عباس بيضون

ملف جريدة السفير

هذه المرة لن يكتب محمود درويش جدارية اخرى. هذه المرة لن يخدع الموت الذي خرج منه ناجياً من قبل. من عاش مثله في الوقت الضائع وما بعد الحياة يدرك ان الموت خصه كما خصته الحياة. لم يخطفه وحده. عرف ساعته وصار إليها بقدمه.

لم يكن محمود درويش يعتبر الموت عرساً كما اعتبره جلال الدين الرومي لكنه لم يكن بالنسبة له مجرد فراغ. لقد حمله في قلبه وأحشائه وتحول الى طرف في معادلته الشعرية والحياتية. اضيف الى الكلام وإلى السلوك كملح للحقيقة وعمق غير منظور. كان النزوح والموت شراعا محمود درويش والحق انه استدخلهما وجعل منهما واقعاً خاصاً. صنع منهما تلك الأوديسة الفلسطينية التي راحت مع الزمن الى اسطورة خاصة وعقدة انطولوجية. هنا المكان وهنا الزمان ومحمود درويش يبحر بين الاثنين ولا يرسو هنا او هناك.
لا بد انها عملية ترميز وتأويل استقطبت كل حياة درويش وكل مشروعه، التوسط بين الجسد والمكان، بين الرحيل والمقام وبين المملكة المفقودة والزمن الحاضر. هذه العملية هي جدل شعر محمود درويش ومدار حياته، جعل درويش من الرمز الفلسطيني ميتافيزياءه الخاصة وكما هي غالبا مهمة الشاعر، عَقْدُ الحوار بين السماء والارض، غدت السماء ارضا شخصية، انعقد الحوار بين الجسم والمكان وتم للمكان ان يغدو جسما. لنقل ان الموت الذي خرج منه الشاعر خرج منه بجسد تلتقي عنده السماء بالأرض. ربما من مخاض الموت الذي لم يكن سوى صورة موهلة مجسمة للنزوح والفقدان خرج جزء كبير من »حقيقة الشعر الدرويشي«. اذا كان درويش ضرب للموت موعداً فلأنه كان يعلم انه كان دائما قريبا ولان ما بينهما لم يعد سرقة وغصبا.
ضرب للموت موعدا لانه مذ حل في كلامه ووجد عبارة وصورة صار في الخارطة الشخصية للشاعر. اذا كان شعر محمود درويش غالبا شعر الخيار الوحيد الذي يغدو مع الوقت ميزة وأفقاً. اذا كانت مرثية الهزيمة التي تتحول الى قيمة اخلاقية، اذا كان تعريفه الضمني للشعر هو الرثاء وهو غناء المغلوبين فإن البقاء على سن الهزيمة والخيار الاجباري هو ايضا المقياس التراجيدي للحرية والنبل. والارجح ان تجربة درويش مع الموت هي الصورة البؤرية لهذا الصراع. حين حانت الساعة كان الموت على سن الرمح ولم يكن هناك خيار آخر ولا اقل فداحة وكعادته لم يعتذر محمود درويش. سار الى موعده انيقا ومستويا. ودع اصدقاءه بوجه مرفوع ومضى الى حيث يقيس ايضا نفسه.

كان محمود درويش في عز مجده حينما تأكد ان هذا المجد بحجم الالتباس الذي يولده، شاعر فلسطيني وشاعر الثورة وشاعر القضية. لم يكن الشاعر غير دار بأن فلسطين هي موضوعه الغالب. ولم يكن ليتنصل من التزام واع بقضيته، لكن ما فهمه درويش هو ان الليل يمكن ان لا يكون اسود والموضوع والمناسبة ليسا واحداً لدى جميع الشعراء او الكتّاب فهم يتمايزون فيهما ويختلفون.
لم يكن غناء درويش فيما بعد غناء حربيا بطوليا انتصارياً كما وسم الغناء الوطني، ولم يحب درويش ان يحشر في هذا الغناء العربي الحماسي، في سبيل ذلك كان الشاعر العربي الاول الذي يصارع جمهوره ويصارع موضوعه ويصارع اسمه وشهرته. يذكر الجميع عقدة »سجّل أنا عربي«. لم يخسر محمود درويش جمهوره.
كان قادراً على ان يضع في الشعر اكبر نسبة ممكنة من ذاته، ان يرد الشاعر الى طراوة وبساطة فاتنتين، على ان يقول الشخصي بلغة العام، على ان يكون نفاذا وقريبا في آن معا، على ان يبدأ من بداهة ليغربها ويخصصها ويستدخلها فيما بعد، على ان يزوّج الغناء للفكرة. على ان يقول النثر بصيغة الشعر، كل هذه ملكات تصدر عن قوة الموهبة. وحدها تقدر على ان تستدخل كل الحافظة الشعرية وحدها قادرة على لم عناصر متفارقة اساسا وادماجها في تركيبة واحدة.
قوة الموهبة جعلت من درويش يتحرر من القصيدة الوطنية داخل القصيدة الوطنية، ومن الجمهور داخل الجمهور. بل هي التي جعلت من محمود درويش في الان نفسه شاعرا شعبيا ومجددا، وان يكون نجماً ونخبوياً وأن يكتب بحرية من دون ان يخشى العزلة، وأن يورط عامة ادبية بأعمال شخصية وتأملية، وأن يحول قصيدة عن تجربة موت الى أثر رائج، الارجح ان محمود درويش امتلك من سلطته على الجمهور قدرة ان يكون حراً وأن يطمح الى تركيبة الجمهور وتأهيله، مع ذلك فإن المسألة ليست في سلطة درويش وحدها، انها في عملية ان يتحرر ويحرر في آن معا.
لقد تخلص في العلن وفي تجربة مكشوفة من رواسب لم تكن لتفسده فحسب بل وتفسد جمهوره معه. ليس النفس الحربي الانتصاري البطولي مطابقا بالضرورة لجمهور مغلوب ومرضوض ومغدور بحسب رأيه، والارجح ان ماعافه محمود درويش هو بالضبط هذا النفس الانتصاري الذي يحول الادب تقريبا الى تزوير، لم تكن هذه مسألة شكل فحسب كانت اكثر من ذلك مسألة رؤيا.
محمود درويش ليس شاعر حماسة. انه باختصار شاعر مرارة ويمكننا بسهولة ان ندرج شعره تحت عنوان الرثاء. الارجح ان موضوع درويش الاساسي كان الخسارة والفقدان وبكلمة واحدة فإن موضوعه الاساس هو الهزيمة. انها رؤيا تولدت لدى محمود درويش بالتدريج. لم ينكر درويش الصراع بالطبع لكنه قرر غالبا انه ايضا في الاسم والذاكرة والبقاء وليست الخسائر فيه سوى تراث اضافي ومخاض للمستقبل. غنى محمود درويش من سماهم وولت ويتمان شهداء القضية الخاسرة وغنى الخاسرين والمغلوبين بنبل الخسارة وتحليق التراجيديا.
لم يكن حظ درويش من الحياة واحداً. لقد وصل بسرعة وسهولة الى نجاح مطلق، وبات نجما في بلاد العرب ونجما في غير بلاد العرب. وكرس حياته كلها للشعر بدون اي تطلب اخر. لعل درويش من »النجوم« القليلة التي ليست زائفة.
صارع محمود حظه وما جاءه بسهولة اعاد ابتكاره بنفسه. لكن محمود درويش كان يملك »حضورا« يوازي شعره بذكاء لماح وعقل تحليلي وفكاهة وفتنة. لم لا محمود درويش فاتن والارجح ان طلته وصوته واداءه فتنت جمهوره ايضا، بالتأكيد كان درويش النجم يملك ذلك الوعي الشفاف الذي يجعله يفرز الثقافة من المواصفات الاجتماعية، لم يكن الشعر غايته فحسب بل وجه الشاعر وصورته وشخصيته. في ذكائه لم يكن يكره شيئا كالبلادة والسخف وهما في الغالب مصير النجوم. لقد اعاد ابتكار نفسه وسط الجمهور.
لم يطور شعره فحسب ولكن بنى استقلاله وفرديته ورؤيته الخاصة. ومع الوقت كان محمود درويش يزداد وعياً لشخصه ولشعره. مع الوقت كان يزداد نضجا ونقديه... وإصغاء وتواضعا. زالت عناصر استفزاز في شخصيته. تخلص من حدة وصعوبة وظهرت فيه ليونة وسلاسة ما كانتا اساسا في طبعه، كان يغدو اكثر فأكثر فردا ومستقلا وشاعرا، انها اللحظة المناسبة ليمكر الحظ وليسترد هداياه. لا اعرف كم ترك وراءه من قصائد اعرف ان الشاعر الذي فيه كان لا يزال عامراً. لقد انقصف في ربيعه. دعك من العمر.
انقصف محمود درويش في ربيعه. هو حينها افتى منه في شبابه. لقد تصالح مع الخسارة، خسارته الخاصة وخسارة شعبه. لم يعد متشنجا ولكن هادئاً وحكيماً. لقد وجد شعبه يوم وجد نفسه ايضا. كان قادراً على ان يكون مع الاضعف وان يدين، ولو بهدوء، الذين يحولون الضعف الى حماقة وإهدار. جازف بأن لا يكون لكل الفلسطينيين ولكل العرب. لم يعد للاجماع حين وجد »جــمهوره« يقتتل في الساحات. انها المرارة حين لا تكون الخسارة نبيلة وحين تتحول الى ضغينة عائلية مرثيه غدت اكثر تركيبا وتعدداً. انها مرثية من يخسرون خسارتهم او يبيعونها بخسارة اضافية. محمود درويش الذي كان قادراً على ان يقول اكثر نفسه شعراً، وربما اكثر واقعه، قال كثيراً وكثيراً جداً لكن الواقع مثقوب وبلا قاع ولا نهاية لنزيفه.

* * *

محمـود درويـش .. لمـاذا تركـت الحصـان وحيـداً؟
ذكريات شخصية عن الزمن الأول

طلال سلمان

التقيت محمود درويش، لأول مرة، على هامش اجتماع استثنائي للمجلس الوطني الفلسطيني عقد في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة، في صيف .1972
كان قد وصل لتوه من الأرض المحتلة، كما كنا نسمي إسرائيل حينذاك، وقد حسم أمره: لن يعود ليعيش محاصراً ومراقباً، نصف أوقاته في السجن ونصفها الآخر في الطريق بين مكاتب جريدة »الاتحاد« وبين مركز الشرطة الإسرائيلية للابلاغ عن »وجوده« حاضراً...
كان »النجم« بلا منازع. لقد تدافع الكل إليه يحيونه بالقبلات والدموع، يرمونه بألف سؤال في الدقيقة، يقفون إلى جانبه لصورة تذكارية، يشكون إليه هموم واقعهم »العربي« بمرارة تكاد تفوق مرارته من واقع أهله تحت الاحتلال من الإسرائيلي، وهي كانت السبب في اتخاذه قراره الصعب بالخروج من السجن... يحاولون ان يعرفوا موقفه من ياسر عرفات ومن التنظيمات الفلسطينية »المعارضة«، من أنور السادات ونظامه وهل هو »ناصري« فعلاً أم »خرج« لأنه تغير...
لكنه، في تلك اللحظات تحديداً، لم يكن مستعداً لمثل هذه المقارنات التي كانت ستنتهي، حكماً، بإدانة قراره بالخروج... إلى الحرية، التي اكتشف ان كل عربي تقريباً يبحث عنها في الاقطار الأخرى، وخارج وطنه في أي حال...
وقفت ارقب، عن بعد، مع صديقين، مصري وفلسطيني، تلك التظاهرة المختلفة بموضوعها وأسئلتها والتداعيات عن كل ما شهدناه قبلها...
في لحظة ما، انتبه لوقوفنا بعيداً، فمشى إلينا يتقدمه سؤاله الضاحك: صرت فرجة! أليس ذلك!
تعارفنا. وضع أسماءنا التي يعرفها على الوجوه التي لم يكن يعرفها، وتواعدنا على لقاء خارج دائرة المتفرجين أو الآتين لاستعراض المواقف.
بعد أيام التقينا. كان قد أنهى الجولة الأولى من التعرف على »الكبار«، فلسطينياً ومصرياً وبعض الضيوف العرب المدعوين كشهود. وسمعنا منه انطباعاته الأولية عن كبار المثقفين والصحافيين الذين التقاهم، خصوصاً في »الأهرام« وفي دار الهلال. وشكا من ان معظمهم قد رحب به، وان شفع الترحيب بشيء من اللوم لخروجه: كنت أملاً في الداخل، ليس لأهل الداخل فحسب، بل لنا أيضاً...
وكان يرد مستغرباً: ولكنني خرجت لأكسر الدائرة المقفلة التي يسجنني فيها الإسرائيلي. جئت طلباً للأمل لي، وللذين في الداخل...
لويس عوض كان الأكثر تحديداً، قال: لقد جئنا في أيام الشقاء، يا محمود...
كانت مصر تموج بالغضب بسبب الإرجاء المتكرر وغير المبرر لقرار الخروج إلى الحرب. كانت حرب الاستنزاف قد أعادت إلى المصريين الثقة بقدرتهم على مواجهة إسرائيل، بل وعلى إلحاق الهزيمة بها. وكانوا يرون ان السادات قدم معركته الشخصية لترسيخ سلطته ضد »الناصريين« أو قل ضد »وطنيي النظام« على المعركة ضد العدو الإسرائيلي... تاركاً زهرة شباب مصر، من المهندسين والأطباء والمرشحين ليكونوا علماء، فضلاً عن الكتاب والشعراء والصحافيين، يغرقون مع علمهم في رمال »الدشم« والمتاريس المحصنة... ولا قتال!
وقرر محمود درويش ان يسمع فلا يعلق، وان يتكلم إذا ما تكلم عن إسرائيل، مجتمعاً وأحزاباً وقادة سياسيين وتنظيمات، وعن جيشها بحدود ما يعرف عنه... وبطبيعة الحال عن »الفلسطينيين« فيها التي انكرت عليهم »فلسطينيتهم« وجعلتهم »عرب إسرائيل«!
عرف محمود درويش الكثير عن مصر: من محمد حسنين هيكل ومجموعة »الخالدين« في الطابق السادس من »الأهرام«، توفيق الحكيم والحسين فوزي، وصلاح عبد الصبور ولويس عوض... واستمع إلى تحليل دقيق من أحمد بهاء الدين ومن مراد غالب ومن فتحي غانم ويوسف ادريس ومن أحمد عبد المعطي حجازي وكثير غيرهم...
كان مبهوراً بالقاهرة التي أحب، والتي يحفظ الكثير من أغاني مطربيها ومطرباتها الكبار، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، محمد عبد المطلب، عبد الحليم حافظ... لكن النيل، ليلاً، كان معبده!
جال مع الأصدقاء الجدد على المقاهي التي كان يحفظ أسماءها وأسماء زبائنها من الشعراء والكتاب غيباً: مقهى ريش، بار الانجلو، سيسيل بار... لكنه كان شديد الحساسية تجاه الغبار و»الشعبوية«، لذا فقد قرر ان تكون لقاءاته في بعض مقاهي الفنادق الكبرى »حيث تضمن، على الأقل، نظافة المكان«!

* * *

بعد القاهرة مباشرة كان لا بد من بيروت... وقد جاءها بغير اعلان، »لأنها مدينة مخيفة«، ولأنه يحتاج الوقت لكي يختار أين يقيم كإنسان، فلا يعامله الناس كنجم، يبادرونه في ربع الساعة الأولى طالبين منه ان يسمعهم قصيدته التي انتفى موضوعها: »سجّل أنا عربي«!
كان يحاول إقناعهم: أهمية هذه القصيدة ان تقال في وجه العدو الذي ينكر عليك عروبتك! أما ان تقولها للعرب المتباهين بعروبتهم فانها تبدو مبتذلة وفي غير موقعها! بوسع كل منكم ان يقول: سجل أنا عربي... فلا يكون لكلامه أي معنى. أما المعنى هناك، وفي وجه جندي الاحتلال.
بعد سنوات قليلة، يزورني محمود درويش في »السفير« ليبلغني انه ذاهب إلى الجزائر بدعوة رسمية. قلت بغير قصد الاحراج: ستجد نفسك تنشد أول ما تنشد القصيدة التي بت الآن تكرهها... سجّل أنا عربي! ورد مستنكراً: فشرت! لن أقولها خارج فلسطين أبداً!. لكنه جاءني مسرعاً بعد عودته من الجزائر ليقول: معك حق!. وجدت نفسي أبدأ بقصيدتي التي لم تعد تعجبني، سجّل أنا عربي، وأختم بها!. هناك اكتشفت لها المعنى! لقد قُهر الجزائريون في لغتهم باعتبارها بعض قوميتهم! ان لها هناك معنى التحدي للاستعمار الذي حرم أهل البلاد من لغتهم ليلغي هويتهم، وكانت تلك خطوة تمهيدية لمسح عروبتهم وجعلهم... فرنسيين«!

* * *

لبيروت حديثها الاستثنائي مع محمود درويش، فهو قد وجد فيها ما كان يبحث عنه: العرب جميعاً والعالم كله، بشرقه وغربه وجنوبه وشماله... والأهم، انه وجد فيها فلسطين بوجوهها الكثيرة، المأساة والثورة، اللجوء وخطر الذوبان، الايمان والتشوه، المال والسلاح وبينهما الدول، ثم المنظمات والرجال والدول... كل الدول بمساوماتها ومناوراتها التي تطل من خلالها ملامح إسرائيل والمشروع الذي يوحدها مع »الغرب« من دون ان يفقدها الشرق السوفياتي، آنذاك...
لم يجد محمود درويش لنفسه موقعاً في صفوف »الثورة«، ففضل ان يبقى على مسافة: يعطي المنظمة ما يقدر عليه، من دون ان يدخل اطارها السياسي والتنظيمي. ومع انه أحب شخص ياسر عرفات وقدر فيه مزايا كثيرة، أهمها الصمود وسط أمواج الأنظمة المتلاطمة على جدران سفينية المنظمة. كان يرى فيه »الرمز الفلسطيني«، من دون ان يتجاهل اخطاءه بل وخطاياه أحياناً...
وعندما نجحت منظمة التحرير في انتزاع الاعتراف الدولي بها وتقرر ان يذهب ياسر عرفات ليخطب أمام الهيئة العامة للأمم المتحدة كان من الطبيعي ان يكتب محمود درويش بالذات هذا الخطاب التاريخي، مع وعيه بأن عرفات سيدخل بعض التعديلات لأسباب يقدرها، وانه سيتعثر باللغة خلال إلقائه... وانه سيرفق الكلمات بحركات واشارات قد تذهب بمعناها: جئتكم أحمل البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، فقرروا، أما قراري ففلسطين مع السلام.

* * *

أما دمشق فعلاقة محمود درويش بها استثنائية، كما علاقتها به... انها قصة عشق حقيقي، بعيداً عن السياسة، قريباً من فلسطين، والتاريخ ومجد الصعود، شعراً وأدباً، ونجاحاً سياسياً...
أذكر انه طلب مني ذات ليل من أواخر أيلول أن آخذه إلى دمشق، وألح كعادته ان ننطلق فوراً، والوقت منتصف الليل... وصدعت لأمره، طبعاً، فقصدنا دمشق التي لم تكن قد قامت فيها الفنادق الحديثة، وكان مدخلها هو النهر الذي عشقه محمود من قبل ان يراه! بردى.
عند الحدود مررنا بما كان يسمى »الضابطة الفدائية« ـ وكانت خاصة بالفلسطينيين بعد اعتراف لبنان بحق الفدائيين في استخدام أرضه للعبور إلى فلسطين المحتلة، وهي، الجار والمدخل وحاملة هموم التهجير.
استقبلنا شاب في أوائل العشرين، أسمر بعينين كحيلتين، وملامح تقربه من الصورة المتخيلة للمقاوم، مقتحم الحدود، مواجه العدو بشجاعته الفائقة وسلاحه الخفيف. ولقد أخضع هذا الشاب النحيل محمود درويش لاستجواب قاس يمكن تلخيصه بسؤال كرره عليه مراراً: كيف تكون في الداخل وتخرج في حين اننا نموت من أجل ان ندخل إلى فلسطين؟!
لأول مرة، رأيت محمود درويش يخضع لاستجواب حاد، فيدافع عن نفسه بمعاذير متعددة، ويروي عبثية استمراره في مواجهة يومية مفتوحة وعبثية مع الشرطة الإسرائيلية: تعتقله ثم تطلقه لتعود فتعتقله، ثم تجبره على المرور بها مرتين في اليوم لإثبات »وجوده«... وكان ان اتخذ قراره بالخروج!
بلغنا دمشق حوالى الثالثة فجراً (عن طريقها القديم إلى بيروت). كان معرض دمشق الدولي على وشك ان يقفل أبوابه، ومجرى نهر بردى الذي أقيم عند ضفته الجنوبية شحيح المياه، وقد رميت فيه الصناديق وفضلات البضائع والمعروضات.
كان محمود متلهفاً لرؤية »بردى« الذي جرى في قصائد كبار الشعراء... مفترضاً ان نهر دمشق قريب من نيل القاهرة. ولقد فجع مع الصباح فقرر ان نعود فوراً إلى بيروت، بينما كان بعض الأصدقاء قد جاؤا للسلام عليه فأخذوه في جولة »سياحية« زادته اصراراً على العودة إلى بيروت فوراً: أعدني إلى الأمكنة النظيفة! هنا الغبار يغطي العيون فلا نرى!
على ان مفاجأة عظيمة كانت تنتظرنا حين عدنا إلى الفندق: وجدنا حشداً يتجاوز عديده الألفين، قد تجمع للسلام على محمود درويش، بعدما شاع خبر وجوده في عاصمة الأمويين وكان بين الجمع وزير الثقافة آنذاك، فوزي الكيالي، وكبار أدباء سوريا، الشعراء منهم وأهل المسرح والأدباء. وأبناء مخيم اليرموك... والكثير من الوزراء والأعيان، وكثير كثير من الشبان والشابات عشاق درويش.
ظل محمود على عناده... برغم ان كثيرين ممن تجمعوا قد صافحوه والدموع تغطي وجوههم!. بالكاد قبل دعوة الوزير إلى الغداء بصحبة نخبة من أدباء سوريا ثم عدنا إلى بيروت فعلاً...
لكنه بعد ذلك صار يغتنم كل مناسبة ليجيء إلى دمشق حيث اكتشف ان جمهوره يكاد يكون الأعظم اهتماماً بالشعر ولعله متميز في ذائقته الفنية، فكانت كل أمسية لمحمود درويش تقتضي ترتيبات أمنية استثنائية لحفظ النظام، بينما عشرات الآلاف يحتشدون في المكان أو من حوله لسماع فلسطين تتحدث عن ذاتها بلسانه... وقد اضطر المنظمون في غير حالة ان ينقلوا الأمسية إلى المدينة الرياضية، لإرضاء الجمهور العاشق شاعره... النرجسي!

* * *

على امتداد ستة وثلاثين عاماً، من الصداقة مع محمود درويش، التي امتدت إلى أسرتي برغم »عدائيته« المحببة، ومن المتابعة بالاعجاب والتقدير لنتاجه الغزير بمستواه الاستثنائي الرفيع، كنا كثيراً ما نختلف في الرؤية وفي التقدير السياسي للأحوال، وبالتحديد لاطوار الصراع العربي (الذي صار من بعد فلسطينياً) الإسرائيلي.
كان محمود درويش يتميز بمعرفة دقيقة بهذا العدو: مجتمعاً وسياسة، أحزاباً ومطامح... ولأنه كان يعرفه إلى هذا الحد، ثم انه تعرف مباشرة إلى أحوال العرب، فضلاً عن الأحوال الخاصة للفلسطينيين، قيادة وجماهير، منظمة ومعارضين، فقد دفعته المعرفة إلى الذهاب بعيداً في تصوره لمستقبل لا يمكن ان يقوم على استمرار العداء إلى الأبد. ولقد أدرك ان العرب لا يعرفون عدوهم، في حين ان عدوهم يعرفهم تماماً: يعرف عن قيادتهم وعن أحوال مجتمعاتهم، عن صراعات الأنظمة وحروب القبائل (قبل ان تنحدر نزولاً إلى الطوائف والمذاهب والملل والنحل). ومن هنا فقد داخله الشك في امكان انتصار عربي حاسم على إسرائيل... ثم رأى الانفصال بين الفلسطينيين وسائر العرب يصبح أمراً واقعاً، مما يترك الشعب الفلسطيني برمته وحيداً أمام مصيره... بل لعله قد رأى ولمس وعرف كيف ان الفلسطينيين باتوا يخافون على قضيتهم من »العرب«، أي الأنظمة المقتتلة على فلسطين وباسمها، أكثر من خوفهم عليها من إسرائيل.
وكان يرى ببصيرته قبل بصره الانقسام الفلسطيني ويخاف منه على ما تبقى من فلسطين.
ولقد مد محمود درويش بصره إلى المستقبل البعيد... فأخذ يمهد لعلاقة بين هذين الشعبين المحكومين بأن يعيشا على الأرض الواحدة، وبمعزل عن ادعاءات الحق التاريخي، أو الحقوق الطبيعية لأهل الأرض فيها، لا تقوم على السلاح والقتل والموت والعداء الأبدي...
كان دقيقاً كل الدقة. لكنه كان مقتحماً. وكان اقتحامه من موقعه المميز مباغتاً. وكانت ردود الفعل عليه عصبية، من الطرفين: بعض العرب رآه يتجاوز الحدود إلى المحرمات، وبعض الإسرائيليين رأوا في دعوته خطراً جدياً لم يكن وارداً، أقله على مستوى الوجدان وهذه الرؤية المستقبلية التي لا يقدر عليها إلا... الشعراء.
لكن ذلك حديث يطول، فنرجئه إلى ما بعد وداع يليق بمحمود درويش، أحد أعظم الشعراء الذين أنجبتهم فلسطين، بل الأرض العربية جميعاً.
لنقف الآن إجلالاً لهذا المبدع الذي ذهب إلى الموت يقاتله مفتوح العينين، واثقاً من النتيجة الحتمية. لكأنه أراد ان يقول للموت: أنا لا أخافك، لقد قلت كل ما عندي، وانتصرت عليك فصمدت لسنين طوال وقد آن لي ان ارتاح، وحرمتك من ان تأخذني إلا في الموعد الذي حددته... وبعدما قلت فيك تحديداً كل ما أردت ان أقوله.
وداعاً، أيها العاشق من فلسطين الذي جعلها أغنية تسكن وجدان أطفالنا، وأعطاها بعدها الإنساني العظيم كواحدة من معارك الحرية والحق في امتلاك الشعوب زمنها بارادتها.
ولن ينتهي الحديث عن محمود درويش المبدع، المجدد، الذي رفع الشعر إلى مرتبة لعلها الأعلى بين سائر وجوه الإبداع... فإلى اللقاء.

طلال سلمان

* * *

الشعراء لا يموتون

مرسيل خليقة

"وأعشق عمري
لأني
اذا مت
أخجل من دمع أمي"

ربما هي المرة الوحيدة التي خجل فيها محمود درويش لأنه رحل قبل رحيل أمه، ترك لها الدمع لكي تبكيه ولم يترك لها شعراً لترثيه. أنا الذي حملت شعره وسافرت به بعيداً، أنا الذي حمل ترابه وحنينه الى أمه و»ريتاه« وزيتونه وكرمله، هل تصدقونني إن قلت لكم إن الشعراء لا يموتون لكنهم يتظاهرون بالموت؟

****

نفعل ما يفعله الصاعدون إلى الله

روجيه عساف

إلى محمود درويش ـ العنوان: فلسطين
شاعر الحصار الذي يقلـّص الوقت
ونذير المطر الذي لا يصدّه الجدار
لسان حال الشهيد الذي يرتسم على الأرض
ومنشد اليقين المقبل الذي لا ريب فيه.

رحيلك يولـّد في أنفسنا قلقاً عميقاً، جزعاً لا يكبح
من سيخطّ تجاعيدنا على جبين العالم؟
من سيحوّل تفجّعنا إلى قصيدة تتحدّى الانحلال؟
من سيقلب الأحرف بين الألم والأمل وبين الرعش والشعر؟

رحلــت وانتــصرت على الموت، كما قلت
أمّا نحن الأحياء،
فنعاني من الحصار، ويحدّ بصرنا الجدار، ولا نسمع صوت الشهيد، ولا خبر اليقين.

غير أنّه لن يبقى واحدٌ منـّا وحيداً
مع قصائدك
» في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُّرِ أَوَّلها
ونسيانِ آخرِها.
هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، على دَرَج البيت،
لا وَقْتَ للوقت.
نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلى الله:
ننسى الأَلمْ«.

روجيه عسّاف ـ العنوان: فلسطين

*****

يا لاعب النرد.. انهض!

احمد الطيبي

إنهض... إنهض...
فلسطين كلها والعرب
تحمل قلوبها إليك... لتنهض...
حاصر حصارك... إقهر مرضك
وانهض...
قم من نومك المؤقت...
إنتفض... وانهض
لا تغادرنا قبل أن ترتوي
بقهوة أمك... وقبل أن
تعود أبداً لحيفا...
الجبل ينتظر... والزيتون
الوديان تصبو... والسنديان
»وعندما أغلقوا باب قلبي عليّ
وأقاموا الحواجز فيّ
ومنع التجول... صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة...
وأطل القرنفل... وأطل القرنفل«
إذ جاءك الموت قل له:
ليس موعدنا اليوم... فلتبتعد
وتعال غداً أو بعد غدٍ...
يا لاعب النرد تسألنا: من أنا؟
أنت نحن... كلنا
أنت سرمدية الأسطورة
وجمال فلسطين وعبق العروبة
أنت اللانهاية...أنت نور النفق

يا لاعب النرد...
تسألني طفلتي الصغيرة:
من سيلقي عليّ الوردة الحمراء
بعد اليوم؟
إنهض... إنهض محمود
فالحاكورة وشجراتها... زيتونها
وسنديانها تسأل...
اين رفيق الدرب..؟
قلت: ما أقساها الحروب.
يموت الجنود ولا يعرفون من انتصر!
فمن سيكتب قصيدة النصر غيرك؟
ما اقساك أيها المرض.
تغفو ولا تعرف حجم الدموع
تغيب فجأة ولا تعرف كم هو الحب لك!
أو أنك تعرف...
وكأنك قد مُتُّ قبل الآن...
تعرف هذه الرؤيا، وتعرف أنك
تمضي الى ما لست تعرف، ربما
ما زلت حيّا في مكان ما، وتعرف
ما تريد...
ستصير يوما ما تريد«.

إنهض واصرخ في وجهنا:
غبت قليلاً كي أعود... وأعيش
ولتحيا فلسطين...
فألقي عليكم وردتي الحمراء...

*****

جيش كامل

فاروق شوشة

لدينا كثيرون في فلسطــين وفي سائر أرجاء العالم العربي، كثيرون بالمئات وبالألوف يصــلحون أن يكونوا سـاسة ومــسؤولين ووزراء وحاملي حقائب وأصحاب مهام، لكن الشاعر الشاعر أو الشــاعر الضمير عملة نادرة، ومحمود درويش رحمه الله كان واحدا من هذه العملة النادرة، كان حضوره يعادل جيشا بكامله، وصوته الممتلئ بالوعي واليقين والإنسانية كان أغلى وأنفس من ألوف الحناجر الجوفاء التي تمتلئ بالصخب وتكاد تنفجر من جلجلة الألفاظ وتقول كلاما لا يبقى بعد جفاف الحبر الذي كتب به وازدحام الورق الذي تساقط عليه، لكن صوت محمود درويش سيظل ملء القلوب والعقول، صوت فلسطين وضميره إلى العالم وقصيدتها التي لن تموت.

*****

محمود صورتنا الأخيرة

هيثم حقي

قالها يوماً عن البحر. أليس محمود درويش بحر الشعر العميق الغور؟! أليس محمود درويش صورتنا، صورة جيلنا الذي ولد مع النكبة وشب مع الهزيمة ورفض الاستسلام لواقع مرير وبحث عن العدالة في الماركسية والديموقراطية الاجتماعية، وحاول صوغ مشروع جديد لنهضة تبدو مستحيلة. أليس محمود درويش صورتنا بجانبها المبهر. بشعره الذي وضعه في مصاف كبار شعراء الدنيا. فهو بكل المقاييس من كبار الكبار، بل إنه بعد رحيل نيرودا الأكبر في الشعر توهجاً وعمقاً وتجديداً.
بدأت علاقتي بشعر محمود درويش منذ أربعين عاماً، قبل أن ألتقيه شخصياً وتنشأ بيننا مودة وصداقة عمّقها ذلك الألق الذي لم يتوقف في شعره. فأحببته إنساناً وأكبرته شاعراً مجيدأ من الذين يجود الزمان بمثلهم مرة كل مئة عام.
كنت طالباً في موسكو عندما قرأت قصائده الأولى التي صنفها جيلنا المهزوم بعنوان شعر المقاومة الفلسطينية. ولأنني كنت أدعى إلى حفلات الطلبة العرب لقراءة الشعر، فقد تخصصت بقراءة شعر درويش في كل هذه الأمسيات العربية. وكانت الحماسة على أشدها لشعر جديد بموسيقاه ودلالاته. وحين أخرجت مسلسل »ردم الأساطير«، الذي استقيت عنوانه من قصيدة كنت أقرأها دائماً في حفلات موسكو، ألا وهي رائعته المبكرة »يوميات جرح فلسطيني«، اتصلت يومها بمحمود طالباً تسجيلها بصوته الذي يتغلغل إلى أماكن في القلب قل أن تزورها الحروف والصور. استغرب أنني أذكر تلك القصيدة، فلم يكن يعلم بعمق العلاقة بيني وبين شعره إلا يومها. سجّل لي محمود المقطع الذي جعلته مقدمة لمسلسلي. وعدت إلى صوته من جديد في »ذكريات الزمن القادم« ليعلن »مديح الظل العالي«.
لم تنقطع يوماً هذه العلاقة الوشيجة بيني وبين محمود الإنسان والشاعر حتى اللحظة الأخيرة، حين أخبرني الصديق رياض الريس بحرج وضعه الصحي. يومها أحسست بأن الأرض تميد بي حقاً. فعالم ليس فيه محمود درويش عالم شديد الرمادية، اللون الذي كرهه محمود كثيراً.
بعد أمسية حيفا وقصيدته التي وصف فيها عودته. بدا وحيداً عميقاً. تواصلنا عبر الهاتف، أبلغته وهالا إعجابنا وخوفنا عليه من وحدته، وكفكفنا دموعنا خجلاً من أن يحس بها، فالتقطها واعترف بأنه أصبح شديد التأثر وأصبحت دمعته سخية مثلي. قالت له هالا مازحة لتكسر ألم الابتعاد: ألم ترنا بين الحضور في حيفا؟ أجاب: بلى، فقد كنتم في الصف الثاني، رأيتكم وقرأت الشعر لكم.
وتباعدت بيننا المسافات إلى أن قرأت قصيدته الأخيرة »لاعب النرد«. كان قد غادر للعلاج في هيوستن. ولم أعبر له عن عمق محبتي وإعجابي.
محمود درويش صورتنا الأخيرة. أجل صورة جيلنا من لحظة النكبة إلى لحظة الوداع. فمن سيكمل التعبير عن مصائبنا وأمانينا بعد الآن؟!

*****

يفاجئونك بموتهم

محمد عبد الله

بعض الأشخاص يذكرونك بأنك ستموت، منهم محمود درويش وجوزيف سماحة. كل يوم هناك وجبة موت. الموت مفهوم. لكن هناك أشخاصا يفاجئونك بموتهم. يؤكدون لك أن الموت حتمي في الحياة، ونقتنع بأننا سنموت. يقول درويش: »مطر ناعم في خريف بعيد/ والعصافير زرقاء زرقاء/ والأرض عيد/ ألا لا تقولي إنني غيمة في المطار/ فأنا لا أريد من بلادي/ التي سقطت من زجاج القطار/ غير منديل أمي وأسباب موت جديد«.

*****

حيوية متفجرة

جودت فخر الدين

المكانة التي يحتلها محمود درويش في أدبنا الحديث مكانة فريدة، وأبرز ما فيها أنها لم تستقر على ثوابت أو إنجازات نهائية، بل ظلت جياشة، محفوفة بالقلق، خصوصا في مراحلها الأخيرة. لقد ظلت تجربة درويش الشعرية حيوية ومتفجرة على الدوام، ربما هي كفلسطين، بل هي فلسطين في تحولاتها المأسوية، وفي تقلبها المرير في العذاب والأمل. لكن محمود درويش عاش القلق على أنواعه، وبالأخص ذلك القلق الإبداعي الذي توهجت قصائده في ضوئه.

 

أمير المفاجآت

غسان مطر

هل حقا مات؟ اذاً في الأمر خيانة، فمحمود لا يتنازل بهذه السهولة. صحيح انه كان في شعره أمير المفاجآت، لكن ان كان مات حقاً فهو قد فاجأ نفسه هذه المرة، فقصيدة موته لا تعجبنا، ولو نشرت في الأرض كلها، ورددها الناس كلهم، لأنها قصيدة يتساوى فيها محمود مع كل الذين يموتون ومحمود لا يتنازل بهذه السهولة. إذاً في الأمر خيانة. ثمة من يريدنا أن نصدق ذلك لنكسر أقلامنا، او ثمة من يريدنا ان ننسى فلسطين وشمس الحرية، او ان نشعر باليتم، ليجتاحنا طوفان الهزيمة. هل حقاً مات؟ تأكدوا جيداً من الخبر، محمود لا يتنازل بهذه السهولة.

محمـود درويــش بشعــره

لم أكن بعد أعرف عادات أمي، ولا أهلها عندما جاءت الشاحنات من البحر. لكنني كنت أعرف رائحة التبغ حول عباءة جدي ورائحة القهوة الأبدية منذ ولدت كما يولد الحيوان الأليف هنا، دفعة واحدة. ... نحن أيضاً لنا صرخة في الهبوط إلى حافة الأرض.
لكننا لا نخزن أصواتنا في الجرار العتيقة... أحلامنا لا تطل على عنب الآخرين... نحن أيضاً لنا سرنا عندما تقع الشمس عن شجر الحور: تخطفنا رغبة في البكاء على أحد مات من أجل لا شيء مات، وتجرفنا صبوة لزيارة بابل أو جامع في دمشق، وتذرفنا دمعة من هديل اليمامات في سيرة الوجع الخالدة.
ـ ... إلى أين تأخذني يا أبي؟
ـ إلى جهة الريح يا ولدي...
ـ ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟
ـ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!
... تحسس مفتاحه مثلما يتحسس أعضاءه، واطمأن. ... »يا ابني تذكر، هنا صلب الإنجليز أباك على شوك صبارة ليلتين، ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا إبني، وتروي لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد...«.
ـ ... لماذا تركت الحصان وحيداً؟
ـ كي يؤنس البيت، يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها...

*****

... ويقول أب لإبنه: كن قوياً كجدك! واصعد معي تلة السنديانة الأخيرة \ يا ابني تذكر: هنا وقع الإنكشاري عن بغلة الحرب فاصمد معي لنعود.
ـ متى يا أبي؟
ـ غداً، ربما بعد يومين يا ابني !

*****

... هل تعبت من المشي يا ولدي، هل تعبت ؟
ـ نعم يا أبي.
ـ ... نعود إلى البيت، هل تعرف الدرب يا ابني؟ نعم يا أبي...
ـ هل تعرف البيت، يا ولدي؟
مثلما أعرف الدرب أعرفه: ياسمين يطوق بوابة من حديد ودعسات ضوء على الدرج الحجري وعباد شمس يحدق في ما وراء المكان... وفي باحة البيت بئر وصفصافة وحصان وخلف السياج غد يتصفح أوراقنا.
ـ يا أبي هل تعبت؟ أرى عرقاً في عيونك؟
ـ يا ابني تعبت.. أتحملني ؟
ـ مثلما كنت تحملني يا أبي، وسأحمل هذا الحنين إلى أولي وإلى أوله وسأقطع هذه الطريق إلى آخري وإلى أخره. (لماذا تركت الحصان وحيداً 1995)

*****

هناك، عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة. فإن كنزة صوف واحدة، منتهية الصلاحية، لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء . ستبحث عن الدفء في الرواية، وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيل مكتوب بحبر على ورق. أما الأغاني فلن تسمعها إلا من راديو الجيران. أما الأحلام فلن تجد متسعاً لها في بيت طيني، مبني على عجل كقن دجاج، يحشر فيها سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه منذ صار الإسم رقماً. الكلام إشارات يابسة تتبادلونها في الضرورات القصوى، كأن يغمى عليك من سوء التغذية...
تتذكر مذاق العسل الجارح الذي كان جدك يرغمك على تناوله فتأبى، وتهرب من مشهد جدتك التي تضع المنخل على وجهها لتتقي عقصات النحل وتقطف الشهد بيد جريئة. كل شيء هنا برهان على الخسارة والنقصان. كل شيء هنا مقارنة موجعة مع ما كان هناك. وما يجرحك أكثر هو أن »هناك« قريبة من »هنا«. جارة ممنوعة من الزيارة. ترى إلى حياتك التي يتابعها مهاجرون من اليمن دون أن تتدخل في ما يفعلونه بها، فهم أصحاب الحق الإلهي وأنت الطارئ اللاجئ. (لماذا تركت الحصان وحيداً).

*****

وعشت لأن يداً إلهية حملتك من عين العاصفة إلى واد غير ذي زرع. وعشت في منزلة الصفر، أو أقل أو أكثر.
... وعشت لأن يداً إلهية أنقذتك من حادثة. عشت في كل مكان كمسافر في قاعة انتظار في مطار يرسلك، كبريد جوي، إلى مطار... عابراً عابراً بين اختلاط الهنا بالهناك، وزائراً متحرراً من واجبات التأكد من أي شيء.
وعشت لأن كثيراً من الرصاص الطائش مرّ من بين ذراعيك ورجليك ولم يصبك في قلبك، كما لم يشج حجر طائر في رأسك. (في حضرة الغياب 2006)

*****

على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة. (ورد أقل).

*****

أحبك خضراء. يا أرضُ خضراءَ. تفاحة تتموج في الضوء والماء. خضراء. ليلك أخضر. فجرك أخضر. فلتزرعيني برفق... برفق يد الأم، في حفنة من هواء. أنا بذرة من بذورك الخضراء. (لاعب النرد)

*****

وحين أعود للبيت و حيداً فارغاً، إلا من الوحدة / يداي بغير أمتعة، وقلبي دونما ورده / فقد وزعت ورداتي على البؤساء منذ الصبح... وحين أعود للبيت
أحس بوحشة البيت وأخسر من حياتي كل ورداتي وسرّ النبع.. نبع الضوء في أعماق مأساتي وأختزن العذاب لأنني وحدي بدون حنان كفيك / بدون ربيع عينيك! ... (قصيدة »أغنية«)

*****

إن لم تكن حجراً يا حبيبي فكن قمراً في منام الحبيبة.. كن قمراً. هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته. (حالة حصار)

*****

مات ما فات فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرة يخلق أنبياء.
... قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت وإن لم يفهم البسطاء معانيها فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت (عن الشعر)

*****

تفاحةٌ للبحر، نرجسة الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت
شكل الروح في المرآة
وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام.
فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام.
وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت.
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي... و تنام ...
من مطر على البحر اكتشفنا الإسم، من طعم الخريف وبرتقال
القادمين من الجنوب، كأنّنا أسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى
بيروت ... (بيروت)

*****

يسألني المتعبون، أو المارة الحائرون عن إسمي فأجهله.. إسألوا عشبة في طريق دمشق! وأمشي غريباً وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي
فأقول: أفتش فوق طريق دمشق وأمشي غريباً ويسألني الحكماء المملون عن زمني فأشير / حجر أخضر في طريق دمشق / وأمشي غريباً
ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي فأعد ضلوعي وأخطئ / إني تهجيت هذي الحروف فكيف أركبها؟
دال. ميم. شين. قاف فقالوا: عرفنا - دمشق! ابتسمت. شكوت دمشق إلى الشام كيف محوت ألوف الوجوه وما زال وجهك واحد! (طريق دمشق)

*****

(إلى جمال عبد الناصر)
متى يا رفيقي؟ متى يا عزيزي؟ متى نشتري صيدلية بجرح الحسين.. ومجد أميّة ونبعث في سدّ أسوان خبزاً وماء ومليون كيلواط من الكهرباء؟
أتذكر؟ كانت حضارتنا بدوياً جميلا يحاول أن يدرس الكيمياء ويحلم تحت ظلال النخيل بطائرة.. وبعشر نساء ولست نبياً ولكن ظلك أخضر.. نعيش معك نسير معك نجوع معك وحين تموت نحاول ألا نموت معك ففوق ضريحك ينبت قمح جديد وينزل ماء جديد و أنت ترانا.
نسير
نسير
نسير . (الرجل ذو الظل الأخضر)

*****

أغلقوا المشهد/ انتصروا/ عبروا أمسنا كله، غفروا/ للضحية أخطاءها عندما اعتذرت/ عن كلام سيخطر في بالها، غيروا جرس الوقت/ وانتصروا...
... التفتنا إلى دورنا في الشريط الملوّن، لكننا لم نجد نجمةً للشمال ولا خيمةً للجنوب. ولم نتعرّف على صوتنا أبداً. لم يكن دمنا يتكلّم في الميكروفونات في ذلك اليوم، يوم اتّكأنا على لغةٍ بعثرت قلبها عندما غيّرت دربها. لم يقل أحدُ لامرئ القيس: ماذا صنعت بنا وبنفسك؟، فاذهب على درب قيصر، خلف دخان يطلّ من الوقت أسود. واذهب على درب قيصر، وحدك، وحدك، وحدك، واترك لنا، ههنا، لغتك! (خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس)

*****

خسرت حلماً جميلاً، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلي طويلاً، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا. (موال)

*****

وسآتي إلى ظل عينيك.. آت/ وردة أزهرت في شفاه الصواعق، قبلة أينعت في دخان الحرائق فاذكريني.. إذا ما رسمت القمر فوق وجهي، وفوق جذوع الشجر مثلما تذكرين المطر وكما تذكرين الحصى والحديقة واذكريني، كما تذكرين العناوين في فهرس الشهداء. أنا صادقت أحذية الصبية الضعفاء أنا قاومت كل عروش القياصرة الأقوياء لم أبع مهرتي في مزاد الشعار المساوم لم أذق خبز نائم لم أساوم لم أدق الطبول لعرس الجماجم و أنا ضائع فيك بين المراثي وبين الملاحم بين شمسي وبين الدم المستباح جئت عينيك حين تجمد ظلي والأغاني اشتهت قائليها أريد مزيداً من العمر كي يعرف القلب أهله، وكي أستطيع الرجوع إلى... ساعة من تراب. (ورد أقل)

*****

من أنا؟ أنشيد الأناشيد أم حكمة الجامعة؟ وكلانا أنا وأنا شاعر وملك وحكيم على حافة البئر، لا غيمة في يدي ولا أحد عشر كوكباً على معبدي. ضاق بي جسدي ضاق بي أبدي وغدي...
وكلما صادقت أو آخيت سنبلة تعلمت البقاء من الفناء وضده: »أنا حبة القمح التي ماتت لكي تحضر ثانية. وفي موتي حياة ما...
فنم هادئاً إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا / ونم هادئاً في كلامك واحلم بأنك تحلم، نم هادئاً ما استطعت، سأطرد عنك البعوض ودمع التماسيح، والأصدقاء الذين أحبوا جروحك وانصرفوا عنك حين جعلت صليبك طاولة للكتابة.
نم هادئاً قرب نفسك/ نم هادئاً، سوف أحرس حلمك، وحدي ووحدك في هذه الساعة/ الأرض عالية كالخواطر عالية والسماء مجازية كالقصيدة زرقاء، خضراء، بيضاء، بيضاء، بيضاء، بيضاء. (في حضرة الغياب).

(النصوص من اختيار هنادي سلمان)

العالـم العربـي يـودّع محمـود درويـش

شاعر المقاومة محمود درويش رحل.. ليكتشف الفلسطينيون، والعرب وكل مَن آمن بقضيته، أن هناك دوماً مكاناً لمزيد من الحزن.
ومع وفاة درويش، انهالت التعازي إلى وطنه، من زعماء عرب، وقوى سياسية، وحزبية، ومثقفين، أجمعوا على أن رحيل عاشق فلسطين سيخلّف خواء.. لن تتمكن من سده سوى أشعاره، مطالبين بدفن الراحل، في قريته البروة، بعدما تحدثت أوساط فلسطينية عن احتمال دفنه في رام الله، بعد الجنازة الكبيرة التي ستقيمها له السلطة الفلسطينية غداً هناك.
توفي درويش، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين، الذين ساهموا في بناء الشعر العربي الحديث، أمس الأول عن 67 عاماً، في مستشفى في هيوستن، في ولاية تكساس، جنوب الولايات المتحدة، حيث كان يخضع لعملية في القلب.
وعلى الفور، نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، »نجم فلسطين وفارس فرسانها«، الذي »سيترك غيابه فراغاً كبيراً في حياتنا الثقافية والسياسية والوطنية«، معلناً الحداد العام ثلاثة أيام في الأراضي الفلسطينية.
وفي عمان، قال السفير الفلسطيني عطا الله خيري إن عباس سيوفد رئيس الديوان الرئاسي رفيق الحسيني إلى الولايات المتحدة و»سيرسل طائرة إلى هيوستن لنقل جثمان درويش إلى عمان«، حيث »ستجري له مراسم وداع غداً (الثلاثاء)، قبل نقله إلى رام الله«، مضيفاً أن عباس طلب من الجهات الفلسطينية مخاطبة السلطات الإسرائيلية، لدفن درويش في مسقط رأسه في الجليل.
وقالت وزيرة الثقافة الفلسطينية تهاني أبو دقة إن فلسطين ستودع »عاشقها« في جنازة رسمية غداً الثلاثاء، تقام في الضفة الغربية، مرجحةً أن تكون »الأكبر منذ وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات«.
ورجّح عضو المجلس الوطني الفلسطيني في عمان حمادة فراعنة أن يدفن جثمان درويش في رام الله، قرب ضريح عرفات، في حال رفضت إسرائيل دفنه في قريته »البروة« في الجليل.
واتحد الفلسطينيون، من حركتي فتح وحماس، حزناً على وفاة درويش، الذي نعاه النائبان العربيان في الكنيست محمد بركة وأحمد الطيبي، حيث أوقف التلفزيون التابع للسلطة في الضفة الغربية بث برامجه العادية، فيما فتحت وزارة الثقافة الفلسطينية التابعة لحكومة إسماعيل هنية المقالة بيتا لتقبل التعازي بدرويش في قطاع غزة، كما أصدر رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، والأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة، بيانَين نعيا فيهما الشاعر الراحل.
وطالب الوزير العربي في الحكومة الإسرائيلية غالب مجادلة، في رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة ايهود أولمرت، بدفن الشاعر في قريته.
عربياً، وجّه الرئيس السوري بشار الأسد برقيتي تعزية إلى عباس، والى أسرة درويش. كما بعث الملك الأردني عبد الله برقية مماثلة.
وفي القاهرة، نعى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى »شاعر فلسطين والعرب«.
وفي لبنان، أرسل رئيس البرلمان نبيه بري برقية تعزية، واتصل رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بعباس معزياً، وبدوره أبرق رئيس كتلة المستقبل النيابية سعد الحريري إلى عباس. كما نعاه الحزب التقدّمي الاشتراكي، ورئيس ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية عباس زكي، ووزير الإعلام اللبناني طارق متري، والمؤتمر القومي العربي، واتحاد الكتّاب اللبناني، والأسير اللبناني المحرر سمير القنطار.
(ا ف ب، رويترز، يو بي آي، ا ش ا)

كي نعمل معاً من أجل أن تستعيد الأرض كلامها

وجهت مجموعة من اصدقاء الشاعر الكبير محمود درويش هذا النداء:
في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوما على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجا لزمن الخسارات الذي نعيش.
هذا النداء موجه الى اهلنا في فلسطين الذين كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في ارضهم. وهو نداء يتعلق بحق شاعر الجليل في ان يعانق ارض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون.
يحق لابن الجليل وشاعره ان يدفن في ارضه، ويجب ان لا يكون في مقدور احد ان يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده.
هذا نداء موجه الى الجميع، كي نعمل معا من اجل ان تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعرا عظيما كتبه شاعر عظيم.
وقع النداء: طه محمد علي، انطوان شلحت، رمزي سليمان، محمد بكري، محمد علي طه، محمد نفاع، سهام داوود، انطون شماس، ليلى شهيد، سليم بركات، مارسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي ، الياس خوري.

***

محمود درويش ..لماذا تركت الحصان وحيداً (٢)
(محمود درويش مع اسرة »السفير« العام ٢٠٠١ (م.ع.م)

- محمود حميدة:
خسرته الأمة

صحبني محمود درويش في كل مراحل عمري حتى اللحظة، وكنت حريصا أن أحضر أمسياته في القاهرة أو في الخارج في حال اتفق وجودي مع أمسية له، ولا تزال الكثير من دواوينه في طبعاتها الأولى القديمة في حوزتي، ولا زلت أستمتع بها، الوطنية الخالصة المخلصة، الانتماء المتماسك والقوي، والشعر الذي يقطر جمالا لغة وأسلوبا، من لم يقرأ درويش لم يقرأ الشعر، هذه الروح الإنسانية التي تسري فيه تجعلك تتعاطف مع كل إنسان يتألم في هذه الدنيا . إنني حزين إذ خسرناه لأننا خسرنا صوتا أقوى من أي صوت آخر، صوتاً يضطرك إلى أن تحتضنه وتهمس به وتردده .
للأسف الشعر والشعراء والمثقفون وحدهم لم يخسروا درويش ولكن خسرته الأمة كلها بكل ما فيها، خسرت ابنا مخلصا، عاش ومات متطلعا للحرية لنفسه ولكل أبناء وطنه .

- حسن جوني:
متحف لقصائدك

(سجل أنا عربي)... حين أسمعنا محمود درويش حقيقة هويته، كان شعره يتدحرج في زمننا مثل كرة من حنين مكسوّ بالغضب. وحين أخذ يزرع وجداننا بقصائده، اعتدنا على استقبال دواوينه الشعرية كحدائق من برتقال فلسطين ووردها المكتوم. كنت أشم في شعره رائحة تراب فلسطين الممتزج بالقهر والظلم والشهادة. كان محمود درويش مقاتلا من طراز مختلف، دخل في الشتات مع من نزح وأدخلنا في أهوال الشتات، حتى لظننت أنّا في شتات واحد.
محمود درويش... سيرافقك في رحلة الموت شريط النكبات والهزائم والآمال المكسورة، ومرايا الوجدان العربي المعتم التي لا قسمات لنا فيها ولا ملامح.
حسبي أن أجد في قصائدك متحفا من لوحات رسمتها أنت بحروف عربية، لكن بنقاط من دمّ. عزاؤك أنك ستعود الى تراب فلسطين، وهذا كل العزاء.

- صلاح فضل:
التملص من المباشرة

في شعر محمود درويش أمران واضحان، أولهما انه كان يميل إلى تغليب جانب التعبير على التجريد في كتابته، فبوسعنا ان نتمثل جيدا التجربة التي يعبر عنها ونعجب بها، والثاني انه كان يعمد إلى تشعير اللحظة الوجودية بالوصول بمفارقاتها إلى أبعد مدى وأكثف نقطه تتجلى عندها ومضة الجدل وهي تبلغ قرارها التصويري والإيقاعي الأخير، وان ما يسعفه لتفادي نثريه السرد هو هذا الوهج الإنشائي الذي يتخطف عبارته فيكسبها حرارة وحلاوة لا تخلو من بعض المرارة. لقد استطاع محمود درويش التملص الماهر من مباشرة السياسة في قصائده، على الرغم من أن القارئ تعود دائما على فهمه وتفسيره في ضوئها، فهو منقوع في مائها ومخبوز في أتونها. وبقدر ما كان يرفض ان يتكئ على نبل قضيته، فإنه كان يجتهد في تجديد مساراته وابتكار دروبه وأساليبه، غير ان ما أنقذ شعره من عملية الرمز الخفي والتجريد البعيد هو حفاوته بالإشارات الدالة، الكافية لكي ينفتح القارئ على فنون التأويل الخصب والتذوق الجمالي الممتع لأبعادها.

- رفيق علي أحمد:
منارة عتمتنا

محمود درويش منا ولنا، لقد كان منا وما زال، كتبنا وحكانا وحفظ ذاكرتنا، من خبز وقهوة أمّنا، وربطنا بجدائل أرضنا بخيط أمل يلوّح بذيل تاريخنا. حفّزنا على الثورة على أنفسنا اولا، وأثار فينا الحنين الى ثقب الأرض. دلنا بالبرهان أن اللغة والشعر قوتان متوازيتان وأقوى من الرصاص، تفعل فينا فعلها وفي كل نفس بشربة.
حين نسمع اسم محمود درويش نرى في العين والوجدان فلسطين بناسها وأرضها وعتبات بيوتها، وتطالعنا كل الصور وذكريات الحب والحنين، الى الأصالة التي تحفزنا للثورة على الذات وعلى أعداء الإنسانية من أجل الحق والعدل والإنسان أينما كان.
محمود درويش بشعره الحديث رمز واقعنا، حتى صار هو الرمز. هو كبير من أكبر كبارنا على قلتهم في هذا الزمن، حاضر رغم غياب جسده. سيبقى رمزا ومنارة تنير دروبنا المعتمة. صادفته في مقهى في قرطاج وقلت له أنا يا أستاذ محمود من خيمتكم، وعندي قلق وخوف أن أبدأ بالبحث عن خيمة لي.
رحل ولنا أمنية أن لا يكون قد ترك الحصان وحيداً.

- حيدر حيدر:
لا خليفة له

تكاد الكلمات تضيق وتستعصي في التعبير عن هذه الصدمة الفاجعة التي زلزلتنا حتى تخوم البكاء والانتحاب. فقدان الشاعر العظيم محمود درويش فاجعة على المستوى العالمي لا على المستوى الفلسطيني والعربي. لكن ما يعزّي الثقافة العربية والشعر العربي هذا التراث الشعري العظيم والخلاق الذي تركه لنا وللأجيال اللاحقة.
سيكون من الصعب أن يكون لمحمود درويش خليفة في هذا المستوى الفني المدهش الذي أوصله إلى فضاء العالمية ومستوى الشعراء العظام في العالم.
لترفّ الحمائم فوق روحك يا محمود وفوق فلسطين التي غادرتْها ولمّا تتحرر من عدوها الغاصب.

- وليد معماري:
في الوقت الصعب

صوتنا يغادرنا الآن، ويترك لنا شوك الطريق ورماد البراري، يمضي بجلال يشبه جلال الآلهة.. هل غادرنا في الوقت الصعب؟ أم انفجرت الشرايين فيه من زخم الألم، وقد رأت ما رأت، وسمعت ما سمعت، وصُلبت ما صلبت؟
انتهت الدروب إلى مفازة العقم، والبغال المعصوبة العيون تدور.. تدور! ولا ماء للشفتين، ولا ندىً على مساحات الوردة، ولا غدير عذوبة للصفصافة، والبلاد نائمة. محمود درويش، لك المجد، ولنا الدمعة الهاطلة.

- أحمد قعبور:
لا حدود لخسارته

للصدف أنهيت تلحين قصيدة لمحمود درويش بعنوان »ولهذا أستقيل«، والآن تذكرت عبارة »تعبت الآن، علقت أساطيري على حبل غسيل، ولهذا أستقيل«.
الاستقالة من الحياة قصيدة لا تكتب، تبقى رهن الكتابة الدائمة. أعتقد أن لا حدود لخسارة محمود درويش، كأنها تأكيد حسي ومادي لكل خساراتنا في قضايا الأوطان، وعلى رأسها فلسطين وقضايا الإنسان التي نعيشها يوميا. أستدرك فورا لأقول إن هناك في التاريخ قضايا سقطت ولكن تعبيراتها باقية أبد الدهر. بت أخشى على فلسطين الآن أكثر من أي وقت آخر، كما أخشى بعد ما يجري في غزة ورام الله على ألا يبقى من قضيتنا الكبرى إلا قصائد محمود درويش.
أتكلم معك وأتذكر ملامح وجهه وهو يصافحني في المدينة الرياضية استعدادا للتظاهرة الفنية معه ومع ماجدة الرومي في ذكرى الانتفاضة، وأعتقد في النهاية أن الكثير من الأمهات الفلسطينيات لو باستطاعتهن أن يشددن وثاقه بخيط يلوح في ذيل ثوبهن.

- عمر فاضل:
شاعر العروبة المعاصرة

ليست فلسطين وحدها غارقة في الحزن على ابنها البار، رمز صمودها، وعذاباتها، وكبريائها محمود درويش، الدنيا العربية بأسرها في حداد على ما تعتبره شاعر العروبة المعاصرة الأبرز.
هو الذي حلّق في التعبير عن قضية العرب فلسطين، وقضية الحق العربي الى ذروة انسانية عالمية، وحقق للشعر العربي مكانة عالمية على صعيد الابداع الفني، فترجم شعره الى معظم لغات العالم.
ستزداد دنيانا الحزينة التي أدمنت الحزن، حزنا على حزن لغيابه، وربما ازدادت فقرا على صعيد الروح. اذ كانت اطلالاته على الدنيا الفلسطينية والعربية مصدر قوة والهام لكل الصامدين في وجه الظلم ولكل العاملين من اجل غد أفضل على مستوى الحرية والعدالة والانتصار للحقوق الوطنية والانسانية الشرعية على أرض فلسطين وعلى الأرض العربية.

- فاطمة ناعوت:
آن للقلب المتعَبِ أن يستريح

»لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى«. لكن هناك طفلا عاد بعد رحلةٍ إلى بيته القديم فلم يجد لُعبتَه وسريرَه وكراريسَ الرسم والزيتونة. لا يجدُ البيتَ ذاتَه. لا يجدُ الحارةَ التي بها البيتُ. ولا الشوارعَ ولا الحيَّ. لا يجدُ القريةَ بحالها. يبحث الصغيرُ في الخريطة ويشير بإصبعه: كانت هنا بلدتي، وهنا بيتي. فأين راحت؟ ويجيبُ الكبيرُ: محاها صهيونُ يا ولدي ليحطَّ محلَّها أرضا يبابا! هيا بنا، يا صغيري إلى بيروتَ إلى القاهرةِ إلى تونسَ إلى باريسَ. وإلى كلِّ مكانٍ عدا فلسطينَ. فلسطينُ ما عادت لنا. فيطرقُ الصغيرُ برهةً ويتعوّد حزمَ حقائبه. لكن امّحاءَ بقعةٍ من الأرض كانت مسقطَ رأس الصبي، لا من كراسة الجغرافيا ولا من الخريطة بل من الكوكب بأسره، سيورثُ قلبَ الصبي الوجعَ. فيشبُّ الفتى بقلبٍ لا يكفُّ عن السؤال ولا يبرحه الانفطار. رغم هذا، وربما بسبب كل هذا، سيقدرُ أن يحملَ هذا القلبُ الصغيرُ المعلولُ وطنا بأسره. »وطنُ ينزفُ شعبًا ينزفُ وطنا يصلحُ للنسيان«. سيحمل هذا القلب المنذور للغربة مسألةً لا تزالُ تعيي العالمَ بحثا ومناورةً واتفاقياتٍ ومراوغةً وضجيجا وضحايا وقصائدَ ودماءً. فيتعلم هذا القلبُ الشعرَ ويعلّمه. ويعرفُ كيف يغدو بقلمٍ أعزلَ مقاتلا خطِرا أبيضَ الكفّين. يواجه الموتَ مرتين. ويهزمُ الموتَ مرتين. فالموتُ جبانٌ إذا ما واجهته. يقول للموتِ مرّةً ومرّة كنْ مهيبا كما يليق بكَ ولا تأخذني من الخلف، خذني بقوة. لكن الموتَ جبانٌ، أخذه نائما مخدَّرا. تعب القلبُ المرهقُ من خذلان العدو ومن غياب الوطن ومن قسوة الأصدقاء. تعب من سجن القضية ومن سجن القصيدة ومن سجن الهوية، فاختارَ أن يطيرَ، بعدما عاش سنواتٍ بعمرِ حزيرانَ المرِّ. إلى أين سيطيرُ القلبُ؟ إلى حيث ريتا. أينما كانت سيطيرُ إليها كي يستريح فوق قلبها. آن للقلب المتعب أنْ ينامَ. فنمْ ملء جفونك، يا فتى الشعر النبيل، عن شواردها. عليكَ الشعرُ والسلامُ والحبُّ. عليكَ، يا درويش، الحياة.

- علي الحجار:
لن ينقضي حبنا

لقد غنيت قصائده أمامه في حفل أقيم له بمكتبة الإسكندرية وصفق بمحبة حملها وجهه البشوش، لقد تحدثنا طويلا في الشعر والعرب وكان في كل كلمة تخرج منه عاشقا كبيرا للوطن وللحياة، ولا تزال قصيدته »أموت اشتياقا« التي يقول فيها »أموتُ اشتياقا، أموت احتراقا، شنقًا أموت، ذبحًا أموت، لكن لا أقول، مضى حبُّنا وانقضى«، وليلتها أيضا غنيت من ألحان محمد عزت الذي غني بدوره، غنيت قول درويش: »أنا آتِ إلى ظل عينيك من غبار الأكاذيب آتٍ من قشور الأساطير آتٍ أنتِ لي وأنتِ الفرح أنتِ حزني وقوس قزح« .
إن درويش ليس مجرد شاعر فذ استطاع أن يحوز كل هذه الجماهيرية العريضة من الخليج للمحيط بل لكونه إنسانا تستشعر معه حقيقة بعمق جمال الحب والحياة، إنني أحد متابعيه ومتذوقيه، وحرصت ولا زلت على قراءة جديده، رحمه الله سنفقد برحيله لغة صافية عذبة وقلبا يرفرف بالإنسانية. وتعازي لكل الشعراء، لكل فلسطين والفلسطينيين، تعازي للقضية الفلسطينية التي ناضل من أجلها كثيرا.

- خيري الذهبي
الشاعر فلسطين

الغريب أن التاريخ، وحتى الأدبي منه، لا يتعلق إلا بالفاجعيّ والصارخ، ويتجاوز الهادئ والناعم والمنعزل. فكم واحداً من غير المختصين يتذكر الشاعر الصنوبري؟ ذلك الذي قصر كتابته على التغني بالزهور والطيور والجميل في الحياة. كم نسبة من يذكرونه مقروناً بمعاصره المتنبي، ذلك الذي وضع لنفسه هدفاً سياسياً هو الوصول إلى الملك، أي ملك. فناضل وسجن وتشرد وجاع وعمل لدى الملوك، حتى لدى من احتقره منهم ككافور. وكل ذلك في سبيل الوصول إلى المُلك. ومات ولم يصل إلى المُلك الزمني، ولكنه على غير تطلع حقيقي منه وصل إلى مُلك آخر؛ ملك الشعر، فصار الشعر العربي من بعده، حين يؤرخ، يؤرخ بالمتنبي.
السؤال الآن: أكان هذا هو قدر محمود درويش حين صرخ: »سجل أنا عربي«؟ في زمن كان فيه العربي في فلسطين المحتلة يحسب مئة حساب قبل أن يصرخ صرخته تلك. فالتقط رجاء النقاش ذلك النداء وصرخ: »في فلسطين عرب«. وكنا قد نسيناهم كما نسينا مسلمي الأندلس. لقد صاروا مضغة في بطن الحوت. وكان متطرفونا يلومونهم؛ لقد ظلوا هناك، لقد اختاروا البقاء مع اليهود. وكان الأشد تطرفاً يخوّنهم.
كنا أضعف من أن نقدّر أن أولئك الناس كانوا هم القابضين على الجمر، والقابضين على العروبة في بطن الوحش. وحمل رجاء النقاش رسالتهم إلينا: »سجل أنا عربي«.. وخرج محمود درويش، مع قيام
الثورة الفلسطينية، واختلطا حتى صار من الصعب التمييز بينهما.
الثورة الفلسطينية حفلت بالشعراء ومعظمهم كبير: أحمد دحبور، المناصرة، سميح القاسم، الكرمي، وكثيرون. لكن درويش كان طعماً آخر، كان شاعراً كبيراً، وكان محظوظاً كبيراً جاء في المكان المناسب، وجاء في الزمان المناسب، فصار الشاعرُ فلسطين.

- عادل محمود:
لا نصدق عالماً من دونه

الحزن على غيابه هو من النوع المؤذي، النوع الذي يجعل الحياة بذيئة بدرجة انحراف سيئ عن محتواها النبيل. شيء يشبه غياب فلسطين قبل ستين أذىً، الستون التي كان محمود أثناءها ينشد الحرية والألم البشري، بذلك التوتر الذي لا يحتمله القلب البشري.
كما لم نصدق أن فلسطين ضاعت إلى الأبد، لا يمكن تصديق عالم بلا هذا المكابر العظيم، وشعر بلا هذا الشاعر العظيم، وسخرية بلا بلاغته في ازدراء اليأس، وإيمان بلا نبرة يقينية بجدوى تربية الأمل كماعز في الجليل.
قبل شهرين قلت له: تعال إلى سوريا بلا شاعر كبير، ونجم كبير.. تعال نتسلّ. اقض بيننا أياماً نشوي خلالها خروفاً بدلاً من سحابة، ونحك جلودنا كالذئاب في غابة صنوبر على البحر. وقد وافق وترك لنا، أنا وطاهر رياض، أن نحدد كيف ومتى.
جاء طاهر وأخبرني أن محمود وضعه خطر، فثمة شريان قد ينفجر في أي لحظة، وانه كتب قصيدته الأخيرة.. ما يبدو أنه قصيدة الشاعر الذي يلقي من نافذته ولغته نظرة أخيرة على الدنيا.
خطرت في بالي هذه الأمنية المستحيلة (ويبدو أن كل أمنياتنا مستحيلة): لو نتبرع لمحمود بعدد من السنوات. بالطبع كثيرون هم المتبرعون لدرجة أنه سيخلّد.
أنا شاعر في الستين. بصدق قلت لطاهر: أنا أتبرع بخمس سنوات. ولكن بسخرية قلت: قد لا أملكها أنا أيضاً.

- هالا محمد:
بوصلة الشعر

قد تنظر إلى السماء، قد تبكي وتكتب شعراً، ليس أزرق!! لكن السماء تبقى بوصلة نظرك إلى البعيد ومعياراً للأزرق.
رحل بوصلة الشعر الحديث، وبقي شعره البوصلة.
اتصلت به منذ أشهر عند عرض فيلمي (رحلة إلى الذاكرة) عن »أدب السجون« في قناة الجزيرة، ليرى الفيلم، وقلت له مازحة، لكن جادة: »إذا حبسوني بعد العرض دافع عني.. أنت قوي«.
قال مستغرباً وضاحكاً مفكراً: »أنا قوي؟!« قلت: »بنظري لا يوجد من هو أقوى«. وقلت في صمتي أنت معيار للحرية، للاشتقاقات في اللغة، للغربة في الأوطان، وللمنفى في الوطن، أنت معيارٌ للتسامح، وقوة الموقف وعدم الادعاء بأي قوة من فرط شاعريتك. صمت هو أيضاً، ثم قال بصوت منخفض، بإيقاع صوت حزين: »لا يوجد قوي يا هالا، لا أحد قوي .. تغيرت الدنيا! «.
بعد فترة اتصلت به: »قصائدك في جريدة الحياة أبكتنا، هيثم وأنا، قرأنا شعرك في بيتنا وشربنا نخبك ليلتها. قال بحرص، وبذلك الإيقاع الموسيقي الذي كان يتكلم به وكأنك تقطعه عن الشعر فيستمر في إيقاع الوجدان الذي يرشح في صوته، فيشف في شرايينك فتصبح إنساناً أجمل وأرقى وأنت تتحدث إليه: »لماذا أبكيتكم؟« قلت: »شعرنا أنك وحيد، وقصائدك ترشح بالحزن، وأنت، أنت، حبيبنا« قال: »بتعرفي أنا أسمع هذه الأيام فايزة أحمد وأبكي« صمتَ، وصمته إيقاع كثيف وصور ومطر في القلب، ثم أكمل: »صوتها عميق وحنون يحمل إلي الكثير من الشجن. أشعر أننا ظلمنا صوتها كما ظلمنا أناساً كثراً«.
نبرة الشجن، العدالة، الذكاء، الإنسانية، كانت تصلني، لم أشك في حياتي بكلمة واحدة قالها شعراً أو نثراً. هو بوصلة الشعر بالنسبة إلي، الشعر العربي والعالمي، بوصلة الاستقلالية والإنسانية والذكاء الذي وصل حدّا من الحدّة في الجمال فرشح شعراُ فريداً. هو الكبير وآخر الشعراء الكبار، نحيل كخيط شعر كريم، كطيفٍ، كصاعقة. الأهم من كل هذه المقاييس أنه محمود درويش يا أمي الذي طالما أحببته. حين كتب أحمد الزعتر قالت: »والله العظيم هذا الشاب صادق ومجروح وشريف، الله يلعن أبو الظلم، لا أحد مثله، الله يخليه لأمه ..«. قلت: »ليس لأمه يا أمي، هو لنا هذا محمود درويش حبيبنا..«. قالت: »بعرف«. صمتت، ودعت له معنا.

- خيري شلبي:
السنبلة

في حركة الشعر العربي الحديث كان محمود درويش مذاقا جديدا تماما ، فمن بواكير الصبا كانت بداياته تنبئ عن شاعر كبير شديد الفحولة أكبر من أن يكون مجرد شاعر بين الشعراء، لا أزال أذكر بداياته الأولى تلك التي طالعتها في أوائل عقد الستينيات من خلال ذلك الأديب الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني، أحد أهم روافد الحداثة في أدبنا العربي المعاصر، كان كتابه أدب المقاومة في فلسطين المحتلة نافذة على جيل جديد هو نفس جيلنا في طبعته الفلسطينية في جحيم الاحتلال الاسرائيلي: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، وأذكر أنني فرحت بهم جميعا كأن فلسطين عادت إلينا، ولكن محمود درويش كان نسيجا وحده، كان فيه وظل كذلك حتى رحيله الكثير الكثير من خصائص السنبلة، تأكدت تلك الخصائص في قصائده ودواوينه، ومن خصائص السنبلة محمود درويش أن القصيدة عنده مضفورة كضفيرة السنبلة بالضبط، الحب فيها منضود في تناسق إلهي مذهل.
رحمه الله بعد قراءته تشعر بالعزة والسموّ وبمعنى الكرامة وبروح الإباء، تشعر بالسؤدد، بالارتفاع فوق الصغائر، وتشعر بأنك تستطيل وأن قامتك تتصاعد مع الشعر إلى ما يشبه الإسراء والمعراج حيث ترى ما لم تكن تحلم بالسفر إليه، رحم الله محمود درويش شاعر فلسطين.

- صلاح بيصار:
اللوحة الشعرية

أجمل شعراء المقاومة في الوطن العربي والذي جسد أروع اللوحات المقروءة شعرا في لغة النضال والحب، وما قدمه في رحلته الشعرية مع الواقع العربي والفلسطيني يضعه في مصاف الشعراء الكبار في الشعراء الكبار عالميا إيلوار وأراغون ونيرودا .. وقد جسد الشخصية الفلسطينية وجغرافية المكان بروح الثورة والمقاومة بلغته البديعة التي تنساب بالتيارات والكروم والزيتون والبرتقال والشموس والأقمار وذكريات الجدات والحنين والسنبلة والرغيف والبندقية والكرامة والعزة و..
يا مواويلي يا مواويلينا
الضرب بالخناجر ولا حكم الندل فينا
لقد جعل من كل هذا عالما شعريا يغني للإنسان في كل مكان، يغني للثوار والأحرار، للفقراء والجياع ويغني للوطن والحب، ومثلما كان يحيا شديد الحب لوطنه، كان عربيا من المحيط للخليج، وما أجمل ما قاله عن مصر والمصريين، ولا أنسى قصيدته الرائعة التي يقول فيها عن المصريين: يموتون بداء الحب أو البلهارسيا. كانت أشعار درويش ملحمة إنسانية تدق الطبول لكل ما هو جميل من أجل الإنسان والحرية، وكان الرمز الحقيقي لمعنى الوردة والبندقية، ومعنى الإنسان ومعنى الصدق والصمود والازدهار في عصر الانكسار.

- شربل داغر:
حدث في صيف ١٩٧٣

موت الأصدقاء، موت الكبار، مفاجئ دوماً، حتى وإن كان متوقعاً. فكيف إن كان بحجم غياب محمود درويش.
موته قد يناسب صورته شاعراً، إذ مات مثلما عاش في ذروة النشيد: »العاشق« صرعه قلبه، ولم يمت أبداً في مقعد الشيخوخة الهزاز. إلا أن موته لا يناسبه إنساناً، طالما أنه بقي على الرغم من احتراساته الطبية الأخيرة ذواقة بكل معاني الكلمة، ولأنواع المباهج كلها.
أيام قليلة تفصل موته عن موت ألكسندر سولجنتسين، من دون أن تفصل بين معاني الحياة والكتابة بينهما، على الرغم من كل التباينات الظاهرة. هو مثل الروسي غادر وطنه لكي يعود إليه. وهو مثله عاد إليه، وإن اختلف طعم العودتين.
عاد سولجنتسين لكي يوقف السرعة الجنونية التي دارت بها »العجلة الحمراء« في بلاده، كما لو أنه يريد تصحيح التاريخ بالرواية. فيما عاد درويش في نوع من الوفاء لتاريخه، لكي يكون على مقربة أكثر من العائدين، بل لكي يكون أكثر إنصاتاً لوجيب قلبه الداخلي.
من يرثي درويش، اليوم، هو الذي كان يتكفل بمراثي طيور الياسمين وليمون الآهات وعزلة الذهب؟
حدث هذا في صيف العام ،١٩٧٣ في كبرى ساحات برلين الشرقية، »ألكسندرا بلاس«، بعد الظهر.
كنت قد التقيت بمحمود درويش قبل هذا اليوم بثلاثة أسابيع، في سهرة في بيروت. أخبرته، ليلتها، عن تحفزي للسفر، في أول رحلة في حياتي. ما كنت أعلم، حينها، مقدار الصعوبة في بلوغ السفر. ذلك أنه كان علي، مثل أصدقاء كثيرين فوق السفينة، مثل أمين معلوف وطارق متري وأنور الفطايري وغيرهم، أن نعبر المتوسط فوق باخرة روسية إلى ميناء في رومانيا، ومنه عبر القطار وصولاً إلى مقصد الرحلة، للمشاركة في »مهرجان الشباب العالمي«.
كنت متحرقاً للوصول، أشبه بمن يقف أمام بوابة الوصول على مدى أيام وأيام، من دون أن يصل. وهي الصورة التي تبدو على ما أتحقق الآن في خلفية كتابي الشعري الجديد: »ترانزيت«.
ما إن وضعت حقيبتي الخفيفة في غرفة الفندق، حتى سارعت إلى الوصول إلى الساحة الموعودة، التي أشار لي صديقي، ورفيق الرحلة، فؤاد حماد، بالذهاب إليها، هو الذي احتاط من مفاجآت السفر بأن تدبر القراءة عنها، قبل القيام بها.
كانت الساحة هائلة بحجم حيرتي وتوتري. آلاف من الوجوه بألف لون ولون تعبرها في مسارات يصعب تبينها أو تحديدها. صرت أمشي فيها من دون وجهة، من دون أن أطلب شيئاً منها سوى المشي، سوى أن أكون فيها، مع هذا الجمع المبهم والحيوي. فإذا بي أقع على محمود درويش أمامي، قبالتي، تماماً وجهاً لوجه، ما لا أقوى على تجنبه: »أيعقل هذا، يا محمود؟! ألا يحق لي السفر؟! ألا يحق لي أن أقع على مجهولين ومغمورين؟!«، بادرته مصعوقاً بما يجري لي، ويفقدني دهشة الرحلة، التي كانت مكتنزة ومحفوظة مثل عطر في زهره. كان عليه أن يشارك، في عداد الوفد الفلسطيني، في احتفال اعتراف دولة ألمانيا الشرقية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني...
كان قبالتي منذ ذلك اليوم، على تقلب الأيام والمدن والمواقف والخيارات.
ذلك أن الجوار معه يوافق بل يتنزل مثل الحوار.
استوقفني شعره منذ قصيدته: »سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا«، وكنت أُقبل على مجموعاته المتتالية في السنوات المتأخرة، على الرغم من مجانبتي لأسلوبها، فيما كانت تتباعد صلتي بقصائد كان لكتابتي أن تتفاعل معها. وهو ما تمثل في عدد من دراساتي عنه، ولا سيما دراسة اشتقاق المتكلم لخطابه في قصيدته.
وإذا كانت بداياته اقتربت من نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، فإن هذا الشاعر، الذي تبع »جيل الرواد« زمنياً، ما لبث أن استدركهم شعرياً، حتى إنه بدا أكثر من »خلاصة« لهم، قبل أن يتفرد عنهم بقصيدة باتت عنواناً لنفسها، وعلامة دالة على ما تقيمه بعد قيامه.
وإذا كان درويش من أشد الشعراء العرب ذكاء (بكل معاني الكلمة)، واحترافاً، فإنه كان خصوصاً بخلاف عديدين من أقرانه الراكنين إلى موروثهم ونتاجهم شديد التنبه للمشهد الشعري، لمجرياته، ولا سيما للمجددين منهم، وفي نطاق القصيدة بالنثر تحديداً. وهو ما تمثل في أكثر من وجه في القول الشعري: منها وأولها، من دون شك، مقادير الاستبطان الذي باتت تقوم عليه قصيدته، وهو استبطان بات يسائل الذات فلا يغنيها أو يكتفي بحاصلها. وهو ما اتضح في صورة أظهر في إيقاعاته، التي باتت في »الجدارية«، على سبيل المثال، كما لو أنها من معين النثر، فيما لا تفارق »تفعيليتها« أبداً، ما يُظهر تمكنه الشديد من أدواته، ومن قدرته على التطويع والتفنن والتجويد بها. وهذا من دون أن يبتعد عن عبارته المضيئة، ولا عن جمهوره المتعاظم، هنا وهناك وأينما كان. وفي ذلك لم »يصالح« درويش بين جمهورين وأسلوبين، بل سعى إلى إفادة قصيدته من توصلات غيرها، حتى بات شعره الأخير أشبه بذروة اللقاء، وبتجدده. وهو في ذلك كلاسيكي قبل ميعاد امتحان الزمن لشعره.

- محمد فؤاد:
السماء واطئة اليوم

مات محمود درويش مبكراً كما يليق بشاعر لا يطيق أن يهرم، ولأن الشعراء يموتون مبكرين.
مات محمود درويش بطعنة في القلب، لأن وتر أخيل الشعراء قلوبهم، وبه مقتلهم.
اصطاده الموت كما توقع قبل أن يستعيد صفاء ذهنه، لم يكن صياداً شريفاً كما تأمل صاده خلسة في عتمة غيبوبته، كان محتاجاً الى مرضه ليقتله. لم ينظر الى عينيه، حدق قليلاً في نقطة ضعفه، ثم غرز نصله المسموم.
محمود درويش مات
السماء واطئة اليوم، والروح تضيق من وجع القلب ونعض على الأصابع كي نحتمل غصة في الحلق. الفتى الوسيم، نغار منه على نسائنا في النهار، ونسلبه قصائده لنصحبهن في الليل الى النساء ونوشوشهن كلماته في العتمة. الفتى الأنيق، كم استعرنا قمصانه كي نبدو أجمل، كما قلدنا لكنته ليقال عنا شعراء.
صاحب مرثية نفسه، دون كيشوت، الذي لوح بإصبعه في وجه الموت، فعضها الموت وعض روحه في غفلة ذئبية، صديقي الذي لا يعرفني ولم يسمعني، الذي حشا لي جيوبي ودفاتري بما تستحق الحياة.
محمود درويش / لا يكبر الشعراء/ ولا تسقط أسنانهم
ولا يسحلون روحهم خلفهم كقميص تالف.
الشعراء أيها الكبير الكبير في اللحظة المناسبة يجرون اللحاف الى أعلى رأسهم، ويديرون ظهرهم للعالم، وينامون.

****

محمود درويش ..لماذا تركت الحصان وحيداً (٢)

مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن.. إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارٍ آخر!

سميح سميح

(إلى محمود درويش)

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟
[
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابلٍ بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ..
[
تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.
[
وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرْ..
[
سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ »أتاتورك«. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ »محمَّد«
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ
[
وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ
وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ
لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا
نموتُ. نعيشُ. نموتُ. نموتُ
على هيئَةِ الأُممِ السَّاخِرهْ
وَعُهْرِ ملفَّاتِها الفاجِرَهْ
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب
ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟
[
تذكَّرْ
وقدْ يُسعِفُ اللهُ مَيْتاً بأنْ يتذكَّرَ. لله نحنُ.
فحاول إذن.. وتذكَّرْ
تذكَّرْ رضا الوالِدَهْ
لأُمَّينِ في واحِدَهْ
ونعمةَ كُبَّتِها.. زينة المائِدَهْ
وطُهرَ الرَّغيفِ المقمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يُجيدُ الصّياحْ
ولا يتذمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يضيقُ ولا يتأفَّفُ مِن سَهَرٍ صاخِبٍ للصَّباحْ
تذكَّرْ كَثيراً. ولا تتذكَّرْ
كَثيراً. فبعضُ الحِكاياتِ سُكَّرْ
وكُلُّ الخرافاتِ سُمٌّ مُقَطَّرْ
ونحنُ ضَحايا الخرافاتِ. نحنُ ضَحايا نبوخذ نصّرْ
وأيتام هتلَرْ
ومِن دَمِنا للطُّغاةِ نبيذٌ
ومِن لَحمِنا للغُزاةِ أكاليلُ غارٍ ووردٍ
ومِسْكٌ. وَعَنبَرْ
فَلا تتذكِّرْ
قيوداً وسجناً وعسكَرْ
وبيتاً مُدَمَّرْ
وَليلاً طَويلاً. وَقَهراً ثقيلاً وسَطواً تكرَّرْ
وَلا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ..
[
لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ،
نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ..
ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّ
وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّ
سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ
وَدَمْعٍ سَخيّ
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،
عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ
ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
بنارِ مَدَامِعِنا
والوَرَقْ
يطيرُ بأجْنِحَةٍ مِن دُخانْ
وهَا نحنُ يا صاحبي. صَفحَتانْ
وَوَجهٌ قديمٌ يُقَلِّبُنا مِن جديدٍ
على صَفَحاتِ كتابِ القَلَقْ
وهَا نحنُ. لا نحنُ. مَيْتٌ وَحَيٌّ. وَحَيٌّ وَمَيْتْ
»بَكَى صاحبي«،
على سَطحِ غُربَتِهِ مُستَغيثاً
»بَكَى صاحبي«..
وَبَكَى.. وَبَكَيْتْ
على سَطحِ بَيْتْ
ألا ليتَ لَيتْ
ويا ليتَ لَيتْ
وُلِدنا ومتنا على وَرَقِ السنديانْ..
[
ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّ
»أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي«..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي..
[
يقولونَ موتُكَ كانَ غريباً.. ووجهُ الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ
وأنّي أعيشُ. وأنّا نَعيشُ. وتعلَمُ. تَعلَمُ أنّا
حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ
وتَعلَمُ تَعْلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ
على خطأٍ مَطْبَعِيّ
وتَعلَمُ أنّا تأجَّلَ إعدامُنا ألف مَرَّهْ
لِسَكْرَةِ جَلاّدِنا تِلْوَ سَكْرهْ
وللهِ مَجْدُ الأعالي. ونصلُ السَّلام الكلام على الأرضِ..
والناسُ فيهم سِوانا المسَرَّهْ
أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟
مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ
وَآخرِ مَرَّهْ
وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ
نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ
وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ
ويحملُ كُلُّ قَتيلٍ على الظَّهرِ قَبرَهْ
ويَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّةِ.. يَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّهْ..
[
تُعانقُني أُمُّنا. أُمُّ أحمدَ. في جَزَعٍ مُرهَقٍ بعذابِ
السِّنينْ
وعِبءِ الحنينْ
وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً
دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ.
أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟
تُزلزِلُني أُمُّنا بالسّؤالِ؟ فماذا أقولُ لَهَا؟
هَلْ أقولُ مَضَى في الصَّباحِ ليأْخُذَ قَهوَتَهُ بالحليبِ
على سِحرِ أرصِفَةِ الشانزيليزيه. أمْ أدَّعي
أنَّكَ الآن في جَلسَةٍ طارِئَهْ
وَهَلْ أدَّعي أنَّكَ الآن في سَهرَةٍ هادِئهْ
وَهَلْ أُتْقِنُ الزَّعْمَ أنّكَ في موعِدٍ للغَرَامِ،
تُقابِلُ كاتبةً لاجئَهْ
وَهَلْ ستُصَدِّقُ أنّكَ تُلقي قصائِدَكَ الآنَ
في صالَةٍ دافِئَهْ
بأنْفاسِ ألفَينِ مِن مُعجَبيكَ.. وكيفَ أقولُ
أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ..
أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ..
[
إذنْ. أنتَ مُرتَحِلٌ عن دِيارِ الأحبَّةِ. لا بأسَ.
هَا أنتَ مُرتَحِلٌ لدِيارِ الأحبَّةِ. سَلِّمْ عَلَيهِم:
راشد حسين
فدوى طوقان
توفيق زيّاد
إميل توما
مُعين بسيسو
عصام العباسي
ياسر عرفات
إميل حبيبي
الشيخ إمام
أحمد ياسين
سعدالله ونُّوس
كاتب ياسين
جورج حبش
نجيب محفوظ
أبو علي مصطفى
يوسف حنا
ممدوح عدوان
خليل الوزير
نزيه خير
رفائيل ألبرتي
ناجي العلي
إسماعيل شمُّوط
بلند الحيدري
محمد مهدي الجواهري
يانيس ريتسوس
ألكسندر بن
يوسف شاهين
يوسف إدريس
سهيل إدريس
رجاء النقاش
عبد الوهاب البياتي
غسَّان كنفاني
نزار قباني
كَفاني. كَفاني. وكُثرٌ سِواهم. وكُثرٌ فسلِّم عليهم. وسَوفَ
تُقابِلُ في جَنَّةِ الخُلدِ »سامي«. أخانا الجميلَ الأصيلَ.
وَهلْ يعزِفونَ على العُودِ في جَنَّةِ الخُلْدِ؟ أَحبَبْتَ
سامي مَع العودِ في قَعدَةِ »العَينِ«.. سامي مَضَى
وَهْوَ في مِثلِ عُمرِكَ.. (٦٧).. لا. لا أُطيقُ العَدَدْ
وأنتُمْ أبَدْ
يضُمُّ الأبَدْ
ويَمْحُو الأبَدْ
وَأَعلَمُ. سوفَ تَعودونَ. ذاتَ صباحٍ جديدٍ تعودُونَ
للدَّار والجار والقدس والشمس. سَوفَ تَعودونَ.
حَياً تَعودُ. وَمَيْتاً تَعودُ. وسَوفَ تَعودون. مَا مِن كَفَنْ
يَليقُ بِنا غيرَ دَمعَةِ أُمٍّ تبلُّ تُرابَ الوَطَنْ
ومَا مِن بِلادٍ تَليقُ بِنا ونَليقُ بِها غير هذي البلادْ
ويوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ
وحُلم المغنّي كِفاحٌ
وموتُ المغنّي جهادُ الجِهادْ..
[
إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ
في زّوْرَقٍ للنجاةِ. على سَطْحِ بحرٍ
أُسمّيهِ يا صاحبي أَدْمُعَكْ
وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ..
لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ
وخُذني مَعَكْ
خُذني مَعَكْ..

الرامة
١٠ آب ٢٠٠٨

*****

فارس الثورة

زهير هواري

مسجى في صندوق خشبي، ينتقل من مطار الى آخر، تحلق به الطائرة ثم تهبط وهو بارد كالرخام، كلماته سبق وقيلت وما لم يقل لا متسع للوقت والقول بعدما خانه القلب. هو صامت في الامكنة التي وضع فيها حيث أقبية الشحن في القسم السفلي من الطائرة. الركاب المسافرون يجلسون في مقاعدهم المريحة، يتناولون المرطبات والعصير وحتى المشروبات الكحولية والاطعمة ويشاهدون الافلام، بينما هو يصوم عن كل ملذات الحياة وعذاباتها التي خبرها حينا في بيروت واحيانا في القاهرة أو باريس أو موسكو أو البروة أو رام الله..أو..
الشعر أقوى من الموت وأبقى من الجسد، والشاعر الذي كتب احتضاره دواوين، تفوق على جده فارس العصور الذهبية مالك بن الريب في قصيدته اليتيمة، راثياً نفسه بعيدا عن المتفجعين في دياره الحبيبة، بعيدا في بلاد خراسان، بينما الرمال نفسها التي تهب على مضارب طفولته ستكمل ما بدأته منذ أجيال وأجيال، انما هذه المرة على قبره، فيغيب الشاهد الحجري الذي وضع في المكان. أما الحصان حصانه فيموت عطشا ولا من يسقيه. كل شيء يذوي في لحظة الرحيل كأنه لم ينوجد أصلا ولا من يبكي سوى السيف والرمح. لا فارس يخوض الحروب ولا شعر يلقى على المسامع فتنسحر القلوب في أماكنها وتروح في ذهول العوالم الخفية. الكلمات أقوى من الجسم، والقوافي تحتفظ بالنبض والقصائد أزلية بأشد من جبروت الرمل.
لم يركب محمود درويش كما فعل جده حصانه ليغزو بلادا ليست بلاده قرب مرو، طمعا بالغنيمة، لم يكن لديه حصان بالاصل. ايضا لم يحمل رمحا على كتفه، حساما في يده ودروعا تغطي الصدر وتمنع عنه الطعنات. عندما غادر البروة مكرهاً لم يحمل معه سوى ذاكرة وأطياف صور طفل لم يتجاوز السادسة عن قريته وناسها الذين غادروا وسط جحيم التهجير القسري. وعندما تنقل بين المنافي حاملا معه فراشات ألوان الطفولة المغتصبة، لم يجد في جعبته سوى الحلم يعيد إطلاقه كلما شعر أن ما قيل من كلمات يذوي كما عشب الصيف، كما شقائق النعمان والدحنون وبخور مريم، وان كلمات جديدة لا بد وان تخترع لتعيد إشعال الحنين. ومحمود درويش لا يختصر بالثورة الفلسطينية وان كان شاعرها في لحظات اللظى والجمر، بل قد يختصر بالشعر الذي يستعيد وطنا مضرجا بالذاكرة التي لا تتعب من أحمالها. يبدأ منها ويعود اليها كلما انهمر شلال الدم وفاضت السواقي بالانكسارات التي تترى تباعا كلما أوغل الجزارون في دفع السكين عميقا في الصدور، صدور الأطفال والنساء والرجال وأشجار البرتقال والزيتون ومداخل البيوت القديمة. أياً يكن هؤلاء الذين يسنّون سكاكينهم صباح مساء، عربا عاربة أو مستعربة أو أبناء عمومة على حد ما تقول أسطورة الخلق البابلية أو العبرانية أو المنحولة بالعربية. أي قلب من القلوب يمكن أن يحتمل هذا الكم من المجازر، ومحمود درويش هو الشاهد والشهيد على قدرة الدم على صياغة وطن يليق بهذا الشلال المندفع من الشعر والتضحيات. يخرج الكنعاني المحدث من ثياب التاريخ متقلدا لغة العصر، ويعلن أن دمه ودم الهنود الحمر وقبائل الانكا والمايا و.. هو هو نفسه، وان التاريخ لا ينقش على حجارته حق القوة المقدس، وقدرات بارود البنادق والمدافع، بل قوة الحق والحلم الذي يهدأ حينا ليستعر أحيانا لكنه يبقى عصيا على الموت. ومنذ الصرخة الاولى للثورة وحتى النبض الاخير، لا يتعب الرجل من ان يؤرخ على شغاف القلب تفاصيل المسيرة. مسيرته هو ومسيرة شعبه المحفوفة بالاجساد والاحلام المضرجة بالدم والاشلاء والتهجير بعد التهجير، تارة على يد العدو وطورا من ذوي القربى الجاهزين لبيع دمه بأقل من ثلاثين من الفضة متى فتحت البورصة أبواب السوق وأسعار القطع.
وداعا محمود درويش جسدا، أهلا بمحمود درويش فارس الثورة أبدا.

*****

لاعب النرد يلاعب الموت ويمضي

صقر ابو فخر

طوى محمود درويش آخر قصائده، وأدار ظهره لنا، ومضى الى »ما لا يريد«. وها نحن نفرد أوراقنا، ونبادر الى أقلامنا ونضم أجسادنا الى أجساد الأحبة ونشهق.
لم يبقَ لنا إلا أوراق وبضعة أقلام وحسرات وشهقات الفجيعة واكتئاب الأيام الكالحة وقصائد أحمد الزعتر.
أتمضي هكذا؟ أعلى هذا النحو أردت أن تكون قصيدتك الأخيرة؟ إذاً، لا تنظر خلفك. فلن تبصر غير منفى وراءك، وغرفة نومك، وصفصافة الساحة، ومقاهي المواعيد التي تبددت، ومناديل تلوّح لك بلوعة.
ذاهلون يا محمود لموتك.
ذاهلون لأيامك التي عشت فيها بيننا.
لماذا لم تُطِلْ وقت زينتك؟
فاعتذرْ إذاً عما فعلت.
لم تُنهِ قصتك بعد. وجعلتنا نسعى وراء حراس الأماكن المنعزلة، نسألهم عن مرقدك، عن قبر يوسف، لنزرع فيه وردة أو زهرة صبار.
الآن، هل تقرأ جداريتك ثانية؟ هل ترى »السماء هناك في متناول الأيدي؟«. هل يحملك »جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى؟«.
[[[
في طفولته، تعب من السير في جنوب التبغ نحو قفار الجليل. لكنه عاد الى حصان جده. وها هو، بعد ستين عاما وأبعد، يتعب من الجَوَلان في البيداء العربية، فيريح ركابه من وعثاء السفر ويمضي.
إنهم يتناثرون كأوراق الخريف.
أجمل الأقمار ترحل: إدوارد سعيد، هشام شرابي، جورج حبش، ياسر عرفات. بيداء هذه الديار، وسديم هذا التاريخ... هباء كغبار الطلع.
[ [ [
كأنه كان يوحى إليه.
ما سره الشعري الذي جعله مثالا للشعر لا يمكن اجتنابه، ولا يمكن الاقتراب منه، ولا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تحطيمه؟
شاعر مستبد، وشعره كاشف.
مستبد؟ لأن قامته الشعرية تكشف قامات بعض مَن حوله من الشعراء. وكاشف؟ لأن الشعر الصافي يُقاس بقصائده. ومع أن الشعر ليس سباقا، إلا أن محمود درويش كان دوما شاعرا مهيمنا؛ فقد بات تحديا إبداعيا لجميع من عاصره أو جاء بعده.
شعره ترتيل الجوامع الأموية في دمشق العتيقة، وصوت القداديس في أديرة بيت لحم، وأنين النهر المتمرد في أنطاكيا، وأصوات الجياد في بصرى، وعسيس النار في نخيل العراق.
متروكون كنا مثل خيمة في الريح، مثل كنيسة مهجورة، مثل منارة محطمة على شاطئ. وكانت قصائده شراعنا ومنارتنا وخيمتنا ومئذنتنا وكنيستنا وتاريخنا المكلوم ونزيفنا الراعف وحاضرنا الراعب.
أيقظ فينا شعره طعم المريمية وزهور السواقي ولون السنابل والسماق الحارق وأعشاش العصافير ورائحة الوسائد وحبال الغسيل وغبار »الحصائر« والشبابيك المشرعة ونقرات الدوري فوق صفيح المنازل والقناديل المضاءة ورائحة التبغ في كوفية رجل هرم.
كان هو الصفصاف والصنوبر والتين والزيتون وأغاني الحب وأنين المنافي الحزينة وحارس الصباح وزهر اللوز ودحنون البراري وأقحوان المراعي وعشب التلال. كان حزننا وقمرنا وغيم الجليل ينثال فوق أغطيتنا الممزقة. وكان حرير النهدين وأعسال الشفتين وألق الفاتنات في الدروب الضيقة.
أعاد شعره ترميم جروحنا وهزائمنا ونكباتنا: وقال لنا إننا لسنا عابرين في كلام عابر، بل منذورون للمنافي ولأغاني العودة، وفي إمكاننا أن ننتصر على التيه،»وأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة«.
[ [ [
هذا ليس رثاءً، لكنه أكثر من وداع.
لم يُنه محمود قصته بعد. فقد وُلد قرب النار، واجتاز براري كثيرة، وعبر قفارا وأنهارا، ومات بعيدا »يحلم بالزنابق البيضاء« وبخمارة في ميناء، وبكأس نبيذ.
كانت كلماته احتفالا وثنيا في العراء. وهو مثل قصبة ثقبتها الريح فصارت ناياً، ثم سار خلفه المنتظرون. إنه قمر الليل فوق بحيرة طبرية، زنبقة الوادي وأريج الحقول وضباب الروابي. ملك تاجه من غبار. جناحاه الريح، وقصائده رحيق الكلام. ظبي »ينهض من نومه« وينفر الى »سرير الغريبة«.
هذا هو سره، وهذا هو اسمه.
لهذا تبعه »المريدون« وبايعوه ملكاً على فلسطين ووضعوا في كفيه »أحد عشر كوكباً«.
[ [ [
»كل موت هو موت أول. مفاجئ، صاعق، غير معروف وغير مألوف«. وموتك يا محمود أقسى من أي موت أول: صاعق ومفاجئ وغير مألوف ولا يمكن احتماله.
لِيَفُكَّ وجهُك هذا الانقباض عن صدري، كما فككت أنت أجهزة التنفس عن صدرك. ولاسمك سنضيء شموعا، وسنلوِّحُ لك بمناديل اللوعة، وستقتلنا الذكريات وصور الماضي.

*****

أحبك أكثر

هنادي سلمان

ومن أنا كي أكتبك؟
ومن أنا كي أكون من دونك وأنت كل ما أردت أن أكون، وأنت الذي رآني، فكتبني، فصرت أحلى، أبهى. كتبتني فصرت أنا.
لاعب النرد لا يسخر منا في رحيله الأخير. هو فقط يختار الزمان والمكان. بلاد الشمال الأقصى، الأقسى. وأوان الورد قد ولى. هو لم يطق القيظ يوما. لم ينتظر نسائم خريف آخر، يبشر بالشتاء الأول بعد الستين. كم سنة؟ كم شهيدا، كم زيتونة، كم منفىً، كم وردة على طريق الجليل، كم امرأة لا تشبه عيناها بحر عكا؟
لاعب النرد يحب أن يلعب، يسخّر اللغة عصا سحرية تقص فلسطين وترويها، فلسطين من لحم ودم، حلوة ودميمة، بطلة وواهنة، كهلة وصبية، قديمة ومعاصرة، حية وشهيدة، ودوما وحيدة ومحاصرة.
كيف تمضي، وأنت وحدك من ترانا؟ ما لون عيوننا من بعدك؟
لاعب النرد يضعني على حجره طفلة ويلقيني في حضن نجمة.
تحترف الأحرف لتكتبني، تكتبنا، كما نحن، وكما نحب أن نكون. تنصفنا. تنصفنا. نتعب كثيرا ونموت كثيرا ونحب كثيرا ونحيا قليلا، وتبقى يومياتنا يوميات حزن عادي إلى أن تخطها أنت حقيقة واقعة، شعرا بمفردات سماوية.
تغب من قلوبنا أحرفا تشبه العسل والحليب، حليب أم أبعدتها الشاحنات قبل أن تفطمك.
تكتبنا، فنصبح نحن، تدب فينا الروح، ونتحول من صورة في الجدار إلى بشر يستحقون الحياة. واليوم من يروينا؟ من يقول أننا هنا وسنبقى؟
لاعب النرد يداعب اللغة، يحيها، يرفعها فيعلينا. يبعثر الحروف فتتحول ملامحنا شعرا. نصبح أحلى، أو كما نحن. مرآة الروح.
هو يقول أننا هنا، ثم يفتح باب الحديقة ليخرج الياسمين إلى الطرقات نهارا جميلا.
لا لسنا كومة من المآسي الآسنة، يقول لاعب النرد. نحن نحب الحياة، إذا ما استطعنا اليها سبيلا.
لاعب النرد يروض اللغة. ينفض عنها الغبار، يلتقطها ويدخلها في الآن، وفي الهنا. يقذف الحروف في وجوهنا فنرى.
لاعب النرد يحب أخواناً لا يحبونه، يا أبي. لاعب النرد محاط بدول من زبد، ويقاوم. يكتب بيروت بلحم حي، ويكتب دمشقَ مشتهاة، وقائمة. لاعب النرد يخسر الحلم تلو الحلم، ولا يضل السبيلا.
كم كنت وحدك. كم كنت وحدك في الحياة وفي الرحيل. في الصمت وفي المعاني. كم كنت نحن، وبقيت أنت. الشاب، الوسيم، بعينين كغصن أخضر، وقامة ممشوقة أنيقة. أنت، الطفل دوما، والحكيم. الرقيق الحساس اللئيم، الذكي اللماح، القاسي والمحب، المبتعد والقريب.
هنا كنت دوما ولم تكن. عشت المدن كلها، والهزائم كلها، وبقيت ترنو إلى سنديانة البيت العتيق. تعود إليه كي تكون، أو لا تكون.
تقذف كلماتك في وجهنا كي نرى من نحن، وتستمر أنت تبحث عنك، عن طفل اقتلعته الشاحنة لما كان بعد ممسكا بعباءة جده ذات رائحة التبغ الأبدية.
قروي بغير سوء، ولما استوطن غريبٌ بئر منزله، عاش المدن كلها ولم تروِه.
قروي بغير سوء، دنا، ذات يوم، من مارين بين الكلمات العابرة، ونظر يبحث عن مكان لهم، ربما، في فيء صفصافة أبيه، فما رأى إلا أنه »آن أن تنصرفوا، وتقيموا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا، فلنا في أرضنا ما نعمل، ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول، ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ، ولنا الدنيا هنا... والآخرة.... فاخرجوا من أرضنا .. واخرجوا من مفردات الذاكرة..«.
هل تعبت، يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبي؟ هل ضقت بالأمكنة والأزمنة، وليل الانتظار الطويل؟
لاعب النرد يختار الرحيل. لاعب النرد يتركني وحيدة هنا، على قارعة طريق ليس لي. يرمي ورودا كثيرة ويرحل لأنه آن له أن يعود إليها.
»وما زال في الدرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟
سأرمي كثيراً من الورد قبل الوصولِ إلى وردةٍ في الجليلْ«.
كنت أظن أني سأعود معك إليها، ذات صيف، أو خريف أو شتاء أو ربيع. ذات ثالث عشر من آذار... كان اسمها فلسطين، صار اسمها فلسطين. كان اسمك حبيبي. صار اسمك حبيبي، يا ابن أكثر من أبي.
م ح م و د . لست لاعب نرد. أنت ترى ما تريد. تمشي إلى ما تريد.
»إلهي أعدني إلى وطني عندليب
على جنح غيمة
على ضوء نجمة
أعدني فلّة
ترف على صدري نبع وتلّة
إلهي أعدني إلى وطني عندليب
عندما كنت صغيراً وجميلاً
كانت الوردة داري والينابيع بحاري
صارت الوردة جرحاً والينابيع ضمأ
هل تغيرت كثيراً؟
ما تغيرت كثيراً
عندما نرجع كالريح الى منزلنا
حدّقي في جبهتي
تجدي الورد نخيلاً والينابيع عرق
تجديني مثلما كنت صغيراً وجميلا.

م ح م و د. »نسيمك عنبر وأرضك سكر وقلبك أخضر..« وأنا أحبك، كل يوم أكثر.

السفير
12 اغسطس 2008

***

محمود درويش ..لماذا تركت الحصان وحيداً (٣)

محمود درويش مع ماجدة الرومي والزميل طلال سلمان واحمد قعبور خلال مهرجان “ حاصر حصارك “ الذي اقامته “السفير” في المدينة الرياضية العام ٢٠٠٢ (م.ع.م)

محمد ملص:
قوس الألوان

فراق مستبد يبعثر الصور والكلمات، ولا يترك لي لغة تليق برحيلك يا محمود أو بغياباتك المترامية .
كم مضى من العمر وأنت تلون فضاءاتنا فيحملنا كلامك وقصيدك ، ومذكراتك ورسائلك وصورتك وصوتك، من ما كانت عليه أيامنا إلى ما آلت إليه ؟
هل بدأ هذا من ذاك اليوم الذي هرعت فيه نحو تلك الصبية لألمس شفاهها، فأخرجت لي من صدرها ديوانك لتعلمني “العشق”؟!
يومها انتبهت إلى معالم عمري.
أم بدأ هذا يوم كان “في الشام مرآة” لروحك، فصرخت امرأة أخرى وهي تريني قعر فنجان قهوتي، وقد رسمت بقايا البن صورة فلسطين!
عندها تساءلت كم صار عمري؟ !
أم بدأ في موسكو يوم هربوا لنا من فلسطين مجلة نسيت اليوم اسمها، ربما كانت “الجديد”، وقرأنا اسمك وكلماتك، فالتمع الضوء فوق نيران الصبا في داخلنا، وتوهجنا للقاءنا بك من تلك الأرض وعنها ولها ومن أجلها... أيامها بدت لنا موسكو أكثر بهاء وأقل عبوساً واشتهينا أن نرمي القصائد بين أيدي من يمنحنا قبلة أو طعاماً أو رسالة... وازددت تمسكا بالسينما التي أحلم بها...
نحن الذين يا شاعرنا قد اعتادوا العيش في هذه الحياة لأنك أنت فيها... وعبرناها وأنت ترسم صورنا وتاريخنا ويومياتنا، وفي كل هذا كنت في الهواء وفي تلك الصور... كنت قوس الألوان الذي يشد الأشرعة نحو محرق الحكايا.
يأتي الصباح أوالمساء أو المنام وأنت كامن في زمننا .
قد نغيب أو نغرق في أوزار الدروب، لكن رسالة تحط بيننا وهي في طريقها لصديقك سميح القاسم، نحرك إبرة الراديو فيتناهى الينا مرسيل خليفة يحن لقهوة الأمهات، نخرج ويوسف شاهين من عتمة صالة الرقابة السينمائية بعد “العصفور” إلى الشوارع، فتفاجئنا بخوائها، فقد هرع الجميع إلى الملعب الكبير تشخص أرواحهم إليك لتخرجهم من حصار ومن سفر ومن رحيل إلى صورة فلسطين وحكاياتها .
بالحب وبالسينما وببحة صوتك كنا نقيس أعمارنا ونتساءل كم بقي لنا من الهزائم .
فهل حقاً تجرأت وطلبت أن يزيلوا عنك أجهزة الإنعاش !
ونحن؟!
متى نجرؤ فنطلب إزالة أجهزة الإنعاش التي نعيش عليها؟! ألم تحدث آلاف الأخطاء في القصيدة بعد؟!
لا يخرج الصوت من كلماته في هذا النهار فقد فارقتنا، وتركت لنا أصوات الرصاص في كل مكان، فنحن كما قلت “لولا السراب لما صمدنا” ومازالت غرفنا وزنزاناتنا في أقبية قصور السلاطين والملوك والأمراء والرؤساء ... توجعنا هذه الحياة : “يا يوسف...!؟” ولا أحد منا يقوى على إزالة أجهزة الانعاش من أجسادنا.

خضر الآغا:
شاعر الجميع

كثيرون من الشعراء العرب، ما بعد محمود درويش، أمضوا جزءاً من حياتهم بقراءة محمود درويش، وجزءاً بالتأثر به والكتابة على منواله، وجزءاً آخر بمحاولات تخليص قصيدتهم من آثاره. فكيف سيمضون ما بقي بعد رحيله؟
لا أهمية للإجابة كما لا أهمية للتساؤل. لقد رحل محمود درويش وحصل نقصان في الشعر، وزيادة في الرثاء والدموع. مع شاعر بحجم درويش يحق للجميع أن يشعر بالخسارة، بل بالخسارة الشخصية.. إذ إنه كان دالة الشعراء على بناء عمارة الشعر وتقويضها بآن معاً، على تأسيس مملكة الشعر والانقلاب عليها بآن معاً، على التجاوز والتخطي، على الوصول إلى الشارة في آخر الطريق ثم قلبها لتصير في أول الطريق وهكذا... باستمرار وبلا هوادة.
ما زلت أشعر بالتزام إزاء العبارة التي أطلقها على نزار قباني إبان رحيله، تلك العبارة الحاسمة والنهائية: “نزار قباني شاعر الجميع”. والآن إذا كان لا بد من تعريف محمود درويش، فإنه، بعد كل تلك التجربة معه، مع قرائه، أمسياته، ندواته، كتبه، اسمه، حضوره... بعد أن كنا شهوداً عيانيين على تشكله وتحوله إلى أسطورة، بعد أن شاركنا راغبين ومتواطئين بتكونه كأسطورة الشعر العربي الحديث، يمكن أن نقول بلا تردد: إنه شاعر الجميع.
إلى جوار امرئ القيس، المتنبي، المعري، أبي تمام، وولت ويتمان، لوركا، رامبو... وهذا النسق من صانعي الشعر في هذا العالم، تمدّدْ. إن قصائدك جزء من دمنا جميعاً.

فارس خضر:
خسارة الشعر

رحيل محمود درويش مفاجأة من العيار الثقيل ككل مفاجآت وطننا العربي المأساوية، هو قامة شعرية أكبر من أن ننصفها في كلمات أو حتى صفحات، وسوف تظل الأجيال القادمة من الشعراء والكتاب تتزود بشعره ومواقفه، حمل شعلة القضية الفلسطينية وعبر عن جراح الفلسطينيين والعرب على السواء، دون أن ينتقص من شعريته، فلم يقدم شعرا شوفنيا متعصبا بل اتسمت قصيدته بكل المعاني الإنسانية التي تتجاوز القطرية والإقليمية. إنه شاعر استثنائي كبير، تكاد لا تختلف على شعريته كل التيارات والاتجاهات الشعرية والإبداعية في العالم العربي، هو خارج التصنيف والتقسيم، كل ديوان من دواوينه حالة إنسانية وشعرية، لقد كنا ننتظر دواوينه بشغف ومحبة ولهفة كأنما ننتظر الجديد في الشعر، إن رحيله خسارة للتجربة الشعرية العربية، فهو أعظم شعرائها دون أن ننتقص من قدر أحد.

علي عطا:
في وداع محمود درويش

ثمة ما يربط بالتأكيد بين عبد الوهاب المسيري ويوسف شاهين ومحمود درويش. رحل الثلاثة تباعاً بعدما ربطت بينهم “المقاومة” سنوات طويلة من دون اتفاق مسبق. كان كل منهم يقاوم على طريقته، وفي ذهنه يقيناً القضية الفلسطينية.
ذهبت مقاومة محمود درويش إلى ما هو أبعد من “القضية”، وينطبق الأمر نفسه على كل من المسيري وشاهين. مقاومة القبح قاسم مشترك بين الكبار الثلاثة.. وكذلك مقاومة الموت. كان درويش إذاً يودع أصدقاء الشعر عندما جاء إلى مصر في فبراير ٢٠٠٧ ليتسلم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الشعري، ولكنه كان في تلك اللحظة مفعماً بالحياة، تماماً كما كان عند سفره إلى أميركا للخضوع لمجرد فحوص طبية. لوح إلى أصدقائه هنا وهناك قائلاً إلى لقاء، كما فعل في مرتين سابقتين عندما جلس إلى الموت وجهاً لوجه خلال جراحتين في القلب. قال لأصدقائه إلى لقاء ولم يكذب، فها هم ينتظرون.

فيصل خرتش:
أنا والموت ودرويش

عام ١٩٧٠ كنت عائداً إلى البيت، ووقفت أمام بائع الصحف والمجلات، وبعد أن فحصتها انتقيت مجلة، أعتقد أنها كانت الآداب، وفي داخلها كانت قصيدة لمحمود درويش، لا أذكر اسمها، قرأتها وأعدت قراءتها مرّةً، وثانية، وثالثة، ومن يومها تعرّفت على شاعرٍ... شاعرٍ يهشّ بعصاه فينطق شعراً، وكنت أيّامها طالباً في كلّيّة الآداب قسم اللغة العربيّة، السنة الأولى، يومها تعرّفت إلى محمود درويش الشاعر والإنسان، وبقي هذا الاسم منحوتاً بذاكرتي إلى أن وجدت ديوانين، اشتريتهما له، وفي حضوره البهي في جامعة حلب ألقى بعض القصائد، فعرفت أنه شاعر العرب، ومنذ امرئ القيس إلى هذه الساعة، لم تعرف الأمّة شاعراً غيره.
اليوم، أعود إلى البيت ليلاً، فأصعق بالخبر وتنتابني حالةٌ من الأسى والحزن ورهبة الموت لأنني قرأت في شريط الأخبار خبر موت الصديق الودود محمود درويش، أولادي كانوا قد عرفوا الخبر، فتركوني أنا، والموت... ودرويش. ذهبت إلى غرفتي لأبكي، فمانعني البكاء، أصبت بحالةٍ من اللا جدوى والعبث، أيعقل أن تطال يد الموت هذا الإنسان النبيل مرهف الإحساس والمشاعر، الرقيق بطبعه، الشاعر بكلّيّته. ألم أقل لك؟ نعم يا صديقي... لقد مات محمود درويش، الشاعر العظيم، شاعر الأمة الذي توقّف الشعر عنده، مات شاعر فلسطين، فهل تموت القضيّة؟

السيد نجم:
لا وداع لدرويش

من قبله، كان المصطلح هو “أدب الحرب” و”أدب المعركة” و”الأدب المحفز” وغيره.. من بعده بات المصطلح “أدب المقاومة” راسخا، جامعا، وفى المقدمة.
منذ بداياته الأولى: مع قصيدته التي ملأت الأسماع والقلوب “أكتب..”، التقريرية، ربما.. المباشرة، ربما.. وجملة قصائد مرحلة ما بعد النكسة مباشرة. ومع ذلك كانت بصدقها ورهافتها معبرة عن وجدان الملايين. وأي طموح لشاعر، أكثر من أن يبدو هكذا صوتا لشعب يعد بالملايين، لا صوته هو وحده.
وانتقل إلى شعرية جديدة ببساطة التنفس، وأيضا لم يتنازل عن “القضية”، فكتب “عودة الأسير” و”سرحان يشرب القهوة” وغيرهما. بفضل قاموسه الشعري البسيط، الانساني، والسردية والحوارية ومحاكاة صياغات الأغنية الشعبية مرة، والسرد القرآني مرة، والغنائية الرهيفة مرات.. رسخ درويش لشعره.. وأيضا لم ينس القضية.
فلما جعل اجتثاث الفلسطيني من أرضه، وحلمه بالعودة واسترداد الأرض، الغاية والمسعى وراء كل ما كتب. جعل من الفلسطيني/ آدم العصر الحديث/ وجعله بطعم الألم واللذة بطعم الزيتون والتفاح/ حتى قال في إحدى قصائده الأخيرة: “وداعا وداعا لقصيدة الألم”.
كل ذلك في رحلة مع القصيدة التقليدية حتى قصيدة النثر، وكأنه شاء ألا يرحل عنا إلا وقد أوجز شعر العربية في شعره شكلا.. وأيضا لم ينس القضية!
ترى هل كانت أشعار “محمود درويش” تسبق القضية؟ وان كان الأمر كذلك فهي مفخرة له ولجيله ولكل الشعراء العرب، والبسطاء في الشوارع والحارات.
رحم الله “درويش” رحمة واسعة، ووداعا لمن رسخ لشعر المقاومة، وجعله مثل فنجان قهوة الصباح.

جواد صيداوي:
لكن فلسطين باقية

صعقنا الخبر دون أن يشعرنا بالفجيعة. كلنا ميتون، ولا بد لكل قلب، وإن كان قلبا كبيرا كقلب محمود درويش، من أن يجنح الى الراحة والهدوء.
صعقنا الخبر لأنه فاجأنا بصلابة فظة كحد السكين، فلعثم المشاعر وأقض ليلنا والنهار. ثمة صوت نبوي آخر حكم الموت عليه بالصمت. بالصمت؟! خسئ الموت، “ظل” محمود دوريش “العالي” يرفرف برونقه الموقظ، على أشلاء واقعنا الآسن، فيحرك السواكن ويحيي موات النفوس، وخفقات قلبه المرهق تنبض، بكل دفئها، في قلوب الملايين، الذين آمنوا، عبر إيمانه، بأن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
وعلى الرغم من التزام محمود درويش، المطلق، بقضيته الأساس، وهي فلسطين، إلا أنه حرر القصيدة، في دفاعه عن تلك القضية، من أسر المناسبة، وأسر الانفعال، وأسر الحقد، وغدا دفاعه، شعريا، ليس دفاع مناضل فلسطيني يدعى محمود درويش ضد مغتصب أرضه الإسرائيلي فحسب، بل هو تصوير لنضال إنسان، مطلق إنسان، يحب بلده، ويحب الحرية، ويحب الجمال، ضد عدو بلده، وعدو الحرية وعدو الجمال، وعدو البشر جميعا. وبهذا النهج الشعري الفذ، نجح محمود درويش في إيصال جوهر قضيته، ليس الى المحافل الدولية المرتهنة، في غالبيتها، الى من نعرف جميعا، بل الى ضمائر الأحرار والمناضلين في العالم بأسره.
ولم يكن الجرح الفلسطيني النازف باستمرار، هو الهم الشعري الوحيد لدى محمود درويش، بل هناك الجراح القومية، التي لا حصر لها، نراها حاضرة في العديد من قصائده، ومنها، خصوصا، الجرح اللبناني. ففي لقاءاتنا في مقهى باريسي حميم، في أحد الشوارع الخلفية المتاخمة للشانزيليزيه، كلما زار العاصمة الفرنسية، كنت أراقب التماع عينيه وهو يتحدث عن بيروت، ومأساة بيروت، لدى الغزو الاسرائيلي للبنان سنة .١٩٨٢ وكانت بيروت وفية للشاعر الكبير في إطلالاته الشعرية عليها.

هشام نشابة:
فاضت دموع وانحبست

غاب عنا محمود درويش فسكن الحزن قلوب الناس في فلسطين وسائر بلاد العرب، وفي اوساط الفكر والشعر والادب في العالم... فاضت دموع، وانحبست دموع... غاب خير من عبّر عن مأساة العرب في حاضرهم، فقد احب الناس رغم المأساة، وسجل على جدران الشعر اروع مشاعر العزة والكرامة... وآلام شعبه... فما أحلى الشعراء يوم يتألمون ويحبون؟!
اكتب عن محمود درويش عضو مجلس امناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والمناصر والداعم للبحث العلمي فيها. سيفتقد مجلس الأمناء صوته الهادئ يتلو آخر اشعاره، او يرتجل، في ختام جلسات المجلس مضيفاً بذلك بعداً إنسانيا لا انبل ولا اجمل الى مداولات مجلس يغلب عليها الجد الصارم الذي تفرضه هموم البحث العلمي وسد العجز في الموازنة... فإذا بخاتمة الجلسات مسك وعنبر، وامل مشرق. دعوناه ذات يوم لإحياء امسية تكريما لذكرى قسطنطين زريق فأصر ان يكون مع الاستاذ مرسيل خليفة. لم اكن اتصور ان عناق الشعر والموسيقى يمكن ان يسخّر لخدمة قضية كما كان الامر في تلك الامسية الرائعة في قصر الاونيسكو في بيروت. وكم كان الجمهور متجاوباً وفخوراً!! كأنما كل واحد فيه شاعر وفنان او ذواقة شعر وموسيقى، وملتزم قضية العرب الاولى... يومها ايضا فاضت دموع، وانحبست دموع.
من الناس من اذا غاب عن هذه الدنيا ذاع صيته اكثر، وزاد قدره، وعظم حضوره، وترددت اصداء اقواله في كل مجلس... هذا شأن شاعرنا الراحل الكبير، صوت فلسطين والعرب والانسان، يشدو بلغ عربية حلوة الجرس، عميقة الاثر، أنيقة العبارة.
سيفتقدك زملاؤك كثيرا في مجالسهم ايها الزميل العزيز، وكلما اجتمعوا سيستلهمون آمالك وأمنياتك وطموحاتك لمستقبل عزيز وكريم لأمتك وللناس كافة.

رفعت سلام:
شاعر سياسي

خسارة فادحة ضربت الشعر والثقافة العربيين ضربة كبيرة، ولعل الوضع الفلسطيني الراهن حيث يقتل الفلسطيني برصاص الفلسطيني هو ما كسر قلبه وحلمه الذي استمر قرابة الخمسين عاما من الشعر فآثر الرحيل، لكن صوته الشعري يمثل فرادة غير مسبوقة وبلا نظير في الشعر العربي، صوت يختصر نصف قرن من الحلم والهزيمة والصمود والانكسار والخيانة والشهادة، بما لم يحدث من قبل في الشعرية العربية، وهو في نفس الوقت الصوت الذي أعاد صلة الجمهور العادي إلى الشعر بعد أن انقض بسبب اللهاث وراء لقمة العيش وهمومه الصغيرة، لكن أعماله الأخيرة التي تمثل في تقديري أصفى ما كتبه شعرا هي التي ستلهم أجيالا قادمة من الشعراء والمثقفين.
إن صوت درويش بقامة نيرودا وناظم حكمت وطاغور ومايكوفسكي، إنه اختصار للشعرية الإنسانية أو الاختصار العربي لهذه الشعرية، رحل درويش ولم يرحل غاب ولم يغب، وسيكون أمامنا وقت طويل لتأمل ما جرى واستعادة قصائده من بطن الأوراق... تجربة درويش تنقسم إلى عدة مراحل واضحة حداها دواوينه الأولى (المقاومة ) والحد الآخر دواوينه الأخيرة الأكثر ركونا إلى التأمل والاستبصار والمراجعة والمسائلة إلى حد نفيه لبديهيات قصيدته السابقة الأولى، وبين الحدين هذين يتراوح بين التجريب الشعري واللغوي عموما كما في ديوان (أحبك أو لا أحبك) و(محاولة رقم سبعة ) وبين الاستجابة للحظة العابرة كما في (مديح الظل العالي) حيث يعلو صوته الهجاء والرثاء والنشيد إلى آخر طبقات الصوت الشعري.
ورغم أنه في شهوره الأخيرة طالب بقراءته من دون اعتبار للسياسي إلا أنه شاعر يتبنى قضية محورية يتبين التعبير عنها شعريا من مرحلة إلى أخرى، وقد أدت فرادته الشعرية إلى أن يطبع جيلا كاملا من الشعراء الفلسطينيين وشعراء الجنوب اللبناني بصورة واضحة من دون إمكانية الانفلات من سطوة حضوره الشعري.

عبد المنعم تليمة:
المجدد

لا ريب في أن تجديد الشعر العربي هو أكبر حقيقة في الحياة العربية الحديثة والمعاصرة ويعكر على هذا التجديد أحيانا أدعياء يفهمون التجديد على أنه الصخب ورفع الشعارات بينما يفهم المجددون الحقيقيون الموهوبون الأمر على أنه معاناة حقيقية تلم بتراث الأمة وتحيط بالمشترك الإنساني ولقد كان محمود درويش في القلب من هذا الأمر، جمع في إبداعه عبر خمسين عاما المتواصل والمتواتر والمروي من موروثات الشعب الفلسطيني ومن تقاليد الشعر العربي ومن الخوالد الثقافية الإنسانية، انطلق من الحقيقة الفلسطينية إلى الهوية العربية إلى الآفاق الإنساني ، وكل ذلك يجعله في الصف الأول من طليعة شعراء العرب المحدثين وواحدا من ألمح شعراء الإنسانية المعاصرين.

جمال القصاص:
الفنية والحماسة

برحيل درويش تفقد الشعرية العربية شيئا غاليا من جمالها وهويتها المخلصة. وفي تصوري أن شعرية محمود درويش جمعت بين شيئين نادرين قلما يستطيع شاعر أن يجمع بينهما وهما القيمة الفنية العالية والحماس الوطني المتأجج ، فمنذ بداياته الأولى ونصه الشعري ينفتح بعفوية وقوة على إرادة الإنسان الحرة وحقه في أن يعيش الحياة بكرامة وعدالة وحب، ولعل ما يحفظ لقصيدة درويش خصوصيتها وتمايزها وامتدادها في الزمان والمكان هو انفتاحها الدائم على الحلم والذاكرة من دون فواصل بينهما، فكلاهما الحلم والذاكرة يشكلان القصيدة والوطن والهوية والإرادة في الوقت نفسه. استند درويش بوعيه الفني الثاقب على الحلم كطاقة تنويرية وتثويرية في الوقت نفسه وهو ما اكسبه غنائيته بكل ظلالها وتدرجاتها ملمحا من الطقسية الحميمة حيث التصق الشعر باللغة وكأنه في كل نص يولد منها بشكل جديد ومغاير عن ولادته في النص السابق، بمنطق الحلم نفسه ترك درويش تراثا من النثر وحّد فيه بين قضيته الوطنية وبين قضايا الإنسان في التحرر والنضال في كل مكان.
قصيدة درويش في رأيي هي قصيدة تشبث بالحياة في المقام الأول وسعي دؤوب لتخليص هذه الحياة من الكدر والشوائب على شتى المستويات. وهذا التشبث هو ما أعطي لفكرة الحلم نفسها نوعا من يقين الإرادة ويقين الوطن في الوقت نفسه.
لقد تأثر جيلي بدرويش في فترات كثيرة وظل يمثل لنا نموذج الشاعر الذي يخلق من عثرات الحياة وتناقضاتها المعقدة والهشة شعرا جميلا تمشي فيه اللغة وكأنه طفل يطأ ترابها لأول مرة ، لذلك أتصور أن درويش كشاعر كبير سيظل شاغرا في حياتنا الشعرية والثقافية لسنوات عدة.

جبران سعد:
خمسة وجوه لشاعر واحد

وسوف أحمل للمسيح حذاءَه الشتوي
كي يمشي ككل الناس
من أعلى الجبال إلى البحيرة .
صديق الهنود الحمر محمود درويش مات البارحة في بيتهم في تكساس، ومنذ فجر اليوم العاشر من آب، أرواحهم التي لها أشعةٌ وجنود، تشعل النار حول جزيرة مانهاتن وكل الشاطئ الغربي لولاية نيويورك احتفالاً ووداعاً لصديقهم الذي بدّل عوالمه .
وداعاً محمود درويش، سيمضي على رحيلك ألف عام، وداعاً للإثم الكنعاني ولعنة تموز ملاكين حارسين على كتفيك، وداعاً للذي مات مقهوراً وهو يتفرج على أشلائه الفلسطينية. لقد أضاف درويش عبر تعدد الثقافات ووحدتها الانسانية التي آمن بها، وعبر التحولات المستمرة لحساسيته الشعرية، أشعاراً وقصائد وجماليات غير مسبوقة عربياً بكثافتها وموضوعها، فكتب عن الكاماسوترا والهندي الأحمر وفلسطين بنفس مستوى تردد النبرة الشعرية لديه، مستخدماً عن عمد حدسَه الشتوي، وجماليات المكان (أي مكان) والموضوع (أي موضوع (سواءً كان في الماضي أو الحاضر، وكتب كتاباً كاملاً عن فلسطين دون أن يذكرها بالاسم، منذ “وردٌ أقل” ندهته أسباب وأسرار شعرية من وراء الغيم والكوكب، فاعتنى بها جميعاً مبدياً رغبةً وانحناءً أمام لا وعيه الشعري المزروع فيه منذ آلاف السنين، ومتوجاً احتفاله الشعري بالحياة عبر جداريته التي قدم فيها لغة شعرية بالعربية أقوى من أسطورتها وتاريخيتها، استوَت على كرسي مجمع آلهة قصيدة النثر بالعربية، كأن فكرةً ما من بلاد ما، لا قبل لها ولا بعد، مرَّت كبرق لامس الأبصار الإلهية ومنحته الحرية والإذن كي يغير رائحة الأرض الشعرية في العالم العربي، إلى ذلك أفصحت قصيدته حول الكاماسوترا عن كاتدرائيات جنسية راقية في أعماقه، غير مهدورة في خيالات وأفعال، كأن الجنس عنده لا زمان له، وأعلى من الحسيَّات المتداولة بين الناس منذ مئات السنين. تمزَّق المدى بعد هذه القصيدة ونام الشيطان على كتف امرأة تاركاً مكانه وإلهه عارياً وفارغاً بلا نهاية .
تموز. الهندي الأحمر. المسيح. زوربا. محمود درويش ، خمسة وجوه لشاعر واحد.

نجيب نصير:
كائن لا ينسى

كصوت المعلنين عن الرحلات في المحطات والمطارات أعلنت الإذاعة الداخليه لمعرض الكتاب بدمشق عن لحاقه بآخر رحلة تغادر جسده مع كأس النبيذ الأحمر الذي وعد به. هكذا بين صوره المتطايرة على الأغلفة المكدسة بإصرار فوق رفوف الوراقين، وكأنه (شقفة) من زوبعة علا نثارها اللامع وتابعتها العيون المزمومة وهي تغادر في وجوم لطخ وجنات الجموع التي تلفتت حولها كي تراه. كان هناك، وعن فوره دندن مرسيل خليفة احتفاء بالنبيذ الأحمر.
وقتها ونحن صغار في ستينيات القرن الماضي، لم نكن نعرف من الشعر الا كتابنا المدرسي ولم نكن نعرف من الشعراء الا المتنبي وأبو فراس والشابي وشوقي وأمثالهم الذين يشكلون لوحة الشعر الأسطورية، ولم يكن محمود درويش أسما مناسبا لنا لنضمه الى قافلة القوافي، ولكن نظرته التي اخترقت دوما زجاج واجهة المكتبة التي نقف حيالها، جعلته كائناً لا ينسى، كان ينساب باهرا بوسامة نحلم أن نكون على صورتها ... وعندما كبرنا وصادفناه في كل اروقة الجمال لم تغادرنا تلك النظرة المنطلقة من صورته التي زينت غلاف ديوانه، وكأنها استعادة لصوته ونبرته وشعره ونظارتيه وحركات يديه على المنبر واصلتنا معها وكأنها انبثقت من صورته الطازجة تلك وانوجدت خلف ذاك الزجاج الرائق... في الجامعة صار رفيق زهونا، وصار مباهاتنا، وعاشق فلسطين وشاعر المقاومة وأحمد الزعتر وجواز سفرنا وأمهاتنا وصار...الكثير ولكنه لم يكن الا... جميلاً.

رشا عمران:
مات الملك عاش الملك

هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الفنون جميعها
غير أن الموت لم يعتد على قبول الهزيمة، لم يشح بوجهه أمام الشامتين، ولم يتلعثم كخجل البنت الوردي أمام الشاعر الكبير ، ولم يختبئ وراء الباب الموارب كطفل يحاول التلصص على قصيدة للكبار، بل بفظاظة مطلقة مد لسانه لنا جميعاً وسحب الشاعر الكبير خلفه وغابا معاً، بينما نحن نقف كالمشدوهين غاضبين من عجزنا عن منعه من الرحيل و غاضبين من تصديقنا أن الفن سيهزم الموت وغاضبين من حزننا العاجز و البليد كلما حلا للموت أن يطقطق أصابعه ليمسك بيد الشعراء واحداً وراء الآخر عابراً بهم ضفة الكلام نحو ذلك الصمت الغريب.
“لا شيء إلا الضوء، لم أوقف حصاني إلا لأقطف وردة حمراء من بستان كنعانية أغوت حصاني وتحصنت في الضوء”
و الشاعر المشغول بالضوء و باللعب بالمعنى وبافتتان الغاويات والغاوين لم ينتبه كيف غافله الموت وتغلغل بين الحشود ليقف خلفه تماما وربما كي يدخل كالبهلوان إلى شرايينه يلاعبه حيناً، ويمد له رأسه حينا آخر، ويختبئ كما الجبان أحيانا أخرى، حتى صدق الشاعر أن الموت مجرد لعبة وأن العطب في شرايينه وذلك الوجع في قلبه هو اختبار للشعر وليس للحياة، من حسن حظنا أنه صدق ذلك يومها لنقرأه جديداً في اختباره ونحبه أكثر، لكنه وهو يتابع إغواءنا انتبه إلى أن الحياة حظ المتوكلين والمسلٍّمين والراضين، بينما الشاعر حظه القلق وحظه الحزن وحظه التوتر وحظه السؤال وحظه العبث والهشاشة والانكسار، حظ الشاعر ضعف القلب وتوسع الشرايين حد الانفجار. فانحاز مجدداً إلى اختبارات الكتابة واللعب بالمعنى وبالشكل وبالإيقاع كمن يراوغ الألم ليقهره، أو كمن يريد أن يلاعب الموت لعبة (الاستغماية) أطول مدة ممكنة ليقطف الشمس ويخبئها تحت قلبه المريض لعل الضوء الناصع يرعب الموت ويبعده، لكن الوهم أيضا حظ الشاعر، صدق أن للموت جناحي فراشة يرتجفان عند الضوء وصدقنا معه أن اثر تلك الفراشة اقل مما يستحق الانتباه إليه، لكن الشاعر الكبير غافل وهمه وغافل تشبثنا بوهمه، وسقط مضرجاً بمنفاه الأخير داخلاً في غيبوبة حزنه الأزلي بينما كانت قصيدته الأخيرة (لاعب النرد) تضرجنا جميعاً نحن الذين استعرنا حجارة نرده كي نشبه الملك.
مات الملك، عاش الملك.

نبيه عواضة:
ضريح في السماء

لماذا ترجلت.. وتركت الحصان وحيدا؟
من هزم من؟ انت ام الموت؟
من انتصر على من؟ انت ام اليأس؟ هل قضى عليك الامل حين ظل كلامك يحاصرك وانت في المنام؟
هل مرت القصيدة فأودت بشاعرها؟
لماذا رحلت؟
هل اتعبك المشهد؟ ارضك المحررة ارضان. وشعبك صار واقعا بين “محققين جديدين” واسماء جديدة لمعتقلين من هنا ومن هناك.
هل ثقبت قلبك رصاصة اطلقها اخوك على اخيك وأنت في غرفة العناية الفائقة فأودت بك؟ ام انك اشرت على قصائدك ان تتسلل تحت جنح الظلام الى حجرتك وتنزع عنك جهاز التنفس الاصطناعي.
هل ابتسمت لهم مرددا عباراتك: “نحب الحياة غدا، وعندما يطل الغد سوف نحب الحياة.. سنحبها على الارض بين الصنوبر والتين وشجر الزيتون”. “لماذا كان الموت مفاجئا؟ أكي لا يحاصرك شهيد قديم. فيسألك اين كنت؟ وعلى اي جبهة سقطت؟ وبرصاص من؟ مهما يكن فسنظل نختلف على حصة الشهداء في الارض”.
لمن نعتذر عما فعلنا؟ وانت، لمن اعتذرت؟ هل اعتذرت لامك؟ فتركت لها اغنية مكتوبة على ورقة صغيرة من علبة سجائر في جدار غرفة ضيقة داخل سجن الرملة.
نحن لم نعثر على القصيدة، لكننا شممنا رائحة القهوة، وتذوقنا طعم الخبز، عشقنا طفولة العمر، فخجل الجدار من دمعنا.
لماذا رحلت؟ من يعلّم الحراس الانتظار؟ وموتك لم يعد مؤجلا، والياسمين صار حزينا. كيف سمحت للموت ان يقفل هاتفك، وان يقطع التيار الكهربائي عن جرس بابك؟ فيهجرك من هنا لتصير لاجئا ابديا هناك. لماذا دعوته الى مطبخك؟ اعد لك وليمة واختار ما شاء من اغنياتك، لكن لماذا صببت له النبيذ؟ لو انك اسقيته الشاي مع المريمية لفر كما يفر الحصار.
وحيدون حتى الثمالة. صار الشعر يتيما وأضحت الاغنية ارملة. فقدت بيروت روحها. تكسرت اجنحة الفراشة الحجرية. غاب الغمام. غطى الحزن وداعك. نحن لن نتمكن من السير في جنازتك. لا لاننا لا نعرفك. بل لان الارض لا تزال محاصرة. فليشيدوا لك مقاما منيرا وهاجا قرب سدرة المنتهى فوق المدن العربية الحالكة، وفي سماء القرى والمخيمات فوق المنتجعات والقصور الرئاسية وبلاط القصور الفارغة.
ليصنعوا لك ضريحا في الهواء أو في السماء، وكلما امطرت السماء نبتت من التراب قصيدة تصرخ بنا “ان على هذه الارض ما يستحق الحياة”.

السفير
13-8-2008

***

نشيد الفراغ

عباس بيضون

قدر لجيل واحد من المثقفين العرب أن يعيش نوعا من دراما مزدوجة. لقد شهد بعينيه تقريبا مثول التاريخ واختفاءه. المولودون في الاربعينيات اوائلها وأواسطها لم يعانوا سقوط فلسطين، لكنهم ولدوا في تردداته الطويلة. لقد استيقظوا على مركب من الغبن والغدر والخيانة، وستكون هذه الاقانيم الثلاثة للمخيلة السياسية العربية، ستكون ايضا مداخل الى معرفة الذات والآخر. لن يكون الغبن والغدر والخيانة سوى غلالة بين الذات والآخر الذي يستوطن الذات ويحول دون انفرادها. مع هذه الأوتاد لن تكون الذات سوى مزرعة الآخر وسيكون استردادها منه معركة يائسة. وستكون المعركة مع النفس عينها تقريبا المعركة مع الآخر. فكرة النفس هو ايضا كره الغريب. بالطبع لن تكون هذه الاوتاد الثلاثة سوى سدود كبيرة ومتخبط واسع لا يمكن لأي معرفة فيه ان توجد او تتكون. ما كان يمكن في هذا الاختلاط والتشابك فرز الداخل من الخارج، فرز السياسي البسيكولوجي والاجتماعي او فرز الذات من الآخر، انه عماء حقيقي وفي ظرف كهذا كان من الصعب ان نتخيل دينامية وتحولاً. من الصعب ان نتخيل شيئاً سوى التكرار والاحتدام والصدمات والرضوض والركود والاستنقاع. أي بكلمة واحدة من الصعب ان نتخيل تاريخا، اننا في وضع المستقبل وراءه وليست له غاية واضحة سوى ان يعيد أمراً ما مسمى وغير مسمى. الدعوة السائدة هي الاسترجاع، الاسترداد وان يكن ليس واضحا ما هو الذي استرداده. انه دين غامض تجاه سلطة لا تقل غموضا. في مسألة فلسطين يمكن الكلام عن استرداد فلسطين، لكن هذا ملتبس عادة بفكره، استرداد اكبر قد يكون استرداد عصر ذهبي لم يكن او تاريخ مجيد فات أوانه او موعد مع قوة مطلقة. لم يكن ممكنا سوى معاناة هذا الدين وهذا الالتفات للأصل.
كان التاريخ متعذرا في اللحظة التي ظهر فيها فجأة بدون مقدمات وبدون تمهيد. ظهر فجأة كاملا وماثلا، ظهر بمجانية وبدون انتظار منحة او معجزة. أتى من الاشواق والمعاناة اكثر مما اتى من الواقع ومن الإمكان حضر من غير المكان الذي يحضر منه وكأنه سماء ثانية او معادل للخيال كان واقعا أسطوريا، اذا جاز القول، فجأة وجدنا السبيل للخروج من العماء والمتاهة. امكن تخليص المستويات من بعضها، وامكن الاسترداد بدون ان يحصل هذا في الزمن الحقيقي، تحول الغبن والغدر والخيانة الى عناصر تاريخية، الى عناصر دفع وحضور وتقدم. بدا فجأة ان الأمة العربية ماثلة وأن مشروعا هو في الوقت عينه الاسترداد (المجد السليب والبلد السليب) والتحديث والقوة. في الفترة الناصرية البعثية بدا ان الدخول للعالم بسهولة استحضار الماضي. بدا أن سحرا ما جعل من العرب صعيدا واحدا ونفحهم فجأة ومجانا بمستقبل ومشروع. كان هذا زمن كلية وامتلاء (الكلية والكليانية هنا تتناغمان)، ورغم ان الحرية لم تكن كافية، لكن ماذا يهم اذا كانت الأمة واحدة والشعب واحدا، فما حاجتنا الى الاختلاف.
كما حضر التاريخ فجأة ومجاناً غاب فجأة وبدون سبب واضح. هزيمة حزيران كانت تقريبا هذا الاختفاء. لم يكن ممكنا تعقل الاختفاء كما لم يكن ممكنا تعقل الحضور. كان ذلك اشبه بحلقات سحرية متعاقبة. من حلقة الى حلقة، لقد ظهر التاريخ ثم غاب. هذه المرة لا نعرف اذا كان حدث فعلاً، لكنه ترك لنا ذكرى مضنية. حرنا في امر الظهور وفي امر الاختفاء والى الآن لم ندرك سرهما. بالطبع كانت هناك روايات متعددة متضاربة، لكن ايا منها لم تصر في الواقع، الغبن والغدر والخيانة هذه المرة تملك اكثر فأكثر وجودا شبه مادي. لقد وجد زمن يمكن تقليده ويمكن تسميته ايضا. سيجري البحث عن بديل له في كل لحظة. في حين كان البعض يظن ان المطلوب البحث فيه عن سبب كسوفه، فان عملية كهذه لم تكن تمنع من ان الحلم بقي هو نفسه. القوة والدَّين الذي غدا الآن متزمناً وبادياً كذكرى قريبة. كان البحث عن نموذج بديل هو بحد ذاته مسار انحطاط فظيع. الكاريكاتور يحل محل الاصل شبه الزائف اصلا. التهريج يحل محل الملحمة المسحورة، الانتفاخ والادعاء الصريح محل القوة او مظهر القوة. لقد اختفى التاريخ وترك كاريكاتوره ومسوخه ومومياءه.
كيف أمكن لمثقفي الستينيات ان يواجهوا هذه الدراما المزدوجة الحالية مع ذلك من أي درامية. كيف امكن لهم ان يفعلوا حيال هذا الخداع التاريخي. ان يتعقلوه رغم اصراره على ان يبقى خفيا ورغم مكره المتجدد البادي في سقوط الى الفراغ وتقليد واعادة بهلوانية. يمكن ان نتذكر في هذا السياق خيرة مفكرينا وأدبائنا. لعل شعر محمود درويش الثاني في الثمانينيات هو العناء المصاحب لاختفاء التاريخ والمخاطبة الفعلية للفراغ، ستأتي مع محمود درويش وبعده هذه المخاطبة للفراغ. بعد الرثاء ستكون هناك السخرية وسيكون هناك الاعتراف بالزوال والفناء المحطِّم للفراغ نفسه.

***

هوامش

طلال سلمان

لقاءات أقل، حب أكثر.. مع محمود درويش!
لم يترك لنا محمود درويش الكثير لنقوله فيه وعنه. لقد قال ذاته بكل تحولاته، انكساراته، زهوه، مرارته، دواوين عشقه، أشواقه، رغبته في الحياة التي جعلها حياتين، ثلاث حيوات أو أربعاً، بل خمساً، بل ألفاً... فكلما كان يحس بقرب النهاية ابتدع حياة جديدة وبدأ ينظمها أشعاراً وأقماراً وعاشقات وباقات ورد وسخرية من الموت واستغراقا في تحديه ثم الاعتذار منه، فإذا ما قبل الاعتذار انقلب يصف جنازته بكل ما فيها من مراسم، انتهاءً بالشتائم التي سيكيلها له الشعراء!
قرر محمود درويش أنه »الكل في واحد«. هو فلسطين، بالقدس ويافا وحيفا وبيت لحم وجنين ونابلس وطولكرم، بالبيرة أولاً حتى لو مُسحت عن وجه الأرض، فهو الأرض وأهل الأرض، وهو من يسمّي الناس والمدن والقرى. ثم إنه الشام ومصر والقطار الذي لم يتبقّ منه إلا قضبان السكة الحديد وصدى دوي صفارته العابرة المسافات على أجنحة الطيور المهاجرة. هو رام الله السجن والمكتب والديوان والمقبرة. هو المغني والغناء، هو الحادي وصوت البكاء في حنجرة الناعي. وهو دموع الثكلى التي ترفض بعقلها قبل قلبها أن يكون قد رحل وخلاها.
قرر محمود درويش أنه فلسطين التي كانت تسمى فلسطين وستبقى تسمى فلسطين، وأنه بلاد الشام جميعا، حيث يكون الموت حقاً نائماً. وحيث أرض الحلم عالية ولكن السماء تسير عارية وتسكن بين أهل الشام، وأنه مصر التي تجلس خلسة مع نفسها فتكتشف أن لا شيء يشبهها وترفو معطف الأبدية المثقوب من إحدى جهات الريح، وهو تونس »التي أرجعتني سالماً من حبها«، وهو العراق إذ يتذكر السياب »فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي«، وهو طريق الساحل، طريق المسافر من.. والى نفسه، جسدي ريشة والمدى طائر، طريق السنونو ورائحة البرتقال على البحر، طريق طويل بلا أنبياء فقد آثروا الطرق الوعرة.. طريق يؤدي الى طلل البيت تحت حديقة مستوطنة،
وقرر محمود درويش، ايضا، أن الموت يعشق، فجأة، مثلي، وأن الموت مثلي لا يحب الانتظار! وأن كل قصيدة أم/ تفتش للسحابة عن أخيها، قرب بئر الماء: يا ولدي سأعطيك البديل، فإنني حبلى، وكل قصيدة حلم: حلمت بأن لي حلماً سيحملني وأحمله الى أن أكتب السطر الأخير، على رخام القبر: نمتُ لكي أطير...

***

لكأنه كان يعرف كل شيء عن الأرض وناسها، عن البلاد من قبل أن يزورها، عن النساء قبل أن يعشقنه، عن الرجال قبل أن يتحطموا على جدران العبث أو الفساد أو اليأس أو الانتحار. ولقد ميز دائماً بين الذين ولدوا شهداء وبين الذين غادروا ليكونوا في الغد.
يختلط فيه المؤرخ والراوية والشاهد والشهيد، الطفل الذي ولد في قلب الشراسة/ كان عليه أن يقاوم محوه، أن يؤكد أنه باق بأرضه وإن مُسحت عن سطحها قريته، وباق بوطنه وإن حاولوا تبديل هويته علمه واسمه بالقهر. كان عليه أن يكون وطنه فكأنه في الصحو والغفلة، في الحلم كما في الكابوس.
قاس مع نفسه ومع الآخرين. يرى نفسه فلسطين، فيحاسبها إن ابتسم أو بكى/ في علاقاته بالآخرين. ولأنه أطل على الأفق الإنساني الأوسع فقد تجاوز »المحلي« فيه وحاول أن يقدم لفلسطينه وللفلسطيني الصورة التي لا تثير في العالم الشفقة لأنه مسكين، أو الذعر لأنه إرهابي، أو السخرية لأنه متخلف.
كان العالم يقبل »الآخر« الذي حوّل الخرافة الى دولة من حديد ومشانق ونار، ولا يقبله هو الحقيقي بلحمه ودمه وأرضه وتاريخه الذي لا يمكن فصله عنها.

***

ولقد عرفت محمود درويش أكثر مما رغب وأقل مما أحببت. تسكعنا قليلا وتجادلنا كثيرا. تقاسمنا حب البعض من الأصدقاء، وتناكفنا ونحن نتبارى في احتقار الأدعياء وطلاب الزعامة ولو على أطلال الكتابة. تجادلنا في القاهرة على مصر وعبد الناصر. ثم اكتشفت »خيانته« عندما حمل إلي صديق قصيدته التي لم تعرف كثيرا في من قال فيه: »نعيش معك، نسير معك، نجوع معك، وحين تموت نحاول ألا نموت معك. لماذا تموت بعيدا عن الماء والنيل ملء يديك؟ لماذا تموت بعيدا عن البرق والبرق في شفتيك؟ نراك، نراك، نراك، طويلاً كسنبلة في الصعيد، جميلا، كمصنع صهر الحديد، وحراً، كنافذة في قطار بعيد، ولست نبياً، ولكن ظلك أخضر! أتذكر كيف جعلت ملامح وجهي/ وكيف جعلت جبيني وكيف جعلت اغترابي وموتي أخضر، أخضر، أخضر؟!« بداية ثم يختمها بقوله: »ولست نبياً، ولكن ظلك أخضر.. نعيش معك، نسير معك، نجوع معك، وحين تموت نحاول ألا نموت معك.. ففوق ضريحك ينبت قمح جديد، وينزل ماء جديد، وأنت ترانا نسير، نسير، نسير«.
.. وبكينا معاً ونحن نودع إبراهيم مرزوق المبدع مثله، والذي عشق الفنون جميعاً وأعطاها عصارة عمره وألوانه ورؤاه. وكان، مثل محمود، يحس ان وجوده قليل فسرّع ريشته وريشة العود وعلّمنا مع الرسم الغناء والموسيقى وعشق الأرض وياسمينها:
»كان إبراهيم رسام المياه، وسياجاً للحروب، وكسولاً عندما يوقظه الفجر.
ولكن لإبراهيم أطفالاً من الليل والشمس، يريدون رغيفاً وحليبْ؟
»ما الذي أيقظك الآن، تمام الخامسة؟
»كيف تعرف؟ هي بيروت الفوارق/ هي بيروت الحرائق/ ما الذي أيقظك الآن تمام الخامسة؟ إنهم يغتصبون الخبز والإنسان منذ الخامسة.
»كان إبراهيم رساماً وأبْ/ كان حياً من دجاج وجنوب وغضب/ وبسيطاً كصليب/... في تمام الخامسة، كان إبراهيم يستوي على اللون النهائي/ ويستولي على سر العناصر/ كان رساماً وثائرْ/ كان يرسم/ وطناً مزدحماً بالناس والصفصاف والحرب/ وموج البحر والعمال والباعة والريف/ ويرسم/ جسداً مزدحماً بالوطن المطحون في معجزة الخبز/ ويرسم/ مهرجان الأرض والإنسان خبزاً ساخناً عند الصباح/ كانت الأرض رغيفاً / كانت الشمس غزالة/ كان إبراهيم شعباً في الرغيف... وهو الآن نهائي.. نهائي! تمام السادسة. دمه في خبزه. خبزه في دمه. الآن، تمام السادسة«.
... وبكينا معاً حين غادرنا أمل دنقل، الذي جاءنا في بيروت عله يجد فيها القاهرة التي ضُيّعت، وفلسطين التي ضُيّعت، والقصيدة التي ظلت تعرف أهلها، فلما اكتشف أن مصر أوسع من أن يغادرها وأبهى من أن ينساها عاد ليموت فيها ومن أجلها:
»واقفا معه تحت نافذة/ أتأمل وشم الظلال على ضفة الأبدية
قلت له: قد تغيرت يا صاحبي... وانفطرت!
فها هي دراجة الموت تدنو/ ولكنها لا تحرك صرختك الخاطفة..
»قال لي: عشت قرب حياتي/ كما هي/ لا شيء يثبت أني حي/ لا شيء يثبت أني من الغياب يرف كزوجي حمام على النيل/ ينبئنا باختلاف الخطى فعل المضارع الجنوبي يحفظ طريق الصعاليك عن ظهر قلب.. ويشبههم في سليقتهم وينام على درج الفجر: هذا هو البيت، بيت من الشعر، بيت الجنوبي... قرآنه عربي، ومزموره عربي، وقربانه عربي.
وفي قلبه زمنان غريبان، يبتعدان ويقتربان: غد لا يكف عن الاعتذار: نسيتك لا تنتظرني، وأمس يجر مراكب فرعون نحو الشمال: انتظرتك، لكن تأخرت«.

***

ضحكنا حتى حدود البكاء ونحن نستعرض الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ الذين يحكمون شعوب هذه الأمة الممنوعة من أن تكون.
قال يصف من التقى، وقلت أصف من التقيت.. وبعدما هدأت موجة الضحك من الذات سألني: هل تشاركني في كتاب عنهم؟! ذلك السلطان الذي لا يحب الأطفال، وذلك الأمير الذي يعوض عن قصره بطول يده، وذلك الرئيس الذي يتباهى بأن الخصية الواحدة لا تمنع الإنجاب، وذلك القائد الذي يدّعي لنفسه وراثة الرسول العربي، وذلك الأمير الأبله الذي عرف بالسمع أن ثمة خللاً في أجنحة الطائرة.
وصلنا الى بعض الأسماء المحظورة، التفت إلي فتطلعت الى الناحية الأخرى، فقام الى الراديو يبحث عن محمد عبد الوهاب والأغنية التي يحب »كل ده كان ليه«؟! وحين عبرت فيروز أوقف الإبرة ورفع الصوت الى المدى الذي لا تحبه السيدة وعاد يفرك كفيه: وجدت ما يعوّضني عن سماع ترّهاتك!
قلت: نتحدث عن العواصم، عن البلاد، عن أهلها... عن العشق!
ونظم محمود ديواناً جديداً.

***

دخل عليّ ذات يوم وفي يده قصيدة. استغربت. لم يكن، في العادة، يقبل إلحاحي بالنشر في »السفير« أولاً... فالشعر عن لبنان الحرب الأهلية مصدر خطر، والشعر عن مصر يجب أن يُنشر في مصر، وعن الشام في الشام، وعن فلسطين في أربع رياح الأرض.
كانت القصيدة عن »عودة الأسير«: جندي مصري وقع في الأسر في سيناء، ثم استطاع أن يهرب فقطع الصحراء مشياً على قدميه في الليل، أما النهار فللطائرات.. وحين أطل على مصر أنشد يقول:
»النيل ينسى.. والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا
هناك حمامتان بعيدتان، ورحلة أخرى، وموت يشتهي الأسرى
.. وهذي فرصتي، يا مصر، أعطيني الأمان
لأموت ثانية، شهيداً لا أسيرْ،
.. قد طاردوك ـ وأنت مصر ـ وعذبوك ـ وأنت مصر
»هل أنت يا مصر... هل أنت مصر«.
... وعندما عاد، مرة، من زيارة لعدن تحت حكم الحزب الاشتراكي كتب يقول:
»ذهبنا الى عدن قبل تاريخنا فوجدنا اليمن
حزيناً على امرئ القيس، يمضغ قاتاً ويمحو الصور
أما كنت تدرك يا صاحبي، أنّا لاحقان بقيصر هذا الزمن«!
أما الشام فكان كلما عاد منها، اشتهى أن يعود اليها. كان يطلبها لذاتها وبذاتها، ويذهب اليها بناسها وحسرته بردى:
»بكى الناي، لو أستطيع ذهبت الى الشام مشياً كأنني الصدى،
»ينوح الحرير على ساحل، يتعرج في صرخة ليل لم تصل أبدا،
يا رمح، صمت المدى، حين يصرخ: يا شام، يا امرأة هل أحب وأبقى؟ (وبكى الناي. لو أستطيع البكاء كناي.. عرفت دمشق![)
في اللقاءات الأخيرة، كما في الاتصالات الأخيرة، كان الموت ثالثنا دائماً.
كان واضحاً أنه قد دخل معركته مع الموت مواجهة.. لذا كان يخاف أن ينام حتى لا يأتيه في غفلة. كان يريد أن يواجهه في عينيه! لم يكن دون كيشوت. لم يكن عنترة العبسي. لكنه كان قد سئم لعبة الاحتمالات:
» ـ يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا
سمعت الخطى ذاتها منذ عشرين عاماً، تدق على حائط الليل، تأتي ولا تفتح الباب.
لكنها تدخل الآن ويخرج منها الثلاثة: شاعر، قاتل، قارئ..«
وكان يفترض أنه، وقد قرر بنفسه موته فإنه سيختار لونه:
»كيف تطلب موتك؟! أزرق مثل نجوم تسيل من السقف«
ولأنه يكره الرثاء بقدر ما يحترم الشهداء، فقد أعطى لنفسه الحق بحراستهم:
»عندما يذهب الشهداء الى النوم، أصحو وأحرسهم من هواة الرثاء
أقول لهم: تصبحون على وطن، من سحاب ومن شجر، من سراب وماء«.

***

اختلفنا، غير مرة، في نقاشنا السياسي حول المسار السياسي للقيادة الفلسطينية. كنت أكثر حرية، وكان أكثر حرجاً. إن له اعتراضاته، لكن ماذا تراه يفعل وقد تداخلت الهوية والأرض والقضية والسلطة؟ لقد بات متعذراً وضع الحدود بينها. كذلك فقد بات العجز فاضحاً.
وليس من السهل الادعاء أن استيلاد بداية جديدة أمر ممكن. تلك مهمة أجيال جديدة. وتلك مهمة تحتاج الى زمن إضافي لا نملكه. ثم إن صورة العدو تتبدل في ضوء قدراتك: اذا كنت قوياً كفاية صار قبولك بالصلح تسامياً منك وعفواً كريماً عمن أخطأ بحقك! أما اذا كان الضعف يتهدد هويتك في يومك، فكيف يمكنك أن تستنقذ منها ما أنت بحاجة اليه في غدك؟
ثم إن محمود درويش يعرف إسرائيل من داخلها. يعرف أحزابها ومنظماتها. يعرف عن جيشها وعن مخابراتها. يعرف عن »العرب« فيها. ويعرف الفروق بين اليهود الأصليين واليهود الذين استوردوا من بعض أوروبا، ويعرف من هودوا ليصيروا إسرائيليين.
في يقين محمود درويش أن الحق لا يضيع والأرض لأصحابها مهما جرى، وأن مسار التاريخ واضح، بشرط أن يكون أهله حاضرين:
»على هذه الأرض ما يستحق الحياة. على هذه الأرض سيدة الأرض، أمّ البدايات، أمّ النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي، أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة«.
لفلسطين الحياة، ومحمود درويش منها ولنا ومعها وفيها.

مــن أقــوال نســمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعطاني محمود درويش لغة الحب. وهي ستبقى معي. لقد ارتقى بلغتي، فصرت أعرف كيف أقول لحبيبي إنه أرضي وسمائي وقمري والقبّرة التي تجيء مع الحصاد والحسون الذي يغرّد ليطرب حبيبته.
محمود درويش يسكن في حبي، من قبل، وسيبقى فيه الآن... فهو غنـائي وشجني. إنه اسمانا وقد اجتمعا.

***

وجــودٌ لا يُقال إلا شعراً

خالدة سعيد

كيف نفــهم هــذا الغــياب؟ هذا الخطف؟ وكيف نقدر أن نصدّق؟
وكيف هوى بالشاعر القلب، وهو من رسم حياته بهدى قلب بصير وحبّ شاسع؟
مستوطن الغربات خطفته الغربة الكبرى.
»الموت حــق« هكذا يُقال. لكن هذا الموت لا حق فيه. الحق مات وطُعنت شــرائعه وتُطـعن كــل يوم: هذا مــا قتل محمود درويش.
ولن يعزينا القول، »ضوء شعره باق«؟
محـمود درويــش »كان« وسيبقى »الوجود الذي لا يُقال إلا شعراً«.
في هذا الوجود الذي »قيل شعرا« لسنا مع شاعر قصيدة او قصائد، لسنا مع شاعر لحظة وموقف وحالة، نحن مع صاحب كتابة شعرية للوعي ورؤاه، مع كتابة شعرية تلتمس الجوهري وتستضيء بالحق، كتابة تبني العالم كمعنى وحركة ضد الظلم والغياب والدمار. من هنا أنها كتابة عالم في حركة تداخلات وعناق، كتابة هوية (لا هوية قومية وسياسية وحسب، وليست بالقطع هوية شعارات) بل هوية، شكل أعلى لوعي الذات والعالم، هوية، فيما تختزن التاريخ والمعاني الفلسطينية تغدو في الوقت نفسه جرحا كونيا. إنها كتابة تحضر ضوءا، خلاصة ومرجعا لتواريخ التمزق والرحيل، كتابة، هوية، تصير سفرا لعظمة الآلام وعناد الحق، هوية مفتوحة مشرعة على الآتي، في اتجــاه ذروات من الانســانية ومن الوجـود الشعري.
ليس شعر محمود درويش »تفسيرا للعالم« وحسب، إنه في الوقت نفسه تصور للعالم. إذ ليس شعره تعبيرا، بل جيشان أغوار وذاكرات، وسير في ضوء أنبياء المحن في الذاكرات جميعها، إبداع للمعاني واكتشاف لروعة الحياة وحكمة الحياة في الألم في وقت واحد. فالأشياء عنده غير موجودة خارج ما نضفيه عليها من معان. ولا يوجد الإنسان في العالم خارج المعنى والأفق الذي يرسمه لحياته. والشعر العظيم ملكة عظمى تبدع هذه المعاني وتجــددها فتــجدد حالة الحضور في العالم.
شعر محــمود درويش يؤسس المعنى جسراً للعبور والتجاوز، فوق أهــوال العــبث وجــنون التــدمير والقهر والتناقض والعدمية، يفتح سماوات الأمل، ويرتاد أفــقا لولادة إنسانية جديدة.
هــذا الأفــق الذي فتــحه لنا شعــره هــو إرثنا الذي لن يموت.

***

انتصـــار الحيـــاة

كاظم جهاد

كتبَ الفقيد العزيز بُعيد خروجه من العمليّة الجراحيّة الثانية التي أُجريت لقلبه في ١٩٩٨ قصيدته الكبرى الشهيرة »جداريّة محمود درويش«، التي صدرت في .١٩٩٩ وقُبَيل خضوعه للعملية الجراحيّة الثالثة التي ستودي بحياته نشرت »القدس العربيّ« في الثالث من تموز/يوليو المنصرم قصيدته الكبرى »لاعب النّرد« التي يمكن اعتبارها بمثابة وصيّته الشعريّة. كلتا القصيدتين تشكّلان بياناً بليغاً عن فلسفته في الحياة وفهمه الخاصّ للإبداع الشعريّ. ولئن كانت الأولى تحمل لهجة العائد من الموت والثانية تنطق بهواجس الذّاهب إلى مقابلته، فمع ذلك لا يخفى على القارئ ما فيهما من انتصار للحياة، بالمعنَيين الاثنين للتّعبير. ثمّة في بنية الإضافة اللغويّة، التي يمكن أن تتحقّق في العربيّة عبر الإضافة المباشرة (»انتصار الحياة«) أو بتوسّل الجارّ والمجرور (»انتصار للحياة«)، أقول ثمّة لبس حيويّ بالغ الثّراء طالما كان يحبّذه، عبر صيغتيه الفرنسيّة والإنجليزيّة، عاشق للحياة وراحل مبكّر آخر هو الفيلسوف جاك دريدا. إنّه، أوّلاً، انتصار الفنّان لا على أعداء فعليّين أو افتراضيّين في ما يشبه خطاباً احترابيّاً (وما أكثر الخطابات الاحترابيّة في هذا العالَم، وفي عالَم الشعراء بخاصّة؟)، بل هو انتصار للحياة بمعنى التشيّع لها ضدّ كلّ من يريد أن يلغي في الكائن محبّة الحياة وقوّة الفرح الحيّة. وهو، ثانياً، انتصار للحياة بمعنى انتصارها هي نفسها على كلّ ما يناوئها ويأتي لاستئصالها بعمل مدروس ومنظَّم أو بفعل »خبطة« مفاجئة.
قبل أن أطرح شواهد دالّة على هذا الانتصار للحياة في شعر درويش، حتّى في المنقلبات الخطيرة التي تصوّره عائداً من الموت أو ذاهباً إليه، أودّ الإعراب عن الفكرة التالية: قد تدعونا قراءة متأنيّة لآثار الشّاعر إلى إعادة النّظر في تصوّرات خطيرة وخاطئة، خطيرة بقدر ما هي خاطئة، لشعره. فخلا بعض القصائد المبكّرة من قبيل »بطاقة هويّة« (المعروفة ببيتها الأوّل القائل »سجّلْ أنا عربيّ«)، لا شكّ في أنّ ثمّة مجازفة كبيرة، بل خطلاً كبيراً في اختزال شعر درويش إلى »شعر مقاومة« أو إلى »شعر نضاليّ« بالمعنى الضيّق هو أيضاً والاختزاليّ المعطى لهذا النمط من الشّعر. لا أحد اختزلَ إلى مثْل هذا النّمط عمل باول تسيلان المكرّس في أغلبه لِندْب ضحايا غرف الغاز في ألمانيا الهتلريّة، ولا قصائد إيلوار في »عاصمة الألم« وسواها من الأشعار التي تغنّي الحبّ المحاصَر في باريس المحاصَرة، ولا »صحائف هيبنوس« التي كتبها رنيه شار في الشهور التي قاد هو فيها عدداً من فصائل مقاومة النازيّة في الجنوب الفرنسيّ، لا ولا قصائد نيرودا المكرّسة لمرافقة آلام شعبه العائش يومذاك في ظلّ حكم ديكتاتوريّ. وقد يتوجّب أن توضع في المستقبل دراسات نقديّة لتثبيت مقولة الصّديق الشاعر عبّاس بيضون التي أراها منصفة ودقيقة تماماً: »محمود درويش ليس شاعر حماسة. إنّه باختصار شاعر مرارة ويمكننا بسهولة أن ندرج شعره تحت عنوان الرّثاء« (»السفير«، ١١ آب/أغسطس الجاري).
سوى أنّ هذه »الرثائيّة« التي يشير إليها عبّاس لا تفتقر إلى الفرح، ولا شكّ في أنّ هذا هو ما يرمي إليه صديقي الشاعر اللّبنانيّ. فرح معهود في كلّ نظرة تراجيديّة إلى الوجود، هذه النظرة التي يمتزج فيها، داخل الإحساس القويّ والمركَّب ذاته، وجع من أجل الحياة وتهليل ظافر للحياة. درس نيتشويّ أساسيّ يرينا الفيلسوف الألمانيّ امتداداته في التراجيديا اليونانيّة، ويمكن أن نلمس له جذوراً في جميع الآداب الإنسانيّة، بما فيها شعرنا الجاهليّ.
من قبل، في »ورد أقلّ«، كتب محمود درويش: »ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً«، طارحاً اعتناق الحياة كقرار صارم وفي الأوان ذاته كمشروع أو احتمال. ذروة المأساة هي هنا بلا ريب: أن تحبّ الحياة عندما »يتلطّف« الآخرون (العدوّ الفعليّ والإخوة ـ الأعداء) ويتركون لك إمكان اعتناقها ولو للحظات. في بيت واحد، في صيغة بسيطة يعجز عنها مَن يتوهّمون في البساطة سهولة نافلة ونفياً للعمق، يضع الشاعر جنباً إلى جنب خطاب الرّغبة وانتصاب العائق الذي يريد وأد كلّ رغبة.
في »لاعب النّرد« نجد تعابير أخرى شديدة الدّلالة على ما دعوتُه »اعتناق الحياة«. اعتناقها كمثْل مَن يعتنق مبدأً عزيزاً أو ديانة شخصيّة صارمة، منفتحة مع ذلك ولاعبة، وذلك حتّى في اللحظات التي تبدو فيها الحياة ولا أكثر هروباً وتمنّعاً. بادئ ذي بدء يصوّر الفقيد الكبير الحياةَ كمجازفة ورهان رابح ـ خاسر لا يملك الوعي الصّاحي أمامه إلاّ أن يحسب الخسارة جزءاً من الغنيمة، والغنيمة نفسها شطراً من الخسران. كتب محمود: »أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً/ أنا مثلكمْ/ أَو أَقلُّ قليلاً«. بعد هذه البداية التي تحفر في الخطاب نبرة تهوينٍ للأنا طالما عمل به الشّاعر الفلسطينيّ، يسرد ولادته نفسها باعتبارها عملاً للصدفة، ويختطّ لنفسه مكاناً في شجرة أنساب تحمل على أحد فروعها المرض الفادح (عطب القلب الموروث الذي عرّضه لعمليّات متوالية وخطّ نهايته المبكّرة على نحو فاجع): »وُلدتُ إلى جانب البئرِ والشّجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالرّاهباتْ/ وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ/ وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً وانتميتُ إلى عائلةْ/ مصادفَةً، ووَرِثْتُ ملامحها والصّفاتْ/ وأَمراضَها...«. بعد ذلك يسرد الشاعر سلسلة من فرَص النّجاة غير المأمولة التي وهبتْه أن يبقى في الحياة. فرَص ينبغي أن نسردها في تعدّدها اللاّفت وبنبرة السّخرية المُرّة التي يمنحها إيّاها الشاعر. في أوّلها يقف ضياعه في ليلة النّزوح الرّهيبة يوم كان في سنّ السّابعة وأضاعته والدته ثمّ انتبهت إلى غيابه وعادت تبحث عنه في الظلام: »نجوتُ مصادفةً: كنتُ أَصغرَ من هَدَفٍ عسكريّ/ وأكبرَ من نحلةٍ تتنقل بين زهور السّياجْ/.../ ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفتْ من هناك/ مُصَادفةً، أو هروباً من الجيش«. يليه تأخّره عن باص مدرسيّ كان مقدَّراً لركّابه الصّغار أن يحصدهم حادث سيْر: »كانتْ مصادفةً أَن أكون أنا الحيّ في حادث الباصِ حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّةْ«. تليه حادثة غرق وإنقاذ معجِز: »ولا دَورَ لي في النّجاة من البحرِ، أَنْقَذَني نورسٌ آدميّ/ رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّ«. ثمّ تأخّره عن موعد إقلاع طائرة ستلقى مصير باص الصّغار نفسه: »كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ/ بي صباحاً، ومن حسن حظّيَ أَنّي نَؤُوم الضحى/ فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ/ كان يمكن أَلاَّ أرى الشّام والقاهرةْ/ ولا متحف اللّوفر، والمدن السّاحرةْ«. ثمّ نجاته من رصاصات قنّاص في إحدى حارات بيروت: »كان يمكن، لو كنتُ أَبطأَ في المشي، أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي/ عن الأرزة السّاهرةْ«. وفي الختام التفاته في اللحظة المناسبة لتعب قلبه قُبيل إجراء عمليّته الجراحيّة الثانية: »ومن حسن حظِّيَ أَنّي أنام وحيداً/ فأصغي إلى جسدي وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ/ فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائقْ/ عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً وأُخيِّب ظنّ العدَمْ«. أسباب النّجاة هذه يحيلها الشاعر تارةً إلى صدفة مُحسنة، وطوراً إلى عناية الآخر السّاهر عليه دوماً، وطوراً آخر إلى نباهته هو نفسه وحُسن إصغائه إلى إنذارات جسده. والعدَم، نقيض الوجود كما يدلّ عليه اسمه، هو ما يَخيب ظنّه بهذا الإصرار العجيب للحياة على إنقاذ عاشقها ومغنّيها من مآزق عديدة. العدَم، لا هذا العدوّ أو ذاك، ولا أيّة هيئة إنسانيّة مسمّاة. وفي هذا التّعداد الضّاحك لمناسبات الخلاص الذي يخطّه شاعر يعرف أنّه ذاهب إلى مناورة مع الموت قد لا يعود منها تتجلّى أسرار عديدة من فنّ محمود درويش الشعريّ، أسرار بها عرفَ هو أن يموقع قصيدته، كما ذكر صديقي الناقد السّوريّ صبحي حديدي في إحدى دراساته عن شعر الفقيد، أقول يموقعها خارج القسمة الشكليّة إلى »قصيدة حرّة« و»قصيدة نثر«، أو (بقاموسي الشخصيّ) إلى قصيدة حرّة تفعيليّة وقصيدة حرّة غير تفعيليّة (هكذا أدعو الأبيات المنثورة على شاكلة الماغوط). فلئن كان من النوابض الأساسيّة للشعر الحرّ غير التفعيليّ ولقصيدة النثر الإقلال من سطوة الغناء واستدخال لغة الخطاب اليوميّ وحسّ النادرة الموظَّفة بذكاء وفنّ الإضمار أو الحذف الذي به يتميّز السّرد الشعريّ عن سرديّة الحكاية، فإنّك لَواجدٌ هذا وسواه من العناصر التجديديّة في شعر درويش.
هكذا تجد قصيدة »لاعب النّرد« مرتكزها الأساسيّ في تعداد فرِح أكثر منه انتصاريّاً لمناسبات خلاص سابقة عديدة يقدّمها الشاعر باعتبارها إرثه الخاصّ وبها يجابه الموت القادم. يجابهه ويسجّل بادئ ذي بدء إن لم أقل انتصاره عليه فعل الأقلّ انتصار الحياة. أمّا »جداريّة محمود درويش« فيوجّهها منطق آخر. هي قصيدة النّاجي (النجاة مرّة أخرى) الذي داس على أعتاب الموت البليلة الغامضة وعاد منها بوصف تمنحه صيغة الحاضر (ما يدعوه الفرنسيّون »مُضارع السّرد«) طراوة باهرة: »لا شيء يُوجِعُني على باب القيامةِ. لا الزّمانُ ولا العواطفُ. لا أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ الهواجسِ. لم أَجد أَحداً لأسألَ: أينَ »أيني« الآنَ، أينَ مدينةُ الموتى؟ (...) وكأنّني قد متُّ قبلَ الآن...«. وكما عوّدنا عليه محمود في أغلب أشعاره، فإنّ تعداد فرص النّجاة لا يتمخّض لديه، كما لدى كثيرين، عن إحساس بالظّفر، بل هو يملي قراراتٍ من أجل صيرورة قادمة: »سأَصير يوماً ما أُريد« هي اللاّزمة التي يكرّرها بعد وصفه لتخوم الموت؛ يكرّرها مرّتين أو ثلاثاً ثمّ يُغْنيها بضمير الجمع: »سنكون يوماً ما نريد«.
ثمّة دعابة مع الموت، حوار وديّ معه ودعوة إلى تعامل صريح يذهب فيها الشاعر بعيداً في استخدام كلمات أليفة غايتها استئلاف الموت أو تحقيق انعدائه بألفة الكلمات: »... ويا مَوْتُ انتظرْ، يا موتُ، حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الرّبيع وصحّتي، لتكون صيَّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النّبع. فلتكنِ العلاقةُ بيننا وُدّيَّةً وصريحةً...«. نضارة القصيدة وما تستند إليه من ذخر أسطوريّ هما عدّة الشّاعر الوحيدة في تطويع صلافة الموت: »خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ. نهرٌ واحدٌ يكفي لأهمس للفراشة: آهِ، يا أُختي، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ الأساطير القديمة بالبقاء«. وإذا كانت القصيدة خضراء، فامتدادها الأسطوريّ هو كذلك أيضاً: »سائرون على خُطى جلجامشَ الخضراءِ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ...«. والحقّ، فطالما وجد محمود في الأسطورة لا مصدراً للأقنعة البطوليّة كما في شعر الرّواد، بل ينبوع معرفة وحكمة: »هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها./ هزمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرّافدينِ. مِسَلَّةُ المصريِّ، مقبرةُ الفراعنةِ، النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنكَ الخلودُ/ فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسكَ ما تريدُ«.
يحضرني هنا خطأ شديد الدّلالة في قراءة هذا المقطع ارتكبته صحف عربيّة عديدة ومن ورائها أكثر من صحيفة أجنبيّة. فلقد ورد في بعض صيَغ نعي الشاعر أنّه هو من قال: »هزمتُكَ يا موت...« (الفرنسيّون صاغوها كما يأتي: »ÅMort, je t?ai vaincueÅ!Å «. أنظر، على سبيل المثال، نعي »النوفيل أوبسرفاتور« للشاعر الفقيد على شاشة موقعها الألكترونيّ في يوم رحيله). وكما يلاحظ القارئ، فإنّ »تاء« الفعل »هزمتك« تشير في القصيدة لا إلى ضمير المتكلّم المبنيّ على الضمّ بل إلى ضمير الغائب المؤنّث السّاكن، الذي يحيل إلى فاعل مختلف هو »الفنون« وما يتبعها. خطأ لا أدري هل ينبغي اعتباره إقراراً جماعيّاً بانتصار درويش على الموت أم إساءة فهم لفلسفته الشخصيّة التي تحيل أعجوبة الظّفر من الموت إلى الحياة نفسها لا إلى »أنا« المتكلّم. فالقارئ يلاحظ ببساطة أنّ الشّاعر ينسب إلى الحياة نفسها معجزة بقائه: »وأَنا المُسَافِرُ داخلي/ وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ، لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها وبطائرِ الدوريِّ...«. وعندما يتعمّد الاحتفاء بحياته، فإنّه معرفته الوثيقة بنحو العبارة تسعفه على الفور وتجعله يضيف »ما« التقليليّة إلى حياته هو: »أنا حَبَّةُ القمح التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً. وفي موتي حياةٌ ما...«. ولئن كان احتفاؤه بالنّجاة يتّخذ هنا نبراً إنجيليّاً وسيّابيّاً (أشير إلى مقولة المسيح المعروفة في حبّة الحنطة وإلى بيت بدر: »صرتُ مستقبلاً، صرتُ بذرة«)، فهو يمنحنا في أبيات أخرى توظيفاً جديداً لأسطورة العنقاء يحميه أيضاً نحوُ العبارة (صيغة المستقبل التي تعني قراراً أو تعبيراً عن رجاء) من كلّ يقينيّة جازمة: »سأصير يوماً طائراً، وأسُلُّ من عدمي وجودي، كلّما احترق الجناحان اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرّمادْ«.
»هِيَ الحياةُ سُيولَةٌ، وأَنا أكثِّفُها«، كتب محمود في العمل نفسه. وكما كان عاشقاً للحياة متواضعاً أمام الحياة، فقد كان عاشقاً للّغة متواضعاً أمامها. لم يكن ممّن يتخايلون داخل اللّغة على اللّغة ويزعمون انتصارهم عليها واغتناءها بهم، بل لقد كتبَ في »لاعب النّرد«: »لا دَوْرَ لي في القصيدةِ غيرُ امتثالي لإيقاعها:/ حركاتِ الأحاسيس حسّاً يُعدِّل حسّاً/ وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى/ وغيبوبة في صدى الكلمات/ وصورة نفسي التي انتقلتْ/ من أَنايَ إلى غيرها/ واعتمادي على نَفَسي وحنيني إلى النّبع...«. وفي »جداريّة محمود درويش«: »وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَداتِ. سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذّكَر المُلائمِ في جُنُوح الشّعر نحو النّثر...«.
هوامش شخصيّة:
هذه هوامش شخصيّة لا تزعم إضاءة التّاريخ الأدبيّ بقدر ما توضيح طبيعة علاقتي بالفقيد. ١- في الشهور الأولى التي تلت وصول محمود درويش إلى باريس، بُعيد الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت، كان دائم التلفّت حوله في المقاهي التي نلتقي فيها. وبإيحاء صامت لا بكلام صريح، علمّني أن أرصد مثله من يحيطون بنا فـ»مَن يعْلم؟«. في إحدى المرّات، حدّق محمود بتركيز ونفاذ بأحد الجالسين وراءنا فما كان من هذا الأخير إلاّ أن نهض وغادرَ محمرّ الوجه. الأرجح أنّه كان عميلاً لإسرائيل أو رقيباً لإحدى السّفارات العربيّة جعلته نظرات محمود الثاقبة يغادر المقهى ومَن فيه. كائن يعرف أنّه مراقَب، بل محاصَر إلى هذه الدّرجة كما كان عليه محمود لا يمكن إلاّ أن ينال تضامني النهائيّ. ولقد كان تضامني معه نهائيّاً، مع أنّنا لم نكن متّفقين في كلّ شيء، ومع أنّني كنتُ داخل الثقافة الفلسطينيّة أعيش في فقر مدقع لم يكن هو مَن صنَعه، فقر كنتُ أعبّر عنه تارةً بعتاب صامت وأتعالى عليه طوراً. ٢- طيلة صداقتنا وعملنا المشترك في »الكرمل«، لم أكتب عن شعر محمود سوى مقالة واحدة. كتبتُها ثمّ شعرتُ بالحرج: كيف أكتب عن صديق أعمل في مجلّته؟ قد يُعَدّ هذا منّي تملّقاً! طوال ربع قرن من الصّداقة، بقي هو يهديني مجموعاته الشعريّة وكتُبه النثريّة بانتظام وبدون أدنى تلميح إلى صمتي عن كتاباته. ٣ـ طوال السنوات العشر الأولى من إقامة محمود في باريس لم يُترجَم من شعره إلى الفرنسيّة إلاّ مختارات متواضعة الحجم، بمبادرة من الشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللّعبيّ. كان بعض الفرنسيّين قد وسمَ محموداً بصفة »إرهابيّ« (صيغة لاحظتُها حتّى في بعض التعليقات على رحيله)، وكان بعض الشعراء العرب قد فرضوا في فرنسا على شعر سواهم من العرب حصاراً (أفلحنا أخيراً في كسره) ساعدتْهم في فرضه إمكانات مهرجانيّة وبراعات أُخرى لم نكن نحن من هواتها ولا من القادرين عليها. في واحدة من لحظات الإلهام أوحيتُ لصديقي إلياس صنبر بأن يعمل على كسر جدار الصّمت المفروض حول شعر محمود بترجمة إحدى مجاميعه. بدا إلياس متهيّباً من الفكرة لكونه يعدّ نفسه (يومذاك) مؤرّخاً لا أديباً. لكنّه تشجّع وترجم »أحد عشر كوكباً«. كان نجاح الترجمة وانتشارها كافيَين لتتكرّر التجربة وتصير مراساً وفيّاً ودأباً جميلاً. لقد وجد شعر محمود في قريحة إلياس ناقله الأمين، واكتشف إلياس الشّاعرَ والأديبَ الذي كان كامناً فيه. كم أنا سعيدٌ لأنّ اقتراحاً أخويّاً منّي صار أفقاً. إنّ ما فعله إلياس صنبر وفاروق مردم بك لشعر محمود درويش ولمُجمَل الثقافة العربيّة لَيفوق كلّ وصف ويعجز عنه كلّ ثناء.

(كاتب عراقي في باريس)

***

ذكريــــات

انيس صايغ

كتب الكثير عن محمود درويش. وسيكتب الكثير. وسيظل الشاعر الراحل مادة خصبة لمئات المقالات والدراسات. فالانسان الخلاق والمبدع لا يغيب عن الذاكرة بمجرد ان يرحل. وخاصة اذا كان في حجم محمود درويش وفي تعدد عطاءاته وتنوع مواهبه وزخم حياته التي يمكن ان نختصرها بأنها كانت حوالى خمسين سنة من اخصاب الحياة العربية المعاصرة، الثقافية والانسانية والنضالية، ومن إثرائها وتزويقها بوهج لامع قل نظيره. ولعل الناقد يتيه ويفشل اذا أراد ان يصنف محمود درويش: شاعراً او كاتباً او فناناً، مناضلاً وطنياً او إنسانياً، علماً عربياً او فلسطينياً او عالمياً.
لذلك، واعترافاً بأن الآخرين سيتفوقون عليّ في تقديم تشريح علمي صحيح وصادق لمحمود درويش وأثره في حياتنا المعاصرة وما سيبقى للأجيال القادمة، سأكتفي بمحاولة رسم صورة للرجل من خلال معرفتي به اكثر من ثلث قرن، تزاملنا خلالها في مهام ومراكز مشتركة في بيروت وتونس اكثر من عشر سنوات.
كان محمود في مطلع السبعينيات قد خرج من فلسطين المحتلة بعد سنوات من النضال والعمل في المجالات الثقافية والأدبية والصحافية بشكل خاص. واقام لفترة قصيرة في القاهرة ـ في شقة صغيرة في احدى طبقات بناية تاجر الضخمة والتي لا يقطنها الا ابناء الطبقة الميسورة والمعروفة.
كنت يوماً في القاهرة للمشاركة في مؤتمر بصفتي مديراً عاماً لمركز الابحاث الفلسطيني. ولم اكن قد عرفت محموداً معرفة شخصية. انما كنت، مثل معظم أهل الثقافة العرب، قد سمعت الكثير عنه كشاعر وكمناضل وكفلسطيني قاوم سلطات العدو في الداخل واضطر الى الخروج الى الدنيا العربية الواسعة. وتمنيت على صديق لي يقيم في مصر ليرتب لي موعداً مع درويش لعلي اقنعه بالانتقال الى لبنان والعمل معي في مركز الابحاث وفي مجلة شؤون فلسطينية التي صدرت مطلع ١٩٧١ وكانت اول مجلة عربية شهرية متخصصة بالمسألة الفلسطينية.
وقضيت الليلة التي سبقت موعد اللقاء المرتقب في تجميع افكاري وتنظيم الحجج التي سالجأ إليها لاقناعه بقبول العرض. فقد كان محمود، حتى منذ ذلك الحين، يفضل السمعة الادبية التي حققها خلال وقت قصير، أكبر من اي »وظيفة« في مركز الابحاث وفي مجلة حديثة الصدور ولا تعنى بالادب (ولا الشعر) كثيراً. وبالطبع كانت الرواتب ضئيلة جداً.
اذكر عن هذا اللقاء الاول انه كان يودّع الفنانة المعروفة وردة الجزائرية وأنا ادخل الشقة. وجلسنا وتحادثنا وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن. وحينما فتحت موضوع العمل مباشرة، وأنا اتلعثم في ذكر الامكانات القليلة التي يمكن للمركز ان يقدمها له وخاصة الراتب الشهري المتواضع (اقل من ثمن عدد واحد من جريدة السفير حالياً!)، واترك له خيار اللقب والرتبة والموقع في سلّم العاملين الذين كان عددهم آنذاك يتجاوز السبعين بين باحث ومحرر وتوثيقي واداري، فاجأني (وصدمني في واقع الامر!) اذ قال انه يرحب بأن ينضم الى أسرة المركز، وانه جاهز للمجيء الى بيروت فوراً، وانه يترك لي التفاصيل وتحديد الموقع. اكتشفت، منذ تلك اللحظة، حقيقة محمود درويش، الرجل الذي يعطي ولا يسأل عن المردود، لا مالياً ولا معنوياً.
كانت السنوات الخمس التي ترافقنا خلالها في العمل في المركز والمجلة تنطق بثقة محمود بنفسه وعمله، بحيث لا يعطي مجالاً للسؤال ولا للاهتمام بمنصب او بلقب. اكتفينا بوصفه مشاركاً للتحرير في المجلة ومستشاراً لمدير المركز ـ وفي وقت لاحق أقنعته بأن يقبل بلقب نائب المدير العام. ولا بد من الاعتراف بما كان لمحمود من جهد في تقديم »شؤون فلسطينية« كواحدة من أرقى المنابر الثقافية المختصة بفلسطين. وكان له، وللزميلين آنذاك ابراهيم العابد والياس سحاب، اثر كبير في نجاح المجلة وانتشارها والحصول على اعتراف النخبة الثقافية العربية بها. وكذلك كان لمحمود دور خاص في معالجة مشاكل المركز وهمومه، السياسية والفصائلية والتنظيمية، وخاصة على صعيد علاقات المركز (ومديره) المتوترة دوماً، مع السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك.
ولما انفجر الخلاف بين عرفات وبيني في العام ،١٩٧٦ وقدمت استقالتي بالرغم من رفض عرفات لها ورفضه الاعتراف بها، تعبت كثيراً في إقناع محمود ان يتولى المنصب الشاغر في المركز والمجلة. وقبل على مضض ـ ربما وفاء للمركز والمجلة ولي. لكنه لم يتحمل الضغوط والمداخلات طويلا، واستقال بعد اشهر.
هناك لقاء آخر مع محمود درويش في القاهرة قبل ان يلتحق بالعمل معي في مركز الابحاث في بيروت. فقد دعاني لحضور حفل افتتاح »اوبرا« وضعها الفنان الفلسطيني ثيودور عرنيطة ملحنا بها قصيدة محمود الشهيرة والرائدة »سجل أنا عربي«. وكانت هذه القصيدة قد سبقت محمود في الشهرة والانتشار، حتى ان محمودا عرف بالقصيدة آنذاك (قبل حوالى اربعين سنة) بمثل ما عرفت القصيدة به.
حضرت حفل الافتتاح معه. وكان معنا الفنان المصري متعدد المواهب صلاح جاهين وزوجته الفلسطينية الاصل (من حيفا). ولاحظت ان حفاوة محمود لم تكن تتناسب مع الحفاوة البالغة التي قابل الجمهور بها محموداً وقصيدته المغناة. ولم ادرك السر في تحفظ محمود تجاه هذه القصيدة بالذات الا فيما بعد، اي حينما برز محمود كشاعر فلسطين الاول، وليس مجرد صاحب قصيدة »ثورية« واحدة بالذات. شعر محمود انه يكاد يصبح سجين تلك القصيدة، وكأنها اهم منه او على الاقل علامة مميزة له. وأراد ان يثبت قدرته على استمرار العطاء والتطور في الإبداع. اصبح ينظر الى تلك القصيدة نظرة حامل شهادة الدكتوراة الى شهادة تخرجه في المدرسة الابتدائية!
شأن اي شاعر مبدع، كان محمود درويش انساناً رقيقاً، وبالتالي حساسا جدا ومزاجيا الى حد بعيد ـ ربما لا يجاريه في الحساسية والرقة بين شوامخ الادباء الفلسطينيين الا غسان كنفاني. وكنت في علاقاتي الشخصية والمهنية مع كل منهما اراعي هذه الحساسية وافسّر بها بعض المواقف والتصرفات. كان كلاهما يعتز بالسمعة الادبية التي حصل عليها بحق وجدارة: غسان بادبه القصصي ومحمود بادبه الشعري. وكنت وما ازال اعتبر كلاً منهما في قمة الفن الذي اتقنه بامتياز. لكني كنت، في الوقت نفسه، اجد ان غسان الكاتب والمحلل السياسي لا يقل قيمة عن غسان القاص. واجد محمود الكاتب والمحلل السياسي، لا يقل قيمة عن محمود الشاعر. ولا يهمني أبداً اذا كانت الجماهير تقصر عن رؤية الكاتب في غسان او في محمود بسبب اندفاعها في الاعجاب بكل منهما كأديب فنان من الدرجة الاولى. وفي المقابل كان كل من الاديبين الراحلين يحاول ان يعتبر نفسه أديباً اولاً وكاتباً ثانياً. لذلك كنت اذا طلبت مقالاً تحليلياً من غسان للنشر في شؤون فلسطينية اعتبر ذلك انتقاصاً مني لموهبته كقاص روائي. واذا طلبت من محمود ان يكتب مقالاً افتتاحياً للمجلة بدلاً عني حاول التهرب بالقول انه هو الشاعر وأنا الباحث وانه لا يتجاوز حدوده مثلما أنا لا أتجاوز حدودي! ومع هذا، وبالالحاح الشديد، ظفرت »الشؤون« في عهدي بأفضل المقالات التي كتبها كل من الأديبين الكبيرين.
وبقدر ما كان محمود يحب الناس والجماهير ويطرب لتلقيها العفوي واحتفائها الشديد لقصائده ولالقائه، كان يتضايق من الحفلات الاجتماعية الواسعة والتي يفرض عليه بعض اصدقائه حضورها. وما أكثر ما كان يأتي الى الاحتفال ثم »يختفي« بعد دقائق وسط تساؤلات الحاضرين وإحراجات أصحاب الدعوة!
كان مزاجياً. ولا عيب في ذلك. يرحب بمن يحب او يرتاح لمجالسته ومصادقته. ويتهرب ممن لا يكون على مزاجه، اذكر اننا كنا نتناول الغداء في مطعم »شي نو« الصغير في تونس حينما ترافقنا معا في العمل في رحاب جامعة الدول العربية، كمستشارين للامين العام السابق الشاذلي القليبي، وجاء شاب جلس الى جانبنا واخذ يحدّق بوجه محمود طول الوقت. وحينما اردنا الانصراف، وقد بلغ محمود ذروة الانزعاج، قال الشاب له: الست أنت »السي محمود درويش«؟ فرد محمود بعفوية ونرفزة: لا »أنا السي درويش محمود«. وتركنا الرجل يتمتم: »سبحان الله. انك تشبه الشاعر كثيراً«! فالتفت محمود وقال له »ويخلق من الشبه أربعين«.
اقام محمود خلال سكناه تونس في فيلا في ضاحية سيدي بو سعيد. وكنت اقيم في شقة في فندق في مكان قريب. وحاول اقناعي بأن انتقل من الفندق الى الفيلا، فيحتل هو طبقة، وأنا طبقة، وتترك الطبقة الاولى لنا معا للاستقبال والطعام. وكانت زوجته تقيم مؤقتاً في لندن وزوجتي في بيروت، حيث كانت كل منهما تعمل وتأتيان الى تونس في الاجازات. ومع ان عرض محمود كان مغرياً مالياً، اذ يخفف عني بعض العبء المالي بسبب الاقامة في فندق، ومغريا ايضا من حيث استمتاع انسان بالسكن بجوار رجل مثل محمود درويش، الا اني اعتذرت. كنت لا أجهل مزاجيته، وأخشى ان تتوتر علاقاتنا الحميمة والصادقة والصافية لسبب تافه ما بحكم الاقامة في منزل واحد.
كادت هذه الصداقة تهتز بالرغم من صمودها حتى حينما لم نكن نتفق في الرأي وفي الموقف من سياسات القيادة الفلسطينية. كان في مطلع الثمانينيات يصدر مجلة الكرمل ويترأس تحريرها. وكنت اترأس تحرير شؤون عربية. ودون ان اعلم ان محموداً سبق ان تعاقد مع كاتبة على نشر مقال لها في مجلته قبلت بعرض السيدة عليّ لشراء المقال منها دون ان تخبرني ان محموداً سبق ان اشترى المقال. ولما علم محمود بذلك، صدفة، وقبل ان ينشر المقال في اي من المجلتين، غضب وثار وعتب. ظن اني كنت اعرف ان المقال له. ثم التقينا صدفة في احد فنادق دمشق. وتعاتبنا وتصارحنا وتصافينا. وتعلمنا درسا بألا »يشتري« أي منا مقالاً الا بعد التأكد من ان كاتبه لم يبعه لشخص آخر!
آخر جملة قالها لي محمود حينما اتصل بي هاتفيا من عمان قبل اشهر وبعد ان قرأ مذكراتي: أنت روائي تلبس قميص المؤرخ. اخلع هذا القميص واكشف لنا عن انيس صايغ الروائي. هذا افضل لك ولنا!... وأغلق الخط. ولم أجب. ليس لأنه اغلق الخط، بل لاني لم اعرف بماذا اجيب. فقط تذكرت تضايقه من إلحاحي عليه بكتابة المقالات والتحليلات، معتبراً ذلك محاولة لإبعاده عن الشعر. وليعد القارئ اليوم قراءة النثر الذي كتبه محمود في السنين الماضية ليتأكد من صحة زعمي بأن محموداً الكاتب عملاق بحجم محمود الشاعر. وكلاهما تجسيدان لمحمود الانسان. فالانسان العملاق يكون عملاقاً في كل عمل خلاق يبدعه.

***

اكتمــال الشــاعر

المتوكل طه

لم يمت تماما... كان ذلك مجازاً ، أو مقاربةً لحدث الموت المكرور، الذي فَقَدَ دهشته، وأراد أن يستعيد مهابته، فضربَ أكثرنا مناعةً و حصانةً، ليثبت أن الغياب الناقص لا يكتمل إلا بهذا الحيّ العظيم.

***

يا وحدنا! يا وردة الكونِ الكبرى، التي سقطت، دونما إنذار، كأنها أختُطفت على حين غرّة! سيفتقد العاشقون وسائدهم المعبأة بالسحاب، ولن يرى بعدك الثائرون الحمامَ يطير على أسلاك الحرير.

***

بلغنا الجُلجلة، وانطفأت الجذوة على سرير القلب المخذول بأهله، الذين ألقوا أحلامه تحت سواطيرهم العمياء، ولم يحتمل هذا السقوط والاقتتال.. فسَقط، وراح قتيلاً آخر للخيبة، وعلى طريقته الأسطورية، احتجاجاً، غير مباشر، على حياة أَعدمَت ما اجترحه من عوالم، اعتقد أن فيها ما يستحق الحياة، وليس فيها كل هذه الرداءة والنكوص والانهيار.

***

ومن حقّ الجليل أن يحتضن زيتونته وغزاله المكحّل المزيون، وأن يحنو الكرملُ على مُنْشده الأجمل، وأن يحمله على جناح النوارس إلى البحر، كما حمله إلى الدنيا، بسنديانه وثياب أمهاته، وجدائل بنات المدارس، وطرقاته الوعرة الصغيرة، وبيوت الذئاب التي رحلت خوفاً من الجيش.
ومن حقنا أن نندب، لأوّل مرّة، كما ينبغي، تعبيراً عن هذا الغياب الغولي الهائل. إننا ناقصون إلى حدّ الفراغ! ولم يعد ثمة مَنْ يرمّم صورتنا، ويواجه بأناقة حضارية، تلك الصورة النمطية المكرورة والممجوجة. إن قصيدة منه خير من ألف مدفع ومارش!

***

محمود مغنّي فلسطين الأمهر، وخالق الأبجدية الجديدة لشعر الأرض والمقاومة والإنسانية، وهو الغابة التي لا حدّ لها، والتي تمور على ترابها الساخن الوثير كل الأشجار الواقفة، المغسولة بالمطر العنيف، ورذاذ الزلازل، وينبع في باطنها صغار البراكين، والخرافات، والأصوات المتداخلة، والصدى الوديع والمخيف. ومهما بلغت نيران الموت في هذه الغابة، فإنها قادرة على هضم ألسنتها وتحويلها إلى ضوء فتيّ باهر، يهزم الموت، ويردّ العدم والخوف على أعقابه .

***

لم يرتبط درويش بفلسطين القضية، ارتباطاً عشائرياً، بقدر ما أسس لانتماء إنساني أكثر عمقاً ونفاذاً جعل غير الفلسطيني يجد نفسه ملتصقاً بهذه القضية.

***

يقول أشياءنا كأنه تسلل إلى دواخلنا، والتقط تلك الماسة الزاهرة كالجمرة، وراح ينتظمها في عقد يقلّده صدر الوطن. أما البلاد التي كان يحلم فيها، فإنها ستستيقظ في مقبل الأيام دون آبنها المُعجز، الذي فاض، حتى طفقت الدنيا تلحق بكلام رسولٍ لم يهبط له الوحي، بل خلق هو رسالته وبُراقه وعصاه السحرية وطريق آلامه وتاجه الثمين.

***

عندما يسقط الشاعر ميْتاً يصيح: لقد اكتملت! فيحيطونه من كل صَوْبٍ وجهة، ويرون ملء أعينهم أن الظلام، ومهما كان مُسلّحاً وشديداً، فإن القصائد تقف له بالمرصاد. مثلما تُذكّر الواقفين المحيطين به، بأن استدراكهم، للاحتفاء به، قد تأخّر كثيراً، وكان ينبغي أن يقفوا تحت شجرته الكونية، وينتبهوا إلى تلك التي نبتت، بعيداً عن مائهم، من بذرة روحه الحمراء.
والآن، ها هم يشربون عصارتها ليعيشوا إلى الأبد. فالشاعر شجرة الحياة التي تُبقي الآخرين خالدين، وإنْ رحل جسده.

***

محمود الرائي المتعدد الذي يحفر في الأرض الحرام، هو نفسه الناقد الذي وجّه رمحه المتوتر إلى قلب الدريئة، التي تخفي وراءها الفساد والخراب والحروب الأهلية والوجوه الوثنية.

***

ودرويش هذا الحوت الجبلي، وابن الحورية التي أخرجته من ثياب البحر والسنديان، ظل كائناً غير عادي، قد أدركه مَسّ من السماء، فصارت له هذه القدرة غير المعهودة في خلق الكلام المباغت والماتع والمثير، وربما يكون كلاماً يفوق المتوقَع من بني الانسان.

***

ولعل قصيدة درويش تمتلك أن تمنح المتلقي غير مفتاح ومدرج، يولج معه هؤلاء القراء، ليمنح كلاً منهم ما يريد من النص ذاته، فيشرب الفيلسوف تلك الحكمة المختبئة، وينهل البسيط من أقواس قزحها اللونَ والغيوم.

***

والخسارة تكمن في أننا سنفتقد الجديد المُدهش، الذي يُطالعنا كسيف الملحمة المُعافى والجليل. فالشاعر لا يموت، فهو هنا بكامل سخريته وكهربائه وحدّته وعطْفه وغنائه، وأسراب خيوله البريّة، وذهب لغته النابضة الحيوية البِكْر، إنه هنا بمعجزته البسيطة المذهلة، وستنسينا، بقوتها وسطوعها، رغماً عنّا، رحيل جسده.. لا غير!

***

جاء درويش من لغته، التي خلقها، وتبادل معها دور الخالق والمخلوق، أو الصياد والطريدة، وراح يعلّمها لنا، بكل ما فيها من أساور ومناديل وشِباك وشبابيك، تطفح بالجمال والمعرفة والغناء المتعدّد الدرجات والمتداخل. وكان يطلّ علينا كالعرّاف المتبصّر، الذي جمع أُمّة الضاد، بسِحر حساسية أداته الفنية، وبمياه الفكرة التي عملت على وضع كل مستمعيه في بحيرة واحدة، يغسلهم فيها، ويرويهم من مائها، فيخرجون، وقد توحّد فيهم نوره الوهّاج، ما خلق حالة جماعية تمتد من الماء إلى الماء.

***

لقد شهد محمود درويش موته ورآه، وأقام جدارية عنيدة لتصدّ خفافيشه الغامضة، وانتصر درويش على الموت، بأن مكّنه من جسده، لكن الموت لن يبلغ ذرى كلامه البعيد.

***

كانت القلّة، من المثقفين الحقيقيين تغبطه على رفْعته واختلافه، وكانت الكثرة المخاتلة التي تدّعي الابتكار، وتطحنها عُقد النقص والصَغَار تحسده، وكان ثمة متّسع، في ظلّه، لهؤلاء المساكين، الذين يحسدونه، حتى على موته، وعلى هذا الكرنفال والوفاء البديع من الناس، الذين لا يعرفون آليات التعويض والنمائم الصغيرة وحركات الطواويس.

***

ربما نسهو ونسير إلى مكتبه، أو نطلب رقم هاتفه، فتجيبنا الآلة أن صاحب هذا الرقم قد مات! فيفور الحزن طازجاً من جديد.

***

اليوم، أمسى الشِعر يتيماً! رغم أن ربّه أخرجه من التابوت، وسقاه من ريق قلبه، فتعالى! ولم يعرف ناقد أن ثمة نقصاً في بيت هذا الجنيّ الساحر، فهو كالرمّانة المكتملة، وصار ثاني اثنين، المتنبي ودرويش، عبر مفازات القرون والأزمان، فأصبح الزمن القادم يتيماً هو الآخر، وأرجو ألاّ يطول يُتْمه!
وفلسطين، أيضاً، يتيمة جداً، فلم تعد لها أسماء ورموز، بعد أن عرفها العَالم من خلال اسمين كبيرين هما ياسر عرفات ومحمود درويش..

***

ويظل شعر محمود درويش وثيقتنا الوطنية والسسيولوجية والنضالية والإنسانية أيضاً، ويستطيع أي باحث أن يجد في هذه الوثيقة تاريخنا الذي أصّله الشاعر بحروف تليق بالخلود.

***

إن هذا العملاق المنذور للأزرق، هو نفسه الذي جعل قصيدته، غير العمودية، والتي لم تسقط في المباشرة والمجانية والخطابية الفجة، قادرة على أن تكون أغنية وشِعاراً ونشيداً يشحذ المواطن، الذي يدفعه ذلك الغناء العالي، إلى أن يهجم على عين البندقية، محمولاً على إيمان عميق، يرنّق مداركه ووجدانه، ويملأ عقله وقلبه، ويظل مصدّقاً ومعتقداً بأن ذلك النشيد الموقّع والمطهم بالأرض والثورة والحرية، هو وثيقة النصر والخلاص، التي يجب أن يمهرها بدمه.

***

أعطى درويش للمقاومة معنى أكثر اتساعاً من القتال، ليصل المفهوم إلى الانحياز إلى الجمال والحق والخير والعدل، في مواجهة البشاعة والاستغلال والاحتلال...

***

ومحمود الذي شكّل الذائقة والسقف الجمالي، وصار صاحب أكبر مدرسة في آخر نصف قرن، حتى أكاد أقول: إن الشعر الفلسطيني، خاصة، والعربي بشكل عام، مع استثناءات ونتوءات مضيئة بادية ومختلفة، هو قصيدة واحدة متنوعة تنتمي إلى مدرسة هذا الشاعر، الذي كتب دراما الروح الجماعية، فيما كتب معظم الآخرين دراما الحدث!

***

عندما كان بيننا كنا نقول: هذا هو الخارج من جلسة قلبه.. المتوحّد بعيداً وسط الحضور! يبدو آدمياً، ويتراءى للناس كأنه متعالياً! تراه خاشعاً على مشهدٍ من أناييسِ المعبدِ وعموده! وتلحظه يحفرُ فقحةَ الزهرة الصغيرة، أو تلمحه تمثالاً راكعاً متأملاً في أُمّهِ التراب.
كأنّه امرأة تلفُّ أيديها حولَ عُشّاقها الفتيان، وتسحب شرايينهم بأيديها الكثيرة، ثم ملّت اللعبة فتجمّدت إلهةً صامتة. وقيلَ هو الذي سرقَ النارَ، وَلاكَ الطيرُ كبدَه. وقيل هو الحلمُ الكبير الذي ندور في فلكه، غيرَ أن رأسَه المُتعبة ستلقينا مثل ندم الخيانة في النسيان. وقيل هو الكوبرا التي ظلّلت النبيَّ الأمير، ولمّا نجا أحبّت أن تُهدي قوامها للنساء.
وقيل هو المتخّلع الأنيق الذي لن يتوب ما دامت الأمطار المسحورة تتكوّر كشحاً يعوي. وقيل هو الواقف تحت الشمس الناغرة شاخصاً في يوم القيامة. وقيل هو اليتيم الذي قدَّ أضلاعَه كَمَنجةً مذبوحةً تحت شبابيك الياسمين. وقيل هو ما وجدوه في قعر الكأس المقدسة في ذلك الكهف المغلق منذ الخليقة، فاختلفوا على ما فيه، فمنهم من رآه سُلافة، ومنه مَن تبيّنه ندى السماء الأول، ومنهم مَن قال: هذا عَرَق الروح، وآخرُهم قال: هذا دمع الشهوة أو الاختلاج أو الحنين إلى كل شيء. وما زالوا يجهلونه، أو يتجاهلون شخصه.
غاب فلم يفطنوه! وعاد فلم يحتفوا به.
واتهموه بكل الهنات والخروج. وحينما صاح قالوا: هذا صوتنا المنهوب. وعندما صمت فَرَدوا له النطع الواسع.
ولمّا سافر جرّدوه من حبق أُمّه البعيد. وحَضَر، فلم يحضروا، كانوا يُعدّون له المشنقة.
طلع من لَحده الضيّق ـ كان مغشيّاً عليه من ريح حامضهم النافث ـ فوجودهم يُدبّجون له مديحَ الغياب.
وعندما أيقنوا أنه حيٌّ وله عُمرُ نوح، احتشدت صدورُهم وانفجرت، وماتوا غيظاً. وظلّت المشــنقة تــتأرجح دون جسدٍ يتدلّى، غيرَ أني أرى مجموعةً جديدةً تهتف لغريبٍ جديــد، وكـانوا فرحين، فقد تأكدوا أنَّ غايتَهم حاضرة.

***

ومحمود درويش أسطورة الناس، التي اتفقوا على أن قوامه يحتمل أثقالهم وهواجسهم ورغباتهم، فوضع كل فلسطيني وعربي شيئاً من نفسه في محمود، وأصبح محمود مِلْكاً لكل الناس الطيبين، الذين استجاب لهم، وتماهى معهم، وأصبح وجدانهم وكلام روحهم، وأفتُتِنوا بمخلوقهم، وأصبح نجمهم الذي يسعون إليه، ويتلقفون قصائده، ويحفظونها عن ظهر قلب، ما يفسر تلك الجماهيرية والإقبال، منقطع النظير، على أمسياته وقراءاته وكتبه.
ولهذا، فإن كل عربي وإنساني، يحس أنه خسر حصَّته في هذا العملاق الفذّ، وانهدم جزء من رمزه الذي كان يفتخر به ويباهي.

***

في السجن، كنّا نصدقه، ونردد بحناجر الفولاذ أشعاره، وأغاني مارسيل التي نشرته أُفقاً نارياً، يهدم الجدران ويُصدّع الزنازين، ويُصيب حراس المعتقل بالذعر والهلع، حتى يقفون وراء مدافع الغاز المسيلة للعار ورشاشاتهم العمياء، ليواجهوا ذلك الصوت الجماعي المزلزل.. وإن قصائده محفورةٌ بالأظافر والدماء، على تلك الجدران، التي لم تكن عائقاً أمام مشاوير الروح، السارحة بعيداً مع اليمام، والعائدة مع الشمس في الليل.

***

ويبقى محمود وطننا الشعري، الذي جعل فلسطين جرساً في قلوبنا، ترنّ على الشفاه وفي الكفوف، وفي الآفاق، ويظل محمود الاسم الذي نفرح به فرحاً تاريخياً، ونزهو بأننا عرفناه!

***

ومحمود المتفّرد يكون اليوم قد أكمل زينته ورحل، لكننا ما زلنا في بيوت العزاء، أو نقف أسراباً على حواجز الجنود، أو في السجون، أو في المعازل أو المخيمات .. ولم نمتلك أسباب الزينة لكننا نمتلك قصيدة جاءت من السماء .
درويش مثل المعابد والعواصف والبحار لا يموت، ومثل الموسيقى والصلاة وأبناء الانبياء الذين يظلّون في فضاء الأيام وساعاتها.

(كاتب فلسطيني)

***

وريــثُ »الريــادة« الوحيــد

محمد مظلوم

ربما كنتُ من قليلين كتبوا عن محمود درويش في حياته نقداً بذكر مثلبة فيه لا تمجيداً بترديد منقبة له ظل يستحقها دائماً. كانت تلك الكتابة تنطلق، في عمقها، من مراجعة لوقائع موجعة وجرح مفتوح منذ ثمانينيات القرن الماضي، التي كان محمود درويش خلالها ـ ومعه شعراء عرب آخرون ـ نجوماً شعرية تضيء ليل الفنادق الكبرى في بغداد، ومنصَّات الشعر في قاعات المرابد والمآدب، في وقت كانت تنطفئ فيه نجومٌ مبكِّرة وكواكب بأعمار سريعة في ليل الخنادق على جبهات القتال، وعلى منصات الإعدام في مدن البلاد. ذكريات موجعة ترتبط حقَّاً بتلك الذكريات، ربما لا يضاهيها الوجع الذي يلفُّ مشهد الشعر العربي اليوم حين يرتجف جانب من بنيانه بسقوط أحد أساطينه الأساسية في هاوية الخلود!
ومع هذا فإنَّ اليوم وقت آخر لكتابة أخرى عن شاعر ألحقَ بالشعر العربي مجداً مضافاً ووسع متنهُ مع كلِّ شروطه الداخلية الصارمة فجعل منه أكثر استجابة لحريَّة الابتكار وأكثر قدرة على تمثل راهنه دون تماثل مع ما سبقه. هو شاعر ليس كأي شاعر آخر، وإن اختلفتَ على الرجل فيه، لكنك لن تجد كثيراً مما تختلف معه حول ما يتركه شعره من أثر ومن سحر.
اليوم غاب الرجل وبقي شعره، أثراً ساحراً. سيكون شعره إذن ميزاناً وحده، وسيكمل رحلة أخرى وزَّاناً لما يأتي، وما كان، وما تتم مراجعته من هذه التجربة الصاخبة في وقت قلَّ فيه الصخب أو اندلع في مكان آخر أو لشأن مختلف.
وبما أن معادلة المناقب/ المثالب انتهت بموت الرجل وخلود الشاعر، فإن لمحمود درويش/ الشاعر مناقب متصلة في الحكاية العراقية. لا تبدأ من اليوم، وإنما منْ بداية أولَى مع »ريادة الشعر الحر« ومع شغف بأساطير الخلق السومرية وأناشيد الفناء في بلد الرحلة الأولى للبحث عن الخلود.. ألم يقل في قصيدته »ليس سوى العراق« التي نشرها في السفير/ ٤ نيسان ٢٠٠٣ كمن حفظ وصية خطيرة، ليعيد توريثها لمن يأتي بعده:
»... الشِّعْرَ يولدُ في العراق،
فكنْ عراقياً لتصبحَ شاعراً«
على أنه لم يرث من »الريادة الأولى« للحداثة الشعرية العربية شاعرٌ عربيٌّ قدر ما ورثه منها محمود درويش، هو أسدُ الْحصص مع كثرة الحاضرين والوارثين، حيث بلغت قصيدته بغياب السياب سياباً آخر، خلجاناً وسواحل وعواصم، وباعتكاف نازك وبلند المبكر وهجاً لعزلة تتأمل الذات في ليل الألوان ونايات الأساطير بعيداً عن اشتباك الخطاب، وبوجود البياتي إرثاً متصلاً وحافزاً على التجاوز ونجومية في كلِّ رهان ومحفل.
ورث »الريادة« حقاً مستحقاً، ورثها مَجداً وعبئاً، شيئاً من جماهيريتها، وشيئاً من منفاها، وطاف بها ملكاً متوَّجاً بين الصفوف، حتى سعدي يوسف الشريك في »الريادة« الأولى أكثر من كونه الابن لها، والأب لحداثة ثانية، ورثه درويش منذ »عبور الوادي الكبير« وذهب أبعد منه في استنقاذ نبرته وهمسات حروفه من الصدى الجارف لترددات الإيقاع وهي تهز البيت الشعري. لتتردد في تموجات ليست متراتبة.
في الإيقاع لا نجد تدويراً واضحاً في مجمل تجربة هذا المغني العربيّ، هو لم يبتعد كثيراً عن محيط الدائرة الإيقاعية وتلخيص المعنى الذي دأب عليه الرواد، قد تمثل قصيدة السبعينيات الأبرز »سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا« استثناء. إلا أنه سرعان ما عاد في الثمانينيات إلى براعة التسطير وعمق التعبير عبر »سونيتات« متسقة مع أنها ليست وفيةً تماماً لا لصرامتها الشكسبيرية الإلزابيثية، ولا لأصولها البتراركية الإيطالية، لكنها تقترب في الواقع من رباعيات الشعر العربي التقليدي خاصة بين »حصار لمدائح البحر« و»ورد أقل« لتستقيم بينهما وبعدهما في تسمية خاصة في ديوان »هي أغنية. هي أغنية«.
هو ابن »الريادة« البار وأميرها المدلل، يرحل ليضعها خلفه أثراً وسؤالاً في مفترق الطرق، »والريادة« هي سطوة ممتدة ومتمدِّدة، وما يجري منذ نحو نصف القرن ما هو إلا وهم اجتيازها وتركها هناك عند شاهدة قبر السياب، لذلك فإن السياب ومعه البياتي ونازك وبلند يبكون درويش أكثر من غيرهم حتى وهم يستعيدونه، لكأنه الابن الأكثر تمثلاً للجينات الفنية لأشعارهم فعندما يكتب عن العراق تحت الاحتلال لا يقاربه من محنة فلسطين ونكبتها، وإنما يتصل بها من مشهد »هزيمة سيابية« أكثر شاعرية، يتصل بها من خلال لغة السياب وموسيقاه وجمله وخليجه، من عراق السياب الحائر بين الصوت والصدى بشكل أوضح، في قصيدته سالفة الذكر:
»أتذكَّرُ السيَّابَ، يصرخُ في الْخَليْجِ سُدى:
عِرَاقُ، عِرَاقُ، ليْسَ سوى العِرَاق.
ولا يردُّ سوى الصدى.
أتذكَّرُ السيَّاب، حِيْنَ أُصابُ بالْحُمَّى وأهذي:
إخْوَتِي كانوا يعدُّونَ الْعَشَاءَ لِجَيشِ هولاكو،
ولا خَدَمٌ سواهم«.
في نهاية السبعينيات حضر درويش إلى بغداد وكانت قد سبقته في الحضور قصيدته البارزة »سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا« وحضرت معه أنشودته »أحمد الزعتر« التي قرأها في المربد ،١٩٧٨ وراح يعاود الحضور في الثمانينيات في أكثر من زيارة صحبة أبو عمار على الغالب، والذي كانت تربطه علاقات جيدة مع العراق، حاول خلالها أن يجعل من مجلة »الكرمل« جسراً فلسطينياً بين أدب المنفى العراقي وأدب الداخل، لكنها كانت تجربةً محبطة، ومهمةً سرعان ما تعثرت بعد عدد واحد فقط.. لكنه حيا قائد الفيلق »الإعلامي« وزير الثقافة و الإعلام لطيف نصيف جاسم وهو بملابسه العسكرية وكناه بـ»وزير الشعراء.« وانحاز للقمر الذي هنا في »بغداد« ضدَّ الظلام الذي هناك »في طهران« وعاد إلى باريس ليكتب في مجلة اليوم السابع عموده المنفعل.. »إني أعترف«.
كان اعترافاً مضاداً أشبه بوشاية! إنه اعتراف بفضيلة الذات وخطأ الآخر! ومع هذا كله لم تتراجع قصيدته ولم تندم »لا تعتذر عما فعلت«، حيث متانة العِبارة وفخامة التركيب بعمقه الدلالي، برغم زهده البلاغي الخارجي، وحيث نبرة عنيفة وحادة يضع فيها ما يكفي من مساحات التأمل وفضاءات الصمت الحيوي، تأخذه حمى الغضب ويرتقي سلَّم الترفع، ليجعله قريناً لابن النجف: الجواهري بجنونه واعتداده، وابن الكوفة المتنبي بخياله وخيله وخيلائه.
وهو ابن »الريادة« حين يتردد صدى السياب: »حبه« و»مزاريبه« في مقاطع سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا:
(وما كانَ حباً....
ورائحةُ البنِّ نايٌ تزغردُ فيه مياهُ الْمزاريب)
وهو انتبه إلى »الملجأ« والمخيم كمكان جمالي وفني، رغم مأساويته الواقعية، مجسداً عبره تهكمية ما، غالباً ما نلمحها تنهض مضيئة من بين الخراب، منذ قصيدة (الملجأ العشرون) لعبد الوهاب البياتي في »أباريق مهشمة«:
»كفراغ أيام الجنود العائدين من القتالْ
وكوحشة المصدور في ليل السعالْ
كانت أغانينا، وكنا هائمين بلا ظلالْ
مترقبين، الليل، أنباء البريد:
الملجأ العشرون
ما زلنا بخير، والعيالْ
والقمل والموتى، يخصون الأقاربَ بالسلام«.
والواقع أن فلسطين ظلت عصباً أساسياً في تجارب جميع الشعراء الرواد وما بعدهم، جيل التوجه نحو قضايا كبرى وعالم أكثر رحابة لاحتواء زمجرة أصواتهم في فضاء الموقف وفضاء الشكل الشعري. مثلما أضحى العراق اليوم الوجه الآخر لفلسطين بعد أكثر من نصف قرن في حداثة لا تزال قلقة وتبحث عن اسمها الحقيقي في أشكال عدة، حداثة الهزيمة والندب والمراثي، لا الاعتراف ولا الاعتذار، ولا مساءلة الذات، حداثة لا تزال مفتوحة كجراحنا. وكشريان محمود درويش الذي أرداه في أميركا وهزمه في نهاية اللعبة. نعم هي لعبة أو أشبه بمعركة يهزم فيها من يتخلى عن كرهه أولاً، ويتحلى بالمحبة! ألم يهجُ أميركا ذات يوم بلغة شعارية تجسد أقصى خطاب وصلته لغة الشعر في مراحل ثقافة الضد:
»أمريكا هي الطاعون والطاعـون أمريكا.
نعسنا.. أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا
لأمريكا.. سنحفر ظلنا ونشخُّ مزِّيكا على تمثال أمريكا
وراء الباب أمريكا
وأمريكا لأمريكا«.
و لكن لماذا شاءت قوانين اللعبة أن تنتهي بمعانقة الموت هناك وليس في عمان أو باريس أو بيروت مثلاً؟ حقاً هي أغنية هي أغنية، هي أغنية أخيرة، في نهاية اللعبة.

(شاعر عراقي)

***

أرضَنَ الشعر ثم تسامى في التعالي

عمر كوش

بوفاة محمود درويش، خسرنا، وخسرت الثقافة الإنسانية، وخسرت فلسطين، علماً كبيراً، قدم الكثير للشعر وللقضية. فقد أشاد في أعماله، الشعرية والنثرية، »سماء المطلق البيضاء«. سماء كان يقيمها كي يغوص في سديم لا ينفك فيه الميت الغائب عن الالتصاق بالحيّ الحاضر، وحاك فيها حلماً، يتماهى فيه الغائب مع الحاضر، الباطن مع الظاهر، فيلقي بنفسه جانباً، يتركها، ويطير حادثاً، يحلق فوق الأقاليم، كي يستحيل روحاً غادرت كينونتها، وجودها المتعين، جسدها المتروك، ولم تسأل أحداً عن وجودها، وليعبث »العابرون في يوم عابر« فيها إن أرادوا، ولهم ما شاءوا من الموت كذلك، فلا شيء يوجع على باب القيامة.
وفي أشعاره رسم درويش بلاداً وخطوطاً وحروفاً وأسماء، ومركبات أحاسيس ومفاهيم، صوّر فيها قابلية عالم ما، يتلاقى فيه الواحد مقترناً بالآخر، وتصطف الحشود: الاسم، الموت، الحياة، الروح، الجسد، العدم، اللاعدم، الهنا (الكينونة ـ هنا)، اللاهنا (الكينونة ـ هناك)، الزمان، اللازمان، الوجود، اللاوجود.. إلخ. وبنى مقاماً لها، تتحايث فيه وتتواجد، ثم يبددها ويهوي بها على الأرض، يزرعها وينثرها ويفرشها ويلتحفها كي ينام أو يموت، ويداوم على حرثها كلما وجدت محايثة، أو كلما نادت الأرض أبنائها. ويكون أن تنمو الأحاسيس والمفاهيم وتترعرع بشراً وأمكنة، وسطاً ومحيطاً وبيئة مكتنفة، ويكون أن تنشال ـ بقدرة ما ـ عبر انشيالات أفقية وعمودية، شعراً يحاكي الأرض: أرض السماوات وأرض الكائنات، وشاعراً يهب خطواته للموت في أرض السماوات وأرض الإدراكات والانفعالات والمفاهيم.
ويتوالد في شعره بشر من دخان، يصعدون حتى الدرجة الأخيرة في السلم، يبددون في دخان الحلم الطفولي رواياتهم، وتظهر امرأة، »أنا«ه الأخرى، من ريحها أو رحيقها، ينبثق الشاعر إلهاً أو نبياً من بني عامر، يتوحد بها ومعها ولا يدري أيّ منهما »أنا« ليكون آخرها، فكل نبض فيها يوجعه، ويرجعه إلى زمن خرافي، إلى مرج بني عامر، إلى قانا الجليل، إلى حيفا و يافا، إلى امرأة اسمها فلسطين: أرض الطفولة، وأرض الحلم، وأرض السماوات، وأرض الأرض، وأرض كل أرض.
قد يكون »جيل دولوز« أثقل كاهل الفلسفة حين جعل وظيفتها خلق المفاهيم الجديدة، لكن محمود درويش، كان يؤقلم على الدوام ما استطاع من المفاهيم والصور والانفعالات، يؤرضنها شعراً معمارياً، يتناثر هنا وهناك. لكن أين يجد الشاعر المفاهيم والصور والانفعالات؟ هل في سماء الشعر؟ وهل هنالك سماء للشعر؟ ربما، ولكن الشاعر يخلقها، فالشاعر هو خالق سماء ومشيّد مقامات للأحاسيس التي يلملمها من المؤثرات الإدراكية والانفعالية ثم يركبها جمالياً، فيكون الشعر. وكما الفيلسوف خالق المفاهيم وصانعها كأحداث تحلق فوق الأقاليم، فالشاعر خالق أحاسيس. وإذ يخلق الفيلسوف المفاهيم الجديدة، فإن الفلسفة تحول المفهوم إلى مفهوم إحساس، بينما في الشعر، والفن بشكل عام، يصبح الإحساس فيه إحساساً بمفهوم، والشاعر بذلك خالقا للأحاسيس ـ المفاهيم، من تربة، من حبة قمح، من صلصال مهين، مما يشتهي ولا يشتهي، مما يكون ولا يكون.
في كل ذلك كان يلجأ محمود درويش إلى اللغة، يغنيها وتغنيه، ويسكن فيها وتسكن فيه، بوصفها عالم الوجود. وينسج بها الشاعر نصه أو تنسجه في عوالمها، يتكلمها أو بالأحرى تتكلمه، ثم يبعثر الشاعر نسيجه النصي، وإذا شاء يمزقه، ولا يبقى منه غير ظلال لا تنمحي: الأثر أو الآثار التي تدوم بعده طويلاً، فالشعر يخلق آثاره في مملكة اللغة وتعددية المعنى واختلافاتهما، أي يصنع شعره من مادتها ويبني فيها عالمه.
كان درويش يتخذ الحوار في أشعاره حقلاً محايثاً، من أولها إلى آخرها، ذلك أن الحوار يتخذ في اللغة موقعاً متميزاً. وإذا كان وجود الإنسان يقوم أساسه في اللغة، كما يقول هيدغر، إلا أن اللغة لا تتخذ واقعها التاريخي الحقيقي إلا في الحوار، فاللغة وسيط للتواصل بين الناس، لكن الحوار، كما يعتبره الفيلسوف، هو البعد التاريخي الجوهري لها، ويجيب صوت الشاعر: »أنا حوار الحالمين«. حوار أو شعاع، ينسجه نصه الشعري كي يواجه امرأة ويتوحد معها، يتوحد مع جسده، مع كينونته، مع الزمن، مع الموت، مع الحياة.. إلخ، ويروي فيه حلمه ورؤياه، بوصفه رأى »ما يتذكر الموتى وما ينسون«، حيث تنحل الضمائر كلها: »هو في أنا في أنت«، بعد أن رأى الشاعر ما رآه غيره وما لم يره، وهذا لا يحدث إلا في اللحظة التي يتجلى فيها الشاعر مواجهاً مصيره ومحاوراً إياه، فينكشف وجود العالم أمامه: واحد هو، وهو غير ذاته، يظهر في ضوء توحده مع »الحشود«، هو جمع إذاً ، تعددية إن شئنا، ليس مجرد رقم بسيط، إذاً فهو مفهوم، يجد نفسه حاضراً ملء الغياب، يتفتح الزمان بمختلف أبعاده، وتحضر ذات الشاعر وتستقر: لا تأتي ولا تمضي، في هذه اللحظة تواجه أنيتها، عندها لا ينشطر الزمان إلى ماض وحاضر ومستقبل، بل ماض ومستقبل.
ليس في وسع الشعر أن يغير ماضياً يمضي ولا يمضي، ولا أن يشدّ غداً بعيداً يجيء ولا يجيء، لكنه حلم الشاعر (الفنان) الذي يصارع الموت/السديم، ينسج في ثناياه عدواً من دخان أو رميم، ويحدث ثقوباً في قبته السماوية، أو يمزقها إن استطاع إلى ذلك سبيلا، ليمرر قليلاً من الضوء من خلال ثقوبها كي تتضح الرؤيا، فتضيق العبارة ولا تسعفه الكلمات ولا الحروف الغامضات. وقد يؤسطرها فعلاً أو وهماً، أو يلهو بها، طفلاً على ساحل فلسطين.
لقد أسس محمود درويش مفهوماً شعرياً / فلسفياً، لنقل مفهوماً فنياً، جمع فيه الأشياء التي تجمع بين فعل الكتابة وفعل الكون، وتلك التي تجمع بين فعل القراءة وفعل الوجود. يحيل فيه إلى أسبقية الكتابة على الكينونة إذا أخذنا بما تقوله الميتافيزيقا، لكن المفهوم الدرويشي الذي يربط بين فعلي الكتابة والكينونة، لا تعنيه الأسبقية أو القبلية، كون الأسبقية لفظية بينهما، ولا تحاول بناء تراتبية ما، كما يحلو للميتافيزيقا أن تفعله، إذ هي تعطي الكلام أسبقية على الكتابة، وفق تمركزها الصوتي، أما في هذا »المفهوم« الشعري، فإن الكتابة فيه هي شرط تحقق للكينونة، شرط وجود (كينونة): الذات، الآخر، العالم، فضلاً عن وجود الإله، ووجود الأرض والإقليم والتاريخ.. إلخ
ويحيل المفهوم الدرويشي إلى ترابط فعل القراءة وفعل الوجود، فالقراءة تأويل للنص المكتوب، أو قل كتابة ثانية له، بينما الوجود دال على الكينونة، إذ الكينونة هي الوجود في تحققه أو هي الوجود المتعين بالفعل.
وتحيل الحروف الغامضات إلى المفهوم، كما تحيل إلى اللغة التي تقول الأشياء، أشياء العالم، لكن العالم موجود في الزمن، والزمن لا ينتظر أحداً ولا شيئاً، بل ولا يعرف الانتظار. فمن تأخرت ولادته فإن لا أحد ينتظره، ذلك أن الماضي كما هو، لا يُقاد ولا يقود، ولا يتبقى منه غير آثار قد تذوب ولا تذوب وذكريات قد تمحى ولا تمحى.
في الإنشاء الشعري، أو لنقل الخلق الشعري، يستخدم الشاعر الكلمات والحروف، ويركبها جمالياً ليخلق منها صياغات تعجنها الإحساسات، وهذا يجعل اللغة ترتعش وتثغثغ أو حتى تغني وتهتف تصرخ، وهو ما تميز به شعر محمود درويش، إذ نجده يستبدل انفعالاته ومختلف مؤثراته، من مشاهد ووجوه ورؤى وصيرورات، بحقول أو مركبات أحاسيس تحل محل اللغة، فتنشأ بذلك لغة أخرى داخل اللغة، تنادي شعباً للمجيء وأرضاً أو وطناً كي يستريح، ولأجل ذلك كان يطوع لغته، يبعثرها ويجعلها تهتز ويحضنها، وقد يمزقها كي يحصل منها ما يريد من إحساسات تجسد العذاب الإنساني المتجدد.
لذلك لم يجد محمود درويش في نهاية رؤياه سوى تدوين حروف اسمه في قصائده، وكتابة أو رسم أشيائه الصغيرة: جسده وخطاه ومحطة الباص وجدار البيت والهواء الرطب، فقد تعب من الموت وتعب من الحياة، وأراد أن يستريح في التعالي.

(كاتب سوري)

***

محمــود درويــش فــي الصحافــة الغربيــة
أن أكـــون فلســـطينياً ليـــس مهنـــة

اسكندر حبش

»على هذه الأرض ما يستحق الحياة«، لكنه الموت البشع الذي يفاجئنا حين لا نتوقعه، حين نظن أن الحياة لا تزال ممكنة بعد، وأن ثمة شيئا ما يربطنا إليها. لكن الأمور تقع فجأة في غيابها، وإن كنّا على اقتناع ضمني بأنّ الرحلة لا بدّ أن تنتهي ذات يوم.
من هنا ثمة سؤال آخر، حقيقي، لا بدّ أن يطرح نفسه علينا، هل أن رحلة محمود درويش قد انتهت فعلا؟ ربما كنا نستطيع أن نتحدث عن الموت الجسدي، إلا أن حياة أخرى تُفتح للشاعر بعد موته، هي رحلة الكلمات التي ستأخذ مسارا آخر بعيدا عن هذا التماس الجسدي مع صاحبها، وكأن تماسا آخر يتشكل ليترك الشعر عاريا، وحيدا، في مهب كل الاختلافات التي قد تقال.
لكنها اختلافات قليلة، فلا أحد يستطيع أن ينكر ما ترك هذا الرجل وراءه من شعر ومن إنسانية ومن محبة نثرها، على الأقل، في نفوس قرائه. بل ثمة شيء أكبر من ذلك، تماما كما قال منذ فترة، في الزميلة »لوريان ليتيرير« حين تحدث عن الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ. قال درويش يومها: »البارحة واليوم وغدا، كان نجيب محفوظ وسيبقى أحد أكبر آثار مصر، سيبقى حيا ومهيبا تجاه الزمن. لقد غادر جسده الهزيل، إلا أن روحه المتجسدة في أعماله العملاقة ستبقى حاضرة في ذاكرة الأدب العربي الذي دفع به محفوظ نحو العالمية«....
لا أعرف لماذا أقرأ في هذه الكلمات حالة درويش نفسه، فالبارحة واليوم وغدا، سيبقى درويش أكثر من رمز لفلسطين التي أحببنا، فلسطين التي أصبحت هذا الوطن الذي نريد أكثر من أي زمن آخر. فلسطين الشعر الذي كتبه درويش، والذي أعاد إليه الكثير من هذه الإنسانية المفقودة.
لا شك أن رحيل أي شاعر لا بد أن يزيد من حصتنا الحالكة في هذا العالم، فكيف والغائب اليوم، شاعر بحجم هذا الوطن الذي حلم به، الذي تنفسه حتى اللحظات الأخيرة. هذا الوطن الذي تماهى معه لدرجة الاتحاد والتجسد.
ولأن رحيل أي شاعر حقيقي لا بد أن يثير الكثير من كلمات العزاء والتقدير، أفردت غالبية صحف العالم صفحاتها لهذا الرحيل، لذلك، هنا محاولة للإطلالة على ما كتبته بعض صحف العالم عن غياب درويش.
تحت عنوان »محمود درويش: مرتل الأرض المعشوقة« كتب »ليونيل شيوش« في صحيفة »تريبون دو جنيف« (السويسرية) قائلا: »الموت طالما جاوره في مناسبات عدة، لدرجة انه استخرج منه استعارة مدهشة: »قصيدة جدارية« التي استطاع الجمهور في جنيف أن يكتشفها على خشبة مسرح سان جيرفيه في العام ٢٠٠٥«.
الخلاسيات التاريخية
وبعد أن يشير إلى سبب رحيله، يمضي الصحافي السويسري بالقول إنه كان أحد أكبر شعراء اللغة العربية. »وقد ورد اسمه ـ المبجل في مسقط رأسه فلسطين ـ في قائمة لجنة نوبل من سنوات. ولكن إن لم يحز الجائزة، فهذا لا يعني إن درويش توقف عن أن يكون منشد هذه العودة إلى الحياة الطبيعية، أن يكون شاعر الخلاسيات التاريخية (...). فهذا الصوت الذي كان يحمل إلى البعيد الأصداء المأساوية لشعب وأرض، وجد فيه البعض بأنه يشكل الشاعر الرسمي للمقاومة. بيد أنه دور غالبا ما يقلل من أهمية شعر درويش الذي كان يرفضه. إذ غالبا ما كان يجيب الذين يسألونه عن التزامه بالقول »أن أكون فلسطينيا ليس مهنة«.
ويجد كاتب المقالة أن قوة قصائده كانت إلى درجة دفعت وزير التربية الإسرائيلي إلى المطالبة بوضع بعض قصائده في المنهج التعليمي ـ (وهو أمر رفضه يومها يهودا باراك) ـ حتى أن شارون بنفسه قال بعد أن قرأ »لماذا تركت الحصان وحيدا« بأنه فهم الآن تعلق الفلسطينيين بأرضهم«.
من جهتها كتبت صحيفة »لومانيته« (الفرنسية) تحت عنوان »محمود درويش: شاعر كبير وفلسطيني كبير« التالي: »رحل محمود درويش بعيدا عن زيتون مسقط رأسه الذي لم يتوقف عن إنشاده في قصائده. ولسخرية القدر، توفي بعيدا عن أرض فلسطين التي لم يتوقف عن غنائها في شعره. هذه الأرض التي طالما حرث منها الحب والحنين، بدءا من زمن المنفى وصولا إلى زمن العودة غير المكتمل، الأبتر، الذي ومنذ العام ١٩٩٥ كان يعده بمثابة غياب«... وتمضي كاتبة المقالة فرانسواز جرمان روبان بالقول: » هذه الأرض وهذا الشعب، اللذان كانا بالنسبة إليه عائلته وحبه، من بينها الصخور والزيتون والصعتر والكروم التي صعقته، كل ذلك جعل منه شاعر فلسطين. لدرجة أنه دافع بجسده، في السنوات الأخيرة، عن رغبته في أن يعترف به، وبعيدا عن كل شيء، بأنه شاعر كوني أي أنه يغني أيضا حب النساء والأزهار والحياة«.
وتضيف كاتبة المقالة: »لقد مات في الولايات المتحدة، تماما مثل ذلك الكاتب الكبير والموسيقي الفلسطيني الآخر، الذي أصبح صديقه فيما بعد: إدوارد سعيد. في المرة الأخيرة التي رأيت فيها درويش، كانت في باريس خلال مناسبة تحية أقيمت له. قرأ يومها نصا يروي فيه لقاءه بسعيد. هناك. في المنفى. لأن محمود درويش هو شاعر المنفى، شاعر هذا التقليد الأدبي الكبير الذي يضم من سبقوه من فيكتور هوغو إلى ناظم حكمت. ربما يجدر بنا القول إنه شاعر المنافي...
وتختم »الأومانيتيه« بالقول: »حتى التمزق الأخير، كان أسوأ ما رآه في حياته هو ما علق عليه بمرارة، حول الحرب المندلعة بين حماس وفتح. قال لقد انتصرنا. لدينا الآن دولتان، سجنان لا يتكلمان مع بعضهما البعض. نحن ضحايا لبسنا ثياب الجلادين«...
الهنود الحمر
تحت عنوان »محمود درويش المنفى الأخير« كتب كريستوف عياد في صحيفة »ليبراسيون« قائلا: »في مسائه الأخير على هذه الأرض، توفي محمود درويش في هيوستن (تكساس)، أي توفي في لا مكان (...) أي نهاية أحزن بالنسبة إلى هذا الشاعر الذي نجح في جعل فلسطين موجودة عبر قوة الكلمات فقط! أي سخرية أكبر لهذا الشاعر الذي قارن الفلسطينيين بهنود أميركا الذين طردوا من أرضهم ليموتوا مثل أشجار اقتلعت«.
الكاتب الفرنسي بيير أسولين، كتب في »مدونته« على الانترنت مقالة بعنوان »من أجل تحية محمود درويش« حيث يبدأ كلامه بالقول: »في النهاية هذا هو الشعر: محمود درويش، احد أكبر شعراء اللغة العربية، كان يقرأ قصائده بالعربية في فرنسا أمام جمهور فرنسي حيث أن عددا كبيرا منهم لا يفهموا أي كلمة من لغته، استمعوا إليه لساعات مندهشين من هذه الموسيقى، مأسورين بما كانت تقوله، بحميمية، كلماته التي كانوا يتلقونها بعمق في حين أنهم كانوا غرباء من حيث المبدأ. هذا السحر هو ما يسمى الشعر... مع رحيل الشاعر الفلسطيني، ثمة شيء سيختفي بالتأكيد. لكن كتبه ستبقى حاضرة بدون شك. وستتبعه قصائده لفترة طويلة جدا. سيبقى اسمه يلمع كميراث ثقافي للعالم العربي، بيد أن ما سنفتقده إلى الأبد هو صوته، هذه البذرة الفريدة الخارجة من هذه النظرة الحاملة للرؤية«.
»صوت فلسطين« عنوان المقالة التي صدرت في صحيفة »لوبوست« حول رحيل الشاعر محمود درويش، وقد جاء في بدايتها: »للشاعر وطن أول: الشعر. إن موت أي شاعر حقيقي لا بد أن يحزن كل عشاق الكلمات.... لقد أنشد ألما يعرفه جيدا: ألم المنفى. كان وسيبقى »الشاعر الوطني الفلسطيني«. بالرغم عنه. ومع ذلك فقد اضطلع بدوره. بما أن الشعب الفلسطيني كان يتعرف عليه من كلماته مثلما كان يجد نفسه، لذلك يشعر بأنها تحمله على أجنحتها. كانت صوره، غنائيته، وحيه، أناشيد الحب، دواره أمام الزمن الذي يمر، تساؤلاته حول هويته، تسمح لهم وستسمح لمن يقرأونه دائما كما لمن استمعوا إليه، بأن يجدوا فيه العزاء والتشجيع...«.

***

فلسـطين كشـرط إنسـاني

جان ميشال مولبوا

تسمعنا قصائد محمود درويش الأولى وجدانية عاشقة حيث نجد فيها الارتباط بمسقط رأسه والتعبير عن الإحساس العاشق، في محاولة للانصهار معا في بوتقة واحدة. من هنا نجد أن حضور العناصر الطبيعية هو حضور قاطع. هي رمز عن الوطن، فالأرض يُحتفى بها على أنها »الأم الأولى«. إنها تشكل أيضا البحث والتأكيد ـ عبر الشعر ـ على هذا الوجود الفيزيائي. لذلك يضع في نصوصه الأولى بُعدا حواسيا لا ينفيها.
من ثم، يظهر الالتزام السياسي أكثر وضوحا. إذ أن الكتابة تدخل أكثر في الدرامية لترتبط بعلاقة أعقد بالأساطير والرموز. أخيرا، وفي حقبته الأكثر نضوجا، تحاول هذه الكتابة أن تمتد نحو الانفتاح.
نشهد على صعود قوي في الفعالية والبساطة. يجد الصوت الكلمات الأكثر عريا ليستعير الأشياء الأكثر ألفة، كي يعبر عن غضبه أو عن إخلاصه. إنها تظهر جيدا وبشكل متكامل كلمة درويش التي يقول فيها بأن مشكلتنا نحن الفلسطينيين تكمن في كوننا محكومين بأن نكون أطفال اللحظة الراهنة، لأن حاضرنا لا يجد حلا لا في أن يبدأ ولا في أن ينتهي.
كلام درويش هذا يستجيب إلى ألم عميق لا يتوقف عن حفره عميقا. إنه ألم المنفى. إذ ماذا يعني أن يكون المرء فلسطينيا إن لم يكن قد عرف المنفى فوق أرضه، في أن يعيش داخل أرضه كلاجئ. محمود درويش هو ذاك الذي يأتي من بلاد ليس لها بلاد. ثمة تأمل حاد في كلامه هذا حول الغربة والغيرية. أكان ذلك عائدا للعامل الاجتماعي، أو العائلي، أو للحب، فإننا نجد أن المنفى هو الموضوع المهيمن، هو الذي ينادي الشعر الذي عليه أن يستجيب إلى هذا النداء. فالمنفى بالنسبة إلى محمود درويش هو الشرط الإنساني بامتياز.
في لغة موقعة (من إيقاع) ومقفاة، يحاور الجليلي (من الجليل) محمود درويش مع البيت الحر عبر الوزن الكلاسيكي. يتطور الشعر وفق عدد من الطبقات: الغنائية الملحمية التي تفضي إلى نصوص تتكامل فيها زمنية وموضوعاتية (من موضوعة) معقدة، التدوين الفجائي على طريقة الصحيفة أو الكاميرا، النشيد الغنائي. كل ذلك يتحاور مع أبعاد السرد، مع الحوار الدرامي أو حوار الحكاية.
هذا الشعر ينادي طواعية أنماط الإيعاز أو التبريك أو الصلاة أو الحوار أو ـ بشكل عام ـ نمط الكلام المباشر. إلا أننا في ذلك كله، نقف مدهوشين بقوة نيران هذه الغنائية التي تجرؤ على اجتراح مقارنات لتجد عبرها صيغا آسرة.
كجواب عن الذين يجعلون منه شاعر القضية الفلسطينية، غالبا ما ردد درويش في حواراته المتعددة بأنه رغب في أن يكون البعد السياسي خفرا ومضمرا وغير معلن في شعره. من هنا تأكيده المستمر بأن ليس من مهمة الشاعر أن يقدم برنامجا سياسيا على قارئه. لأن قوة الشعر تكمن في هشاشته القصوى. من دون شك إن الساحة الشعرية هي نفسها ساحة التاريخ، إلا أن العناصر الأكثر تنوعا تتجاور بجانب بعضها البعض حيث يتحول فيها الأعداء، وكما يقول رينيه شار، إلى خصوم شرفاء.
فإذا ما كان الشاعر منتبها إلى التاريخ، فإنه يحتفظ أيضا بهذه النظرة المصوبة على البدايات كي يستطيع أن يحفظ الذاكرة. إنه يضع، تحت المجهر، الحميمي والجماعي، حب امرأة كما حب الأرض، التعبير عن الرغبة في الحياة كما الرغبة في المعركة السياسية. من هنا إن خاصية العمل على القصيدة هي في إعطاء فلسطين هوية من خلال تضاعف الصور التي تنير حضورها: امرأة أو أرض، فإنها تأخذ جسدا عبر ازدواج السيرورة الوجدانية العائدة للتماثل أو للاحتفاء. يرتبطان ببعضهما البعض، يصبحان رمزا، يتوزعان عبر العناصر التي تؤلف المشهد. من هنا نجد أن المتخيل ينقذ ما يحطمه التاريخ.
يؤكد محمود درويش في شعره على مفهوم منفتح للعروبة، لا بصفتها هوية منطوية على نفسها، وإنما مفهوم منظور إليه عبر اللغة بصفتها التعددية. لذلك نجده يتحاور في نصوصه مع مجموع الحضارات (الكنعانية، العبرية، اليونانية، الرومانية، الفارسية، المصرية، العربية، العثمانية، الإنكليزية، الفرنسية) وهي الحضارات التي تعاقبت على ارض فلسطين. وفي هذا الحيز يشكل الصوت الأرض الحقيقية.
وإذا ما كان محمود درويش شاعرا فلسطينيا حقا فلأنه، وفي الوقت عينه، يعير صوته إلى شعبه، أضف إلى ذلك، لأن فلسطين تحاول هي نفسها أن تصبح استعارة عن هذا الشرط الإنساني.

([) مقالة كتبها الشاعر والباحث الفرنسي جان ميشال مولبوا بعد قراءته لأعمال درويش التي صدرت بطبعة فرنسية عن منشورات غاليمار، ضمن

***

سلسلتها »شعر«

درويــش ودرامــا العــودة

نائل الطوخي

كانت أم محمود درويش تتمنى أن يدفن ابنها في قرية »جديدة«، وهي قريته التي سكن بها منذ طفولته. قالت: »كنت أريد أن يدفن ابني في جديدة، ولكنه منذ زمن طويل لم يعد ابني، إنه ابن العالم العربي كله«.
الصراع الملفت حول جثة درويش انتهى بانتصار السلطة. دار الصراع بين عائلة درويش التي ترغب في دفنه بقريته »جديدة«، وبين السلطة الفلسطينية التي تسعى لدفنه في رام الله. أرادت السلطة الفلسطينية احتكار الابن الطيب لها، قمعت الرغبة العائلية البسيطة بأن يدفن ابنها إلى جانبها. هكذا تم تمزيق ما بين درويش وبين أهله بقوة، لأنه من واجبات السلطة أن تحوز لنفسها النياشين، ودرويش هو النيشان الأكبر. ما جاء ليفعله هذا المقال، هو تأمل هذا الصراع، ومقارنته بحدث آخر، تم منذ أكثر من عام، وهو زيارة درويش لحيفا، ومن هذه المقارنة نعرف كيف تخلق القصة الصحفية، وكيف تخلق السلطة أسطورتها، وتسكت الأساطير الأخرى، وتلغي حتى احتمالات تكونها.

***

في البداية، ومع تواتر الأخبار عن زيارة مرتقبة يقوم بها محمود درويش إلى حيفا بعد ما يقرب من أربعين عاما من مغادرتها، بدا الجميع مرتبكا، لم يصدق أحد. بالتدريج، وخلال ساعات، بدأوا في التصديق، وفي ملاحظة أن »القصة«، بمعناها الصحافي، على وشك أن تتحقق الآن. أشارت وقتها جميع المانشيتات الصحفية إلى »العودة«، وأي عودة سوى العودة الى حيفا. الزيارة بشرت بها عناوين صحفية كثيرة وذكية: »محمود درويش عائد إلى حيفا«، »أحمد العربي يصعد كي يرى حيفا ويقفز«، و»محمود درويش على »مشارف« »الكرمل«.
كل شيء كان حاضرا في هذه العناوين الثلاثة: غسان كنفاني، وهو الفلسطيني ببيروت، عبر عمله الروائي »عائد إلى حيفا«، سهام داود والتي نظمت الامسية، هي الفلسطينية بإسرائيل، عبر عملها الصحافي، بدورية »مشارف«، ودرويش يحضر عبره هو ذاته، الفلسطيني برام الله وعمّان، وعبر عمله الشعري، »أحمد الزعتر«، والصحافي، »دورية الكرمل«. هكذا، تجتمع المنافي، تعود إلى فلسطين الأصلية، التاريخية، فلسطين التي أصبح اسمها إسرائيل، فلسطين .٤٨ هكذا يمكننا ان نفهم »عودة« وليس »زيارة« محمود درويش لحيفا، الفلسطينيون يجتمعون برمز فلسطين، بالشخص الذي خلق فلسطين الأدبية أكثر من أي شخص آخر، الشتات الفلسطيني يلتم ببعضه.

***

ألفا شخص حضروا الامسية وقتها. أية أمسية أدبية في إسرائيل يمكنها أن تجمع ألفي شخص؟ ولا واحدة. كان هذا مثيرا لغيرة إسرائيليين كثيرين، كما تشهد بذلك تعليقاتهم على تغطيات الأمسية في الصحف العبرية. قال أحدهم أنه أحس كما لو كان في أم الفحم وليس في حيفا. لساعتين تحولت حيفا إلى مدينة فلسطينية، مثلها مثل أم الفحم الضفاوية. بمعنى آخر أدق، ليس فقط أن درويش عاد إلى فلسطينه، وإنما »عادت« حيفا أيضا إلى فلسطينيتها، ليس فقط لأنها تحولت إلى مدينة تشبه أم الفحم، ولكن أيضا باحتشادها لرؤية خالق فلسطين الأدبية.
يصعب العثور على شخص كتب فلسطين، وارتبطت صورتها بصورته، كما فعل درويش، ربما بخلاف عرفات شخصيا. مع النكبة، فر الطفل محمود من قريته الجليلية مع الفارين، كما تسلل إليها عائدا مع المتسللين، رفض الجنسية الإسرائيلية عند سن معين، غادر فلسطين ،٤٨ ثم انصهر في مصهر الشتات الفلسطيني، بيروت، مع المنصهرين. بالتزامن مع كل هذا، كانت الأرض تنمو في قصيدته، مثلما ينمو في قصيدته المخيم الذي حل بديلا مؤقتا عن الوطن، ومثلما ينمو الفلسطيني، اللاجئ المولود في نفس المخيم. خلق درويش فلسطين حديثة تشبه تلك التوراتية، سفرجل وزعتر وسنونو، حبقا وزنزلخت، ولكن أيضا، بندقية وبركانا وهوية. الهوية كانت هي كلمة السر في عدد من قصائده الأكثر انتشارا. في النهاية لم تكن صورة وهوية فلسطين لتتكون بالشكل الذي هي عليه الآن من دونه، في هذا الأمر يبدو إنجازه أكبر بما لا يقارن حتى من إنجاز إدوار سعيد نفسه.
يدرك هذا وقتها عباس بيضون، يدرك التماهي بين درويش وفلسطين الى حد صار يمكن بمقتضاه اختزال أحدهما في الآخر، يكتب في »السفير« اللبنانية قائلا عن زيارة درويش لحيفا بعد ٣٧ عاما من مغادرته لها: »إذ حينما تكون وطنية محمود درويش على المحك فإن الأمر مهول وخطر، فأن تكون وطنية شاعر الهوية الفلسطينية ورمزها الأدبي متهمة فهذا يعني أن الثقافة الفلسطينية التي احتل درويش هذا المقام فيها متهمة وموصومة أيضاً.«

***

لم تنطلق كلمة بيضون من الفراغ، كانت إسهاما في سجال جوهري حول توصيف زيارة درويش، هل هي »زيارة« أم »عودة«، هل هي »عودة« أما شيء يشبه ما يسمى أحيانا بـ»التطبيع«. بدا بيار أبي صعب وقتها، في الأخبار اللبنانية، وهو يطلب من محمود درويش ألا يزور حيفا مستشهدا بمقاطعة الفريق الإنجليزي »الرولينج ستون« لإسرائيل، بدا وكأنه يضرب في العمق. في الواقع كان أبي صعب مبلبلا، رمز فلسطين يتمرد على أول المحرمات بخصوصها، مقاطعة إسرائيل. أما الفلسطينية عدنية شبلي فلها إطار آخر تضع فيه الزيارة. ترد على أبي صعب في نفس المكان: »فجأة إذاً كي يصبح محمود درويش الفلسطيني مؤازراً لفلسطين، عليه أن يتحول إلى إنكليزي ذي ضمير سياسي، عليه أن يتعامل مع فلسطين المحتلة في عام ،١٩٤٨ بلده، على أنها إسرائيل، عليه أن يعتبر فلسطينيي الداخل على أنهم إسرائيليون، أن يعلن أن حيفا هي أرض العدو!«
محمود درويش غير الرولينج ستون. الرولينج ستون قد »يزورون« حيفا بينما درويش »يعود« إلى حيفا، الرولينج ستون عندما يزورون فلسطين فإن فلسطين تصبح هي إسرائيل، أما لدى درويش، الفلسطيني بألف لام التعريف، فإن الأمر يصبح مختلفا، يصبح التحام الفلسطيني بأرضه. ثمان وأربعون ساعة فقط كان يمكن لها أن تحشد كل العواطف حولها، تصبح الزيارة عودة، أو شبهة عودة. هكذا يضطر درويش للقول في حوار مع هآرتس قبيل سفره: »لا أريد إخافة القراء. فأنا لا أنوي تحقيق حق العودة«. كما يضطر للحديث مطولا قبل السفر عن مفهوم العودة مع صحيفة الاتحاد الحيفاوية. ينفي المفهوم، من الناحية الفلسفية، مستشهدا بعوليس وإيثاكا. وللمفارقة فقط، كان درويش قد عمل بصحيفة الاتحاد قبل مغادرته فلسطين ،٤٨ والآن »تعود« هي إليه لتحاوره شاعرا كبيرا وتطلب منه استحضار فترة عمله هناك مع إميل حبيبي، أي الرجوع بشكل ما إلى ماضيه. العودة كانت هي العنوان الذي لا مفر منه للحدث.
السؤال الأساسي هنا الآن: لماذا لم يتم إذن طرح مفهوم »العودة«، كعنوان لرغبة عائلة درويش بأن يدفن ابنها بجانبها؟ لماذا تم تغييب المفهوم وإلغاء احتمال تشكل الأسطورة و»القصة الصحفية«؟ ولماذا وصفت رغبة العائلة في حدودها الدنيا: رغبة عائلية فقط وليست رمزية، اشتياق إلى جسد الابن وليس التحاما، تأجل طويلا، بين الشاعر وأرضه؟ على عكس ما حدث في قصة »العودة إلى حيفا«؟ الإجابة: لأن السلطة كانت هي الخصم هذه المرة، والسلطة هي في رام الله، وليست في »جديدة«. والسلطة هي ما كانت تعني هذه المرة »فلسطين«.

***

كان التئام الجرح في حيفا وقتها مؤلما تماما، تم عبر الجيش الإسرائيلي. منع الجيش درويش من البقاء في حيفا لأكثر من يومين، بينما كانت سهام داود قد أعلنت عن أن درويش لو بقي أسبوعا كما طلبت كان ليتمكن من زيارة أمه التي تبلغ تسعين عاما والمقيمة في قرية »جديدة«. لا يصرح الجيش، ولكن درويش يتمكن من زيارة أمه في الثماني وأربعين ساعة التي قضاها ببلده. هكذا، تتطور القصة الخاصة بالجرح الفلسطيني: تم تقصير فترة إقامة درويش بشكل عمدي، عسكري، لمنع الشاعر القومي، شاعر فلسطين، من الالتقاء بأهله وبأرضه بالمعنى الفعلي والمجازي للكلمة. ولكن برغم المنع الإسرائيلي، فقد أمكن للفلسطيني الالتئام بأرضه وبأمه. تشتعل كل العواطف حول الأمسية، لتصبح رمزا لإغلاق الدائرة التي طال فتحها طويلا، والتعبير لمحمود درويش، الذي يقول في حواره لهاآرتس ردا على السؤال عن سبب مغادرته بلدته منذ ٣٧ عاما: »حتى أعود بعد ٣٧ عاما. هذا يعني أنني لم أنزل من الكرمل في ٧٠ ولم أعد في .٢٠٠٧ كل شيء هو مجاز. أنا الآن في رام الله وفي الأسبوع القادم سأكون في الكرمل وأتذكر أنني لم أكن هناك لأربعين عاما، فهذا يعني أن الدائرة أغلقت وكل السفر الذي طال سنوات كان مجازا«.

***

العودة مفهوم مستحيل بلا شك. لا أحد يعود وإنما الجميع يسيرون في طرق جديدة، بلا أمل في الالتفات الحقيقي إلى الخلف، ومن استحالته تنبع رومانتيكيته، هو الحلم الذي يطمح الجميع لتحقيقه ولا يستطيعون، كما أنهم في نفس الوقت لا يستطيعون التخلي عنه نهائيا. من هنا حضر عرب إسرائيل، هم ذوو الجنسية الإسرائيلية، الأمسية، بهدف العودة لفلسطينيتهم، ومن ذا قادر على منحهم إياها سوى درويش، وبهدف رؤية درويش عائدا إلى فلسطينه، فلسطينه التي لم يجد المحامي خالد محاميد، وهو أحد حضور أمسية درويش، تعبيرا عنها أكثر احتشادا من بعض أوراق الليمون جمعها من بيت الشاعر الكبير بقرية البروة التي ولد بها. ينتظر محاميد انتهاء درويش من أمسيته ليمنحها له، متخيلا بالتأكيد لحظات عاطفية جياشة، دموعا وعناقا حارا بين الشاعر وتراب أرضه، بين تراب الأرض وشاعره. ولأن لا أحد يعود فعلا، فلم يأخذها درويش. درويش كان يحاول اختزال البعد الدرامي إلى أقصى حد. يغادر القاعة مسرعا غير سامح للصحفيين بطرح أية أسئلة عليه، ومقللا بشكل متعمد من إمكانيات كتابة »قصة« صحفية عن هذه الزيارة. وعلى الرغم من هذا تمت وقتها كتابة القصة.
العكس من هذا تماما يحدث الآن. درويش نفسه، قبل موته بأسبوعين، يعود إلى قريته، يقبل أمه ويخبرها بقرار خضوعه للعملية بأميركا. كأنه يريد كتابة قصة »عودته«، التحامه بأرضه المتزامن مع الموت، وعلى الرغم من هذا، تقرر السلطة استبعاد عائلته، فصله عن أرضه الأولى، واحتكار جثمانه لنفسها. وتستجيب العائلة، لأنه »منذ زمن طويل لم يعد ابنها. وإنما ابن العالم العربي كله« والعالم العربي يوجد في رام الله، وليس في أي مكان آخر.

([) كاتب مصري

***

عشـنا فـي زمنـه

حسن خضر

في العام ١٩٦٩ قرأت »عاشق من فلسطين« تحت عمود الكهرباء في الشارع في مخيم للاجئين. لم أنتظر حتى العودة إلى البيت، وأنستني القصائد أن منعا للتجوال سيبدأ بعد قليل. وفي أواخر ذلك العام دخلت السجن. كان المحققون يجردوننا من الملابس في منتصف الليل، في قاعة كانت ذات يوم ملعبا للكرة الطائرة، ويضربوننا بأسلاك مجدولة، ثم يضعوننا تحت دشات مياه باردة، ويعيدون الكرّة حتى انبلاج الفجر، قبل إعادتنا نصف أموات إلى الزنازين.
على أي حال، قبل دخول السجن بوقت قصير سمعت، أو قرأتُ، لا أذكر، بأن الإنسان يمكنه تحمّل الألم إذا شغل ذهنه بشيء آخر.
وكان أوّل ما فعلته عندما سرى الألم في جسدي أن بحثتُ عمّا يشغل الدماغ عن التفكير في الألم. حينها بزغت من مكان ما في الذاكرة كلمات وصور متلاحقة: »عيونك شوكة في القلب توجعني وأعبدها، وأحميها من الريح، وأغمدها وراء الليل والأوجاع أغمدها فيشعل جرحها ضوء المصابيح، ويجعل حاضري غدها، أعز علي من روحي«.
للعمر أحكامه. وعندما تكون في السادسة عشرة من العمر، يسهل على الجسد أن يتحالف مع الذاكرة، ويسهل على الاثنين تشكيل جبهة موّحدة لمقاومة الألم. وهذا ما كان. أسلاك مجدولة تصنع خيوطا دامية ومتقاطعة على الجلد، لكن الروح قوية، والشعرُ يمكّن الولد من العض على شفتيه لئلا يفوز الجلاّد بصرخة هي بعض ما ينتظره من غنائم الحرب.
لم أذكر هذه الحادثة لمحمود، رغم صلة امتدت لسنوات طويلة، وصداقة جعلت من الشخصي والحميم موضوعا لذكريات متبادلة. لم أذكرها لأن فيها ما يشي باحتمال الابتزاز العاطفي، ولأن أعدادا يصعب حصرها من الأولاد والبنات في فلسطين، والعالم العربي، مرّوا على مدار العقود الأربعة الماضية، بتجارب، وعاشوا انفعالات متباينة، اقترنت على نحو أو آخر بكلمات، وأخيلة، وصور، مستمدة من قصائده.
وفي أمر كهذا ما يبرر القول بأن فعل الاقتران، بقدر ما كان فرديا، وحميما، إلا أنه امتلك خصائص تجربة جمعية بامتياز. وهذا ما يستحق التأمل والتفكير: لماذا احتل محمود درويش مركز القلب من تلك التجربة؟
أقرب الإجابات إلى الذهن، وأكثرها ابتذالا، تبرر صعوده المفاجئ في أواخر الستينيات بعودة الفلسطينيين، وقد أصبحوا فدائيين، إلى قاطرة التاريخ، وارتفاعهم في المخيال القومي العربي إلى مرتبة الأيقونة. ومصدر الابتذال، هنا، لا يتجلى في استحالة العثور على عناصر من هذه وتلك في الظاهرة الدرويشية ـ خاصة في مراحلها الأولى ـ بل في عجزها عن العثور على المعادل الشعري لصعود جماعة بعينها، وتحويلها إلى أيقونة في مخيال ما.
ثمة إجابة مغايرة: لم يكن محمود الأكثر صخبا بين الشعراء الفلسطينيين والعرب، وكان أوّل من تنبه إلى ما يُلحقه تحويل جماعة بعينها إلى أيقونة من ضرر بقضية الشعر، عندما أطلق في وقت مبكّر نداء »أنقذونا من هذا الحب القاسي«، الذي انطوي، ضمن أمور أخرى، على ضرورة قياس الشعر بأدوات الشعر لا بالسياسة.
وإذا شئنا الكلام عن الكيمياء الخاصة، التي تبلورت بفضلها الظاهرة الدرويشية، فلنقل إن اللغة، والأخيلة، والمجازات، التي خرجت من الجليل في أواخر الستينيات، كانت مسكونة بأيروسية شبه رعوية، فتية، وفاتنة، تعيد الاعتبار إلى البلاد لا باعتبارها جنة ضائعة، بل امرأة مستعصية ومشتهاة. الأيروسية ليست مشروطة بالمرأة دائما، لكن تأنيث الأرض، وتأثيثها بالناس والشجر والتجارب اليومية، وأنسنة العدو، كانت كلها علامات على لغة جديدة وذائقة مختلفة.
لم يكن محمود أكبر، من حيث العمر، من الشبان والشابات الفلسطينيين والعرب، الذين انخرطوا في الكفاح من أجل فلسطين، كان واحدا منهم. أما اللغة، والأخيلة، والمجازات، التي تبرعمت على يديه، فقد كانت (إذا استعرنا مجاز النحّات الذي لا يخلق التمثال، بل يبحث عنه في الصخر، من مايكل انجلو) ما عثر عليه بالموهبة، والمثابرة، في عالم وذائقة الستينيات، من معادل شعري لما يعتمل في قلوب وأذهان شبّان وشابات، يمكنهم التماهي معه، حتى وربما بفضل ظروف استثنائية من نوع التعرّض للتعذيب.
وفي أمر كهذا ما يفسر، أيضا، معنى الشاعر القومي (حسب الدلالة المتداولة في اللغات الأوروبية) فقد كان بإمكانه، دائما، قول أشياء، لا يجد الناس صعوبة في التماهي معها.
ومع ذلك، لا مجال للاستفاضة في هذا الجانب الآن، بل التنبيه إلى حقيقة أن ذلك المعادل الشعري كان نوعا من القيد، أيضا. فالذائقة تتغيّر، كما يتغيّر الناس الأحياء. ولعل في محاولة للعثور على أكثر من احتمال للتمثال، والتحرر من سطوة المألوف والمضمون، ما يفسّر التحوّلات اللغوية والجمالية والهموم الشعرية، إذا شئت، التي عاشها محمود درويش منذ »سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا« وحتى »لاعب النرد« التي قرأها في رام الله قبل أسابيع قليلة.
قبل عامين، وفي فحوصات روتينية، اكتشف الطبيب أن شرايين القلب تتوّسع، ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، وأن القلب ـ الذي تعرّض لعمليتين جراحيتين من قبل ـ لا يحتمل جراحة ثالثة. وحتى في حال نجاح جراحة كهذه، ثمة احتمال الإصابة بالشلل. وقد عاش محمود خلال هذه الفترة كمن يحمل لغما في قلبه. المجاز الذي استخدمه أكثر من مرّة لوصف معايشة حتمال الموت بطريقة يومية، تقريبا.
ولستُ، هنا، في معرض سرد التفاصيل، بل استحضار نقاش دار بيننا بعد عودته من باريس. واللغم في قلبه. قال محمود لم يبق لدىّ الكثير من الوقت. وفي ما تبقى من وقت سأتفرّغ للشعر. ويومها اتفقنا على »تجميد« صدور »الكرمل«، التي أحبها، دائما، وأنفق عليها الكثير من الوقت والجهد. والمهم، هنا، أن التفرّغ للشعر كان يشبه سباقا مع الموت.
كان الشعر سره الفصيح. والإخلاص لقضية الشعر جمرة متقدة في الروح. وعلى مسطرة كهذه تُقاس ظاهرة فريدة من نوعها في الشعر العربي. وهي، أيضا، من بين أشياء كثيرة تفسّر لماذا شعر ربما ملايين من العرب والفلسطينيين يوم سمعوا نبأ غيابه بأن حائطا كبيرا في بنيان عالمهم قد انهار. وتفسر، أيضا، لماذا نفكر نحن، الذين عرفناه عن قرب، بأن العيش في زمن محمود درويش، وبالقرب منه، كان منّة من السماء، وبأن عالمنا يحتاج الآن إلى ترميم، ربما يطول أكثر مما تبقى لنا من عمر.

(كاتب فلسطيني في برلين)

السفير- 15 اغسطس 2008

يتبع