“الحياة وحدها هي التي تقتلنا.
الموت ليس إلا مُضيف
يحرّر البيت من سياجه
ويدفعه نحو حافة الغابة.”
René Char
ترجمة وإعداد: أمين صالح
رونيه شار: طويل، مهيب، ذو شخصية قوية وجذابة. رجل فعل. مقاتل صلب وعنيد، قاد فرق المقاومة ضد الاحتلال النازي في الجبال. في الوقت ذاته، هو صاحب قلم من الطراز الأول. شاعر مجدد، بارع في الاستبطان وخلق الحالات الحميمية.
ولد شار في قرية "ليل سور لاسورغ" في 14 يونيه 1907، وتوفى في باريس في 19 فبراير 1988. والده كان رجل أعمال ومحافظا محليا، وقد توفى مع بلوغ شار العاشرة من عمره. ويرى العديد من النقاد أن رحيل والده عنه وهو في سن مبكّرة قد مارس تأثيرا كبيرا على شار والذي تجلى ليس فقط في شعره بل أيضا كعامل مساهم في تعميق العزلة والإحساس بالفقد لديه.
مع أنه تلقى تعليما جيدا، إلا أنه لم يكمل دراسته الثانوية، واختار بدلا من ذلك الالتحاق بالمدرسة التجارية في العام 1925. ثم أدى الخدمة العسكرية الإجبارية في وحدة سلاح المدفعية من 1927 إلى 1928. خلال هذه الفترة نشر مجموعته الشعرية الأولى "أجراس على القلب"، وهو الكتاب الوحيد الذي نشر باسمه الأول رونيه-إميل شار.
شار هو واحد من أبرز وأهم الأصوات في الحركة الشعرية الفرنسية الحديثة.
أثار إعجاب الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر (الذي يعد مؤسس الفلسفة الوجودية) لعمق فلسفته الشعرية.
في العام 1929 ارتبط بالحركة السوريالية، وظل لعدة سنوات من العناصر النشطة في الحركة. ساهم مع أندريه بريتون وبول إيلوار في تأليف كتاب مشترك بعنوان "أعمال بطيئة" (1930)، ونشر نصوصه في المطبوعات السوريالية، وشارك في احتجاجاتها السياسية، كما التزم لفترة بتقنية الكتابة الآلية. غير أنه، منذ منتصف الثلاثينيات، راح يقصي نفسه تدريجيا عن الحركة، حتى أعلن – في هدوء- قطع علاقته مع السوريالية، مفسرا السبب في رسالة بعثها إلى الشاعر السوريالي بنجامان بيريه في العام 1935 قائلا: " السوريالية بحاجة إلى التلاشي برشاقة وكياسة من أجل حمايتها من الإذلال الذي سوف تتعرّض له عند بلوغها المائة عام. لكن ألستم مؤمنين بالقضاء والقدر؟ هل كانت سلالة ساد ورامبو ولوتريامون بأسرها من فئة المفكرين؟ وأنا أرى هذه التسوية المثيرة للشفقة قادمة، فإنني أرفض إقرارها والتصديق عليها. سوف أغادر هذا السيرك."
تزوج في العام 1932، بعدها بسنوات قليلة عاد إلى مسقط رأسه، في قريته الواقعة بالقرب من أفينون، ليتولى إدارة أعمال الشركة التي أسسها والده (في مجال تجهيزات البناء)، لكن أصيب بمرض أدى إلى استقالته، في العام 1937، وانتقاله إلى قرية سيرست لاستعادة عافيته. بعد سنوات، أثناء الحرب العالمية الثانية، سوف يعود شار إلى هذه القرية ليشكّل وحدة مقاومة في الحرب ضد النازية.
قبل انضمامه إلى المقاومة، كان قد كتب عن صديق (وربما عن نفسه): " هو كان مولعا بالانتقاد، مفعما بالارتياب بشأن حياته، مسموما بالرياء. شيئا فشيئا استوطنته الكآبة العقيمة. الآن هو عاشق، ملتزم، قابل لأن يبذل نفسه ويضحي بها. إنه يمضي عاريا، مشحونا بالتحدي".
شارك في الحرب الأهلية الأسبانية إلى جانب الجمهوريين. وفي 1940 انضم إلى المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، ليس كشخصية أدبية "مقاومة" يكتب مقالات ثورية، عند الاقتضاء، وينشرها في المطبوعات السرية التابعة للمقاومة، بل كمقاتل مناضل أثبت كفاءة عالية أهّلته لأن يصبح قائدا ميدانيا لأحد جيوب المقاومة في الجنوب الفرنسي.. وقد عبّر عن هذه التجربة بنصوص، على شكل يوميات شعرية، هي مزيج من التأملات الفلسفية والقصائد النثرية،كتبها في الفترة بين 1941 و 1944، باسمه الحركي المستعار، هيبنوس، إله النوم عند الإغريق،ثم نشرها بعد الحرب (1946) في كتاب حمل عنوان "أوراق هيبنوس".
في السنوات التي تلت الحرب، وتحديدا من 1950 إلى 1962، اتسعت شهرة شار كشخصية أدبية مؤثرة، ونال احترام وتقدير العديد من الكتّاب والتشكيليين والموسيقيين، وتعاون مع عدد من الفنانين في أعمال مشتركة، في مجاليّ التشكيل والموسيقى.
كان صديقا حميما للعديد من الرسامين والكتـّاب، مثل: براك، جياكوميتي، بيكاسو، ألبير كامو.
في سنوات الستينيات اهتم بقضايا البيئة، وكان ناشطا في الحملات الاحتجاجية ضد تلويث البيئة، وضد منشآت الطاقة النووية في الأقاليم.
في 1971 أصدر كتابه "العري الضائع" والذي جمع فيه القصائد التي كتبها منذ 1964. ومع أن هذا الكتاب يعد خلاصة وافية لأعماله، إلا أنه استمر، بثبات، في الكتابة والنشر حتى منتصف الثمانينيات، مقتفيا المسارات التي غذّت رغبته في دعم الإبداع كشكل من أشكال المقاومة الفكرية ضد المظاهر القمعية واللا إنسانية في العصر الحديث.
في أواخر 1987 أرسل شار كتابه الشعري الأخير إلى الناشر، لكن طباعته لم تجهز إلا بعد أشهر من وفاته.
رونيه شار كان الرجل الذي يرتدي قناع اللغة، لا لحجب هويته، بل ليجعل من دوره في المأساة بسيطا وجليا. كان أشبه بالحدّاد الذي يطرق القصائد ليصوغ علاقات جديدة مع الكلمات، تاركاً شرارات اللغة تتطاير.
حياته جزء من شعره. هما بالأحرى متلازمان، ويتعذّر فصلهما. في كتاباته الشعرية، بدءا من 1928 وحتى عامه الأخير، كان يؤكد على الأمل في مواجهة أي صراع، رافضا التسوية والامتثال، مسلّما بصحة اعتبار الرغبة محوراً للإلهام. مخاطبا الأحاسيس الكونية الرحبة. لقد آمن شار بفكرة أن الفن والأدب والموسيقى متصلة في علاقة متبادلة كوسائل تعبير ضرورية للمقاومة، وضرورية للحفاظ على إنسانية الفرد وقيم المجتمع الأخلاقية.
تأملاته في الحاضر تستدرج الحنين إلى قيم الماضي، إلى الحقائق البسيطة المتصلة بالحب والجمال واحترام النظام الطبيعي، إلى مسؤولية الفرد تجاه الكائنات البشرية الأخرى. كتابات شار هي تأملية، تختزل القضايا الخطيرة والهامة إلى عناصرها الجوهرية لتعبّر عنها في ومضات تأخذ شكل القصيدة أو الحكمة.
في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فرض شار نفسه كصوت أدبي مهيمن ومؤثر. ومع أنه لم يكن شاعرا محلياً على الإطلاق، إلا أن إقليم بروفانس، الذي نشأ وعاش في ربوعه، يوفّر خلفية للعديد من معالجاته الأدبية للنزاعات الكونية بين الخير والظلم، والمقاومة في مواجهة الاضطهاد.
عالم رونيه شار الشعري يستعصي على التصنيف لتجاوز أعماله الأشكال المتكرّسة والتصنيفات القائمة. نصوصه الشعرية والنثرية تعكس رؤاه الفنية والسياسية والأخلاقية، بلغة تتسم بالعمق والبساطة معا، متأثرا بالشعراء- الفلاسفة الإغريق، وبالفلسفة التاوية.. وهذه النصوص – كما يقول الناقد ماركوس نيكولاس نيكو- توحّد الطبيعة والجمال واللامعقول وترفعها إلى الموضع الذي فيه تزول الفوارق، والجُمل تبدو كما لو أنها ترتعد لما تحمله من طاقة مكتشفة حديثا.
ويضيف ماركوس: " في العديد من أبيات قصائده، الفوضى الحاضرة في كل الأذهان تجعل حضورها معلوما وبقوة جميلة وغريبة، ما يصمم المرء أن يسميه تشوشا أو فوضى، رونيه شار يخلقه، أو بالأحرى يكشف النقاب عنه بوصفه إدراكا متأصلا".
نصوص شار في أغلبها تنتمي إلى الشعر الحر أو هي عبارة عن قصائد نثرية. وهو موهوب بلغة مجازية يتم توصيلها غالبا على نحو غنائي، يتخللها العنف أحيانا. والعديد من نصوصه تتسم بالبساطة والتكثيف على طريقة الزن Zen ، خصوصا تلك التي تتخذ من الطبيعة وعناصرها موضوعات لها. وكان شار يؤمن بأن على الكائن البشري أن يتعامل مع الطبيعة كصديق وخصم معاً بدلا من الإذعان لها أو التكيّف معها.
عن علاقته بالطبيعة يقول ميشيل فيغني: "في شعر رونيه شار، بوسع المرء أن يسمع صوتا قويا جدا يشجب الأشكال المتعددة للحداثة، خصوصا تلك التي جعلت من الطلاق بين الإنسان والطبيعة أمرا واقعا. في بعض نصوصه نجد أصداءً لروسو و عدد من المفكرين الفطرانيين (المؤمنين بأفضلية الحياة البسيطة المشدودة الجذور إلى الطبيعة) نابذاً العلم والحضارة المدينية. بعض الباحثين شعروا بأن مثل هذا الموقف سوف يؤدي إلى تصنيف شار بين الرجعيين المثاليين، وحاولوا إنكار هذا الأساس النوستالجي في رؤيته للعالم".
ويقول عنه إيف بيرجيه: "كتاباته هي بورتريه لرجل ذي إرادة وطاقة ونفاد صبر وقوة حيوانية تقريبا. لا شيء يستفزه أكثر من الثبات والجمود (أعني الإذعان أو التسليم بالوضع الراهن). هكذا هي لغته، صوره الحافلة بالحركة.. الحركة ليست طرية ومتدفقة، لكن سريعة، قوية، عنيفة، بل وحتى وحشية".
أما صديقه الكاتب ألبير كامو فقد سماه، في العام 1952، "المتفائل المأساوي" واعتبره أعظم شعراء فرنسا الأحياء، "الشاعر العظيم الذي كنا جميعا في انتظاره".
وحيدا على تخوم المحتمَـل
رجل وافر: في الحجم، في الحيوية والنشاط، في الكلام، في حالات الصمت، في الأفكار والمشاعر، في الجديّة، المرح، الوداعة، العنف.
خلاصة كل هذا، ضرب من الكثافة التي يبدو أنها حرّة، في أية لحظة، في اتخاذ أي اتجاه أو منعطف.
الحياة المفرطة فيه هي التي تقوده، وتمنحه شعورا بالقوة والأهمية.يتحدث بإيقاعات مقاطعة بروفانس، حيث وُلد ونشأ وعاش. أنهى دراسته الثانوية في أفينون، ثم التحق بالجامعة في Aix.
كان واحداً من أوائل السورياليين.
لكن الحرب، وتجربته كقائد لمجموعة من الماكيين (المقاتلين في حركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني) في بروفانس، هي التي مارست تأثيرا عميقا على أعماله، إذ وجّهت موضوعاته الرئيسية الهامة نحو مجرى معيّن، ووفرت مادة خصبة للعديد من أشعاره. لقد تحوّل الحرمان والعوز والجوع والمعاناة، في تلك السنوات الصعبة، إلى نوع من الاقتصاد المتقد الذي وسم أسلوبه، وإلى رغبة عارمة في تركيز وتكثيف كل شيء في شكل تأملات وأمثال وحكم وتفجرات نثرية.
رونيه شار أعاد إلى الشاعر رسالته في عالمنا المضطرب، شديد الاهتياج. هذا كان الواجب الأهم لأعماله. لقد واجه أوضاعا وحالات صعبة من الحرية الإنسانية، وفهم وظيفة المخيلة في حياة الإنسان.
دافع عن الشعر بنفس الدرجة من العاطفة والانفعال التي دافع بها شيلي عن الشعر.. لكن بدرجة أكبر من الحكمة والدفء البشري. هو يبزّ أغلب معاصريه بعواطفه الإنسانية، بما يكتنزه من مشاعر حب. لكن هذا الحب كان مقدراً له أن يبتلي بالمحنة. ذلك لأن الشاعر هو المرشد الرؤيوي للبشر، الشخص المطلق الذي يتحرك وحيدا على تخوم المحتمـَل.. "هناك حيث السماء قد انحدرت منذ لحظات".
مهمته أن يجلب إلى الوجود ما لا رجاء فيه، ما هو غير متوقع. في الإشراق البالغ لحبه سيء الطالع، في وميض القصيدة، تعلم شار كيف يأمل وكيف يسبّح.
(مقتطف من مقدمة المترجم جاكسون ماثيوز - لكتاب "يقظة هيبنوس")
مؤلفات رونيه شار:
- ترسانة (1929)
- أعمال بطيئة (1930.. بالاشتراك مع أندريه بريتون وبول إيلوار)
- أرتين (1930)
- مطرقة بلا سيد (1934)
- وحدهم يبقون (1943)
- القصيدة المتناثرة (1945)
- أوراق هيبنوس (1946)
- غضب وغموض (1948)
- الصباحات (1950)
- إلى سكينة متشنجة (1951)
- بحث عن القاعدة وعن القمة (1955)
- الكلمة بوصفها أرخبيلا (1962)
- في المطر الوفير الصيد (1968)
- العري الضائع (1971)
- طيوب صائدة (1976)
- أغاني بلاندران (1977)
- نوافذ غافية وباب على السطح (1979)
- جيران فان غوخ (1985)
- مديح مريب (1988)
* * *
النهر
النهر الذي يفترق باكراً، بحركة واحدة، بلا رفيق،
يهب أطفال بلدي وجه شغفك.
النهر حيث ينتهي وميض البرق وحيث يبدأ بيتي،
الذي يطوي الطريق كله حتى مواطئ النسيان، الأساس
الصخري لرشدي.
أيها النهر، فيكَ ترتعد الأرض، وهناك شمس، قلق،
ليت كل رجل فقير في ليله يصنع خبزه من محصولك.
النهر غالباً ما يتعرّض للعقاب، يسلـَّم إلى مجراه.
نهر قليلي الخبرة في وضع متصلب،
ليس ثمة ريح لا تضعف عند أعالي أخاديدك.
نهر الروح الجوفاء، الأسمال والريبة
نهر المحنة القديمة التي تحلّ نفسها، الدردار و الشفقة.
نهر غريبي الأطوار، المحمومين وقاطعي الأحجار،
نهر الشمس التي تطلق سراح محراثها حتى تغطس إلى أبعد مستوى،
نهر تلك الأشياء الأفضل من ذات المرء، نهر الضباب المتبرعم،
القنديل الذي يطفئ القلق الحائم حوله،
نهر الأهمية الممنوحة إلى الأحلام، النهر الذي يصْدئ الحديد،
حيث النجوم هي من ذلك الظل الذي يرمى في البحر،
نهر الطاقات المنقولة والصرخة التي تدخل فم الماء
نهر الإعصار الذي يعضّ الكرْمة ويعلن حضور النبيذ الجديد،
نهر قلبٍ لا يهلك أبداً في هذا العالم المفتون بالحبس،
نهر يبقينا عنيفين وودودين تجاه نحل الأفق.
عتبة
عندما تزحزحتْ بعيداً الحواجز الموضوعة أمام الناس، امتصتها هبّة الريح الجبّارة، هجران المقدّس، الكلمات في البعد، كلمات لم ترد أن تضيع، وحاولت أن تقاوم الضغط الفادح، عندئذ هم حسموا اختيار السلالة الحاكمة لحواسهم.
عدوت صاعداً إلى حيث ذلك الليل المشعشع ينبثق ويتدفق، مغروساً في الفجر الراعش، وحزامي مليء بالفصول، إني أنتظركم، أيها الأصدقاء الذين على وشك الوصول. في وسعي أن أميّزكم في ظلمة الأفق. ما أبتغيه لبيوتكم هو أن لا تجففها مدفأتي. وعكازي المصنوع من خشب السّرْو يضحك لكم من أعماق قلبه.
شباب
بعيداً من كمائن الأسطح وصدَقات الأضرحة الريفية تأخذين ولادتكِ، رهائن الطيور، أيتها الينابيع. انحدار الإنسان في غثيان رماده، صراع الإنسان مع حيطته الصائنة، حتى هذه لا تستطيع أن تحرّرك من الوهم.
الثناء، الثناء، لقد توصّلنا إلى تفاهم مع أنفسنا.
قالت: "لو كنتُ بكماء كما درجات السلّم الحجري الموثوق تحت الشمس الغافلة عن جرحها المخْيوط باللبلاب، لو كنت أشبه بالطفلة البريئة كما الشجرة البيضاء وهي تستقبل رعب النحل، لو أن التلال عاشت حتى الصيف، لو أن الوميض فتح بواباته لي، لو أن ليلك غفر لي..."
العيون، بستان النجوم، الوزّال، العزلة كلها ليست جزءاً منك. الأغنية تهزم النفي. الريح الحبيبة تعيد حياة جديدة.
حبّ سرّي
هي هيأت المائدة وصاغت على نحو تام ما سوف يهمس به قريباً حبيبها الجالس قبالتها الآن، مركّزاً عليها وحدها. هذه الوجبة تشبه قصبة مزمار.
تحت الطاولة، كاحلاها تلاطفان دفء حبيبها، بينما الأصوات التي لا تسمعها توجّه لها الإطراء. ضوء المصباح يوقعها في الشَرَك وينسج المغازلة.
بعيداً، هي تعرف، ثمة سرير ينتظر، مرتعشاً في اغتراب ملاءاتها العطرة، مثل بحيرة جبل والتي سوف لن تكون مهجورة أبداً.
في مأوى جبل عار ٍ
إذا كان عليك أن تغادر ثانيةً، فاتكئ على الجدار في المأوى العاري، ملجأ الراعي، ولا تقلق بشأن تلك الشجرة التي تلوّح لك من هناك. ثمرتها سوف تروي ظمأها.
مضطرةً لأن تنهض من نومها قبل أن تجعل من نفسها مفهومة، الكلمة توقظنا. تجود علينا بألق النهار، هذه الكلمة التي لا تحلم.
مدىً بلون التفاح. الفضاء، طبق من الحلوى البرّاقة.
النهار حيوان برّي. غدا سوف يثب.
ضع نفسك في مرتبة الآلهة والقي نظرةً على نفسك. هذه المرّة، بعد التبادل عند الولادة، وبعد أن نجوت بالكاد من الإبعاد، أنت خفيّ أكثر منهم، وأقلّ تكراراً لنفسك.
للأرض أياد ٍ. ليس للقمر أياد ٍ. الأرض تنهب القمر.
الحرية، إذاً، هي الفراغ. فراغ ينبغي تقدير مساحته على نحو مفرط. بعد ذلك، يا عزيزي، الفراغات المسوّرة بالجدران الأكثر علوّاً. ستكون هناك النكهة القوية للخراب الذي أحدثتموه. لِمَ يشكّل ذلك مفاجأة لك؟
ينبغي على المرء أن يعشق ذلك العري الظامئ، الحقيقة الصقيلة لقلب جفّفه دمه المتشنّج.
المستقبل الذي كان قد توارى في ذلك الحين! عالم كئيب.
عندما يوضع قناع الإنسان على وجه الأرض، هي تطفئ عينيها.
هل نكون بعيدين عن مفاصلنا إلى الأبد؟ متأثرين بجمال مسكّن؟
كنت سأتخذ من الطبيعة شريكةً لي في الرقص، لا أرقص إلا معها. لكن الراقصيْن معاً لا يتزوجان في مواسم حصاد النبيذ.
حبيبتي تفضّل الثمرة على طيف الثمرة. لهذا، منحنياً دون إذعان، أصالح أحدهما مع الآخر.
ثلاثمائة وخمس وستون ليلة بلا نهارات، ضخمة، هائلة، هذا ما أتمناه لكارهي الليل.
هم سوف يجعلوننا نتعذّب لكننا سنجعلهم يدفعون الثمن. ينبغي للمرء أن يقول لحسن طالعه: "خذ بثأرك".. وللوقت الذي يفرّق بيننا: "هل ينبغي أن أذهب إليها؟ آه، لكن أكثر من مجرّد نظرةٍ خاطفةٍ، لو سمحت."
المفسدون قد وصلوا، أولئك الحمقى عديمي الجدوى. أشخاص مستعدون لإرهاب الآخرين.
لا تقلّم الشمعة، لا تقصّر ربيع الجذوة. تلك الهجرات في الليالي الباردة سوف لن تتوقف عندما تراك.
نحن نختبر أرق الطوفان، باحثين عن بلاد في حالة اضطراب، أراض ٍ ملائمة لطبيعة ساخطة من جديد.
من رسم لاسكو، جيوتو، فان آيك، أوشيلو، فوكيت، مانتينا، كراناش، كارباكشيو، جورجيوني، تنتوريتو، جورج دي لاتور، بوسان، رمبرانت، هذه هي المنسوجات الصوفية التي تبطّن عشّي الصخري.
عواصفنا أساسية لنا. في ما يتعلّق بمعاناتنا، المجتمع ليس ملوماً حتماً، على الرغم من كل أسواره، وتعاقب انهياره وترميمه.
لا نستطيع أن ننظم أنفسنا وفق الصورة التي يكوّنها الآخر عنا: المقارنة سرعان ما تخسر نفسها.
سوف ننتقل من موت متخيّل إلى مزامير موت حقيقية. الحياة تمرّ بنا بخفّة، تلهي نفسها بنا أثناء مرورها.
الموت ليس في هذا الجانب ولا في الجانب الآخر. هي على مقربة منا، كادحة، متواضعة.
ولدتُ و نشأتُ وسط التناقضات التي كانت ملموسة في كل لحظة، على الرغم من متطلباتها الهائلة والضربات التي تكيلها بعضها لبعض.
تسكّعتُ في محطات القطار.
القلب المشعّ، بعد أن أضاء ليله، ينشّط سنبلة الحنطة الرخوة.
هناك أولئك الذين يتركون وراءهم سموماً وآخرون يتركون أدوية. ويصعب القول أيهما السمّ وأيهما الدواء. لكي تعرف، يتعيّن عليك أن
تتذوّق.
الإجابة الفورية بنعم أو لا هي صحيّة على الرغم من التصحيحات التي سوف تلي.
في الأماكن الأكثر علوا ليس هناك أي نزيل، أي مشاركة: فقط الجرّة الأوليّة. إلتماعة من الضوء ترسم الحاضر فيما هو يترك ندوباً في الحديقة، وببراءة يلاحق امتداده الخاص، ولا يكفّ أبداً عن الظهور والإعلان عن وجوده.
أحباب اللحظة لم يعيشوا كما تجرّأنا وعشنا، بلا خوف من أن تتعرّض مخيلتنا للضلالة بفعل تعلّقنا بها.
الحياة وحدها هي التي تقتلنا. الموت ليس إلا مُضيف يحرّر البيت من سياجه ويدفعه نحو حافة الغابة.
أيتها الشمس الباكرة، أراك، لكن فقط في المكان الذي لا تعودين موجودة فيه.
كل من يؤمن بإمكانية تجديد اللغز، يصبح هو اللغز. أن يتسلّق بحرية على ذلك التآكل الفاغر، المضاء والواضح أحياناً، المعتم والغامض أحياناً، أن يعرف دون أن يشترع سيكون قانونه، القانون الذي سوف يمتثل له لكن الذي سوف يأخذ أفضل ما فيه؛ هو لن يؤسس بل يساعد في الخلق.
المرء يعود المرّة تلو الأخرى إلى التآكل. المعاناة كمقابل للانجاز.**
كل ما سوف ننجزه، من اليوم فصاعداً، سوف ننجزه بسبب الرغبة في شيء أفضل.
ليس باطمئنان ولا بقنوط. ضياؤنا الوحيد: الثور المسلوخ الجلد لرمبرانت. لكن كيف يمكننا أن نكيّف أنفسنا وفق رائحة تاريخ عتيق مختوم على المدخل، نحن الذين في الأزمة نكون متقدي الذهن، بل ومفعمين بالحكمة؟
شيء بسيط جداً يرسم الخطوط العريضة لنفسه: نار تشبّ، أرض تتفصّد، ثلج يتطاير، شجار يندلع. الآلهة تقدم لنا شيئا من رفاهيتها؛ في ما بعد سنكون موضع استياء لأننا قبلنا ذلك. أرى نمراً وعينيه مفتوحتين على سعتهما.
تحيات. من هو ذاك الذي استطاع أن يولد هناك، وسط الأعشاب، والذي سوف تطالب به كل الأشياء غدً؟
** في هذا الموضع لا يعود بإمكاننا رؤية المأوى، وعندما نستدعيه في خيالنا، لا يعود يبعث بالمقابل رسائله المستبصرة.
***
نص 1
عزيزتي، ضعي رأسك على ركبتي. أنا لست سعيداً، مع ذلك فأنتِ تكفينني. شمعدان أو شهاب، لم يعد هناك قلب شجاع أو مستقبل على الأرض. مجرى الشفق يفشي حفيفك، سرير من نعناع وإكليل جبل، أسرار متبادلة بين أقمشة الخريف الخمرية وثوبك الرقيق. أنت روح الجبل بجوانبه العميقة، بصخوره الصامتة خلف شفاه من صلصال. دعي حواف أنفك ترتعش. دعي يدك تحجب الدرب وتزيح ستارة الأشجار.
عزيزتي، في حضور نجمتين، الصقيع و الريح، أضع فيك كل آمالي الصريعة، مقابل شوكة ظافرة واحدة من العزلة الضارية.
نص 2
أفكر في ذلك الجيش من الجبناء مع ميلهم الفطري إلى الديكتاتورية التي ربما سوف تستلم السلطة ثانيةً، في هذا البلد الذي ينسى كثيراً. عبر هؤلاء، زمن علم الجَبْر اللعين سوف يبقى وينمو.
نص 3
كلما جلسنا معاً لتناول الطعام، دعونا الحرية لأن تختار مقعداً بيننا. إنه الموضع الذي يبقى خالياً ولا يشغله أحد.
نص 4
لا ننتمي إلى شيء إن لم ننتم إلى ذاك الموضع الذهبي الخاص بقنديل مجهول بالنسبة لنا، يتعذّر علينا بلوغه، والذي يُبقي البسالة والصمت في حالة يقظة.
***
الواحد بعد الآخر، رغبوا في التنبؤ بمستقبل بهيج لنا،
بخسوف في صورتهم وكل الكرب اللائق بنا!
نحن ترفـّعنا عن هذه المساواة،
وقلنا لا لكلماتهم المجاملة.
سلكنا الطريق الصخري الذي استشفـّه لنا القلب
عالياً نحو سهول الأثير والصمت الفريد.
جعلنا حبنا المتطلـّب ينزف،
وسعادتنا تصارع كل حصاة.
يقولون في هذه اللحظة أنّ وراء نطاق الرؤيا،
البَرَد يخيفهم أكثر من ثلج الموتى.
جبين الوردة
برغم النافذة المفتوحة في غرفة الغياب الطويل، فإن رائحة الوردة لا تزال متصلة بالأنفاس التي كانت هناك. مرة أخرى نحن بلا تجربة سابقة، وافدون جدد في الحب. الوردة! نطاق اتجاهاتها سوف يبدّد حتى وقاحة الموت. لا حاجز مشبّك ينتصب في الطريق. الرغبة متقدة، وجع في جباهنا الضبابية.
ذاك الذي يذرع الأرض في أجوائها الماطرة لن يخاف من الشوك في مواضع هي إما منتهية أو غير ودّية. لكن الويل له إن توقف ليحادث نفسه بصورة حميمة! مخترَقاً في الصميم، هو فجأة يستحيل إلى رماد، رامي سهام روّضه الجَمال.
إلى...
كنتِ حبي لسنوات عديدة،
طيشي قبل انتظارات كثيرة،
حيث لا شيء يمكن أن يشيخ أو يفتر؛
حتى ذلك الذي انتظر موتنا،
أو تعلـّم على مهل كيف يحاربنا،
حتى ذاك الذي هو غريب عنا،
حالات خسوفي وعائداتي معاً.
مطبق مثل مصراع خشب البَـقـْس،
صدْفة متطرفة ومكتنزة،
هو قيدنا، سلسلة جبالنا،
أبّهتنا المكثفة ووهجنا.
أقول الصدْفة؛
في وسع أحدنا أن يتلقى
الجزء الغامض من الآخر
دون أن يسفح سرّه؛
والألم الذي يأتي من مكان آخر
يجد انفصاله أخيراً
في لبّ وحدتنا،
يجد مداره الشمسي أخيراً
في قلب غيمتنا
التي تنشق وتبدأ مرّة أخرى.
كما أشعره، أقول الصدْفة.
لقد رفعتِ قمة الجبل
التي سوف يتعيّن على انتظاري أن يجعلها صافية
عندما يزول الغد.
تأملات رينه شار:
- على الشاعر أن يترك وراءه آثار مروره، لا البرهان.
- كل فعل هو بكر، حتى الأفعال المكرّرة.
- المسألة ليست في أن تكون كلماتك أو أفعالك خشنة أو وديعة،
هي الروح الكائنة خلف أفعالك وكلماتك، تعلن عن حالتك الباطنية. - وحده الأثر يجعلنا نحلم.
- الكثافة صامتة، صورتها ليست كذلك. أحب كل ما يبهر بصري ثم يؤكد
الظلمة في داخلي. - كيف نستطيع العيش دون أن يكون المجهول أمامنا؟
- الممارسة عمياء، وحده الشعر يرى.
***
تحتفل فرنسا بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر رينه شار (1907 - 1988) الذي يمثل ملمحاً مضيئاً في الشعر الفرنسي في القرن العشرين وأحد أبرز وجوه الحداثة الشعرية في العالم. تتميز تجربة رينه شار بجمعها بين عمق الالتزام الإنساني وخصوصيتها الجمالية، وشكلت حالة متفردة في الشعر الحديث، يتزاوج فيها الحلم والحنين والإبحار الداخلي والغوص في النفس البشرية. كان في مراحله الأولى، قريباً من الحركة السوريالية، وقد نتج عن صداقاته بأعضائها، ومنهم بول إليوار وأندريه بروتون، نتاج مشترك، لكنه ما لبث أن ابتعد عن السوريالية وانفتح على أشكال مختلفة من التعبير تنفتح على التأملات الوجودية والقدرة على تمجيد قوى وجمال الطبيعة والحياة.
في هذه المناسبة تقام نشاطات ثقافية وفنية كثيرة، منها المعارض وأهمها معرض «المكتبة الوطنية» في باريس المقرّر في شهر أيار (مايو) المقبل، إضافة إلى الندوات والعروض المسرحية، الإصدارات الجديدة، ويأتي في مقدمها كتاب فخم بعنوان «بلاد رينه شار» بقلم زوجته الثانية ماري كلود شار والصادر عن منشورات «فلاماريون» الباريسية، وهو من الحجم الكبير ويقع في 260 صفحة. ويعدّ هذا الكتاب بمثابة مرجع أساسي يغطّي أبرز المحطات في مسيرة الشاعر الإبداعية والنضالية.
يأخذنا هذا الكتاب الأنيق إلى العوالم الحميمة لرينه شار فيجول بنا بين المراسلات والصور والرسوم والأشعار وعبر مناظر ووجوه وأسماء أحبها الشاعر ومنها، على سبيل المثال، جورج براك، بول إليوار، ألبرتو جياكوميتي، خوان ميرو، ألبير كامو وأنتونين أرتو. من منطقة «البروفانس» و»ليل سور لاسورغ»، منطقة الحنين إلى الطفولة، مروراً بمنطقة النضال في الألزاس، إلى باريس حيث كانت إقاماته المتقطعة والأخيرة قبل الرجوع النهائي إلى أرض البدايات، يأخذنا الكتاب في رحلة تشمل كلّ هذه الأماكن وعلاقة شار بها.
تفتتح ماري كلود شار الكتاب بالقول: «إنّ العام 1907 هو العام الذي وُلد فيه الشاعر فلماذا لا نحتفل بتاريخ الميلاد هذا، ولماذا لا نبحث عن مئة عام مضت وما حفره مرور الزمن، وما تركه عمقه على حياتنا وفي قلوبنا. فليس من الضروري الذهاب بعيداً والغوص في السنوات العابرة، ذلك أنّ بصمات حضور شار بارزة بيننا. إذاً كان لا بد من إسماع هذه الصرخة عبر إطلالة على الصور والرسائل والوجوه، وكذلك عبر المصالحة بين الأمس واليوم من خلال جمع أو ربط كل هذه القطع المبعثرة من الأوراق والحجارة والخشب والحبر والتي حملت أشعار شار وكلماته، لجعلها لوحة سوريالية تتجاوز الغياب. كل هذه القطع الحية تطلب أن ترى النور ليس لأنها منسية بل لأنها تريد الخروج من الظل ولأنها مسكونة بالشاعر وقادرة على إطلاق الصرخة».
في تأريخها لمسيرة الشاعر، تتوقف المؤلفة عند مجمل محطات حياته بدءاً من «الهضبة المغلقة» المخصصة للحديث عن مدينة الشاعر ومسقط رأسه «ليل سور لاسورغ» التي تدعى «بندقية البروفانس» حيث يقع البيت العائلي الذي تحيط به مسايل المياه المتدفقة ومساحات من زهور الزنبق والليلك والورد وأشجار الدفلى. إنها جنان والطبيعة فيها سيّدة المكان، لذا لم يتوقف الشاعر شار عن الاحتفال بها في كتاباته ورسومه، وكذلك احتفال الشاعر بمن أحبّ من وجوه هذه المدينة، ومنهم لوي كوريال وابنه فرنسيس كوريال اللذان يطلق عليهما اسم «الشفافين»، ويعتبرهما الشاعر من أقرب الناس إليه بطيبتهما وإنسانيتهما. ثم يأتي دور عائلته وفي مقدم الذكريات علاقته بشقيقته «جوليا» التي تكبره ثماني عشرة سنة والتي اعتنت به وهو صبي صغير. غير أن الأدوار ما فتئت أن انقلبت ليتولى الشاعر بعد سنوات الاهتمام بالشقيقة وهي على فراش المرض في مستشفى مدينته، وقصيدته «جوع أحمر» مهداة إليها. ولغرابة الصدف، مات الشاعر يوم 19 شباط (فبراير)، أي في اليوم نفسه الذي ماتت فيه «جوليا». وهكذا يبدو أنّ الذي نظنه يفرّق، يجمع بعد طول غياب. وتتتالى مواعيد الرحيل بين الأحبة ويشهد رينه على رحيل والده بعد مرض عضال فكانت اللحظة رمز إبداع شعري مؤثر يمنح للكلمات حضوراً مضيئاً.
يطلعنا الكتاب الجديد أيضاً على أهم الكتب التي تعلّق بها الشاعر، ومن أحبها إلى قلبه كتاب «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست الذي ترك أثراً عميقاً في نفسه. ويكشف الكتاب عن صداقاته السوريالية ومحطات من مدن المقاومة الفرنسية، إلى تلك الصداقات المحفورة على الحجر بين الشاعر ومجموعة من مبدعي القرن الماضي. ونقرأ في فصول لاحقة عن مرحلة المقاومة في الجنوب والشمال، إضافة إلى مرحلة باريس ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعودة إلى مسقط رأس الشاعر من جديد ومحيطه في «البروفانس».
يركز الكتاب على مسار الشاعر منذ البدايات، ويروي كيف كان مناضلاً وثائراً ومقاوماً طوال حياته. ولقد عُرف منذ طفولته بمقاومته لقيود الأسرة وبخاصة أمه التي مثلت في نظره قيود الدين والمجتمع، فثار في مراهقته وأصبح ثوروياً في شبابه واختار المقاومة الفرنسية لمحاربة النازية في الحرب العالمية الثانية. كان قائداً في المنطقة الجنوبية الشرقية برتبة عقيد، وفي سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان مدافعاً شرساً عن البيئة. أما تجربته النضالية الإبداعية فتمثّل مساراً تحررياً فريداً، وإن ظل شار قبل كل شيء شاعراً منح حياته للكلمة والشعر وهو القائل إنّ من غير الممكن أن تكون «للشاعر زوجة أو أطفال، وذلك حبّاً بآلهة الشعر وحدها». لكن فلسفته هذه لم تمنعه من الزواج مرتين، مرة أولى من جورجيت غولتشتاين، وقد دام زواجه منها من العام 1932 الى العام 1949، والزوجة الثانية هي ماري كلود بليه التي كانت صديقته منذ العام 1977وقد تزوّجا قبل عام من وفاة الشاعر، أي سنة 1987. ولم يكن باليسير الوقت الذي خصصه الشاعر لحب النساء فاحتلت أسماء أخرى مكانة لا بأس بها في قلب شار ومنهن السويدية غريتا كنوتسون، مارت الخيام، الأميرة الإيطالية مارغريت كاتاني وايفون زرفوس...
يحتوي الكتاب على نصوص كثيرة منها مسوّدات ومخطوطات لأشعار ونصوص قصيرة وكتابات على الحجر بالحبر و الألوان. نجد أوراقاً أخرى منها الممزّق والمنسي. ولولا حرص ماري كلود شار لما رأت هذه الأوراق النور. هذا علاوة على مجموعة الصور والرسوم الشاهدة على ثراء حياة هذا الشاعر وتنوعها، وهذا ما يمنح الكتاب البُعد التوثيقي الأكيد، ذلك أنه يختصر تجربة شار الشعرية والفنية والإنسانية بأكملها. واللافت حضور صور أصدقائه من الفنانين والكتّاب الذين رافقوه في رحلته الطويلة ومنهم من أنجز معهم كتباً خاصّة جمعت بين نتاجه الأدبي ورسومهم ومن هؤلاء بعض مبدعي القرن الماضي من الفنانين والشعراء نذكر منهم جورج براك، فيكتور برونار، ألبرتو جياكوميتي، بول إليوار، خوان ميرو وفييرا دا سيلفا...
الحياة - 25/03/07
***
كم مرة قرأنا رينه شار، وكم قصيدة حاولنا أن نفك ألغازها. كم بيتاً توقفنا عنده، وكم كلمة اعتقدناها في متناولنا. كم ديواناً يئسنا من استيعابه، وصورة أثّرت فينا من دون أن نفقهها. كم مقطعاً اعتبرناه غامضاً، ومشهداً خلناه كما لم يكن أصلاً في مخيّلة الشاعر. كم حاجزاً حاولنا اجتيازه نحو شبه الوضوح وكم باباً أغلق أمامنا. كم محطّة صعبة واجهناها، وأخرى خيبتنا. ثم كم النور كثير في قصيدة رينه شار، والإقتضاب رائع في كلامه، وأسلوبه مشذّب، وبليغ في شبه كتمانه. كم هو متمكّن، وأنيق. ورمزي، وغامض. هكذا قرأنا رينه شار منذ أن قرأناه وما زلنا حتى اليوم. قصيدته صعبة، جميلة بل برّاقة، متوهجة. قصيدته كأشعّة الشمس الحارقة. قصيدته لا تدفئ، بل تحرق. قصيدته خطيرة. بل ليست كالأشعة، إنها الشمس بذاتها، من يتناولها لا يستطيع أن يقرأها - يراها تماماً. فإما أن تحرقه وإما أن يصير القارئ في قلبها، أو جزءاً منها، إذا استطاع. هكذا كلما قرأناه ونقرأه اليوم مجدداً في كتاب قيّم لماري - كلود شار "في محترف الشاعر". وكان لبول فين أن يلج هذه القصيدة، في كتابه الرائع "رينه شار في قصائده" (1990) وكان له أن يراقب الشاعر عن كثب، أن "يعيشه" في دقائقه وتفاصيله، في بيته وفي مكتبه، كان له أن يفك الرموز ويدخل بصيصاً من الضوء إلى الشمس المشتعلة، هكذا أرى قصائد شار.
ها نحن مع شار في كتاب ضخم "في محترف الشاعر". أي مجدداً في مكتبه - محترفه، لكن هذه المرة مع ماري - كلود شار التي تضع تحت تصرف "دار غاليمار" كل صور الشاعر منذ طفولته الأولى وصولاً الى آخر أيامه، إضافة إلى رسائل وشهادات أصدقاء شعراء وغير شعراء، كذلك شهاداتها هي في سرد سيرة الشاعر منذ أن كان طفلاً برفقة والديه وأخيه في قريته. وفي الأساس، في صميم الموضوع والكتاب، نقرأ في الحيّز الأكبر للصفحة، قصائد شار كلّها في طبعتها الأولى، في حالتها الأولى كما صدرت في البدايات. هذا هو "محترف" رينه شار، أو بالأحرى سيرته، حياته الحميمة أثناء عمله، أثناء إبداعه، كما أثناء غضبه. ومن يدري كيف كان يكتب وفي أيّ حال كان لمّا كانت تخرج منه القصيدة وتولد على الصفحة؟ هل كان حالماً أمام ورقته، أم قلقاً، أم حزيناً؟ بول فين عاينه في جلساتهما الطويلة: كان دائماً حالماً. أما في كلامه فكان مقتضباً وشبه غامض. لم يكن إنساناً سهلاً. كان العنفوان يعبق في شخصه. ولمّا "لم يكن يرغب في الردّ على الأسئلة يستعين بما وراء القصيدة، فيعود اليه ليخبر النكتة التي أتت منها القصيدة".
قصيدة رينه شار دقيقة، محددة، تعرف ما تقصده في الكلمة اللازمة، الضرورية، وليس أكثر من هذه الكلمة. "فالمفردة عنده تعطي الوزن الحقيقي للأشياء" كما يقول بول فين. واذا كانت الكتابة الشعرية لديه نافذه إلى الخيال الرحب، فعليها في الوقت ذاته أن تكون "دقيقة" كما يعبّر الشاعر. إنه لا يحبّ الخروج إلى الرحابة المجنونة التي ذهب إليها السورياليون. لذا تركهم بعد أن كان لفترة قصيرة معهم. إنه لا يحبّ فوضاهم كما إنه لم يحب في المقابل الشعراء الكاثوليكيين، فكان يتهجّم بعنف على بول كلوديل مثلاً. كان يقول "كنت أجد السورياليين صبيانيين بعض الشيء، كنت أشعر أني أنضج منهم بسبب الظلم". ويعلّق بول فين قائلاً إن هذا الكلام صحيح، فتشاؤم شار لم يكن ملائماً لتقدمية السورياليين الإنسانية... وفي هذا الكتاب الجديد، "في محترف الشاعر" يقول شار في إحدى شهاداته عن أيام الطفولة "كانت طفولتي تعيسة، والشعور بالظلم لم يفارقني ابداً... كان غضبي غضب المراهق المطارد". وتخبرنا ماري - كلود شار، في هامش الصفحة، إن الشاعر كان يبحث باستمرار عن أناس بسطاء في قريته، على غرار الحدّاد مثلاً الذي كان يحبّ رفقته. كان في العاشرة من عمره حين كان والده يحتضر، فشهد تلك الميتة، ثم كان عليه أن يعاني ظلم شقيقه له لاحقاً.
نتابع قراءة كتاب شار "في محترف الشاعر"، فنقع على سرد السيرة في هامش الصفحة، وفي وسطها، وفي حيزها الأكبر بطريقة جديدة وحيّة. نعثر على صورة قديمة له او للأقرباء، للأصحاب او للمربين، كما نقرأ، في أغلب الأحيان، وهو هدف الكتاب، في عرض الصفحة، قصائده في إخراجها الأول. هو كتاب ضخم أكثر من سيرة وأكثر من توثيق. إنه حياة شار بكل حميميتها وتفاصيلها وأصالتها، ولا يبقى للقارئ سوى الحنين إلى وقت انتسب إليه الشاعر العظيم، حنيناً وحزناً، إلى كل صورة بالأبيض والأسود، إلى خط الشاعر، إلى مسوداته، إلى تاريخه وتاريخ فكره. اللافت في هذا الكتاب استشهاده بكثرة بكتاب بول فين السالف ذكره. يبقى أن نقول إن شار الشاسع، شار السري والحقيقي، شار اللانهائي في قصائده اللانهائية، لن يمكننا الإنتهاء من اكتشافه في كتاب وكتابين. إنه أوسع من ذلك بكثير مهما ضخمت الكتب التي تتناوله. يقول رينه شار "... كل ما كتبته كان مهيأ عمداً وفي انتباه". ونتساءل كيف استطاع الشاعر انطلاقاً من الكلمة الدقيقة، أن يكون إلى هذا الحدّ رمزياً، معقّداً، صعباً، وغامضاً.
* "شار، في محترف الشاعر"، "دار غاليمار"، الحجم الكبير، 1996.
النهار
31 أيار 1997
***
شاعريّاً يهيم الإنسانُ في الأرض
رغم كونهِ مترعاً بالفضائل.
فريدريك هولدرلين
فضائلُ الشعراءِ مملةٌ كما هي مملةٌ فضائلُ البشر.
والاس ستيفينز
يتمحور مجمل الشعر حول علاقة محمومة – ويائسة أحياناً – مع العالم. بالنسبةِ إلى رينه شار، تصبحُ هذه العلاقةُ محمّلةً بالغضبِ كما هي محمّلةٌ بالأمل. إن كانَ يعنِّفُ البشرِ لجبنهم وَعدم إخلاصهم للآخرين، فلطالما استخدمَ أيضاً صوراً دالةً على النضج (الشرنقةَ التي تصبحُ فراشةً، البذرةَ نبتةً، الزهرةَ ثمرةً) . يحِبُّ أقرانهُ دونَ رأفة، دونَ أوهامٍ أو ضلالات... وَبصرامةٍ دائماً. كما ذكرتُ سابقاً، هو يحيا وَيخطُّ حالةً من "التفاؤلِ اليائس"، حالةً يكون فيها التفاؤل واليأس لا طرفا حربٍ بل متواليان في حلَقَةٍ تدفعه وَتدفعنا تجاه خلقِ عالَمٍ سيدركُ أخيراً سموَّهُ المتأصّل فيه. على الرغمِ من ذلك، يكتبُ الشاعرُ دائماً لشخصٍ آخر، لقارئٍ مجهول. ها هنا تكمنُ عظمتهُ.. وعزلته.
تعتبرُ قصيدةُ الحبِّ تقليدياً احتفاءً بعلاقةٍ ما، تحققت أم لا، حقيقةً كانت أم وحي خيال. في قصائدِ حبّه يترنّمُ شار بالتواطؤ الجنسيِّ وَالعاطفي ("حبّه خفيةً/ 'L'amoureuse en secret' وَ "خطابٌ إلى النهر/'Recours au ruisseau' ) وَينعى الغياب ("زجاج النافذة/ 'Le carreau) وَيحذّر من الغيرة (مرجان/ Corail)؛ وَيتناولُ الحاجةَ إلى مشاركةِ تجربة الحُبِّ الزائل معَ الآخرين، أصدقاء كانوا أم قرّاء (أنوكيس وما بعد جان/'Anoukis et plus tard Jeanne')؛ وَيتحدّى النرجسية التي هي في صميمِ كثيرٍ من الحُبِّ وَالشعر ('À la désespérade')؛ كُلُّها أمور عاشها الشاعر، وَكلّها تلتقي إلى حدٍ بعيدٍ معَ أعمالِ شعراء حُبٍّ فرنسيين كبار من أمثال رونزار وَبودلير وإيلوار. غير أنََّ المحبوبةَ في قصائدِ الحب الشاريّة (نسبةً إلى شار) ليست محورَ فكره وَكتابته وَلا ذريعتهما، بل هي دائماً جزءٌ من رغبته في فهمِ وَوصفِ الوجودِ بما ينطوي عليه من اختلافاتٍ متشعّبة. أَحَبَّ شار وأُحِبَّ من قبل نساءٍ عدّة، منذ اكتشاف البياضِ الجميل لنهدِ مربيته الإيطالية في الطفولة وَحتى وفاته– إلى درجةِ أن يكتب أحد أصدقائه أن قائمة عشيقاته تطولُ لتتجاوزَ قائمةَ كازنوفا ! كانت النسوة الحبيبات وَالمُحِبّات بالغاتِ الأهمية بالنسبةِ إلى حياة الشاعرِ الشخصية وَسعادته، لكنهن يصبحن في كتاباته صُوراً شعريةً لا تختلفُ وظيفتها بحالٍ عن وظيفةِ الحيوان والأنهارِ و النباتِ و الشجر: أنْ تلفتَ القارئ إلى كونِ جميعِ أوجه الحياة مرتبطة بعضها ببعض، أنَّ الجوهرَ الأسمى لكلِّ علاقةٍ هو وجودنا الكامن فيها.
رُغم أن شار أحبَّ كثيراً وبشدَّة، إلا أن تمثيله الشعريَّ للمرأة يتّسمُ بالشوفينية. تنتهي (مظهرٌ زفافيّ/ Le Visage nuptial ) على هذا النحو: "ها الرملُ مَيْتٌ، الجسدُ مستعاد/ تتنفّسُ المرأة، يقفُ الرجلُ منتصباً". كما في الحقلِ في ('Louis Curel de la Sorgue') يتمُّ إنقاذُ الجسد، العاشقُ منتصبٌ عموديّاً، بينما العاشقةُ "تتنفّسُ" أفقيةً وَمؤسلبة. ما من شكٍ في أن شار يعدُّ النساءَ أدنى مرتبة، فجنسانيّته هادئة وواثقة بقدرِ ما هي مطلقة. وهو يرى إلى نفسه كمحررٍ لأولئكِ اللاتي أحبّ، مانحاً إياهنَّ انطلاقةَ الشعرِ وَانطلاقةَ الإيروسيّة، وفوق هذا وذاك تحريرهنَّ من قيودِ قوانين المجتمعِ ومتطلبّاته. إنْ يكتب شار عن الحبّ، فَدوماً، لكي يتناولَ الشهوة التي ينبغي أن تظلَّ شهوةً دونَ الإنزلاقِ إلى طريقِ التكرارِ والإخلاص والزواج، – وبالطبع- إلى طريقِ الأبوّة كما هي الحال مع بودلير وساد. هو يعجزُ عن حُبِّ طاقاتِ المرأةِ التناسلية، وواقعاً، تَصَوّره للشهوة ذكوريٌّ في جوهره. بالنسبةِ إليه كما بالنسبةِ إلى العديدِ من السورياليين، تبدو المواجهاتُ أفضلَ حالَ الفَرّ – أشبه بوميضِ برق: وهنا تكمنُ قوّتها وديمومتها. في ذلك يكتب: "الصديقُ الذي يبقى ليسَ بأفضلَ من الصديق الذي يرحل، الإخلاصُ منطقةٌ محتلَّة". يتردد هنا صدى أمثولة "الإبن الضال" غير أن الأهم هو في ما يذهب إليه من أنه لا داعي للإخلاص الجنسيّ، فكلمةَ الإخلاص العليا للمثلِ الخُلُقية.
قصيدة "أنوكيس وما بعدَ جان/ 'Anoukis et plus tard Jeanne' " واحدةٌ من أجملِ قصائد شار في الحُبِّ وأخصبها، وأيضاً من أشدّها إلهاماً . هي قصيدةٌ تحتفلُ بالحُبّ، وتقليديّةٌ في ترنّمها بمدائحِ المحبوبةِ التي يريدُ الشاعر أن يتشاركها "شعريّاً" مع الآخرين. وهي أنموذجٌ "شاريٌّ" في إصرارها على أن الحب يؤدي إلى التقاطعِ مع الطبيعةِ والفولكلور. تمثّلُ أنوكيس في الأساطير البروفنسية، الإلهةَ التي تحرسُ انعطافةَ الأنهارِ وَتجسِّدُ القدرَ امرأةً تقتلُ ضحاياها بمعانقتهم. لا يمكنُ إدراكُ قوّة القصيدة كاملةً إلا بمعرفةِ شيءٍ عن مصدرها. اكتشفَ "بول فين" في أحاديثَ مع شار، أن الأخيرَ مرَّ فعلاً بتجربةٍ معَ مثالٍ "أنوكيسيّ"؛ "جان"، وَقد انزلقَ بخفّةٍ إلى علاقةٍ جنسيّةٍ معها. وبشكل يثير مزيداً من الإضطراب، يقدِّمُ "فين" بعض تفاصيل نهايةِ هذه التجربة. أحد أصدقاء شار من الرسامين رآها وَتقدَّم إليه بالطلبِ التالي: "أعطني إياها يا رينه، فأنا أحبّها جداً" ، فـَ"أعطاه" شار إياها.
إنّ المشاركةَ الشعريّةَ محلُّ تقدير، في حينِ أن المشاركة الحقيقية للنساءِ من طريقِ "إعطائهنَّ" للأصدقاء هي محلُّ إشكال، أو بالأحرى مخزيةٌ، إذ تنطوي على افتراضِ أنَّ النساءَ ملكيّةٌ مسجلةٌ للرجالِ وفي وسعهم التخلّص منهنَّ كيفما شاؤوا. يثيرُ الأصل القصصي للنصِّ إزعاجاً لدى أيّ مؤمنٍ بالمساواةِ الجنسية، وَسيصدم الكثير منا بحقيقةِ أن ليس بين يدَي "فين" معلوماتٍ يقدّمها حول ردّة فعلِ المرأة. على كلٍ، تفصحُ القصيدةُ ذاتها عن تسامٍ بالتجربةِ الفرديّة. أنوكيس هي جان، شقيقةُ أعزِّ أصدقائه، إلهةٌ، قدرُه، كلُّ النساءِ متمثلاتٍ في امرأة، تجسيدٌ للنساء. يمكنُ حُبُّها والتغنّي بها في قصيدةٍ، إذا -وفقط إذا- أمكنَ نبذُها وتمّ، لتستحيلَ بذلكَ صورةً، رمزاً. على غرار قصائد بودلير، لطالما فُسّرت قصائد شار في الحب بأنها قصائد مكتوبة لأجلِ وَحولَ نساءٍ بعينهنّ، لكنّ نظرةً عن كثبٍ ستكشفُ لنا أن الشعر حبُّه الأول وَالأخير— وَهذا ما يحيلُ القَصَصي وَالسِيري إلى الأنموذجيّ وَالأسطوري. في صميم فكرهِ الشعريّ وَالثقافي وَالإيروتيكي، يقعُ الإيمان بأن " القصيدةَ هي تحقيقُ حُبٍّ يؤكّد الشهوةَ كشهوة."
الشعر، الجمال، الطبيعة، الحب، الشهوة، العدالة: هذه هي القوى التي ينبني عليها كونُ شار، وَكلٌّ منها ينطوي على عنف. لقد مرَّ الشاعرُ بتجارب عنفٍ منذ اللحظة التي أبصرَ فيها العالم وَتواصلَ معه: عنف أمّه العاطفيّ، تسلّط أخيه الأكبر الجسدي، عنفُ الفلاّح الضروريّ وَهو "يَكْلِمُ" الأرض، عنف الصيّاد المؤسِف وَهو يقتل العصافير "ليحتفظَ بالشجرةِ لنفسه"، العنف الطبيعي للأفاعي،الحيوانات، الطيور ،الحشرات، والشمسِ والعاصفةِ والثلج. يعجّ العالمُ الطبيعيّ بالضواري وَالفرائس التي تشكّل حروبها ضرورةً للحفاظِ على توازنِ الطبيعة. هذا ما اكتشفه شار عندما كان طفلاً يؤدّي دورَ الضحيّة أوّلَ الأمر. على كلٍ، أدّت قراءته لفلاسفةِ ما قبلَ سقراط، وَبالأخصِّ هيراكليتس وَامبدكليس، إلى تمييزِ هذا النزاع كقوّةٍ كونية، أي جوهريّاً كقوةٍ أخلاقية . يقرُّ هيراكليتس أن الكونَ يشتملُ على صراع، وَأن العدالة ما هي إلا نزاع، وَالوجودُ بمجمله يتحددُ بالشقاق. وَيصرُّ على أن الإبداع يتمخّض عن صراعٍ متوازنٍ بين الأضداد. ما دامَ النزاعُ طبيعياً وَحتمياً، إذن ينبغي على الإنسانِ/الشاعرِ أن يستجيبَ بفعلِ مقاومة. "لن أكتبَ قصيدةً مذعنةً قَط" (حميّا وَسِر/ Fureur et mystèr) .
يقذف شار بثورته المضطرمة تجاهَ عالمٍ يُقتلُ فيه أطفالٌ أبرياء، وَيُعذِّبُ طغاةٌ وَيستبدون، وَتُستَبدَلُ عاداتٌ وَمعتقداتٌ ماضيةٌ بأنانيّةِ المذهبِ المادّي. أحياناً يتوجّبُ علينا الإنسحابُ مؤقتاً لنستردَّ قِوانا، علينا " الإنعزال" كما يحضّنا على ذلكَ في "نصيحة الحارس/"Conseil de la sentinelle ، أي أن نرفضَ نظامَ الاضطهاد برمته حتى نعيدَ بناءَ قدرتنا على التمرّد. وَليس في ذلك جُبنٌ، بل إدراكٌ للهشاشةِ الكامنةِ فينا جميعاً، وَالتي من الممكن أن تكون مثمرةً وَمندفِعةً شرط أن تتحدُ بشراسةٍ فاعِلة.
الشاعرُ نفسه مستضعِفٌ وَمُستَضعَف—كما هو شعره. وَإذا أخذنا بعينِ الإعتبار حقيقةَ أن شعرهُ مدفوعٌ برغبةٍ إيروسيّة لاتّحادٍ عنيفٍ مع المرأةِ، معَ الطبيعة، وَمعَ الشعر، قد نمضي بعيداً إلى وصفِ شعرِه بالسادومازوشيّ.
تتحدّرُ عرّابةُ شار من عائلة محامي الماركيز دو ساد، وَخلال مراهقته اكتشفَ شار في مكتبتها بعضَ الرسائل الموقّعة تعودُ إلى "الماركيز المقدّس" أو ("رجل البنفسج" كما يدعو نفسه). دفعه ذلك إلى أن يقرأَ كتاب ساد وَيكتشفَ - لا الفيلسوفَ الإجتماعيّ الذي يشيد به العديد في وقتنا – بل بطلَ الرغبةِ الإيروسيّةِ عنيفاً، متنوِّعاً، وَمتناقضاً، يعتنقُ مفهوماً للطبيعةِ -يكادُ يكونُ عدميّاً- كضحيّةٍ لضراوةِ الرجل. وفي حينِ لا يجدُ هوسُ ساد بالثقوب،حقيقةً أم مختلَقَة، مكاناً في كتاباتِ شار، تحفل العديد من قصائده المبكّرة بتصويرِ الإيروسيّة كعمليّةِ قسوةٍ انعكاسية. وهو بعدَ مرحلته السورياليّةِ، تخلّى عن كثيرٍ من أفكاره السادّية، مستيقظاً على التناغمِ وَطاقةِِ الإنبعاث في الحُبِّ وَالطبيعة. بيد أن مفهوم الإنعكاسية ظلَّ يرفدُ جملةَ أعماله الناضجة.
افتُتن شار ، كأصحابهِ السورياليين في الثلاثينات، بأعمالِ فرويد التي منحت شرعيّةً تنظيريّةً للحركيّة في شعرِه، وَمكانته العاطفيةِ وَالفِكرية. على الشاعرِ في نظرِ شار أن يصنّف نفسَهُ ضحيّةً وَ "مصدراً للخطَر" في الوقتِ ذاته. لهذا السببِ نَعَتُّ عملَه بالسادومازوشي- ليس بناءً على أيّ كتابة تتناولُ "انحرافاً" جنسيّاً، إنما على الطريقةِ التي يُوظَّفُ بها شعريّاً. في نظرِ فرويد، الفاعليّة وَالسلبيّةُ هما من الخصائص الكونيّة في الحياةِ الجنسية، والشهوة الجنسية هي التي تملي علينا ما نفعل وَنقرر. إذا كان شار يُمجّدُ ممارسةَ الحُبِّ لدى حشرةِ فرس النبي، حيثُ تقطعُ الأنثى رأسَ الذكرِ فورَ اكتمالِ العمليّة، فلا بُدَّ أنه يرى إلى نفسِه كذكرٍ "فاعلٍ" وَضحيّةٍ "سلبيّةٍ" للعنفِ الإيروسيّ. على كلِّ حالٍ، يوظّفُ الشاعرُ التضادَّ الفاعل/غير الفاعل الفرويدي بشكلٍ رئيسيٍ كنموذجٍ تنظيريٍّ لشعرٍ يتولَّدُ معناه من التوتّرِ الموجودِ في اللغةِ كما في الحياة: يتبدّى في مجملِ أعمالِ شار هذا الصراعُ المُبدِعُ بينَ الواجبِ الأخويِّ وَالرغباتِ الفرديّة، بينَ الإيروسيِّ وَالأخلاقي، بين العاطفيِّ وَالفِكري، بين الواقعيّ وَما وراءِ المادّة (الميتافيزيقيّ).
يعملُ العنف وَالرقّة جنباً إلى جنب أو ضدَّ بعضهما في نصوصه، وشيئاً فشيئاً تُجلِّي "الكلمةُ" الشعرية – اللوغوس- نفسَها كقوّةٍ متّقدة. الشمسُ ، لدى شار، مصدرُ عنفٍ، تلسعُ، تُبَخِّر ، تقتل، لكن الأهمَ أنها تُشكِّلُ مضادّاً نبيلاً للظُلم، فتحرر المضطَهَدَ من "طاعونِ المعرفةِ الضالّة". وَما دامت هذه "المعرفة الضالة" حتميّةَ المصير فالبشرُ في حاجةٍ إلى تحريرٍ، لا إلى حُرّية. يؤمنُ شار – مثل غايد وسارتر وإن على نحوٍ مختلف – بأنَّ الحُرّية عمليةٌ مُستمرّة، وَليست وضعاً ثابتاً نحوزه مرّةً وَإلى الأبد.
وَلعله من قبيلِ التناقضِ أن ينبعَ التحريرُ من قبولٍ فاعلٍ بالإختلافِ، لا من اعتقادٍ أوحدٍ بما هو حقٌّ وَعدل. في الكونِ الذي تتناوله قصيدة (زوّارُ الفجر/ Les Matinaux) ، تُقتَلُ الطيورُ التي تُضيءُ عالمنا، وَالأشجار التي تبذلُ فيئاً دفيئاً تُشعَلُ برصاصِ الصيّاد في (احتفالٌ بالأشجارِ وَالصيّاد/'Fête des arbres et du chasseur)؛ الكِلاب الوفيّة تُعَذَّب (الشفافيّة/'Les Transparents') ؛ النوافذُ فواتحُ وَمرايا (زجاجُ النافذة/'Le carreau')؛ الجبالُ عدوانيّةٌ وَسخيّة، الأنهارُ تُخفي وَتُبدي، مجدبةٌ وَخصبة، غير أنَّ عنفَها سحريٌّ دائماً (هذا الحب المفقود/'Cet amour à tous retiré') . يُؤكِّدُ شار، في رسالةٍ مفتوحةٍ إلى "جورجيس باتيلي" أنَّ هذا العالم الحديث لن يكتشفَ "التناغمَ النسبيَّ بتنوّعهِ المتأجج" حتّى يتمّ التأمّل في "مشكلةُ التباينِ" بشكلٍ جدّي. وَسابقاً،في مقالٍ موجزٍ حول هيراكليتس، يتحدّثُ عن "اتّحادِ الأضداد البهيج" وَهو "الأساسُ الضروريُّ المثمرُ للتناغم." رغم أنَّ اهتمامه الدائمَ بالتضادِّ وَالعلاقاتِ الجدلية ترسّخَ لاحقاً بقراءاته لهيراكليتس، وَساد، وَهيغل، وَفرويد، وَهايدغر، إلا أن جذورَ هذا الإهتمامَ تعودُ إلى مراقبةِ شار للعالم الطبيعيِّ في طفولته.
أشدُّ ما يتجلّى ذلكَ في قصيدته "احتفال/ Fête" ، التي نُظِمَت في مقاتليّ المقاومة، "الماكيين" *، الذين لم يتمكنوا من العودةِ إلى إسبانيا بعدَ تحرير فرنسا. جعلَ أسلوبها سهلاً ليتيسّر على حدّائي العصرِ الحديث حفظها وَغناؤها، وَالقصيدةُ تستعرضُ سلسلةً من الصورِ التي تؤكِّدُ على التناقضاتِ المتنازعة في الطبيعة، وَعلى الطبيعةِ البشريّةِ بشكلٍ جوهري. دونَ قصدٍ يدمّرُ "الصياد الكئيب" الغابةَ التي يُحبُّ والتي هي سُكْنى فريسته. في حين أُوِّلت القصيدةُ غالباً كإدانةٍ لتدخّل الإنسان في الطبيعة، تنطقُ "احتفال" وَتؤدّي ما هو أكثر من ذلك: هذه الحكايةُ الرمزية (allegory) ذاتِ الخصائصِ "الشاريّة" تتحدّثُ عن الخَلْقِ الشعريِّ بقدر ما تتحدثُ عن العنفِ وَالقتل اللذَين يدمغان السلوكَ الحيوانيَّ وَالبشري. الصيّادُ كئيبٌ لا لأنه عازمٌ على القتلِ من أجلِ أن "يحتفظَ بالشجرةِ وَحزنِها الطويل لنفسه"، بل لأنّهُ لا يجرؤ على اتّخاذِ فعلٍ حاسمٍ بصدقٍ مُطلِقاً بذلكَ الإبداعَ الكامنَ في الوجودِ كلّه.
وحين يطلقُ نارَه أخيراً، تشعلُ رصاصتهُ صدفةً الحرائقَ في الغابة. لكنَّ اللهبَ – رغمَ التهامِهِ كلَّ شيءٍ – مشرِقٌ قبلَ أي اعتبارٍ آخر. مثلَ أقوالِ الحِكَمِ في "الراؤون"، ترفضُ هذه الحكاية الرمزية تزّمتَ الحكايا التقليدية وَتتحدّاها، متساميةً بالمنطقِ المألوف. يحيلُ شعرُ شار المادّةَ إلى ضوءٍ متوهّجٍ، كما يقوِّضُ العالم من أجلِ إعمارهِ بشكلٍ أجمل، مثلَ فراشةِ غوته التي تموتُ لتتجلّى في لهبِ الشمعة. يقابلنا اللهبُ كصورةٍ محوريّةٍ في مجملِ أعماله، أَكان النارَ التي تتوهّجُ فجأةً في غرفةِ والده فتلهمه ليكتب، أو وميضَ البرقِ الزائلَ وَالدائمَ في الآنِ ذاته الذي ينيرُ ظلمتنا، أو حريقَ الغابةِ الذي يرجئ الموتَ بنوره، أو إشعالَ الحقول المحصودة الذي يبشِّرُ بميلادٍ جديدٍ أقوى. في "نحوَ سكونٍ أشدّ/ À une sérénité crispée" ، يؤكِّدُ شار أنَّ: "الجمالَ يضرمُ النارَ في كلِّ حزمةٍ من ظلمتنا التي ينبغي إشعالها". وَيتساءلُ في "رسالة سيبيريّة/'Note sibérienne'" (أعشابُ صيد-1975/ Aromates chasseurs) : "لمَ هذا التكرارُ إذن: نحنُ شرارةٌ مجهولةُ الأصل، نشعلُ النارَ أمامنا دائماً. هذه النار، هل نسمعُ زفيرها أو أنينها إذ تلتهمنا ؟ لا شيء، فيما عدا أننا نتعذّبُ إلى درجةِ أنَّ الصمتَ الشاسعَ في كبدِها ينشطر". في "قصيدةٌ مسحونة/ Le poème pulvérisé" يترنَّمُ بـ"الشرارةِ البدويّة التي تفنى في نارِها." الموتُ وَالحياةُ لا يُدرَكان كحَلََقةٍ بسيطة: في حينِ يستمدُّ شار صورَهُ من الطبيعة، لا يبدي اقتناعهُ أبداً بحَلَقةِ "الحياة-الموت-النشور" التي رسّختها الثقافةُ الغربية كأكثرِ تفسيراتِ الوجودِ تفاؤلاً. إذا ما كان شعرهُ وَفِكره متطرفانِ، فلأنهُ يرى الوجودَ غيرَ مقيَّدٍ باستبدادِ الزمان، أو أقلّه، لا يُفترض به أن يكونَ كذلك دائماً. ما ينبغي علينا استبقاؤه من الماضي هو لحظاتُ التسامي وَالتجلّي فقط، ملتفتينَ إلى ما يخبرنا به التراثُ المسيحي بأن تجلّيَ المسيحِ لم يكشف عن ألوهيته فحسب، بل تنبَّأَ بموتِه المعنويِّ أيضاً. الذاكرة ُ "حليفُ الموتِ الأكبر"، ذلكَ أنها تحرمنا من التطلّعِ بفاعليّةٍ للحظاتِ التي قد يتقاطعُ فيها الزمانُ الأفقي بالزمانِ العموديِّ الأبديّ، حينَ يتوهَّجُ العالمُ مُشرِقاً. هذا هو التناغمُ الذي يتقصّاهُ شار في شعرِه وَيخلقه وَيدعو إليه، ومنه يأتي تأكيدهُ على صورٍ مثلِ النَّجْدِ الذي هو ذروةٌ في سيرورةِ التكوّنِ لا نقطةٌ مرتفعةٌ بشكلٍ مؤقت، أو وميضِ البرق الذي يكشفُ عن ديمومةِ الإشراقِ في الجزءِ من الثانيةِ الذي يستغرقه.
في "نهر سورج: أغنيةٌ لـ إيفون/ 'La Sorgue' " (من: الينبوعُ السارِد-1947/ La fontaine narrative ) ، يتغنّى شار بـ"النهرِ حيثُ ينتهي البرقُ وَيرتقي منزلي/ على عتباتِ الغفلةِ مدحرِجاً حصى عقلي." نهرُ سورج الذي ينبعُ من Fontaine de Vaucluse مُحيطاً بِـ L'Isle-sur-Sorgue من جهاتٍ ثلاث، هذا النهرُ حقيقيٌّ وَرمزٌ أسطوريٌّ في آن، لكنّهُ فوقَ ذلك وجودٌ مطّرِدٌ يذكِّرُ الشاعرَ أن كلَّ الأشياءِ مُرَكَّبة، وَأن علينا اتّخاذَ موقفٍ متمرّدٍ وَأخويٍّ معاً. لقرونٍ عِدّةٍ ظلَّ نهر "سورج" يرفدُ المدينةَ كلَّها التي كانت تعتاشُ من صيدِ الأسماك، لكنها أُركِسَت فيما بعد بالتلوِّث الصناعي الذي سببهُ مصنعُ الورق؛ ما تزالُ مياهُ النهرِ شفافةً بدرجةٍ مدهشة لكنها باتت تشكّلُ خطراً؛ أصبحَ النهرُ رمزاً للموتِ والَبقاء. تختتم القصيدةُ بابتهالٍ إلى نهرِ سورج يلخِّصُ موقفَ شار الأخلاقي: "اجعلني عنيفاً وَصديقاً للنحلاتِ في الأفق."
اللغةُ الشعريةُ هي اللغةُ الأكثر تحدّياً وَإقلاقاً، من حيث أنها تجمعُ النقائضَ، كما تتقصّى وَتشهرُ بوعيٍ صمتَها وَقصورها وَغزارتها واحتمالاتِه، وَفي الوقتِ ذاته تنقشُ ذاتها –بشكلٍ لا مردَّ له لكن طوعاً – في تاريخِ فِكرٍ سابِق. لعلَّ الشعرَ الفرنسيَّ الحديث أشدُّ تناصّاً بجلاءٍ من أيِّ شعرٍ آخر منذُ عصر النهضة، ذلكَ أن الماضي يمتزجُ بالحاضرِ بامتنانٍ وَبقدرٍ من القمع، فيما يسعى الشعراءُ لتعيينِ فضائهم الخاصّ. موقفُ شار العنيد دفعه في أحايينَ إلى مهاجمةِ الشعراءِ الذين وقعوا في نظرهِ في تلاعبٍ لفظيٍّ محض. بالنسبةِ إليه، ينبغي للشعرِ أن يكونَ جوهريّاً، أي محوريّاً في حياتنا، لا مُجرَّدَ زخرفٍ هامشيّ. ولهذا السببِ يلحُّ على إعادةِ الشعرِ في الثقافةِ المعاصرةِ من طريقِ حضّنا على القراءةِ المتنوِّعة، لنتعلَّمَ دروس المفكرينَ الأخلاقيين الماضين. إذا كان من جملةٍ تعبّرُ عن موقفِ شار أبلغَ تعبير، فهي شذرتهُ المفضّلة التي قالها هيراكليتس متنبِّأً برؤى هايدغر حول التشابه وَالإختلاف: "أنتَ لا تطأ النهرَ ذاته مرتين". كلُّ تجربةٍ نمرُّ بها، سواءً كانت تجربةً معَ الحُبِّ أو الطبيعةِ أو الشعر، هي تِكرارٌ لما سبق، لكنّها ابتكارٌ دائماً.
سؤالُ "هولدرلين" الجوهريِّ – والذي تناولهُ "هايدغر" بحذق في محاضرته المذهلة عن "ريلكه" عام 1946- "ما الحاجة إلى الشعراء في زمنٍ مُجدب؟/'Wozu Dichter in dürftiger Zeit' " ، هذا السؤالُ القلِقُ طرحه شار مراراً على نفسه وَعلى قرائه. مثلَ هولدرلين، يرى إلى الشاعرِ كـ"كاهنِ اللا مرئيّ". وَمثلَ هايدغر، يؤمنُ بالشعرِ كتجديدٍ للتجربةِ وَمركزٍ للحقيقة، أو لنكونَ أدقّ، مركزٍ لـ إلثيا alethia (الكَشفِ أو السفور). على كلِّ حالٍ، فيما المقدَّسُ دائمُ الحضورِ في عمله، ومع أنه يستحقُّ لقبَ "شاعرِ ما بين الزمان" الذي أسبغه هايدغر على هولدرلين، إلا أنَّ لإلحاحِ شار على قيمةِ الشعراءِ وحاجتِنا إليهم بُعداً سياسياً، إذ من واجبِ الشعراءِ أن يميطوا اللثامَ عن الحقيقة، ولهذا عليهم مواجهةُ كلِّ أنظمةِ الطغيان التي تصوغُُ العالمَ الذي يعيشون فيه وَيكتبون. على الشاعرِ أن يتحلّى بشجاعةٍ وَاستقامةٍ (بل شراسةٍ أيضاً) أخلاقية، وَبناءً عليه أن يصدرَ حكمه. إلا أنَّ هذه الفضيلة الإجتماعية يجبُ أن تتخللها لحظاتٌ من الإشراق، تلاعبٌ لونيٌّ بالقاموسِ وَالفلكلور. يتفقُ شار مع رؤيةِ هولدرلين حولَ الفرقِ بين الفضيلةِ (merit ) وَالشعر، لكنهُ يدنو أيضاً من موقفِ والاس ستيفينز، مؤمناً أنَّ الفضيلةَ الأصيلة ليست خصيصةً ذاتيّة، بل علينا أن نمخرَ عبابها بالتجاربِ الشخصيةِ الحيّة. هذا هو أحدُ أسبابِ إعجابهِ بفنانين مثل بيكاسو وَبراك وَارباد زينس ، ذلكَ أنَّ لوحاتهم تزاوجُ بينَ العقلِ وَالعاطفة، بينَ الخطِّ وَاللون. الأهمُّ أن على الشعرِ استغلالَ طاقتهِ ليكشِف. كما يقول في جملته الأخيرة في (احمرارُ زوّارِ الفجر/ 'Rougeur des Matinaux') : "باختصارٍ: إن أردتَ أن تهدِم، ليكن ذلكَ بأدواتٍ احتفاليّة."
مشبوباً بإحالاتٍ لأعمال الماضين وَأفكارِهم، يستدعي شعرُ شار قراءةً تتضمَّنُ المعرفةَ المحليّة وَالشخصية وَتتجاوزها أيضاً إلى ما هو أبعد، قراءةً تتقبّلُ فكرةَ أنْ ليسَ في وسعنا أن نفهم فهماً شاملاً إلا بالإستغراقِ في ما تمَّ تهيئته لنا. في "هذا الحب المفقود/ 'Cet amour à tous retiré' " من Les Matinaux ، يقابلنا هذا المقطع:
كانَ العنفُ سحريّاًً؛
يموتُ رجلٌ أحياناً،
وفيما يخطَفهُ الموت،
يختمُ أثرٌ من الكهرمان عينيه.
العنف، الموت، التحوّل السحري: هذه الثيمات "الشاريّة" الثابتة تتجلّى هنا ببساطةٍ في مقطعٍ شعريٍّ واحدٍ، لا يضعُ أمامَ القارئ أدنى صعوبةٍ تأويليّة. فيما عدا التساؤل... لماذا الكهرمان ؟ الأغلبيةُ منا تعرفُ النزرَ اليسير عن أهميته الشعائريّة، إلا أنَّ توظيف شار له محسوبٌ بحيثُ يفعّلُ تداعياته الثقافية المتعددة. نعرفُ، منذ طاليس في القرنِ السادس قبل الميلاد، أنَّ للكهرمان (يُسمّى الكترون عندَ الإغريق) خصائصَ مغناطيسية- فهو يمتصُّ الشحنات الكهربائيةَ الزائدة ممن يدعكه. دموعُ الكهرمان التي سكبها أبولو حين نُفيَ من جبلِ الأوليمبوس ترمزُ إلى حنينهِ إلى فردوسٍ مفقود وإلى الوعدِ بالجنّة. حُفِظَت حشراتُ ما قبلَ التاريخ (وَجُعلَت جميلةً) بالكهرمان، لذا استخدمهُ المصريون في عمليّاتِ التحنيط. ترى الأقوام السلتيّة وَالمسيحية إلى الكهرمان كرمزٍ للروحانيّةِ وَالقداسة. الكهرمان متنوّعُ المعاني وَمتعددُ الثقافات، مثلَ عديدٍ من الرموز التي يوظّفها شار. مما يعني أن القرّاءَ لن يستقرّوا على معنىً ثابتٍ واحد، وَسينتجبونَ أحدَ ظلال المعاني المحتملة دونَ غيرِها في كلِّ قراءةٍ تالية. مثلُ هذا التجريد في مفهومِ المُلكيّةِ النصيّة هو أحدُ سماتِ أعمال شار، ذلك أنه يقبلُ القارئ كشريكٍ في خَلْقِ قصائدهِ وَيأملُ في الآنِ ذاته دفعَهُ لسبرِ استجاباتهِ تجاهَ نصوصٍ بسيطةٍ في ظاهرِها، فيما هيَ متقلّبةٌ على نحوٍ إبداعيٍّ واقعاً. رغم أن شار لا يستسيغ مصطلحَ "حكمة aphorism " ، مفضّلاً التعبيرَ المحايدَ "نصٌّ قصير"، إلا أنَّ قوله الشِعري يتّسمُ بالقوّةِ الجدلية للحكمة الـ"ما قبل- سقراطية" من حيث أنها تزاوجُ ما بين الصريحِ وَالمضمر، ما بين الإنسجام والإنفصام. وعليه، تستدعي كتاباته من القرّاءِ قبولَهم في أن يكونوا في الوقت نفسه، ضحايا وَمنفّذين لعنفٍ "احتفاليّ" (مفتعلةً مشاكلَ لكلّ مترجم!) .
إذا كانت صور شار الشعرية مستوحاة من موطنه الأصلي؛"بروفنس"، فإن تفكيره بعيداً من أن يكون ذا مركزية أوروبية، ويعود السبب الأكبر ربّما إلى إحتكاكه برسّامين "متفرنسين" من قاراتٍ أخرى؛ مثل "ويفريدو لام" وَ "زاو وو-كي". وبحكم مقروئيةِ شار الواسعة، يصبحُ من الصعبِ معرفةُ لمن قرأَ شار ولمن لم يقرأ تحديداً، لكن من المثيرِ للإهتمامِ أن شاعريته، على غرارِ أفكاره الفلسفية، شبيهةٌ بشاعريّةِ اوكتافيو باز، الذي كتبَ في "القوس وَالقيثارة":
يبدأُ الخَلْقُ الشعريُّ كعنفٍ تجاه اللغة. الفصلُ الأولُ من هذه العمليّة هو اجتثاثُ الكلماتِ من جذورها. ينتزعها الشاعر من روابطِها وَوظائفها المألوفة: منبتّةً عن عالمِ الكلامِ غيرِ ذي شكل، تصبحُ الكلماتُ متفرّدةً، كما لو أنها وُلِدَتْ توّاً. الفصلُ الثاني هو عودةُ الكلمة: تصبحُ القصيدةُ موضوعَ مشاركة. تسكنُ قوّتان متضادتان القصيدة: قوةُ ارتقاءٍ أو اجتثاثٍ تنزعُ الكلمةَ من اللغة؛ وَقوّةُ جاذبيةٍ تعيدها إليها. القصيدةُ خلقٌ أصيلٌ وَمتفرّد، لكنها أيضاً تلاوةٌ وَقراءة: مشاركة. الشاعرُ يخلقها؛ وَالناسُ تعيدُ خلقَها بتلاوتها. الشاعرُ وَالقارئ حَدَثان في حقيقةٍ واحدة. من طريق تبادل دوريهما على نحوٍ يصحُّ تسميته لولبياً، ُفإنّ دورانهما يولِّد الشعلةَ: الشعر.
شعر شار يبدأ بالعنف- في غضبهِ العادلَ تجاه كلِّ خيانةٍ للحريّة، وفي عزمه تحريرَ اللغةِ من قيدِ الإستعمال المتداول. وَينتهي بفعل القراءة "اللا متناهية"، التي لا بدّ أنها تقرّ بأن العالمَ متعددٌ في وجودهِ، بفضيلةِ الإنقسامِ وَالتضاد.
Maquisards* : أفراد المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية.
* "زوّار الفجر/ Les Matinaux "، 1992 Blooddax Books
fahima.jaffar@hotmail.com
***
رينه شار، الشاعر الذي نذر حياته لمؤلفه الشعري وتفرّغ له، فكان أن أخلص له الشعر وجعله واحداً من أجمل الأصوات الشعرية عالمياً. تميّز بأسلوبه المتفرّد الذي لم يضاهه فيه أي من مجايليه. مؤلفاته تنضح بقدراته الرؤيوية وتجاربه المذهلة الناهلة من جوهر الحياة وروحها مما ينمّ عن قريحة حقيقية تعيد الأشكال بكل أنواعها إلى أصلها، وتوائم بين مختلف العناصر، مهما تنافرت، بحنان قلّما يتوفر لدى مبدع آخر. أشعاره تؤسس نفسها بمفاهيم كبيرة أهمها، التوحّد والتركيز والنسك والتقشّف والإيثار والمقاومة الحقيقية التي تنحو نحو الفعل مما يمنحها كثافة فلسفية عميقة. هي قطع من الحلم المارق والذكريات الغامضة البعيدة، المتوغّلة في الروح، الراسخة فيها، وهي ارتحال في الذات عندما تبلغ أقسى حالات غربتها، وهي سحابات من ضوء وماء مزن، حينما تهطل، تتجلّى فيها الروح بأبهى معانيها. وهنا يمكن الإشارة إلى الأثر الصوفي لدى شار، إذ ما أجمل ما غنّى للحياة في كلّ تجلياتها، وما أروع ما شدا لما هو وراء الحياة وأمامها وفوقها وتحتها مما لا يمكن المسك به بيسر.
ولد رينه شار في 14 حزيران/يونيو من عام 1907 في مدينة "ليل سور لاسورغ" جنوب فرنسا. انضمّ إلى الحركة السوريالية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى وكانت شكلاً من أشكال التمرّد والإحتجاج على فظاعات هذه الحرب وآفاتها ومآسيها التي جرّتها على الإنسانية. أقنعه الشاعر بول إيلوار الذي تعرّف إليه في منطقته شبه المعزولة، بالسفر إلى باريس بعد أن لفتته موهبته الفذّة. وهناك تعرّف إلى فرسان هذه الحركة وعلى رأسهم مؤسسها أندريه بريتون. غير أن انضمامه إلى هذه الجماعة كان عابراً، إذ رغم تحمّسه بدايةً لمشروعهم، ومساهمته في المقاومة، إلا أنه ابتعد عن رفاق دربه السورياليين كي ينغمس بهوس عذب في شعريته الثرية التي تهزّ الروح وترتحل بها إلى أقاصي الفضاءات المترعة بجمال بكر لا يعطي غالباً أسراره بسهولة. لكن، يجب عدم إغفال ما كان لهذه المرحلة من دور فعّال في نتاج شار الشعري، إذ هي التي فتحت قريحته على التمرّد على الأشكال المألوفة في كل ما يتعلّق بالحياة والأدب عموماً، فكان انفتاحه على أجواء جديدة وبناءات مختلفة للقصيد تقطع مع كل ما هو كلاسيكي.
كان شار صديقاً لأهم المعاصرين له من الفنانين وأشهرهم، أمثال: بيكاسو، براك، جياكوميتي، ميرو وغيرهم. من قصائده، استوحى بعض الرسامين أجواء لوحاتهم، كما أن بيير بوليز، المؤلف الموسيقي العالمي وقائد الأوركسترا الشهير، استوحى أهم أوبرات له من ديوان Le marteau sans maître مركّزاً فيها على قصيدتَي "وجه عرسي" و"شمس المياه" اللتين كان مفتتناً بتداعياتهما في شبابه، فذهب بهما إلى أقاصي لغة موسيقية جديدة جعلها ترتقي مراقي لا تسلّم نفسها لغير الصرف والجوهر من الكلمات، فكانت ألحاناً منثورة تنحت بذاتها قواعد نحوها وصرفها وسلمها ونوتاتها المنفلتة و لا ترضخ لأيّ من التصنيفات التقليدية.
الترجمة الحرفية لديوان رينه شار " Le marteau sans maître" هي "مطرقة بلا معلم"، غير أنني كنت أودّ لو أجعل ترجمة كلمة مطرقة مخالفة لما اتفق عليه، حيث أن المفردة marteau في اللغة الفرنسية تعني أيضاً المجنون قليلاً...ولا شكّ في أنّ للإبداع علاقة وطيدة بالجنون الجميل، فهو يبحث بين ومضاته الحارقة عن كثير من الرؤى الهاربة المستعصية التي لا يمكن توصيفها بالهذيانات ولا بسليلات عقل ينحو نحو فكرة مترفهة تعطي نفسها بسهولة بالرغم من عمقها. إنها إشراقات أعلى من أن تعطي أسماءها وتدخل في تصنيفات معهودة، فهي لا ترضخ لغير ضوئها الآبق... تلك هي الحقيقة في أبهى تجلياتها، وذاك هو رينه شار، الشاعر الذي أمضى حياته مرتحلاً عبر المعنى بحثاً عنه. من مؤلفاته، نذكر: "مطرقة بلا معلّم" 1934، "خزانة لدرب التلاميذ" 1937، "في الخارج، الليل محكوم" 1938، "ورقات هيبنوس" 1946، "غضب وسرّ غامض" 1948، "الكلمات على شكل أرخبيل" 1962، "الليلة الطلسمية" 1972، "في مديح مشتبه به" 1988.
على إثر أزمة قلبية توفي رينه شار في 19 شباط/فبراير من عام 1988 في "ليل سور لاسورغ"، لكنّ أسطورته لم تنطفئ، إذ ظلّ صوته الصادح يفيء إليه الباحثون عن وجوههم في عتمة ليل بهيم لا سبيل إلى تفاديه بغير ذاك الإبحار الجميل في الذات الإنسانية والرؤى المارقة.
(اعتمدنا هذه المعلومات من الموقعين الإلكترونيين ويكيبيديا و بيار دو لون ومصادر أخرى)
***
أسكن في رحم وجع
لا تدع العناية بتدبير أمور قلبك والتحكّم به لذاك الحنو وتلك الرقة قريبي الخريف اللذين يستعيران منه مسيرته الساكنة وأنس احتضاره البشوش الحفي. العين مبكرة على الطي. الألم لا يهتدي لغير نزر من المفردات. آثرْ الخلود إلى النوم دون أعباء: ستتهاطل حينها الرؤى. ستحلم بالغد ويغدو فراشك خفيفاً. ستحلم بأنه لم يعد لبيتك زجاج نوافذ. أنت تتعجّل اتحادك بالريح...الريح التي تعبر سنة في ليلة يتيمة. ثمة آخرون يهزجون بإدماج الأنغام وتضمينها. اللحم الذي لا يجسّد غير سحر الساعة الرملية. ستدين الإمتنان الذي يتكرر ويتناسخ. لاحقاً سيماثلونك بأحد الجبابرة العمالقة المتحلّلين المتفسّخين. سيعرفونك بسيّد المستحيل.
بيد أن...
كل ما أنجزته أنك زدت ليلك ثقلاً. عدت إلى الصيد لدن الأسوار، في القيلولات القائظة دون صيف. أنت غاضب إلى حدّ الهيجان على حبك في محور وفاق متوله مشغوف. تفكّرَ في البيت الكامل الذي لن تراه يسمق أبداً. حتام يتواصل جَنِي خراب الهاوية؟ لكنك فقأت عينَي الأسد. ظننت أنكَ رأيت البهاء يمرّ فوق الخزامى السوداء...
أرتور رامبو، أحسنتَ عملاً بالرحيل
سنواتك الثماني عشر المنحازة للصداقة، للسوء والعدوانية، لحماقة شعراء باريس كما لطنين نحلة عقيمة لأسرتك الأردينية* المجنونة قليلاً . أحسنتَ فعلاً بتبديدها وذرّها للرياح في الفضاء الرحب، أحسنتَ فعلاً بإلقائها تحت نصل مقصلتها الفجّة. كنت على صواب عندما هجرت شارع الخاملين وخمّارات البيس لير*، إلى جحيم البهائم، إلى تجارة الدواهي والمحتالين وإلى نهار البسطاء السعيد.
هذا الاندفاع العبثي للجسد، قذيفة المدفع هذه التي تصيب هدفها فتفجّره، نعم، هنا فعلا حياة الرجل الحقيقية! لا يمكن عند مغادرة الطفولة، نهائياً، خنق الآتي. لو أن البراكين تغيّر قليلا من الأمكنة، لأمكن حممها أن تجوب الفراغ المترامي للعالم، ولكانت جلبت لها الفضيلة والقوة الشاديتين في قروحها.
أنتَ فعلت جيداً بالرحيل، أرتور رامبو! بعض الذين يظنون بغير أدلّة أن السعادة ممكنة معك.
** الأردينية: نسبة إلى منطقة الأردين « Ardennes » في فرنسا وهي سلسلة هضاب تخترقها أودية عميقة: وادي الموز وروافد الموزل.
** خمّارات البيس لير les pisse-lyresتسمية للتحقير يُقصد بها مرتادو الخمارات من الشعراء الرديئين وأشباه الفنانين.
العبارة المشتّتة
إنْ أنتَ صرخت، رَكَن العالم إلى الصمت. هو ينأى حاملاً معه عالمكَ الخاص.
أعطِ دائماً أكثر مما تقدر على استرداده، وانسَ، كذلك يكون السبيل المقدّس.
من يحوّل الشوكة إلى زهرة يخفّف رهبة البرق.
ليس للصاعقة غير منزل واحد، ولها دروب ضيّقة عدة.
منزل يسمق ويسمو وممرات بغير فضلات.
رذاذ يبهج الأوراق ويمرّ دون أن يعرّف بنفسه.
نستطيع أن نكون كلاباً تسيّرنا ثعابين، ونستطيع إخراس ما يمكن أن نكونه.
المساء يتحرر من المطرقة، الإنسان يظلّ مسلسلاً إلى قلبه.
العصفور تحت الأرض يتغنّى بالحداد على الأرض.
وحدكِ أيتها الأوراق المجنونة، تترعين حياتك.
قشّة كبريت تكفي لالتهاب شاطئ لجأ إليه كتاب كي ينطفئ ويموت.
شجرة الريح العاتية وحيدة متوحدة .
عناق الريح أكثر وحدة.
كم تصير الحقيقة غير الفضولية مستنزفة لو أنه لم يكن ثمة هذا الكاسر للإحمرار في الأقاصي حيث لا ينقش الشكّ إطلاقاً ولا القول المأثور للحاضر، نحن نتقدم وقد هجرنا كل كلام وقد خذلناه ونحن نعد أنفسنا بذلك.
إخلاص
في شوارع المدينة يوجد حبي. لا يهمّ أين يمضي في الزمن المجزّأ. هو لم يعد أبداً حبي. الكلّ يمكنهم التحدّث إليه. هو لم يعد يذكر مطلقاً مَنْ أحبه بصدق.
يبحث عن مثيله في أمنية النظرات المتطلعة. يسيح في الفضاء الذي هو وفائي. يرسم الأمل وخفيفاً من كل حمل يبعده. هو متفوّق دون أن يكون له في ذلك دور يذكر.
أحيا في أعماقه السحيقة تماماً كحطام هانئ سعيد. دون أن يعلم، وحدتي كنزه. عند خط الهاجرة الشاسعة حيث يسجّل انطلاقه، ينقشه، تحفره حريتي.
في شوارع المدينة يوجد حبي. لا يهم أين يمضي في الزمن المجزّأ. هو لم يعد أبداً حبي. الكلّ يمكنهم التحدّث إليه. هو لم يعد يذكر مطلقاً مَنْ أحبه بصدق. لم يعد يذكر ذاك الذي يضيئه عن بعد كي يحميه من السقوط .
المبتكرون (1949)
لقد قدموا؛ وفد رجال الغابة من السفح الآخر. الذين نجهلهم؛ الثائرون، المتمرّدون على ممارساتنا، لقد أتوا بأعداد وفيرة من المنحدر.
جماعتهم بانت عند خط توزيع أشجار الأرز وحقل الحصاد العتيق المروي لاحقاً والمخضوضر.
المسيرة الطويلة بعثت فيهم الحرارة.
قبعاتهم تسقط على الأعين وأقدامهم المتورّمة تحطّ في المبهم.
لقد لمحونا وتوقفوا.
ظاهرياً يبدو أنهم لم يخمّنوا وجودنا هنا،
على أراض ممهدة وأخاديد مقفلة بشكل جيد.
غير مكترثين بمواجهة،
رفعنا جباهنا وشجعناهم.
أكثرهم فصاحة دنا، ثم ثانٍ يبدو مجتثاً أكثر ووئيداً
جئنا، قالا، كي نخبركم
بحلول قريب للإعصار؛
خصمكم الحقود الذي لا يصالح.
نحن لا نعرفهم أكثر منكم
وبطريقة أخرى نحن لا نعرفهم سوى بعلاقات و مسارات وبوح الأسلاف،
إنما لماذا نجدنا، دون أن ندرك سبباً لذلك، سعداء إزاءكم، لماذا صرنا فجأة شبيهين بالأطفال؟
شكرناهم ثم صرفناهم،
لكن قبل ذلك، هم رووا ظمأهم، وكانت أيديهم ترتعش وأعينهم تضحك على الحواف.
رجال الشجر و الفأس، الخلقاء بتحدّي بعض الرعب،
لكن غير الجديرين بقيادة الماء وبتصفيف الأبنية غير الواضحة المعالم، غير القادرين على طلائها بألوان مبهجة،
أولئك يعمهون عن جنة الشتاء ووفير الفرح.
طبعاً، نحن كنا قادرين على إقناعهم وإخضاعهم
لأنّ الكرب الناجم عن الإعصار بليغ الأثر
أجل، الإعصار قادم عما قريب،
لكنْ هل هذا الأمر يستحق فعلاً أن نوليه عناية الخوض فيه وإزعاج المستقبل وبعثرته؟
هناك حيث نحن، ليس ثمة خشية ملحّة.
***
أيتها الوحدة الأكثر محقاً دائماً
دموع تصعد إلى الذرى
عندما يبين الإنحدار
عندما يشهد نسر هرم معزول عن قوته
عودة يقين وعده القاطع
تثب السعادة بدورها
عند منحدر الهاوية وتمسك به.
أيها الصياد الخصم، لم تتعلم شيئاً يُذكر
أنتَ يا مَنْ على غير عجلة تسبقني
في الموت الذي أخطئه وأعارضه.
حضور مشترك
أنتَ تتعجّل الكتابة
كأنكَ كنت متأخراً عن الحياة.
إذا كان الأمر فعلاً كذلك، اجعلْ لمنابعك موكباً وحاشية.
عجّل...
بكّر بتبليغ نصيبك من برّ العصيان الكريم.
حقاً، أنتَ متأخر عن الحياة.
الحياة التي لا يمكن التعبير عنها.
الوحيدة في آخر الأمر، التي بها، ترضى أن تتّحد،
تلك التي تنكرها عليك الكائنات والأشياء.
الحياة التي خلالها تنال من هنا وهناك بعض شظايا ضامرة
في آخر معارك دون رحمة.
في معزل عنها، كل شيء لا يعدو أن يكون احتضاراً خانعاً، نهاية سفيهة.
إذا قابلتَ الموت أثناء كدّك وعنائك،
استلمه تماماً مثلما يجد قفا العنق العرقان المنديل الجاف طيباً
آناء انحنائك.
إنْ كنتَ ترغب في الضحك
اعلنْ خضوعك، لكن لا تتنازل عن أسلحتك قط.
أنتَ خُلقت للحظات غير سائدة.
أنت خلقت للحظاتكَ الخاصة.
تحوّل، توارَ عن العالم دون تحسّر،
بمشيئة القشعريرة العذبة.
حياً بعد حي وتصفية العالم تتواصل
دون توقّف،
دون انحراف.
وزّع الغبار
لن يكشف أحد اتّحادكم.
بيرينيه
أنتَ يا جبل المخدوعين!
عند قمة أبراجك المحمومة
يغدو الضوء الأخير واهناً.
لا شيء غير الفراغ وجرف الجليد المنهار.
لا شيء غير الضيق الخانق والحسرة!
كل شعراء التروبادور غير المحبوبين
رأوا خلال صيف ما
مملكتهم الوديعة المتشائمة تبيّض.
آه! الثلج المتصلّب القاسي
الذي يُؤْثر مكابدتنا عند قدميه
ويرغب في أن يرانا نموت متجمّدين
عندما كنا نعيش في الرمال.
الوجه العرسي
الآن، يتوارى حارسي عن الأنظار، واقفاً في المسافة،
تواً، تهشّمت وداعة العدد.
حلفائي، عنيفي، إشاراتي، علاماتي، أنتم في إجازة.
كل شيء يجرفكم، كآبة مفرطة في إكرامها،
أنا أعشق... أنا عاشق ... أنا العاشق.
الماء ثقيل على بُعد يومٍ من النبع.
القطعة الصغيرة القرمزية تعبر أغصانها الوئيدة إلى جبهتك
قياس مطمئن.
وأنا نظيرك.
بقشّة التبن المزهرة على حافّة السماء أصيح باسمك،
أهدم الأطلال،
مصاباً، مريضاً، معافى من الضوء.
أنتَ تجعل العبودية الملتهمة لقفاها ندية
مستهزئاً بالليل، أوقف هذا النقل المحزن للعجلة
أصوات زجاجية، ارتحالات مرجومة.
الباكر المتملّص من دفق الجروح والآفات المبدعة
(مِعْوَل النسر يقذف عالياً الدم المتسّع)
على مصير ماثل أقود صراحتي واستقاماتي
نحو الأزرق السماوي المتعدّد الصمامات، المختلف الصواني.
آه! يا قبّة الفيض على إكليل بطنها.
يا همسة المهر السوداء!
يا حركة نطقها المبين الناضبة!
يا لحظة الميلاد، أرشدوا جميعكم المتمردين العصاة، كي يكتشفوا أساسهم،
اللبّ القابل للتصديق بالغد الجديد.
المساء أغلق جرح القرصان الذي يسكنه هناك، حيث تسافر الشهب و السهام النارية
موجات بين الرعب الذي تسنده الكلاب.
للماضي، ميكا*، حجرة الحداد على وجهك.
الزجاج غير الراضخ للإنطفاء: نفسي الآن تتواءم مع صداقة جرحك،
وتدعم ملكيتك غير المرئية.
ومن شفاه الضباب تنحدر لذتّنا المشتهاة
إلى عتبة التلّ، إلى السطح الفولاذي.
الوعي يضخّم الجهاز المرتجف لدوامك.
البساطة المخلصة تمتد في كل مكان.
أنتم، ناقوس التقسيم الصباحي، الفصل الميّت للنجمة الملتمعة باكراً،
أجري نحو آخر قوسي، مسرحاً محفوراً
معانقاً بما يكفي التوتر البالغ للزروع:
نفاشة الصوف، العنيدة المتصلبة، أقاصينا تقمعها وتجعلها ترضخ.
ملعون بما يكفي، المرفأ الآمن للتهيؤات الزفافية:
لقد قبضت على أساس الرجوع الكثيف.
أيتها الجداول، أغاني الموتى في الشعاب
أنتم الذين تتبعتم السماء القاحلة،
امزجوا توجهكم بالزوبعة التي عرف الفرار كيف يشفى منها،
الفرار الذي يعطي مقابل دراساتكم النافعة.
في صدر السقف يختنق الرغيف وهو يحمل القلب والوميض.
خذ، فكري وخيالي، زهرة من يدي قابلة للإختراق.
تحسس الزرع المظلم آناء استيقاظه.
لن أرى إلى أحشائك، لن أرى إلى أسراب الجوع هذه تتيبّس
وتمتلئ بالعوسج.
لن أرى إلى الفطر الصغير المتعفّن يخلفك في دفيئتك.
لن أرى إلى اقتراب المهرّجين يزعج النهار المتجدد.
سوف لا أبصر سلالة حريتنا تكتفي بمذلة دنيئة.
أيتها الأوهام، لقد صعدنا الهضبة.
حجر الصوان يرتجف تحت زرجونة* الفضاء.
الكلمة، منهكة من التحطّم، تشرب في محطة الميناء الملائكية.
ما من بقاء شرس:
أفق الدروب حتى فيض الندى
النهاية الحميمة التي لا يمكن تلافيها.
هذا الرمل الميّت، هذا الجسد الناجي:
المرأة تتنفس، الرجل يقف منتصباً.
** حجر الميكا: حجر معدني لامع ذو صفائح يشتهر بمقاومته لدرجات الحرارة المرتفعة.
** الزرجونة: قضبان الكرم الغضّة وكل غصن متسلق.
من إلماعات رينه شار:
- الشاعر الحقيقي يُعرف من كم الصفحات البلا معنى التي لا يكتبها.
- كيف يمكننا العيش من دون مجهول مترصّد أمامنا؟
- القصيد هو الحبّ تحققه رغبة أضحت فعلاً رغبة.
- غيظ وغموض، الواحد تلو الآخر، يفتنانه ويفنيانه ثم تأتي السنة التي تنهي نزاع "كاسر الحجر"** الذي يملأه.
- يرفضون وعيونهم مفتوحة ما يقبله الآخرون وعيونهم مغلقة.
- افرض فرصتك، شدّ على سعادتك وضمها، واذهب صوب مجازفتك. هم لفرط رؤيتك سوف يعتادون.
- ما يأتي إلى هذا العالم دون أن يعكّر شيئاً ليس جديراً بأي اعتبار أو حلم.
- يشتغل كبدائي ويتنبّأ كخبير بارع في التخطيط و التدبير والإحتراب...
- في أقاصي العاصفة، ثمة دائماً عصفور يسكّن من روعنا. هو طائر المجهول يغني قبل أن يحلّق مجدداً.
- انقطعنا عن الكلام مع مَنْ نحبهم، بيد أن ذلك لم يكن صمتاً قط.
- عليكَ أن تكون رجل المطر وطفل الطقس الجميل.
- ينبغي النفخ على بعض الومضات كي يصنع الضوء الحقيقي.
** كاسر الحجر: زهر من فصيلة القلبيات كثير التويجات ينمو في الجبال.
essia6@msn.com
***
داخل كل مثقّف ديكتاتور، هذا ما قاله ميشال فوكو، وهذا ما أكّده سلوك مؤسس الحركة السوريالية أندره بروتون في مواقف عدة. فهو لم يكتفِ بإصدار البيانات على الطريقة الحزبية و"فصل" الشعراء الذين خرقوا الـمانيفست، بل وصلت به الحال إلى الهجوم "المسلّح" على من يعتبرهم أعداء: ذات يوم قرّر بروتون، بوحي ربما من تاريخه العسكري كجنديّ في فوج المدفعية، اقتحام أحد المقاهي الشهيرة في منطقة مونبارناس الباريسية، حيث كانت تجري حفلة راقصة للطبقة البورجوازية في رعاية إحدى الأميرات، فما كان منه إلا أن أمر رينه شار بتقدّم المجموعة، لأنه "الأجرأ والأقوى جسدياً". تتمّة القصة من استخدام الطرفين الكؤوس والسكاكين ونهايتهما معاً في أقرب مركز للشرطة غير مهمّة، بقدر أهمية رمزيتها: رينه شار، الشاب الضخم القادم توّاً من قريته الجنوبية قرب مرسيليا كقائدٍ لجيش باريس السوريالي. رينه شار هذا، أصغر الشعراء السورياليين عمراً، والذي سرعان ما كبر على السوريالية، أو شبّ عليها، "الكابتن ألكسندر" كما عُرِف في صفوف المقاومة الفرنسية السرّية، عدوّ النازية وصديق من طالته طويلاً تهمة الإنخراط في صفوفها (الفيلسوف الألماني هايدغر)، وأحد العظماء النادرين الذين حظوا بفرصة الإنضمام إلى مجموعة "لابلياد" وهم على قيد الحياة. وعلى غرار تلميذ "مدرسة الأعمال المتوحشة الجيدة"، أي بروتون، لم تكن حياته إلا كما يفترض أن تكون: حياة رجل متأرجحٍ أبداً بين حدَّي العبقرية والجنون.
أخوّة الهدم
لم يسعَ شار الى الإنضمام إلى الحركة السوريالية، بل إنها هي التي أرسلت في طلب الشاب الموهوب المغمور الذي كان يعيش منعزلاً في بلدته إيل سور لاسورغ، قبل أن يتعرّف إلى الشاعر بول إيلوار، الذي أقنعه بالذهاب إلى باريس والانضمام إلى السورياليين. هكذا، التحق شار، المولود في 14 حزيران 1907، بالحركة في أوائل الثلاثينات وهو في عمر الثانية والعشرين، ليكون الأصغر بين أعضائها الثلاثينيين: أراغون، إيلوار، وبروتون. عن تلك المرحلة قال شار: "كنت ثورياً وبحثت عن إخوة. كنت وحيداً في إيل، لا صديق لي سوى فرنسيس كوريل صاحب المخيّلة المظلمة، وأخيراً لمست هذه الحرية". أثناء هذه المرحلة ظهر لشار عدد من الكتب الصغيرة في إطار المنشورات التي كانت الحركة تصدرها، أبرزها قصيدته الطويلة "أرتين" التي تحدّث فيها عن "قتل الشاعر نموذجه"، إضافة إلى مجموعة شعرية مشتركة مع إيلوار وبروتون صدرت عام 1930. لكنه سرعان ما "قتل نموذجه" بعدما ضاق ذرعاً "بحرّيته" التي تغنّى بها سابقاً، فاستعاد استقلاله وابتعد عن الحركة عام 1934، جامعاً أشعاره السوريالية كلّها في كتاب حمل عنوان "المطرقة بلا معلّم"، ومحتفظاً بعلاقة جيّدة مع إيلوار وبروتون وتزارا. بهذه الطريقة انتهت رحلة بروتون مع السوريالية التي لم يكتفِ بالدفاع عنها جسدياً في واقعة مونبارناس ضد البورجوازيين، بل دافع عنها فكرياً في حقبة المواجهة مع أدب الاشتراكية الواقعية.
عزلة العاصفة
انخرط رينه شار، المؤمن بالديناميكية، والمعنيّ بمستقبل العالم، في حركة المقاومة السرّية الفرنسية عام (1940) كرئيس قطاع، لأن الشاعر "لا يموت حتماً على المتراس الذي اختير له"، وراح يكتب يوميّاته لينشرها في ما بعد في كتاب حمل عنوان "أوراق إيبنوس" 1946، جاء فيه:
"لقد أحصينا كل الألم الذي يمكن الجلاّد ممارسته عرضياً على كل إنش من أجسادنا، ثم، ونحن منقبضو القلب، مضينا وواجهنا".
هذه المرحلة المكثّفة والغنيّة التي أمضاها متخفّياً في المغاور والغابات أثّرت في شعره تأثيراً كبيراً، ولاسيما قصائد مجموعته "حمّى وسرّ" (1948). وعلى الرغم من الشائعات التي طالت هايدغر حول ماضيه النازي، وتاريخ شار النضالي ضد النازية، فقد جمعت الإثنين صداقة متينة تسببت بحساسية لدى البعض الذين اعتبروا هايدغر عميلاً للنازية وهتلر. لكنّ الشاعر دافع عن الفيلسوف رافضاً التهم التي سيقت إليه، معتبراً أن ميله في شبابه إلى النازية، على غرار شبّان ألمانيا جميعاً، لا يعني أنه شارك في المجازر.
بدأت علاقة الرجلين عندما دعا شار هايدغر إلى قريته، وانضمت إليهما مجموعة من المثقفين، ثم توالت اللقاءات التي كانا يتحدّثان خلالها عن هولدرلين، وعن الشعر والفلسفة اللذين يتجاوزان الزمان والمكان. اعتقاد شار أنهما ينتميان إلى صنف واحد من الناس، هو الذي وطّد أواصر الصداقة بينهما: "الأشخاص غير المندمجين في المجتمع أو في الحلم. المنتمون إلى قدر معزول، خاص، لا يشبه قدر الآخرين"، هؤلاء هم الأكثر نبلاً وخطورةً بين البشر الذين ميّز فيهم شار بين أنماط ثلاثة: اللطفاء، المزعجون، والعباقرة. هذا الاقتناع بالتفرّد، راح يتبلور لدى شار أكثر فأكثر ليفلت من قدر الفنان الملتزم قضية، هو الذي شارك بقوّة في القضايا العامة حتى بعد رحيل النازيين عن فرنسا، وافق رامبو رأيه القائل: "من الآن فصاعداً لن يرافق الشعر إيقاع الممارسة، إنما سيتقدّمها، سيضيء لها الطريق".
نحّات اللغة
ربط هذا الشاعر الريفي، الذي لم يعرف التسويات، الأدب بالأخلاق دائماً، لذلك هجر حياة المجاملات والنفاق المفتعلة في باريس، التي لم تبهره احتفالاتها وأضواؤها، وعاد إلى بلدته الأم باحثاً من دون كلل عن البراءات الأصلية، عن ذلك الشيء الأثيري الذي لا يمكن القبض عليه أبداً: الشعر. وقرر أن يعيش مخلصاً له وحده، معتبراً أنه لا يجوز إشراك شيء معه: لا زواج ولا عائلة ولا أولاد ولا أي شيء آخر. لكن هذا لم يمنعه من الزواج أكثر من مرّة، ومن إقامة علاقات عاطفية عدة من دون أن ينجب أولاداً، محاولاً بهذا المعنى إيجاد نوع من التوازن بين اقتناعاته ورغباته. على أي حال، تميّز شعر رينه شار، الذي استلهم الطبيعة الريفية بحيواناتها ونباتاتها وجمادها، بالوعورة والصعوبة، كأن كاتبها شقّ الكلمات في لغة من صخر، ناحتاً قصيدةً صارمة وصادمة، هدفها أولاً تشويش السير المنطقي وإن سعت الى الحفاظ على تطوّر سيرها الخاص. وإذا كانت المرحلة السوريالية حرّرته من الصيغ القديمة المعرقلة، وأطلقت قصيدته إلى آفاق أرحب وأكثر حرية، فقد اندفع بعد ذلك إلى تطوير أسلوب شديد الخصوصية، تجلّى في أعماله العديدة مثل: "في الخارج الليل محكوم" (1938)، "حمّى وسرّ" (1948)، و"الليل الطلسمي" (1972). إلا أن لغة شار الحرون، دفعت بعض النقّاد إلى وصفها بـ"غابة الرموز المعقّدة"، بل ذهب بعضهم الآخر أبعد من ذلك نافياً أن يكون لتلك التركيبات اللغوية العجيبة أي معنى. لكن شار، الذي جاب أنواع الشعر كلّها، من الشكل الحرّ إلى النثري إلى الموجز إلى التأمّلي والسردي، سحب البساط من تحت أقدام الجميع حين اعتبر أنه غير مهتم بوجود المعنى أو عدم وجوده في شعره.
حسناً فعلتَ!
على الرغم من الصداقة التي ربطته بعدد كبير من الكتّاب والفنانين في جيله، كسلفادور دالي وبيكاسو اللذين استوحيا بعض اللوحات من أشعاره، إضافةً إلى ألبر كامو وسواه، حافظ شار على إعجاب خاص جداً يصل إلى حدّ التقديس بأرثور رامبو الذي خصّه بدراسة نقدية على قدرٍ كبير من الحميمية، لأنه جسّد بالنسبة إليه فكرة الشاعر. علاقة شار برامبو الذي خيّم ظلّه على شعراء فرنسا جميعاً كانت قائمة أساساً على التشابه، فقد اعتبر شار أحد أكثر شعراء القرن العشرين شبهاً به من حيث القوة والصرامة في القصيدة. الإثنان تعاملا مع الشعر في وصفه قضيتهما الشخصية، كقضية حياة أو موت. الإثنان لم يكتبا إلا بناءً على حاجة داخلية عميقة، ولم يستجيبا للظروف الخارجية التي تدفع بعض الشعراء إلى الكتابة. في معنى ما، كان شار ورامبو ضدّ الإفتعال في الشعر، وآمنا أن القصيدة تفرض قوانينها الخاصة ولا تخضع لأيّ من القوانين الظرفية. الشعر وفق هذا المنظار، هو قضيّة في حدّ ذاتها. قضية لا يمكن توظيفها في خدمة قضيّة أخرى، ولاسيما المسائل أو الغايات السياسية، كما كان يفعل شعراء مثل أراغون. هذه العلاقة المميزة دفعت شار إلى التساؤل مراراً: هل يجب على الشاعر أن يصمت كما فعل رامبو لغاية كبرى في نفسه؟ أو إلى الإعلان جهاراً: "الشاعر الحقيقي يموت شاباً كرامبو"، محتقراً الشعراء الذين يعيشون في طمأنينة "بلا مجهول أمامهم". رثى شار رامبو بكلمات قاسية ومؤثرة (تذكّرنا بما خاطب به محمد الماغوط بدر شاكر السيّاب ذات قصيدة حين قال له: "تشبّث بموتك أيها المغفّل")، ومما قاله في رامبو:
"حسناً فعلت، إذ رحلت، ارثور رامبو! فسنيّك تستعصي على الصداقة، وعلى سوء الطويّة، وعلى حماقة شعراء باريس، كذلك على طنين النحل العقيم لعائلتك شبه المجنونة... حسناً فعلت، إذ بعثرتهم جميعاً في رياح الشواطئ البعيدة، إذ رميتهم تحت سكين مقصلتهم المبكرة. حسناً فعلت إذ هجرت شارع الكسالى، ومواخير الشعر الرديء من أجل جحيم الحيوانات، من أجل تجارة المحتاجين وتحية البسطاء".
عندما ماتت العواصف
رينيه شار، الذي مال دائماً إلى الهامش البعيد عن الضجيج، والذي يتيح للمرء الحفاظ على نقائه، لم يعتبر الزمن عدوّاً. لذلك ربما لم يزعجه التقدّم في العمر، بل راح يراقب تحوّلات وجهه موثّقاً صداقته مع المرآة، على العكس من بورخيس الذي كان يخشاها. وعندما نظر يوماً إلى صورته المنعكسة عبرها، خاطب نفسه: "يبدو إن فيليب سوليرز سيقول إن وجهي أصبح يشبه وجه مجرم!"، مبدياً "ارتياحه" الى الملامح "الشيطانية" التي ظهّرتها السنون على وجهه. شار الذي كان "شيطاناً" كريماً ووفياً، قال يوماً لحبيبته التي غالباً ما دعاها "ma pensée":
"مرّت الأعوام. ماتت العواصف. رحل العالم. وكان يؤلمني الإحساس أن قلبك حقاً لم يعد يراني. كنت أحبك. أنا الذي لا وجه لي، الفارغ من أي سعادة. كنت أحبك، متغيراً في كل شيء، وفياً لك".
بالفعل، المغفّل تشبّث بموته!
(النهار)
26 كانون الثاني 2007
***
"مرّت السنوات. انقرضت العواصف. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني الشعور أنّ قلبكِ لم يعد ينتبه إليّ. كنت أحبكِ. وأنا غائبُ الوجه، خالٍ من الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ."
رينه شار (من قصيدة "مآثر" explois)*
"أحاول أن أرمّم فؤادي بكسر من النجوم، أحاول أن أغلق منافذ وقتي، ألبس غيمتك، أزر عليّ المطر، أخرج جنحي، استلم الشروق بيد والغروب بيد، وأفرح ملء الجهات."
رعد عبد القادر (من "نص في الحب")*
الحب ...
من أين تأتي فتنته وهيمنته طالما أن الشاعر الذي يعذّبه الجمال يؤلمه الحب، ويزاوج مرة واحدة بين وحدة انفعالاته مع المحبوبة والطابع الفظّ لمصيره؟
الحب...
من أين تأتي إشراقاته الجسدية وكلماته، من أين تأتي إثارته وتأثيراته، من أين تأتي لعنته وانحرافاته، من أين يأتي قبوله والرضوخ لسلطانه؟ الحبّ هو سيد كيوبيد كما سمّاه بيروان Berown في قصيدة "جهد الحب مضاعاً": صاحب السلطان... الشماس الحقيقي للتنهدة الفكهة... الشرطي في العسس... سيد الأسلحة المطوية... الملك المكرّس للتنهدات والأنات... مولى المتسكعين والساخطين... الإمبراطور الأوحد والجنرال العظيم للمنجمين المسرعين..."وليكن الشاعر عريف ميدانه الذي يرتدي إشارته كطوق الحمام الضاحك."
ولكن من أين تأتينا نصوص الحب؟ من أين تتسرب إلى خيالنا ولغتنا ومعانينا؟ من أين تأتي لغتها الموهوبة وكلماتها؟ من أين تأتينا انفعالاتها وفصاحتها بينما الحبّ هو الذي يخرس ويصمت ويذلّ ويبيد ويغلّ ويفني كما يقول بارت في مقاطع من خطاب عاشق؟ إنها تأتينا، ربما، من طغيان الحبّ على ضمير الشاعر. تأتينا من ترف العاشق، ومغازلاته ومغامراته. تأتينا على الدوام من نزاع خالد ومعذّب لشاعر فرض بكل قوة معرفته الدنيوية النيرة بكل ما فيها من شعبي وزهدي وهوسي ومفكك على كل ما هو متعالٍ وسري ومقدّس، بلغة أزيائية حاضرة، بلغة كورتوازية متأنقة، شعبية، اصطناعية، لياقية، سحرية.
نص الحب لدى رينه شار، نص طالع من الجسد وترفه، من هوسه وحنينه، من شبقه ورغباته، من غموضه واضطرابه، من شهوته وانتصابه. هو نص يصنع من الحب إليغوريا الحب، ومن الكلمات واقعة للحب طالعة من فجر الحب وغروبه، من ليله ونهاره، من وجوده وعدمه. هو نص من خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها.
نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينه شار، نص متأنق يستمر بقوانينه الخفية المضطربة، ويشكّل نبذاً مستمراً لكل حياتنا الرسمية، وضغطاً على كل اقتصاد في فتنتنا الجامدة. هو نص يتراءى وراء حجاب اللغة الثقيل، وكأنه صورة عظمى لفوضى حياتنا واضطرابها، صورة بكر لأشدّ ما في حياتنا من إظلام وخذلان وتعقيد.
نص الحبّ لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحبّ لدى رينه شار، نص يؤمّن من خلال فوضى أخلاقنا وعاداتنا نوعاً من التجميل الغامض لكل ما في حياتنا من خيبة، وميل غريزي إلى الشقاء، ويكشف في الوقت نفسه عن المثل العظيمة التي لا تكون إلا في تدمير فتنتنا، وإلا في هذا الوهم الذي له هذا السلطان كله غير القابل للإنكار، والذي يتحوّل بعد سوء الإستعمال إلى قواعد للسلوك مشكّلاً وفق تحديد غامض أسطورة شخصية لكل واحد منا.
***
"كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين."
رينه شار (من قصيدة "مآثر")
أنت حبي من سنوات
دوختي إزاء انتظارك
الشيء الذي لا يشيخ ولا يبرد.
رينه شار (من قصيدة "بتريسيا تيري" Patricia Terry )
تعلّق نانسي كلاين بيور في كتابها "التنوير في شعر رينه شار": إن الكسوف معقوب على الدوام بالعودة الأبدية، وهكذا حين ينهي الشاعر قصيدته الخاصة فإنه لا يستنفد الشعر.
يقرّب رينه شار الحب من الحدس، من الصيف الذي يغرّد، من هذا اللّهب الحيِّ الذي يحلّق فينا ويطلع منا، من الأمواج العاتية التي تضع أجسادنا في استعارة شعرية جديدة، من زمن الحب الذي يبحر فينا كما لو كان طبيعة مبيدة وتائهة، تحملنا وتقدمنا من زمن خالد ومشتعل، إلى زمن يبرق ويصعد إلى الأعلى، إلى زمن يجعل من الحب ضياء أنقى من النور القادم من الأعلى، إلى زمن يحلّق فينا، ويجعلنا حيوانات طائرة كما قال ألبير بيغان Albert Béguin في كتابه "النفس الرومانتيكية والحلم".
من أين نحصل على الحب إذن؟ أَمِنَ المآثر الباهرة التي يصنعها الجسد؟ أَمِن التأمل الذي لا ينضب في وجه المرأة؟ أَمِن الرغبة الكاسحة بشعرنة جسد المرأة والذوبان فيه؟ أَمِن رؤية الوجود والتفكير فيه؟ أَمِن تأمله وتفسيره وتأويله؟ أمن حكاية عن الحب صنعتها المعرفة الشعرية، واللغة المتعالية، والخيال الخلاّق؟
رينه شار مثل رعد عبد القادر، كلاهما يطرح الوظيفة الأدائية للشعر كقوة براطيقية، وكحلم ميتافيزيقي متسام، ويصبح الحب إليغوريا عظيمة، وجسد المرأة يمنحنا معنى جديداً، أعظم من المعنى الذي يطرحه الفيلسوف والحكيم، والأخلاقي، والمبشّر.
شعر الحبّ هو النبض العاطفي الذي يتجلّى في النص ويسميه بارت بمطاردة الخيال. فالعاشق السعيد ليس في حاجة إلى الكتابة، "إنه عاشق لأنه يبتكر المعنى ..الحب أخرس، الشعر وحده يجعله ينطق."
***
اللغة في نصوص الحب اعتراض مثيولوجي على اللغة ذاتها. هي المدخل السحري إلى عالم إيروس العظيم، وهي الإيماءات الإحتفالية التي تتحوّل إلى علامات. لغة الحب لغة ملتهبة، ونصوص الحب تحتوي على الدوام على صور ملتهبة يحتّمها توهّج النفس واشتعال الجسد. إنها استعارات يصعب تحديدها وتبينها، إلا في وصفها موضوعاً للحلم. نصوص الحب هي انفتاح على الآخر؛ المرأة، وإدراكها ضمن حكاية شعرية، وبنوع من العقلانية والخيال الخلاّق. هي مزاوجة بين الأحلام المستعادة ولذة النص، لا تفضي إلى لحظة صفاء خالص فحسب، إنما إلى لحظة من لحظات التأمل النقي. إنها نظرة عميقة إلى جسد المرأة ووجودها، ورغبة كامنة في إضفاء معنى على العالم، وعودة إلى ينبوع الحياة، إلى نار البدائية التي خلقت العالم، إلى النفس الشاعرة والحالمة التي تبتدع العالم. المرأة التي نحلم بها هي المرأة الموجودة كما نحلم بها، الشعر وحده يجعل من المرأة المحلومة امرأة موجودة.
***
"أخبر نفسي مرة أخرى ما عرفته من قديم،
الجمال المحطّم بالغائط والكسر،
أنت حبي وأنا محطّ رغبتك،
الخبز الذي صنعناه في الليالي المحببة،
مثل ملك قديم يتقدّم فاتحاً ذراعيه الإثنتين."
رينه شار (chants de la Balandrane)
قصائد الحب هي نمو للوعي الكوني وتصاعد للغة الحسيّة وهي تلتحم مع كل ما هو جسدي ومترف وثري. هي المظهر الأكثر تعبيراً عن الضياء الذي يشعّ من أجسادنا وروحنا، وطلب الخيال هنا هو كشفٌ وتأسيسٌ لوجودنا في العالم، إذ تعيد الرؤية الشعرية تبصرنا بجسد المرأة وروحها، لا في وصفه أعضاء ودماً ولحماً ومكونات إنما في وصفه شعلة وفكرة وضياء. إنه تقوية للنفس في مواجهة الأشياء والذوبان في المؤنث، وإبعاد للمادة، واستثارة للوعي، وولوج في الكينونة، ودخول إلى الهيولى؛ هيولى الجنس، وهي حالة تتجاوز حالات التجربة المحسوسة، لتصل بنا إلى نطاق الوعي الكوني، إلى عبور صور المادة، والوصول إلى كيمياء الأحلام، إلى عبور اللغة الجامدة والمتخشبة والوصول إلى كيمياء النفس، إلى تجاوز الواقع والحياة في الخيال والأحلام في وصفها خالقة ومؤسسة للواقع والنفس والوجود والكينونة.
***
قصيدة مآثر Explois لرينه شار التي نشرها في ديوان Fureur et mystér "الصخب والغموض" تختلف عن قصيدة "أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص في الحب" التي نشرها رعد عبد القادر عام 1998، حيث تأتي عبارة (نص في الحب) إلحاقاً بسيطاً إلى العنوان، يشي بعدم الإكتمال وبحالة النقص الدائم الذي من خلاله سنتعرض إلى نوع من الإغواء، يجذبنا إلي إضافة شيء ما، وإكمال نقص ما، حيث الحب بعدم اكتماله يحرّك عادة فكرة المدونة غير المكتملة، فهو غير مكتمل بأسمائه المتعددة، ومن هنا سيكون حضوره كامناً في إخفائه لأصله.
سيكون الواحد في نص رعد عبد القادر هو المتكثر والبنية المعادة المكررة التي تنفلت من سلطة الوعي وإطلاقها، وستكون عملية التحديد في التكرار هي انفصال عن إرادة القول الأصلية، وتحرر من كل سياق ملزم، ولذا نجد الواحد في الحب يعمل داخل النص من خلال تعدده ووهمه الذي ينسج خيوط النص ويشكلها، وهو وهم إضافي طالما يمكن تبديده من خلال توحيده، فهو لا يمدنا من خلال تكراره إلا بظل زائف للواحد، فالحب هو السرير الذي يتقاطع فوقه آلاف من العشاق، إنه النص- الكفن لدى جاك دريدا الذي يتقاطع عليه آلاف الأموات القادمين من أماكن متعددة. إنه نسيج من الإختلافات والتعارضات المتلاحقة في صورة خنثية أو هيتروجينية، لذا فإنه يفتقر لهويته الخاصة.
***
ينفتح الحب في نص رعد عبد القادر على خارج الحب. هذا الانفتاح هو الذي يشكل سيرورة النص اللامتناهية، حيث تمر الأسماء والصفات واحدة تلو الأخرى من خلال الغموض الذي يشكل الأصل الخالص للحب، والذي ينأى عن مصنف كامل في الأخلاق، ينأى عن نفسه، فيما يعيد للذاكرة بعض هذا الإستخدام الفذّ للبديهيات والتعبير عنها بشكل ظاهر. إنه يتجاوز الخطر المستحيل والصريح في تعدد المطلق من خلال العلاقات التي يستحيل دفنها. ولأنه واحد بأسمائه فلن يكون هذا التصريح الغامض أو الإقرار بغموضه إلا نوع من ارتباط الحب بالموت، أو الاستسلام الكامل، استسلامنا نحن بكل قوانا إلى الدمار.
فأي جمال أخّاذ حين نقرأ:
يسوسن الحجر
وينرجس الزمن،
ويحشو غليونه
بالفراشات.
هذه الإستعارات هي محاولة لإقامة نوع من التوازي بين القيّم المستقلة للشكل وشعرية المعنى، فالإستعمال الغائي للغة في وصفها وسيلة اتصال ستبطلها القيمة المستقلة للأصوات والعناصر الصرفية والجمالية فيها، وسيحاول النص أن يجد من خلال الحب نوعاً من التعادل بين الداخل والخارج، الغاية والوسيلة، الصياغة والمماثلة، وستكون الظواهر الألسنية محسوسة بتراكيبها، لكن هذا التمظهر التلفظي هو المظهر الدلالي ذاته، وستكون الكلمات من خلال انتظامها، واسطة لمنح الحب غاية أكبر من غاياتها الوظيفية والتعريفية، وستتجه اللغة الشعرية من الطابع الصواتي إلى الطابع الدلالي لا من خلال تعيينها إنما من خلال تنظيمها، لكن هذه الدلالة التي تصل في عبثها إلى أقصاها ستدمّر الإصغاء السلبي للصوت، والمتمركز على الحقيقة من خلال كتابة تشكّل من بين ما تشكله نوعاً من التصدّع المتواصل للحضور. فالعلامة التي تشكّل حضوراً لشيء غائب سيبطل عملها وسيكون استخدام الثنائيات المتراتبة نوعاً من الإختلاف المؤجل الذي يدمّر المعنى المتراكز في النص والمتعالي، ولن يكون الحب إلا كتابة عصيّة فاقدة لمركزها. سيكون نوعاً من الكولاج، تلقيحاً دخيلاً وطارئاً، وسيتحول النص من خلال سطوعه وتوهجه إلى جسد مقطع، ثم سيندفع بكل قوة لتدمير نفسه.
***
أن نتقبّل (نصاً في الحب)، نصاً من (خلاصة العطر وعدم الكنوز) فهذا يعني أننا نتقبّل نوعاً من الإنكار لكل ما في قواعدنا وأخلاقنا الرسمية من حضور، وقد يسمح لنا هذا الإنكار ذاته ان نتقبّل محتوى الحب الخفي بالقدر الذي نرغب فيه بتهديد العقل، أو تهديد الوضوح التام. فلماذا يتحوّل الحب إلى عائق للتوحد الكامل؟
أحاول أن أرمم فؤادي
بكسر من النجوم
أحاول أن أغلق منافذ وقتي
ألبس غيمتك، أزر عليّ المطر
اخرج جنحي
استلم الشروق بيد والغروب بيد
وأفرح ملء الجهات.
لماذا تتحوّل هذه الصورة الطقسية للبلاغة إلى نوع من التعلّق الفاضح بالتدمير؟ هذا التعلّق الظاهر والكامن في كل واحد منا والذي نطلق عليه اليوم تسمية "التصعيد".
لماذا لا يكون الحب في وصفه تدميراً بكل قوة لتعاليه، نوعاً من التعويض الضروري عن العنف الفوضوي الذي يسود حياتنا؟
***
لقد أراد كل من رينه شار ورعد عبد القادر كتابة واقعة الحب في الشعر مثلما هي كتابة الشعر في الحب، فكلاهما أراد رواية إليغوريا الحب عبر اللغة المحسوسة والمتجسدة، وبما أن الحب لا تكتبه إلا الأجساد، عبر مواقعة الجسد للجسد واللحم للحم والروح للروح، مواقعة ذوبان وانغمار وتيهان وضياع، فإن المزاوجة بين اللغة والجسد تتحقق، حيث أن اللغة تعثر على الجسد الضائع في الحبّ، وتجعله تجربة لوجود واكتمال، تجربة هداية وعثور، تجربة وصول وافتتان.
إن واقعة الحب في شعر رينه شار وشعر رعد عبد القادر هي واقعة الشعر في الحب، فكلاهما تأسيس انطولوجي للخيال، وتأسيس محسوس لكل ما هو أثيري ومتطاير وعابر وزائل ومؤقت. وواقعة الحب هي صورة ارتعاشة جسدين عند التحامهما وهما عند قمة تألقهما، والحبّ فاعل مُدْرَك وعالم مُدْرِك معا، الحب شعر يؤسس هذا العالم، ويحده بوجوده وكينونته. إنه الخطر الأقصى الذي يهددنا، طريق الإنكشاف والتجرّد الذي يحرّضنا لمعرفة كينونتنا ووجودنا، إنه إدراك لفتنتنا وخوف منها، إنه رعب وسلطة وخطر وتدمير، إنه طريق انفضاحنا وانكشافنا، فما أن نضع أيدينا عليه حتى نتعرى تماماً، إنه تقدمنا باستمرار نحو إمكانيات وجودنا، إنه تطوير لرغباتنا ولتقشفنا، إنه إمكانية خفية رغم ظاهرها، إنه تحجّبنا واختفاؤنا رغم ظهورنا، انه إدراك لانتمائنا ومعرفة لهويتنا وماهيتنا الخاصة. بيد أن هذه المعرفة هي السبيل الخطر الذي يعرّض مصيرنا للتهديد المستمر، وهي التي تجعلنا نقف بين إمكانيتين تعرّضان مصيرنا للخطر الثابت والدائم: إمكانية الرفض لإبتعاد الحبّ وتعاليه وسموه وسرّه وغموضه، وهذا يعني الموت، أو الإندفاع بكل قوة لتحديد ظاهره وجوهره وهذا يعني الهبوط إلى الهاوية. وحده الشعر يدفع بنا ويحرّضنا على ممارسة المعرفة ونحن نستسلم لندائه الغامض، وحده يحرضنا على ملامسة الجوهر والظاهر من الأشياء، وحده يدفع بنا لتلقي نداء الهاوية والتعرض لهذا التهديد المستمر، وحده يعرّضنا للإنكشاف وهو العصي على الانكشاف، وحده الذي يحرّض ويستفز ويتوقف ويصمت.
***
حينما تكون (سيدة العالم) هي (الفوق) و(التحت) و(العمق) و(المناخات) و(الأبخرة) في قصيدة رعد عبد القادر، فإنها تتحوّل إلى رحلة في المستحيل، رحلة في الإمتداد المسطّح للعاطفة التي لا يحدّها فكر ولا حد ولا تحصيل. هي نهاية الإعتراف وما يختتم الجسد به لغة العشق، لغة الإفتتان عندما تصل الكلمات إلى حدها الأخير. أما لدى رينه شار فهي مأثرة الجسد الذي يغرّد البحر على صخرته، ويغرّد الحب على انفراد في صمت وودّ وحرية حزينة. سيدة العالم عند رعد عبد القادر هي إشعاع الكائن المشتهى، سحر العيون وجمال الجسم المنير كما أدركها رولان بارت في كتابه "خطاب عاشق"، فالإنبهار يمنع الرؤية والقول، لكونه مرصوداً للذكرى لا للتحليل، كما قال راستينياك من مقبرة لاشيز جاء دورنا الآن وأنت رائعة. العاشق في قصيدة رعد عبد القادر هو الذي يدرك الآخر بكليته، وهذه الكلية متضمنة لبقية لا يمكن التصريح بها، أما لدى رينه شار، فإنه العالم الذي يغيب ويحلّ الجسد مكانه، ليكون إحياء لكل ما هو معطّل في مسار الطبيعة، ليكون الطبيعة التي تلزم العاشق بشكل طارئ وتصطاده في صيفها وليلها وبحرها وموجها. إنه انجراف في الجرح، وفي الخوف من الجرح والهجران.
"كان الصيف يغرّد على صخرته عندما ظهرتِ لي، الصيف كان يغرّد على انفراد منا نحن اللذين كنا صمتاً، ودّاً، حريةً حزينة، بحراً أكثر من البحر الذي كانت مجرفته الطويلة الزرقاء تتسلّى عند أقدامنا."
***
سيدة الحب في شعر رعد عبد القادر هي سيدة الحب بالفعل، فكيف يمكننا أن نكسو العالم الصوفي بهذا الرداء الدنيوي، وكيف يكون التوقّد المهلك والمميت اعترافاً مقنعاً بالحب؟ ولذا فإننا نجد النص لا يتوقف إلا بالحركة:
أنا بذرة نارك الشريفة،
أنا وردتك بالفعل،
وفراشتك بالقوة،
حركة في القلب
وشقشقة عندليب.
في الواقع ثمة نظامان أو بنيتان، واحدة اجتماعية أخلاقية تتمركز حول الضبط والتقنين العاطفي، وأخرى بنية لإنفلات غريزي مدمّر. الأولى خارجية، عارضة، خاضعة لجوهر إمكانية ازدواجها وتضعيفها وتكرارها الذي لا ينتهي، والثانية داخلية، تواصل حضورها في الذات في لحظة حضور الذات وتلاشيها. في نص للحب ثمة إرث للحب، ثمة لياقة ونظام وأخلاق تنتصر لحقوق الحب التي لا حصر لها، ثمة قدر للهوى لا يخطئ، يتعالى على النزعات المذنبة، وعلى الفوضى والمُثُل التي تدرك استحالتها فتتحوّل إلى وصف في غاية الدقّة وإلى حيل لاشعورية بآلاف من الكلمات.
هذا الحب ــ الفكر هو الذي يقلب نزعات الفكر الهدّامة ويتحوّل إلى أحلام لذيذة.
* "أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص في الحبّ" نص طويل نشره الشاعر العراقي الراحل رعد عبد القادر في مجلة "الأديب المعاصر" خريف عام 1998، ثم صدر عن دار المدى ضمن مجموعته الكاملة.
* "مآثر" Explois قصيدة منشورة في "ديوان صخب وغموض" fureur et mystér المنشور عام 1948 عن دار غاليمار.
(نُشرت هذه المقالة في صحيفة "المدى")
* * *
تعزية
في شوارع المدينة هناك حبي
لا يهمّ أين يتجه في الوقت المقسوم
لم يعد حبي،
كلّ فرد يستطيع التحدّث إليه
لا يتذكّر، مَنْ أحبه بإخلاص.
يبحث عن صنوّه في أمنية النظرات
الفضاء الذي يجوبه، وفائي.
يرسم الأمل ويصرفه بخفّة
إنه متفوّق دون أيّ جهد منه.
أحيا في أعماقه كحطامٍ فرحٍ.
***
مخرجي، وحدتي كنزي.
في الهاجرة الكبرى يدوّن اندفاعي، حريتي تحفره.
في شوارع المدينة هناك حبي،
لا يهمّ أين يتجه في الوقت المقسوم
لم يعد حبي،
كل فرد يستطيع التحدّث إليه
لا يتذكّر، مَنْ أحبه بإخلاص،
ومَنْ يومض له من بعيد لئلا يقع.
أسكن الألم
لا تهجر عناية التحكّم في قلبك إلى حنان الخريف القريب الذي يطبع
هيئته الوديعة وكربه اللطيف.
العين مبكرة النضج، تنثني
المعاناة تعرف قليلاً من الكلمات.
تفضّل أن ترقد بلا عبء، تحلم بالغد وفراشك خفيف،
تحلم أنّ مسكنك لم يعد بنوافذ.
أنت صبور في وقوفك وسط الرياح؛
الرياح التي تجوب عاماً كاملاً في ليلة واحدة.
آخرون يغنون مزيجاً شجياً،
الأجساد التي لا تتجسّد أكثر من عرّافة الساعة الرملية.
سوف تقود الإمتنان المتكرر،
متأخراً، سوف يماثلونك ببعض العمالقة المتفسّخين، يا سيّد المستحيل.
ومع ذلك،
لم تفعل شيئاً سوى مضاعفة ثقل ليلك.
عدت إلى الصيد إلى جانب أسوار المدينة، وقتَ القيظ دون صيف.
أنت حادّ مع حبك خلال مؤامرة تثير الجنون.
احلم في المسكن الكامل بأنك لن تراه.
متى حصاد البحر؟
غير أنك فقأت عينَي الأسد.
اعتقدتَ أنك اجتزت الجمال أعلى الخزامى السوداء ...
مَنْ رفعك مرة أخرى إلى الأعلى قليلاً، دون أن يقنعك؟
ليس هناك مستقر خالص.
***
حين قرأت رينه شار للمرة الأولى، أحسست أنّ شعره بكل ما فيه من عنف، إنما هو تمرين ضدّ العنف. شعره «الجرح الأقرب إلى الشمس» بحسب كلماته، الأقرب إلى جوهر الشعر، يندفع من أعماق الظلمة وأقاصي المخيّلة بروح عاصفة ضاريّة تصبو إلى السكون الأمثل: هناك في الذروة، حيث تزول الأضداد، والشعر يقبض على نفسه في تجليات خالصة تشعّ بها اللغة من قلب العماء. إنه شعر يضجّ بالحياة، بمكونات الطبيعة وأحوالها، بالحبّ، بالرغبة، همّه الدفاع عن الإنسان وأرضه بعيداً من أية مساومة، والسعي إلى الجمال الخالص، وإيجاد أقصى حدّ ممكن من الهارمونية بين عناصر الوجود بكل تناقضاتها، في وقت تتراوح فيه وسيلته إلى ذلك بين الحكمة والعنف، أو ربما بين ما يمكن تسميته بالحكمة العنيفة والعنف الحكيم. ولا غرابة في ذلك، فشار إبن الريف في النهاية، ولا بدّ أنه يمتلك طباع أهله الحادّة، الفاقعة، العارية، وميلهم إلى التعبير الثاقب والمقتضب باللجوء غالباً إلى الأمثال والمجاز، ولا بدّ أنّ الوزن الذي يقيمه للقيم الأخلاقية والإنسانية وللطبيعة من حوله، يستثير عواطفه بطريقة تجعل معها وسيلته التعبيرية حادّة المفاعيل. فهو صاعق في حكمته، جامح في رغبته، مُسْكر في عذوبته، شرس في الذود عن معتقداته، مهيب في خياله، حارق في حبّه...
ابتعاده عن الحياة المدينية واحتفاؤه الدائم في كتاباته بالطبيعة، وبمكانه الأول، لم يضيّقا أفق أشعاره، فهو حمّل الأمكنة والكائنات أبعاداً رمزية للتعبير عن قضايا إنسانية كبرى كالعدالة والظلم، والخير والشرّ (بالمفهوم الأخلاقي لا الديني)، والحب والحرب. وهو إن اتّخذ من عناصر الواقع المحلّي رموزاً للإشارة إلى ما هو كوني، فقد عمد أحياناً إلى العكس، بأن رأى إلى الواقع بعين الكون أو بعين ملكوت الشعر: «في المرآة الأمينة للأقمار والشموس، كان العالم اليومي للسَجْن، للرقابة، للنفي، للتعذيب، لإحراق جثث الموتى، ينمو باستمرار إلى هرم».
تكاد الكتابة بالنسبة إلى شار أن تكون دينه؛ يقول في إحدى قصائد مجموعته «الليل الطلسمي» 1972 ما معناه: «البشر أبناء لا أحد، وموعودون بلا شيء، إلاّ بالمقدار الذي تستطيع فيه الكتابة أن تكون مخلّصهم». القصيدة بحسب تعريف شار هي محاولة للتعبير عن الرغبة المتقلّبة وتجسيدها من الأعماق في شكل فاعل. وفي كلام آخر، هي تحقيق لما تتوق إليه الرغبة للتعبير عن نفسها وتعجز عنه. لكن الأبهى في ما يذهب إليه شار في تعريفه هذا، اعتباره أن القصيدة فيما هي إشباع للرغبة، فإنها تظلّ رغبة، بمعنى أن تحققها لا يفقدنا الرغبة فيها مجدداً على غرار ما نشعره إزاء أمور كثيرة تتحقق في حياتنا، وهي بهذا تبدو أقرب إلى فعل الحبّ، الروحي والجسدي، الذي على الرغم من تحققه، يبقى حاجة مطلقة ولانهائية لكل الكائنات الحيّة. وسنلاحظ، العديد من الخصائص الشعرية التي وسمت ديوانه «المطرقة بلا معلّم»؛ الديوان الذي سجّل به انطلاقته الفعلية، ستطبع معظم أعماله اللاحقة، وأهمّها: الإيمان الراسخ بالحياة، التمسّك القوي بالقيم الأخلاقية (بعيداً من أي وعظ ديني) حتى ليبدو بين الشعر والأخلاق ما يجعل واحدهما أساساً للآخر، السعي إلى بناء مستقبل خالٍ من الكراهية والأسى، الرؤية إلى ما تضمّه الحياة من متناقضات في كونها مصدراً للجمال، وضرورة للخلق الشعري، الإستخدام المكثّف للرمز والإستعارة، التركيز على وصف الرغبة، اعتماد الكثافة في التعبير على حساب التداعي، التشديد على حبّ الفرد. ولعلّ الخاصيّة الأخيرة هي الأهم في نظر شار، إذ إلى جانب ما تشكّله فكرة الحبّ المطلق لمعنى الوجود، فهو كان يرى في حبّ الفرد للفرد، وفي حبّ الشاعر والفنان للفرد، العلاج الوحيد ليوطوبيات القرن العشرين الدموية، إذ لا بدّ للفن والشعر من أن يكونا عنصرين فاعلين ضدّ كل مظاهر الإضطهاد واللإنسانية في زمننا المعاصر. نقرأ في قصيدته «الخليلة»: «قوة الحبّ تجعل حدّ الموت غير ماضٍ إلى حين»... فما بالنا بقوة الحبّ والشعر مجتمعتين!
بين الفنّ والموت
لطالما أغوت شار فكرة الربط بين المتناقضات، فأصول الشعر في نظره تتصل بمسألتَي العنف والصراع في الوجود. أيضاً هو ربط بين الفن والموت، وهي فكرة قديمة - جديدة على غرار الربط بين الحبّ والموت منذ أورفيوس وحتى نوفاليس وغوته وستاندال وبودلير وغيرهم. قصيدة شار تعكس أيضاً حال التناقض التي يرى من خلالها إلى الإنسان؛ فالهزيمة لديه تولّد الطموح، والمعاناة تؤدي إلى مزيد من الثبات والصمود. والإنسان في قصائده هو في آن، مضطهَد وشديد الضراوة، ضعيف ومنتصر، صاخب وأخرس، حاسم ومتردّد، ملتزم ومراوغ. بمعنى آخر تجسّد قصائده الواقع الإنساني من خلال ظروف الإضطهاد والقمع الطاغية، لكن أيضاً المشرّعة على آمال لا تموت، وقدرات متجددة، واحتمالات لانهائية. من هذا المنطلق، ليس سهلاً تناول أشعار شار، لكونها انقضاضاً على الحياة وفي الوقت عينه معانقة وانعاشاً لها. ونستطيع تلمّس نزعتَي التشاؤم والتفاؤل فيها معاً، فهي تضمّ تلك الرؤية الأبوكاليتية لنهاية الإنسان، لكن المصحوبة دوماً بعصيان أبدي ضدّ هذا القدر. هذا العصيان الذي شغل كتابات أدباء فرنسيين كبار أمثال مالرو وسانت أكزوبري وكامو، لم يكن العصب الحيوي لأشعار شار فحسب، بل هو كان في نظر شار الشعر نفسه، أَجاءَ كتابةً أم ممارسة. تجربته كمقاتل ضدّ الجيش الألماني مثلاً، كانت بالنسبة إليه ضرباً من الشعر أيضاً، إذ أنه لم يكن ليفصل بين فعل الإنسان على الأرض وتحدّيه لقدره، وبين تأملاته في هذا القدر وأحاسيسه تجاهه. ولطالما شعرت وأنا أقرأ شار بأن شعره فيه من النبض ما يجسّد التجربة الحيّة بلحمها ودمها، بثقلها وأبعادها، بطزاجتها، بغموضها، بعذوبتها، بعنفها... ولطالما رأيت أنه إذا كان شعره حياةً، فلا بدّ أنّ حياته شعرٌ . لقد استطاع هذا الشاعر بطريقة عجيبة أن يعيش الحياة بشاعرية ما يكتبه، وأن يكتب الشعر بضراوة ما يعيشه. كل كلمة كان ينتقيها شار لقصيدته لم تكن لتقلّ أهمية عن أي قرار يتّخذه في حياته، لكأنّ القصيدة له كانت حياة داخل الحياة، أو لعلّ الحياة له هي التي كانت قصيدة داخل القصيدة.
في السياسة كان شار رجلاً مبدئياً فاعلاً وبلا ادّعاء. انفصاله عن السورياليين واليسار السياسي لم يمنعه خلال الحرب العالمية الثانية من مناصرة رجال المقاومة من الشيوعيين الفرنسيين، ومن تغليب حسّه الوطني على حسّه الأيديولوجي. وعدا عن مشاركته الفاعلة في المقاومة الفرنسية ضدّ النازيين، فإنّ ليس مثله شاعر استطاع القبض على روحية تلك المقاومة بالقوة والنبرة والإحساس، ولو أنّ غيره من الشعراء السورياليين أمثال أراغون وإيلوار، كانوا احتكروا نجومية تلك المرحلة بقصائدهم الوطنية، لما كان معروفاً عن مواقفهم السياسية وصراعهم ضدّ الفاشية منذ الثلاثينات وحتى التحرير. والمعروف أنّ شار لم ترق له يوماً فكرة المزج بين الفن والسياسة التي نادى بها بريتون. التعبير عن السياسي والأيديولوجي والتاريخي في أشعاره جاء بأسلوب شديد الرمزية. وعلى رغم القضايا الكبرى التي اضطلعت بها أشعاره، فإنّ شعره لم يكن يوماً شعراً ملتزماً، بالمعنى الذي ناصره سارتر مثلاً، إلا إذا اعتبرنا الحياة نفسها قضية، والدفاع عنها التزاماً.
تطلُّعُ شار إلى مكونات الوجود من منطلق العلاقات القائمة في ما بينها، انعكس على انتاجه الشعري في علاقته مع الفنون الأخرى، فجاءت بعض أعماله على مدى تجربته الشعرية مصحوبة إما بصور فوتوغرافية أو لوحات ورسومات لفنانين كبار أمثال: دالي، كاندينسكي، براك، ميرو، نيكولاس دي ستال، فان غوغ وغيرهم. إلى ذلك، سنجد أن اهتمامات شار بعد الحرب، ركّزت إلى جانب الكتابة الشعرية والمسرحية، على الكتابة عن بعض الفلاسفة والفنانين والكتاب، من بينهم: جياكوميتي، ميرو، ايلوار، كامو، رامبو، هيراقليط، آرتو... وقد جاءت كتابته هذه بأسلوب بالغ العمق والشاعرية استحقت أحياناً اهتمام النقد بالقدر الذي استحقته بعض الأعمال التي كتب عنها وإن ليس بالقدر الذي استحقته أشعاره.
كان شار شاعراً ضدّ الجمود، مؤمناً بتحوّل الحياة الدائم، وهو لم يتوقف على مدى تجربته الشعرية عن الدفاع عن الضائع والمنسي، والإحتفاء بالآتي، وعن تناول القضايا المتعلقة بالإنسان والطبيعة في ظلّ كل ما يطرأ عليها من متغيرات، باحثاً عن حلول وبدائل حتى ولو كانت الجنون عينه أو اللامعقول. لكن ما يدهشنا فعلاً في أشعاره ويطرح لدينا تساؤلاً محيّراً، هو كيف يمكن لميزة مثل الشفافية أو الصفاء أن تتمخض عن شعر تحريضي إلى هذه الدرجة، استفزازي، وفيه من المتناقضات ما يجعله أرضاً خصبة لكل أشكال القسوة؟ ولا شك، هذا تساؤل من بين العديد من التساؤلات التي ستظلّ تُثار حول تجربة هذا الشاعر الإشكالي، الصعب، والذي لم تحْل صعوبته دون اكتسابه مثل هذه الشهرة الواسعة. وهنا ثمة ما يجرّنا إلى طرح تساؤل آخر: تُرى ما الذي كان يهمّ شار أكثر، أن يشتهر أم أن يُفهم؟!
إنْ يسبق الشاعر زمانه، فالحاجة إلى إعادة قراءته من خلال أدوات وتقنيات نقدية جديدة وأكثر تطوراً، وبحساسيات مختلفة، تبقى ضرورية. وما الإحتفاء اليوم بذكرى مرور مئة عام على مولد شار، وغداً ربما بذكرى مرور مئة عام على مماته، إلاّ مناسبة رمزية للإحتفاء بشعره، ولإعادة الإحاطة بتجربته الفريدة، الملغزة، التي يبدو من الصعب اتّباع أثرها، وربطها بخصائص وتعريفات نهائية، أو إحالتها على تقنيات واضحة، فهي تبدو كأنها آتية من مكان أبعد من أن نفقهه أو نتذكّره، لكأنها صنوّ لقلق الشاعر نفسه، الغامض والميتافيزيقي المصدر، ومع ذلك، قد لا يكون مستعصياً إلى هذه الدرجة فهم شاعر مثل شار، ولعلّ دليلنا إلى قلبه مثلاً في ألا ننشغل بحبّه عن أن نحبّ مثله.
الحياة - 25/03/07
إقرأ أيضاً: