما يتعلق بقضية اللاجئين، وفي قصيدته الشهيرة "لماذا تركت الحصان وحيدا" أحيا العلاقة بين التهجير والآثار الحية التي أبقاها اللاجئون خلفهم وعنفوان حق العودة بواسطة رمزه، الحصان الذي بقي في الخلف، والبئر المتروكة ومفتاح البيت المهجور الموجود في جيب كل لاجئ".
وخلص بارئيل إلى القول إن "درويش لم يبخل في توجيه النقد لقادة السلطة الفلسطينية، مثلما عرف كيف يسن سهامه ضد الاحتلال الإسرائيلي والقيادة الإسرائيلية، وان درويش المريض ترك أمس الفلسطينيين وحدهم ومضى من دون أن يرى اتفاق سلام بين الشعبين".

المستقبل
الاثنين 11 آب 2008 - العدد 3044

المستقبل

 

سميح القاسم يرثي صديقه محمود درويش:

***

مَا مٍن حوارِ مَعك بعدَ الآن.. إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارِ آخر!

سميح القاسم

(إلى محمود درويش)

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟

* * *

عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابلٍ بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ..

* * *

تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.

* * *

وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرْ..

* * *

سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ 7-7-أتاتورك7-7-. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ 7-7-محمَّد7-7-
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ

* * *

وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ

وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ
لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا
نموتُ. نعيشُ. نموتُ. نموتُ
على هيئَةِ الأُممِ السَّاخِرهْ
وَعُهْرِ ملفَّاتِها الفاجِرَهْ
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب
ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟

* * *

تذكَّرْ
وقدْ يُسعِفُ اللهُ مَيْتاً بأنْ يتذكَّرَ. لله نحنُ.
فحاول إذن.. وتذكَّرْ
تذكَّرْ رضا الوالِدَهْ
لأُمَّينِ في واحِدَهْ
ونعمةَ كُبَّتِها.. زينة المائِدَهْ
وطُهرَ الرَّغيفِ المقمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يُجيدُ الصّياحْ
ولا يتذمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يضيقُ ولا يتأفَّفُ مِن سَهَرٍ صاخِبٍ للصَّباحْ
تذكَّرْ كَثيراً. ولا تتذكَّرْ
كَثيراً. فبعضُ الحِكاياتِ سُكَّرْ
وكُلُّ الخرافاتِ سُمٌّ مُقَطَّرْ
ونحنُ ضَحايا الخرافاتِ. نحنُ ضَحايا نبوخذ نصّرْ
وأيتام هتلَرْ
ومِن دَمِنا للطُّغاةِ نبيذٌ
ومِن لَحمِنا للغُزاةِ أكاليلُ غارٍ ووردٍ
ومِسْكٌ. وَعَنبَرْ
فَلا تتذكِّرْ

قيوداً وسجناً وعسكَرْ
وبيتاً مُدَمَّرْ
وَليلاً طَويلاً. وَقَهراً ثقيلاً وسَطواً تكرَّرْ
وَلا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ..

* * *

لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ،
نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ..
ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّ
وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّ
سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ
وَدَمْعٍ سَخيّ
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،
عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ

ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
بنارِ مَدَامِعِنا
والوَرَقْ
يطيرُ بأجْنِحَةٍ مِن دُخانْ
وهَا نحنُ يا صاحبي. صَفحَتانْ
وَوَجهٌ قديمٌ يُقَلِّبُنا مِن جديدٍ
على صَفَحاتِ كتابِ القَلَقْ
وهَا نحنُ. لا نحنُ. مَيْتٌ وَحَيٌّ. وَحَيٌّ وَمَيْتْ
بَكَى صاحبي7-7-،
على سَطحِ غُربَتِهِ مُستَغيثاً
بَكَى صاحبي7-7-..
وَبَكَى.. وَبَكَيْتْ
على سَطحِ بَيْتْ
ألا ليتَ لَيتْ
ويا ليتَ لَيتْ
وُلِدنا ومتنا على وَرَقِ السنديانْ..

* * *

ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّ
أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي7-7-..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي..

* * *

يقولونَ موتُكَ كانَ غريباً.. ووجهُ الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ
وأنّي أعيشُ. وأنّا نَعيشُ. وتعلَمُ. تَعلَمُ أنّا
حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ
وتَعلَمُ تَعْلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ
على خطأٍ مَطْبَعِيّ
وتَعلَمُ أنّا تأجَّلَ إعدامُنا ألف مَرَّهْ
لِسَكْرَةِجَلاّدِنا تِلْوَ سَكْرهْ
وللهِ مَجْدُ الأعالي. ونصلُ السَّلام الكلام على الأرضِ..
والناسُ فيهم ـ سِوانا ـ المسَرَّهْ
أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟
مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ
وَآخرِ مَرَّهْ
وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ

نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ
وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ
ويحملُ كُلُّ قَتيلٍ على الظَّهرِ قَبرَهْ
ويَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّةِ.. يَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّهْ..

* * *

تُعانقُني أُمُّنا. أُمُّ أحمدَ. في جَزَعٍ مُرهَقٍ بعذابِ
السِّنينْ
وعِبءِ الحنينْ
وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً
دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ.
أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟
تُزلزِلُني أُمُّنا بالسّؤالِ؟ فماذا أقولُ لَهَا؟
هَلْ أقولُ مَضَى في الصَّباحِ ليأْخُذَ قَهوَتَهُ بالحليبِ
على سِحرِ أرصِفَةِ الشانزيليزيه. أمْ أدَّعي
أنَّكَ الآن في جَلسَةٍ طارِئَهْ
وَهَلْ أدَّعي أنَّكَ الآن في سَهرَةٍ هادِئهْ
وَهَلْ أُتْقِنُ الزَّعْمَ أنّكَ في موعِدٍ للغَرَامِ،
تُقابِلُ كاتبةً لاجئَهْ
وَهَلْ ستُصَدِّقُ أنّكَ تُلقي قصائِدَكَ الآنَ
في صالَةٍ دافِئَهْ
بأنْفاسِ ألفَينِ مِن مُعجَبيكَ.. وكيفَ أقولُ
أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ..
أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ..

* * *

إذنْ. أنتَ مُرتَحِلٌ عن دِيارِ الأحبَّةِ. لا بأسَ.
هَا أنتَ مُرتَحِلٌ لدِيارِ الأحبَّةِ. سَلِّمْ عَلَيهِم:
راشد حسين
فدوى طوقان
توفيق زيّاد
إميل توما
مُعين بسيسو
عصام العباسي
ياسر عرفات
إميل حبيبي
الشيخ إمام
أحمد ياسين
سعدالله ونُّوس
كاتب ياسين
جورج حبش
نجيب محفوظ
أبو علي مصطفى
يوسف حنا
ممدوح عدوان
خليل الوزير
نزيه خير
رفائيل ألبرتي
ناجي العلي
إسماعيل شمُّوط
بلند الحيدري
محمد مهدي الجواهري
يانيس ريتسوس
ألكسندر بن
يوسف شاهين
يوسف إدريس
سهيل إدريس
رجاء النقاش
عبد الوهاب البياتي
غسَّان كنفاني
نزار قباني
كَفاني. كَفاني. وكُثرٌ سِواهم. وكُثرٌ فسلِّم عليهم. وسَوفَ
تُقابِلُ في جَنَّةِ الخُلدِ 7-7-سامي7-7-. أخانا الجميلَ الأصيلَ.
وَهلْ يعزِفونَ على العُودِ في جَنَّةِ الخُلْدِ؟ أَحبَبْتَ
سامي مَع العودِ في قَعدَةِ 7-7-العَينِ7-7-.. سامي مَضَى
وَهْوَ في مِثلِ عُمرِكَ.. (67).. لا. لا أُطيقُ العَدَدْ
وأنتُمْ أبَدْ
يضُمُّ الأبَدْ
ويَمْحُو الأبَدْ
وَأَعلَمُ. سوفَ تَعودونَ. ذاتَ صباحٍ جديدٍ تعودُونَ
للدَّار والجار والقدس والشمس. سَوفَ تَعودونَ.
حَياً تَعودُ. وَمَيْتاً تَعودُ. وسَوفَ تَعودون. مَا مِن كَفَنْ
يَليقُ بِنا غيرَ دَمعَةِ أُمٍّ تبلُّ تُرابَ الوَطَنْ
ومَا مِن بِلادٍ تَليقُ بِنا ونَليقُ بِها غير هذي البلادْ
ويوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ
وحُلم المغنّي كِفاحٌ
وموتُ المغنّي جهادُ الجِهادْ..

* * *

إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ
في زّوْرَقٍ للنجاةِ. على سَطْحِ بحرٍ
أُسمّيهِ يا صاحبي أَدْمُعَكْ
وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ..
لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ
وخُذني مَعَكْ
خُذني مَعَكْ..

هامش
عمان ـ موسى برهومة ـ وهذه القصيدة خصّ بها الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم "المستقبل"، وكتبها متدفقة ما إن وافاه خبر رحيل صديقه الشاعر محمود درويش.

المستقبل
الثلاثاء 12 آب 2008

***

الشعراء والفنّانون والمثقفون اللبنانيون والعرب يودّعون محمود درويش (3)

محمود درويش - الرئيس الفلسطين ياسر عرفاتهل تدرك يا محمود معنى ان يكون هناك شاعر كبير في هذه البقعة من الأرض التي يتضاءل فيها كل شيء؟ اليوم الرابع بعد رحيل الشاعر الكبير محمود درويش كأنه الاول، وهكذا ستكون الأيام والسنوات المقبلة: الشاعر النضر، المتجدد، الراسخ، والرمز، والقضية، والوطن، والثورة، "سجّل أنا عربي"، وسيبقى هكذا في مكانه الأخير وفي كل الامكنة، وفي القلوب والشعر.
الصدمة التي اصابت العالم العربي والعالم بموت الراحل، ما زالت في فعلها، وما زال الناس والكتّاب، والشعراء والفنانون في قلب الحدث الجلل.
بعد شهادات نشرتها "المستقبل" أمس، لأدباء وكتّاب وشعراء لبنانيين وعرب، تستكمل نشر نصوص شعرية وتحليلية حول الشاعر وشعره.
هنا الحلقة الثالثة..

محمود درويش
يا محمود
يا ماء السؤال ينط من أحلامنا الأولى
محمود درويشويكرز الطفولة في توغلها وراء طلاسم الآيات
يا محمود
يا زيتونة المعنى
تهز خواصر الدنيا
فتطلع في الليالي مريم الكلمات
قالوا: مات
قلت: الماء ليس يموت
قالوا.....
آه يا محمود
منذ الريح
منذ قصائد التلميح
منذ الدرب يحمل بالجريح جريح
منذ الحرف في الشعر المقاوم
محمود درويشمنذ أناك يا محمود في فتوى
"أنا من قرية عزلاء منسية
كل رجالها في أرض والمحجر
يحبون الشيوعية"
كنت هناك يا محمود
في وجع تعلمنا الحديقة في روائحها
وتفتح بابها السري للأنوار
تحجل بالصغار، يشاكسون الحلم في تجواله
وينتشرون في الدنيا كصوت صلاة.
يا محمود
كنت البوصلات لنا
هناك... هنا
تشد يد الهواء وتسكب الأيام في الكلمات.
محمود درويشيا محمود
يا زيتونة وحشية الورقات
بين زيوتها نحيا ونرتكب المراكب
انها سكرى براعية
فلسطينية العينين والصورة
وترتكب الكواكب
انها نشوانة بيدين من حجر ومن زعتر
تواصل خليها شوق السباحة في رمال التيه
تكتشف الذي في الحرف أو تفاحة الكلمات.
يا محمود
يا أصواتنا في لحنها تنمو
كأن التين يصعد هامة الزيتون
يا استاذنا في الحلم، هذا أنت
كالمشكاة في أحلامها تمضي في قصائدنا
فنمشي في توهجها
إلى ما ليس تكسره موانئ أحلك الأوقات
هذا أنت يا لحن القصيدة في توهجها
تركت لنا على المتوسط المرتاح بين القلب
وقتاً سيداً كالرمح
يا محمود
كنت صديقنا في رحلة الكلمات
كنت لنا
نعم يا أجمل العشاق
حادٍ يكسر بالأغاني حالكات الوقت
تكتبنا
وترسلنا كلحن بداودة الدنيا
إلى ما ليس يعرفه صدى الآفاق
يا محمود
اضحك سيداً في غيمة الإشعار
أمرح سيداً في نجمة الأيام
افرح سيداً كمجرة في صمتها تنمو
ويسقي عطرها تاريخ عاطفة الفراشة في قميص اللون
سوف تظل في أحلامنا الأولى
كضوء الحلم
تذهب في خلايانا
وتذهب في مرايانا
وتذهب... لا تغيب الذات يا محمود
بل تحيا وجوداً في بذور وجود
يا درويشنا الغاوي محبتنا
اذهب في تجولنا وراء بحيرة الأعلى
تشهب في تحولنا من المادي للروحي
يعرف احمد العربي
ان هواك يا محمود
باق كالمجرة في تذبذبها
وباق صوتك الأممي يا محمود
باق انت في اقصى خلايانا
كأن الصوت يعزف وردة الأكوان.

علي الشرقاوي
(شاعر بحريني)

حزننا اليوم ليس عادياً يا درويش
اعذرني يا درويش
وسط كل هذا الزحام، لم أجد كلمة واحدة شاغرة لأكتب عن رحيلك...
الآن، الآن فقط، الان نستطيع أن نقول بصوت عال وبلا حرج، انك شاعر كبير، وأن الشعر في وطنك أكبر من الوطن في شعرك، فتبتسم راضياً وتستعد لكتابة قصيدة أخرى.
الآن نستطيع أن نبوح بلا حرج أيضاً، اننا كنا نغار منك، وأنك من علمتنا خلسة أناقة الكلام عن حياة متشبثة بأسمالها، وانك الوحيد، الوحيد فعلاً، الذي نحفظ أشعاره ونرددها بلا قصد حين تحين فجأة أسبابها.
في هذه اللحظة بالذات، هذه اللحظة الوحيدة، الميتة، نتمنى أن لا نكون شعراء لكي لا نواجه عجز الكلمات عن مواجهة ألم الكلمات، الكلمات التي تفقد شاعرها.
لكي لا نعرف من القلب سوى جهة الشمال فنتجه الى الجنوب مثلاً ـ ولو كان "قصياً عصياً علينا ـ بلا قلب يتفتت حباً وحزناً....
لكي لا نكتشف ان تكرارالحزن، لا يغير طعمه ولا لونه ولا وهجه الأول.
هل تدرك الآن يا درويش، معنى أن يكون هناك شاعر كبير، في هذه البقعة من الأرض التي يتضاءل فيها كل شيء حتى الجغرافيا، هل ندرك نحن؟
هل تدرك الآن، أن فلسطين لم تصبح مجرد خبر عاجل في نشرات الأخبار وتاريخ قديم كما لم تكن انت يوماً مجرد اسم، وأننا كنا نحدق اليك طوال هذا الوقت وأنت تمر؟
هل تدرك الآن يا درويش من تكون، لتقول لنا كل ما قلته لنا؟ هل تدرك أن الآن، الآن بالذات خيبت ظن العدم.
كلما حلمنا بشيء جميل سنتذكرك يا درويش مرددين معك: هذا هو النسيان، ان نتذكر الماضي ولا تتذكر الغد في الحكاية...

لميس سعيدي
(شاعرة جزائرية)

رحل وترك الحصان وحيداً
فهل يلاقي ريتا؟
مطرٌ ناعم في خريف بعيد، والعصافير زرقاء.... زرقاء، والأرض عيد لا تقولي أنا غيمة في المطار، فأنا لا أريد من بلادي التي سقطت من زجاج القطار.
غير منديل أمي وأسباب موت جديد.
توقف قلب محمود درويش بعد العملية الثالثة التي لم تتمكن من شفاء "الواهي الذي ثكل الشباب" منذ سنة 1948 فكان يوم موته الأول وتجدد الموت سنة 1967 في النكسة و1970 في الأردن و1976 في تل الزعتر وسنة 1982 في حصار بيروت، فتجربة الموت ليست غريبة على محمود الباحث أبداً عن أسباب موت جديد، بين كل محطة ومحطة كان يحمل أشلاء قلبه ليضرب بها على ضمائر نائمة، يزرع فيها أشجار الزيتون لتعود "عصافير بلا أجنحة" "لتموت في الجليل".
لم يكن تأثير شعر محمود درويش مسألة عابرة على جيلنا، بل كان صوتاً مدوياً خلق صدى لا يزال يتردد في وجداننا حتى أصبحت فلسطين الساكنة أبداً وراء كل حرف من شعره، وأن لم يذكرها جهاراً الا في النوادر، اصبحت هذه الفلسطين اسمها هيفا وريتا شجرة الزيتون والأغنية والحصان الوحيد، مسكن العصافير وموئل الفراشات.
في كلمات محمود درويش بعد أعمق من فراغ تعابير الانتقام العزة والكرامة والفروسية والبطولة بعد يسكنه العشق والأمل وأزهار الياسمين والحنين، بعد يجعل من حب الوطن قضية أصلب وأبقى من عشق الموت المجرد.
برحيل محمود درويش فقد الأدب العالمي والشعر العربي أحد كبار رجالاته وتفقد فلسطين عاشقاً من عشاقها انكسر قلبه قبل أن تضمه ذراعاها.

مصطفى علوش
(نائب لبناني)

شاعر الموقف والقضية والكلمة
الأخوة الكتاب
والصحفيون الفلسطينيون الأعزاء
بألم كبير، وحزن عميق، تلقينا رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، شاعر الموقف والقضية والكلمة وذلك في احد مشافي الولايات المتحدة الاميركية، اثر عملية جراحية اجريت لقلبه، بعد ان كرس كل حياته من اجل خدمة شعبه، وحلمه، من خلال منظور.. انساني عال..
..أيها الأعزاء
لقد كنا، ولا نزال، نعد الشاعر درويش صديقاً لقضيتنا الكردية، ولشعبنا الكردي، ولا سيما انه من الأوائل من المثقفين العرب الذين كتبوا عن القضية الكردية، من خلال قصيدته الشهيرة والمؤثرة "معكم" التي طالما اعتززنا بها ككرد، واعتبرناها احدى العلامات المهمة في الصداقة بين شعبنا، والتي ظللنا نحتكم اليها طويلاً، وان وجدنا في ما بعد للأسف ـ ونتيجة لظروف معينة، غياب هذه القصيدة، من الطبعات التالية لمجموعته اوراق الزيتون، وفي نسخ اعماله الكاملة، نتيجة السياسات الشوفينية المتحكمة بالنشر، وان كان شاعرنا قد طلب في ثمانينيات القرن الماضي، من بعض الطلبة الكرد في دمشق نسخة من قصيدته نفسها ليلقيها ضمن امسية له، عربوناً عن وفائه وحبه للكرد، وعلى استمرار تبنيه للقصيدة، وهو ما فعله قبل سنوات قليلة، في دمشق، حين القى رائعته ليس للكردي الا الريح التي اهداها لصديقه الشاعر الكردي سليم بركات، ضمن فعالية مهمة به وبجمهوره الاستثنائي دوماً..
أيها الأعزاء
نكرر تعازينا الحارة لكم، ومن خلالكم جميعاً الى كافة ابناء الشعب الفلسطيني، آملين ان نواصل معاً تلك الروح من الصداقة المتميزة التي كانت بين شعبينا، والتي بلغت اوجها كما يخيل لنا الآن هنا، في سنوات السبعينيات والثمانينيات على نحو خاص، ما دامت وشائح كثيرة منذ صلاح الدين وحتى اللحظة تربط بين شعبينا، ولنكن معنيين معا لرد الاعتبار لتلك العلاقات، بعيداً عن ثقافة روح الاستعلاء المشينة التي أريد لها ان تحل بديلاً عن ثقافة الود واحترام الآخر والاعتراف بحقه، كما حقوق الذات...
طوبى لروح فقيد الكلمة والشعر والابداع والموقف الراسخ في ضمير محبيه وأهله في العالم اجمع رسوخ جبال الجليل ونابلس والقدس والخليل، الشاعر الكبير محمود درويش
لراحلكم الكبير الخلود والنصر لقضايا الشعوب العادلة دوماً.

(رابطة الكتاب
والصحفيين الكرد في سوريا)

محمود درويش شاعر حيّ
في جسد قصيدة الموت
وحدها الكلمات تعيش في لظى قصائده واشعاره التي كانت تصنع ثقافة الحرية والوطن، وتكسر فعل المنفى والمنافي الكثيرة من حولنا.
رحل شاعر فلسطين عن المكان، في انتصار للموت المفاجئ، ونصر أبدي للشعر، لكن بقيت الروح وظلال الشعر حية، في زمن لايعرف تاريخا ولا نهايات، وفي عالم استطاع محمود درويش أن يكتب تاريخه الشعري فيه، ليرفع سنابلها، وليرسم صورة الوطن والقضية في أجمل التعابير واللوحات الخالدة.
لأ ن الشعر لايعرف الهزيمة ولا الرحيل الأبدي، نقول رغم مرارة الفراق والحزن الآثم بنا، إن شاعرنا العظيم رجل كان خبزه الحرف، وماءه الحبر، وحياته القصيدة.
لكم هو مؤلم أن لانجده بيننا، لكن كتاباته وأثاره وقصائده البيضاء تظل في رفقتنا وداخل قلوبنا، كأسمى تراتيل التعبير والكلام الشفاف والجريء.
سنرفع اقلامنا نحو السماء كما كان يفعلها، وسنصنع من أوراقنا حمامات للسلام والحرية، وسنكتب على الغيم حكايات محمود درويش في الشعر والقصيدة والحياة والوطن والحرية الكبيرة.

(منظمة صحافيون بلا صحف)- بيروت

محمود درويش
والكاذبون في حزنهم الأزلي
لا شك بأن رحيل عاشق من فلسطين سيترك فراغاً كبيراً في الثقافة العربية عموماً وفراغاً أكبر في منصة الشعر العربي خصوصاً، رحيل محمود درويش الذي لم يفعل أكثر من أنه جاء ليؤكد بأننا لن نقرأ بعد اليوم على أغلفة المجلات والصفحات الأولى للجرائد يافطات تشدنا إلى قصيدة جديدة لمحمود درويش أو...... هي لحظة إذاً يغادرنا فيها صاحب أحن إلى خبز أمي مدوناً صوته الأسمر على جدران الشرق والغرب كما بعراف يتقن اقتناص كيمياء المشاعر في كلمة، "الموتى متساوون أمام الموت" هكذا أراد أن يذهب إلى الذين سبقوه بعيون مليئة برونق ريتا وعطر البيلسان.
سنكون كاذبين أمام أنفسنا على أقل تقدير إذا ادعينا حزنا أزليا فمن المعتاد أن نرى طوابير المثقفين ينشرون مقالات تقطر حزنا وألما على الراحل مرفقة بصور تغرق الكون بالابتسامات، فلا أستغرب في الغد أن يكون هناك الكثيرون ممن يتأبطون كتبا له تحمل توقيعه الثوري وآخرون سعداء بأنهم لم يفوتوا فرصة محمودة في أخذ صورة تاريخية معه ـ هؤلاء أغلبهم شعراؤنا وأدباؤنا ـ وهم يقفون إلى جانبه كتماثيل بلهاء وسيتدروشون ويتنزهون ويتعففون بدموع كاذبة على طاولات المقاهي وبين عائلاتهم وأقاربهم معلنين حزنهم الأزلي آنف الذكر على صديق عمرهم الراحل. في مرثية أخرى كما أفصح هو ذاته يسقط حصان جسده المثقل بالسفر عن روحه هذه المرة كما لو أنها قصيدة.
"أطوع روحي على هيئة القدمين ـ على هيئة الجنتين أحك جروحي بأطراف صمتك والعاصفة أموت، ليجلس فوق يديك الكلام".
يرحل عنا درويش تاركاً الكثير من الإنجازات على مستوى القصيدة العربية وأشياء أخرى لم نفهمها في حياته الشعرية وبهذا المعنى يستدرجنا كل مرة إلى أن نعترف له في دخيلة أنفسنا أن الموت لم يدركه بعد فكأن كل قصيدة لمحمود درويش تعلن بحد ذاتها ثورة على القراءة و الفهم معاً
وفي الكفة الأخرى يزاحم درويش كل هذه العناصر التي تقلق فينا الوجود ويتضافر معها ليسرب إلينا نحن قلق إنسان يعيش اللاوجود السرمدي بكامل إحالاته. يوقظ فينا محمود درويش كما لم ينطفئ أبدا ذاكرة المكان المنهوب حتى أثر الفراشات المعاشة بقوة حضور هذا المكان في الزمن النفسي المعاش.
هذا المكان ـ الوطن ـ الذي لطالما ظل الترنيمة التي تتردد حتى في أقاصي الحلم ليظل هذا الحلم الحقيقة الأولى والأخيرة لرجل لا يعتذر إلا لأمه.
يغادر صاحب سرير الغريبة مدينة الدخان المؤلمة ـ ولا صفصاف في نيويورك ـ كما غادرها أول مرة لكن على سرير مزدان بالغربة والوحشة.
اليوم يأتي نبأ رحيله كخبر طارئ كجميع ميتاته الأخرى التي كان يعلنها هو نفسه وبهذا المعنى يأتي عاشق فلسطين ليقلب طاولة الموت ويصوغ للموت حياة أخرى خارج زمن الإستقرار وكأنه على الموت أن يعيش في قلق دائم.
أتكفي أصابعنا أو تقوى أن تهدهد هذا الأسمر العاشق أبدا، أندري تماما ما يجب أن نغنيه حتى يهدأ قليلا وهو العارف تماما كيف ينام الصفصاف
"أنا وحبيبي صوتان في شفة واحدة
أنا لحبيبي أنا. وحبيبي لنجمته الشارده
وندخل في الحلم ـ لكنه يتباطأ كي لا نراه
وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس الحلم مما يراه
وأطرد عنه الليالي التي عبرت قبل أن نلتقي
وأختار أيامنا بيدي
كما أختار لي وردة المائدة
فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتي
ونم يا حبيبي لأهبط فيك وأنقذ حلمك من شوكة حاسده
ونم يا حبيبي
عليك ضفائر شعري، عليك السلام"
طوبى للموت هذا الكائن الخرافي الذي يخطف في كل مرة أحد قاماتنا الإبداعية أو أحد أحبتنا و نصبح نحن أكثر مواجهة أمام حقيقة وجودنا في هذا الكون ويحرم على الآدميين نعمة العيش بسعادة على هذه الأرض فهو منتشر عبر دياميس الحياة وقمصان الزمن ونحتاج حينها جسارة أقوى من أجل أن نستمتع في المشي على طريق البيت.

دلدار فلمز
(شاعر وفنان كردي)

محمود درويش
قصيدة الحياة الخالدة
هكذا كنت أيها الشاعر المحلق في فضاءات الكلمة. حرّا كطائر النار، تسطّر بالحبر الفلسطيني حكاية انسان يبحث عن الهوية الممزقة، والوطن المنفي من منفى إلى منفى، ومن قصيدة إلى قصيدة، حلمك كان أكبر من كل الأوطان، لغتك المصلوبة على أعواد الزمن الضبابي، أنصفتك شاعرا بملايين الأجنحة البيضاء، فكان وطنك الأول والنهائي القصيدة والشعر المسافر بدون جواز سفر.
لم تكن تخشى من صرخة موت مفاجئ، أحصنتك تسابق ريح الحياة الفانية، أوراقك المدججة بالحروف المتلاطمة ظلال يرتمي في أحضانها كل منفي عن وطنه، كل مغرّب، وكل حمامة تبحث عن سلامها وغصن زيتونة.
لمن تركت من ورائك الخبز والأحصنة وبيروت ودمشق والقدس، وصديقك الكردي حين نصحته أن يسكن الريح. الروح لاتعرف سفرا، ولا غياب، جسدك سيكون قصيدة للتراب، لأرض فلسطين التي ستأخذك في حياة أبدية، لقد كانت آخر قصيدة لك، ومعك دافئة كما النار في عينيك، قصيدتك الأخيرة كان جنون موت من دون وداع، ولعبة لا تعاد، وسرمدية ما بين الأرض والسماء.
إرحل... لا لم ترحل
فصوتك يسكن الغيم الملون
إنّا عائدون
إلى يافا وحيفا
القدس
عروستك فلسطين
لنردد معك في فجرنا الباكي :
هنا، لا أَنا
هنا، يتذكَّرُ آدَمُ صَلْصَالَهُ...
يقولُ علي حافَّة الموت
لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ
حُرٌّ أَنا قرب حريتي. وغدي في يدي
سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي،
وأولَدُ حُرّاً بلا أَبَوَيْن،
وأختارُ لاسمي حروفاً من اللازوردْ

لم تمت ولم تغب عنا ، لأن الشعراء لايموتون، لأننا منفيون حتى عن الموت، شكرا لأنك حفرت منحوتتك من نار الخلود في ذاكرتنا وقلوبنا التي غنتك بنشوة الأصدقاء، شكرا لآهات الشعر وحقائبك المليئة بالأوطان والقصائد وأناشيد السلام ، شكرا لأنك جعلت من نفسك فراشة تحترق في لظى الكتابة، وأضأت العتمة في ليالينا الحزينة، سنقرع أجراس القيامة، وسنكتب اسمك وشعرك وكل عويلك الانساني على فجر أوطاننا التي تبكيك ، كنت حرّا في شعرك وستبقى حرّا في حياتك الجديدة.

ولحين اللقاء لك ألف قصيدة وألف اهزوجة حرية.
جهاد صالح
(صحافي وشاعر كردي منفي)

"قل للغياب نقصتني..
وأنا حضرت لأكملك"

ها قد اكتمل الغياب، ومنذ اكتماله وأنا أحاول أن افجر حزني وألمي وغضبي ويأسي وأسفي على ورق، فلم تسعفني الكلمات، واستعصت الحروف... فهل تراك أخذتها معك؟ وهل أستميحك عذراً ببعض الحروف وبعض الكلام الحزين؟
لا لأرثيك ـ معاذ الله ـ فنحن أولى بالرثاء... ثم انه أمر غير منطقي حتماً، فكيف نرثيك ونحن برحيلك موتى... وأنت آخر الأحياء؟
ولا لإدانة الموت الذي حصدنا دفعة واحدة دون شفقة
ولا لأصف جرحنا الكبير أو
تنفع الكلمات "في وصف حالتنا"؟
وكل الكلام سخيف بموتك، وكل الحزن قليل عليك
ولكني سأكتب كي أصدق انك لم تعد بيننا، أكتب كي اصدق موتنا
موتنا الجماعي... كي أصدق رحيلك النهائي السريع
فقد كان رحيلك سريعا ومفاجئا ومباغتا
كانطفاء شمس في عز الظهيرة... كاصطدام كوكب، أو انفتاق سماء
لم يمهلنا كي نقول على غير عادة العاشقين "شكرا"
كي نودعك كما يليق بك "وكما يليق بشاعر متمرس"
كنا تجرعنا غيابك المر رويدا رويدا لا دفعة واحدة
ترى.. كيف أقنعك الموت هذه المرة؟ ماذا قال لك كي تطيعه وتسير نحوه وتواعده؟ كيف لم تعانده كي ترثي الختام مرة أخرى؟ كنا نتمنى أن تفاوضه قليلاً، وتراوغه قليلاً. كنا رجوناه أن يتركك قليلاً بيننا علنا نكتب معاً سِفر انتصار مكتمل
كنا رجوناه بدم العين ودمع القلب أن يتركك قليلاً بيننا كي نظل على قيد الحياة، وكي نظل على قيد الأمل
كان الخيار قاتلاً بين أن تموت أو تُشل... فاخترت الموت بكل كبرياء يا حبيبنا
وتركتنا فوق أرض الذهول نعاني الشلل...
كل شيء بعدك قاس وباهت وطاعن بالحزن والأسى، وأقسى ما أتصوره الآن غيابك، فغيابك هذه المرة ثقيل ثقيل ثقيل، ترى كيف يمكننا الحياة في حياة لست فيها؟ في حياة كل ما فيها صالح للمراثي:
سماءٌ كئيبةُ، وقمرٌ كسر استدارته فأصبح مستطيلا
لغةٌ حزمت حقائبها واقتفت طريقك السري نحو الله
وقضيةٌ تبكيك... تسأل "إلى من تكلني"؟
وأسوار تنادي من سيكسر عزلتي؟
أي صوت من بعدك سيسجل عروبته بحبر الدم، ومن ننصب بعدك "مندوب جرح لا يساوم"؟ من؟ من يؤكد بيقين الأنبياء بأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
"حبيبي يا حبيبي يا حبيبي... أتعلم أن موتك مستحيل"
ولكنك باق فينا، في أرضنا، في خبزنا، في ملحنا، في يومنا، في زيتوننا في كل شيء، وستبقى فينا "كنخلة في البال ما انكسرت لعاصفة وحطاب"
"فسلامٌ عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث من ظلام القبر حيا"
والوداع يا حبيبنا
وداعا يا آخر الأحياء
وداعا يا فارس الكلمات
وداعا يا مربي الأمل
علمتنا كيف يكون الإنسان مشاعاً
والحرية مشاعاً
والقلب مشاعاً
والنبض مشاعاً
يا من علمتنا كيف يكون الحب
وكيف يكون الانتماء
وكيف يكون الوفاء،
وكيف تموت الرجال
هو المنجل مذ كان يغار دوما من شموخ السنبلة
وأنت كسنبلةٍ أحيت الأرض الجديبة
"وأنت سيد روحنا
يا سيد الكينونة المتحولة"
وداعاً يا فارس الآمال
وفارس الثورات المقبلة
تعرف أنت مكانك
تفتح الجنات المقفلة
لا تسمع "فيها لغوا ولا كذابا"
لا تسمع فيها سوى البسملة
اعذرني سيدي
إن تحشرجت أبياتي
وتلعثمت لغتي
فما ترك رحيلك فينا
إلا "الزلزلة".

نسرين أبو خاص
(كاتبة أردنية)

محمود درويش..
بوصلة فلسطين باقية
توقف قلب الشاعر العربي الكبير محمود درويش في الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم السبت التاسع من آب 2008، ترجل الفارس الشاعر بعد 67 عاماً من حياة دأب ينتقل فيها من قمة الى أخرى أعلى منها، دون كلل أو ملل. كان انساناً جميلاً، قبل أن يكون شاعر المقاومة بامتياز، يرى ما لا نراه، في الحياة والسياسة وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة وكأنها وجدت ليكتبها. وحين قرر أن يخوض غمار هذه العملية الجراحية الأخيرة اعتقدنا انه سيهزم الموت، كما هزمه في مرات سابقة، لكنه، بعينه الثاقبة، رأى على ما يبدو شبحه "قادماً من بعيد". أراد ان يفاجئ الموت بدلا من ان يفاجئه الأخير بانفجار "القنبلة الموقوتة" التي كانت عبارة عن شريانه المعطوب. كان مستعداً كعادته، وترك الأجيال القادمة ليصنعوا حلمه الآتي لا محال.
في عام 1940 ولد الشاعر الراحل في قرية البروة في قضاء مدينة عكا في الساحل الفلسطيني الجميل الذي احبه محمود وطالب الغزاة الجدد بالرحيل عنه. حين كان في السادسة من عمره، احتل الجيش الاسرائيلي البروة والتحقت عائلة درويش بخروج اللاجئين الفلسطينيين الذين تقدر الأمم المتحدة عددهم ما بين 72600 ـ 90000، قضت العائلة عاماً في لبنان تعيش على عطايا الأمم المتحدة، بعد خلق اسرائيل والحرب الاسرائيلية العربية لسنة 1948، عادت العائلة "بشكل غير شرعي" سنة 1949، لكنها وجدت البروة، مثلها مثل 400 قرية فلسطينية اخرى في الأقل، قد دمرت افرغت من سكانها العرب، بنيت مستوطنات اسرائيلية على انقاضها، يقول درويش "عشنا مرة اخرى كلاجئين، وهذه المرة في بلدنا، كانت تلك خبرة جماعية، ولن انسى ابداً هذا الجرح" محمود درويش هو ثاني أكبر أربعة أخوة وثلاث أخوات، فقدت العائلة كل شيء، قلص والده سليم الى مجرد عامل زراعي: "اختار جدي العيش فوق تلة تطل على أرضه، والى أن توفي، ظل يراقب المهاجرين (اليهود) من اليمين يعيشون في أرضه التي لم يكن قادراً على زيارتها".
ولأنهم كانوا غائبين أثناء أول إحصاء اسرائيلي للعرب، ولأنهم اعتبروا "متسللين" غير شرعيين و"غرباء ـ حاضرين"، منعت على أفراد العائلة الجنسية الاسرائيلية، تقدموا بطلبات لبطاقات هوية ولكن جواز السفر حجب عن محمود، "كنت مقيماً وليس مواطناً، ارتحلت ببطاقة سفر"، في مطار باريس سنة 1968 يقول: "لم يفهموا، أنا عربي، جنسيتي غير محددة. أحمل وثيقة سفر اسرائيلية، ولذا رجعت". كانت أمه، حورية لا تحسن القراءة والكتابة، غير أن جده علمه القراءة، "حلمت أن أكون شاعراً".
حين بلغ السابعة من عمره، كان درويش يكتب الشعر، عمل في حيفا صحافياً. وفي سنة 1961 التحق بالحزب الشيوعي الاسرائيلي "راكاح"، حيث اختلط العرب واليهود، وعمل فيه محرراً لصحيفته، خضع الفلسطينيون في اسرائيل لقانون الطوارئ العسكري الى سنة 1966، واحتاجوا تصاريح للسفر داخل البلد، بين سنة 1961 وسنة 1969، سجن لعدة مرات، بتهمة مغادرته حيفا دون تصريح.
حقق له ديواناه "أوراق الزيتون" (1964)، و"عاشق من فلسطين" (1966)، شهرته شاعر مقاومة، عندما كان في الثانية والعشرين من العمر، أصبحت قصيدة "بطاقة هوية" التي يخاطب فيها شرطياً اسرائيلياً سجل، أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألف"، صرخة تحد جماعية، أردت الى اعتقاله في مكان إقامته سنة 1967 عندما أصبحت أغنية احتجاج، وقصيدة "أمي" التي تتحدث عن حنين ابن سجين الى خبز أمه وقهوة أبيه، "كانت اعترافاً بسيطاً لشاعر يكتب عن حبه لأمه، لكنها أصبحت أغنية جماعية، عملي كله شبيه بهذا، أنا لا أقرر تمثيل أي شيء إلا ذاتي، غير أن تلك الذات مليئة بالذاكرة الجماعية". وحسب سعيد، عرفت قصائد درويش الكفاحية المبكرة الوجود الفلسطيني، معيدة التأكيد على الهوية بعد شتات 1948، كان الأول في موجة من الشعراء الذين كتبوا داخل اسرائيل عندما كانت غولدا مائير تصر قائلة "لا يوجد فلسطينيون" وتزامن ظهور شعر درويش الغنائي مع ولادة الحركة الفلسطينية بعد الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة سنة 1967، ورغم ذلك، نفر دائماً أن يمدح من منطلق التضامن، يستذكر زكريا محمد الذي كان طالباً في الضفة الغربية في نهاية الستينات من القرن الماضي، "كتب مقالة يقول فيها: "نريد منكم الحكم علينا كشعراء، وليس كشعراء مقاومة".
رحل الشاعر العربي الكبير وترك ذخيرة كبيرة من أعماله الشعرية تنم عن حضارة شعبه الذي أحب وحتمية الانتصار بعد كفاح في سبيل الحرية والاستقلال والعودة.

نبيل محمود السهلي

المستقبل
الاربعاء 13 آب 2008 - العدد 3046 - ثقافة و فنون - صفحة 20

يتبع