|
والدة محمود درويش، حورية، تبكي خلال تشييعه في رام الله أمس (أ ب) |
|
|
حرس شرف فلسطينيون يحملون نعش محمود درويش قبيل دفنه في رام الله أمس (إب أ) |
هي أيضا »استعارة« أخرى. فالشاعر الذي بدا كأنه جعل من »استعارات« الكلام »بديلا« من وطنه الحلم، والذي جعل من هذا الوطن، استعارة عن الشرط الإنساني بأسره، كأنه يستعير اليوم »قبرا« ليس له، بالأحرى، مكانا لم يكن يرغب فيه. فالمكان الأول هو الذي أرقه لغاية لحظاته الأخيرة. ظلت القدس بعيدة، فمحمود درويش لم يدفن في عاصمته أو على الأقل في مسقط رأسه البروة، بل على تلة رملية في رام الله تطل على ضواحي القدس.
وإن كان ثمة عزاء ما في ذلك، فهو أنه يرقد اليوم بالقرب من قصر الثقافة، المكان الذي أقام فيه آخر أمسياته الشعرية، (التي عرضها أمس مسرح المدينة في بيروت، كتحية للشاعر الراحل).
هذا الشعر هو الذي صنع جمهورية مستقلة، قوامها ملايين من العرب والفلسطينيين الذين لم ينسوا شاعرهم الأكبر والأحب في العصر الحديث، فتوافدوا، في جهات الأرض الأربع، لتقديم التحية الأخيرة، لشاعر سيسكن الوجدان حتى »المساء الأخير على هذه الأرض«. هي أيضا تحية أخيرة قام بها عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذي رافقوا موكب
الجنازة ـ حيث وضع الشاعر الراحل على عربة عسكرية ـ سيرا على الأقدام من مقر الرئاسة الفلسطينية، حيث هبطت الطائرة الأردنية التي أقلت جثمان درويش، من عمان، وصولا إلى مثواه الأخير، لتتحول المسيرة إلى جنازة وطنية كبيرة وصفتها وسائل الإعلام بأنها الأكبر منذ رحيل الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، حيث شارك فيها رجال وشيوخ وأطفال من القدس كما من بقية أرجاء الضفة الغربية وحتى من الجولان المحتل، حيث رفعوا العلم السوري ولافتة كتب عليها »ثكلت فلسطين السليبة ملهما بين النوابغ ذروة شماء«.
لكن العدد الأكبر من المشيعين جاءوا من خارج أراضي الضفة الغربية وتوجهوا من قرية الجديدة التي تعيش فيها عائلة الشاعر. ولوحظ وجود مجموعة من الشبان ترتدي قمصانا بيضاء حملت صور درويش، كتب عليها احد أبياته الشعرية »لو أننا على حجر ذبحنا.. لن نقول نعم«.
وقد علقت المئات من صور الشاعر الراحل على جانبي الطريق وكتب عليها »على هذه الأرض ما يستحق الحياة« كما علقت لافتة ضخمة على إحدى جهات القبر تحمل صورة درويش ومقاطع »في حضرة الغائب« التي يقول كتاب وأدباء أن عنوانها أشبه برثاء لنفسه. كذلك زرعت ثلاث أشجار نخيل على أطراف القبر وعشرات من أشجار الليمون. وقال عاملون في وزارة الأشغال العامة، لوكالة فرانس برس، بأنه سيتم إحضار كميات من تراب بلدة البروة مكان ولادة الشاعر الراحل لوضعها على القبر الذي نقش على شاهده »على هذه الأرض، سيدة الأرض، ما يستحق الحياة«. وقد بكى المشيعون عند سماعهم تسجيلا لصوته في أمسيته الشعرية الأخيرة التي أحياها قبل أقل من شهر. وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة عقب دفن الجثمان احتراما وتقديرا للشاعر.
وكان جثمان درويش قد وصل من اميركا إلى عمّان على متن طائرة إماراتية، أرسلها الرئيس الإماراتي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حيث أقيمت له مراسم وداع قصيرة في مطار ماركا العسكري شرق عمان. وقد حضر المراسم في العاصمة الأردنية الأمير علي بن الحسين ممثل ملك الأردن ووزيرة الثقافة الأردنية نانسي باكير، التي قالت »إنها من أصعب اللحظات في حياتي أن امثل الأردن في جنازة محمود درويش احد أهم رموز النضال الفلسطيني«.
كما حضر المراسم رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون والنائب العربي في الكنيست احمد الطيبي وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه. وقال فياض »هناك زاوية لمحمود درويش في قلب كل فلسطيني وعربي«. من جهته، أكد عبد ربه أن محمود درويش »سيبقى دائما في القلب«. وغنى الموسيقي اللبناني مارسيل خليفة أغنية »امي« التي كتبها درويش بينما كان الحضور يبكي.
من ثم نقل جثمان درويش إلى رام الله، مقر السلطة الفلسطينية، حيث أدت ثلة من حرس الشرف التحية أمام النعش الذي لف بالعلم الفلسطيني وحمله ثمانية ضباط. وبعد ذلك، وضع الجثمان في قاعة تواجد فيها كلّ من الرئيس الفلسطيني محمود عباس وصديق الراحل، الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وشقيق الراحل، الكاتب أحمد درويش.
وقد وجد الرئيس الفلسطيني أن الشاعر الراحل كان يجسد تطلعات شعبه إلى الاستقلال ويروي آلامه التي ولدها النزوح والاحتلال. وقال عباس »اليوم نودع نجما أحببناه إلى درجة العشق«، مؤكدا أن »التاسع من آب (يوم وفاة درويش) يوم فارق في تاريخ الثقافة الفلسطينية والإنسانية عندما ترجل ذاك الفارس العنيد عن صهوة الشعر والأدب ليترك فينا شمسا لا تغيب ونهرا لا ينضب«.
وأضاف أن محمود درويش »أوفى عطاء بسخاء وزاد فينا طموحا بالمزيد لهذا لا نصدق انه رحل. وعندما نوقن بالقدر ونستسلم للقضاء الذي لا بد منه وليس لنا فيه من مفر تزداد فاجعتنا ألما واسى وحسرة«. وأكد عباس »ستظل معنا يا محمود لأنك تركت لنا ما يجعلنا نقول لك إلى اللقاء وليس الوداع«.
من جانبه، قال الشاعر سميح القاسم، الذي وصف درويش بـ»أخي الذي لم تلده أمي«، انه »ما يدري جثمان في أي أرض يدفن« على خلفية عدم دفنه في مسقط رأسه في قرية البروة الجليلية المهجرة. وأضاف ان »المستوطنين (الإسرائيليين) يصرّون على تحويل مقبرة آبائك وأجدادك (في البروة) إلى حظيرة مواشي لمواشيهم المستوردة مثل تاريخهم«.
وانتقد القاسم بشدة، الصراع الفلسطيني الداخلي، بين حركتي فتح وحماس، وقال إن »شهيد الغربة الشاعر معين بسيسو المدفون في غزة لا يستطيع عبور خط النار إلى رام الله كما لا تستطيع أنت عبور خط النار إلى غزة والقدس قريبة بعيدة وغزة قريبة بعيدة... وإذا كانت غزة بفعل هؤلاء غير قادرة على الحلول في رام الله، ورام الله غير قادرة على التجسد في غزة، فمن أين لنا يا محمود أن تتجلى فلسطيني في فلسطين؟«.
وألمح أحمد درويش، شقيق الشاعر الراحل، إلى دفن شقيقه في رام الله وليس في الجليل. فقال بعدما انفجر باكيا »ها قد عاد إلى ثراكم، عاد أخوكم وصديقكم وزميلكم ورفيق دربكم إلى هذا المكان الرمز، عاد إليكم لغة وفكرا ونهجا وترابا«. لكنه أضاف »من أحق منكم وفاءً لهذه الأمانة، ومن أحق من هذا المكان القريب من القدس، وجار مثوى القائد الرمز المرحوم ياسر عرفات«.
وكان لافتا ان عددا كبيرا من المشيعين أبدوا تململهم وتذمرهم من شكل التشييع، وبخاصة إثر منع الغالبية منهم من الدخول إلى المقاطعة والسماح فقط للقيادة الفلسطينية وشخصيات عامة من عرب ٤٨ ودبلوماسيين عرب وأجانب، برز بينهم رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان.
وصرخت شابة فلسطينية في وجه ضابط شرطة عند مدخل المقاطعة محتجة على عدم السماح لها بالدخول قائلة إن »محمود درويش لم يكتب شعره ولم يقرأ قصائده لأولئك الذين في الداخل، فغالبية من قراء محمود درويش يتواجدون خارج المقاطعة وهم أحق بإلقاء نظرة وداع عليه قبل تشييعه«. وأضافت في غضب شديد »محمود درويش لم يكن شاعر بلاط«.
فلسطين ودعت أمس شاعرها. هي بالتأكيد الثقافة الإنسانية بأسرها التي تفتقد برحيل درويش ركنا بارزا من أركانها، فالحشود التي رافقت الشاعر إلى مكانه الأخير، بدت وكأنها تستعد لهذا »المساء الأخير على الأرض«.
السفير
14-8-2008
***
محمود درويش: آن لي أن أعود!
هاتف الوداع:
سأهزم الموت بالموت!
قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك... لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى...
نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك
ـ أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا... لكنها معركتي!
قلت: هذه معركة غير متكافئة.
ـ أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف انك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه.
ـ ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه...
قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا.
انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى... ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا اكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني احد القلائل الذين يعرفونه حقا.
ـ بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش... لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك!
قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف
ـ انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا
ـ ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت.
ـ كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي يقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل.
وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لانه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره...
(ذكريات شخصية من زمن محمود درويش)
طلال سلمان
ودّع أصدقاءه ولم يعتذر
شاعر الأوذيسّة الفلسطينية
هذه المرة لن يكتب محمود درويش جدارية أخرى. لن يخدع الموت الذي طالما خرج منه ناجياً من عاشق مثله في الوقت الضائع وما بعد الحياة، يدرك ان الموت خصه كما خصته الحياة. لم يخطفه. ضرب له موعداً عرفه وسار إليه بقدميه. لم تكن تجربة درويش مع الموت سوى صورة موازية للصراع. إذا كان شعر درويش هو شعر الخيار الوحيد فإن الموت على سن هذا الخيار. لطـالما غنى درويش شهداء القضايا الخاسرة، والأرجح انه كــان يعــرف ان في سيره إلى موته ذروة في هذا الغناء، انها القصــيدة غير المكتوبة التي أتمها بجسده. ســيكون جســده عندها موازياً للمكان، سيــكون موته لحظة في هــذا الوعــي الشقي.. حيــن حانت الساعة، ســار درويش إلى موعـده أنيـقاً ومستـويا. ودع أصــدقاءه ولم يعـتذر.
لم يكن غناء درويش في ما بعد بطولياً انتصارياً جريئاً. لقد تحرر من القصيدة الوطنية داخـل القصــيدة الوطنية، وصارع الجمهور داخل الجمــهور. انــها سلطــة على الجمهور طمح معها درويش إلى إعــادة تربيــته وتأهــيله: لكنها موهبة كبيرة جعـلت درويش في آن واحـد شاعراً شعبياً وطليعياً، نجماً ونخبوياً. درويش كـان يتــحرر ويحرر في آن معـاً. لقـد تخلص في العـلن من رواسب، وكان يمكن لتجربة علنية كـهذه ان تمتد وأن تغدو مثلاً. ليســت المسألة في الشـكل فـقط، انها مسألة رؤيا. فالــشاعر الفلسطيني وجـد نفـسه مغنـي الأوذيســة الفلســطينية وشــهداء القضية الخاسرة. لقــد تحــول إلى شــاعر مرات، وغــدا شــعره مع الوقـت مرثية كبرى.
امتلك محمود درويش غير الشعر ذكاء نادراً وعقلاً تحليلياً وفكاهة. لم يهتم لكتابة الشعر فحسب، بل بصورة الشاعر أيضاً. لم يطور شعره فحسب، لكنه بنى استقلاله ووعيه النقدي. ومع الوقت كان يزداد نضجاً وإصغاء. لقد انقصف في ربيعه. دعك من العمر. انقصف في ربيعه وهو الآن أفتى منه في بعض شبابه.
عباس بيضون
إلى أين تأخذني يا أبي
كتب محمود درويش:
... آية الكرسي، والمفتاح لي. والباب والحراس والأجراس لي.
... لي ما كان لي. وقصاصة الورق التي انتزعت من الإنجيل لي، والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي..
واسمي، إن أخطأت لفظ اسمي، بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميم / المتيم والميتم والمُتَمم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم / المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو / الوداع، الوردة الوسطى
ولاء الولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة، دارة درست، ودوري يدللني ويدميني
وهذا الإسم لي... ولأصدقائي، أينما كانوا،
ولي جسدي المؤقت حاضراً أم غائباً...
متران من هذا التراب سيكفيان الآن... لي متر و٧٥ سنتيمتراً... والباقي لزهر فوضوي اللون، يشربني على مهل.
ولي ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي، غدي البعيد، وعودة الروح الشريد كأن شيئا لم يكن...
... أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل ـ فلست لي. أنا لست لي أنا لست لي... (جدارية ١٩٩٩)
* * *
سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أُوتها إلا في المطالع
وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع...
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة، في قارئ، قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.
وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...
فلأذهب إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف أسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً. (جدارية)
... يقول على حافة الموت: لم يبق بي موطئ للخسارة، حر أنا قرب حريتي وغدي في يدي... سوف أدخل، عما قليل، حياتي، وأولد حراً بلا أبوين، وأختار لإسمي حروفاً من اللازورد. (حالة حصار)
السفير
15-8-2008