المغمور بالدَّفْع
عندما يغلقُ القسمُ الذي نواصل ملازمته ونحن في أواخر أعمارنا، تغمرنا الظلمة، بمَ يمكن أن يستضيءَ المغمورُ بالدمع؟
العابرةُ النادلةُ، التي مرةً ضعيفة تكون ومرة قوية، والتي لا نعرف لحدّ الآن من عيّنها لهذا العمل، تثقب الظل، وتسرعُ إلى فاكهة متأخرة.
الذي يجعل من وجهنا ذا وضوح: هو أننا نمسك بوجودنا بينما نحن في منتصف الطريق بين المهد المغري والأرض التائهة. بإمكاننا أن نعلمَ بالأحداث القادمة لكن دون أن نؤرّخ لوقوعها. نحن لا نحدسها، هي التي ستأتي قبل موعدها.
ما أجملها لحظة تلك التي لم يكن فيها الإنسان على الإطلاق بحاجة إلى حجرة صُوَّان، أو جذوة تشعلُ النار لهُ، بل تلك التي فيها، تنبجس النار على خطاه، فيصيرُ ضياءً أبدياً، وقبساً للتساؤل.
***
انبساطُ تحتَ القشرةِ
في الغصنِ انكسارٌ
منثنياً نحوَهُ بمعونَةِ الريحِ وحدها
دمعيٌّ هوَ النّدى
مسائيٌّ هو الملحُ
على جسدي المائل كنتُ متكئاً وعلى الروح المناوئةِ مثلما نتكئُ على حافةِ نافذة عالية دون أن يكون بمقدورنا التخلص منها، ونحنُ نستمعُ للمتحدثِ. هذا الألم استمرَّ طيلة حياتي.
لقد افتَرَقنا في أعذارنا الألف
غداً لن يكفينا
غداً سيكون كافياً
سيكون مؤلماً هذا الغد
مثلما بالأمس.
أسرِعوا، يجبُ أن نزرعَ، وأسرعوا، يجب أن نطعمَ، ذاك ما به تنادي المشوّهةُ القامةِ، هذه الطبيعةُ، الممتعضة، والمنهكة أيضاً، يجبُ أن أزرعَ؛ الجبينُ المتألّمُ، المجعّدُ، كسبُّورةٍ سوداء لمدرسة القرية.
المفرداتُ في اتحادها الفظّ بالروحِ معرّضةٌ لأعدائها. إطلاق سراح السجين هذا ليس سوى لحظة عابرة.
هلِ السّرُ يعودُ غداً إلى السرِّ؟ يبدو أنّ الذي يكبُرُ يتوحّدُ بضيقٍ أكبرَ لليلةٍ ملهمَةٍ تماماً كما لنهارٍ مُوَشَّى.
أراني ملكاً في الفضائحِ كلّها.
يا ساقَ الشوكةِ الموضوعِ بين الصفحاتِ في مذكّرتي.
الروح عاريةٌ، الذاتُ مغبَّرةٌ.
لقد ذهبت ستال، بدون قدمٍ في الثلجِ كانت تعرفُ أنّ لها قدماً على تربةِ الماءِ، ثمّ لها قدمٌ في مشاقّ الطريق.
أليس الإنسان سوى كيس مخدّةٍ لمجهولٍ سمّيناه في ما بعد بالإله؟ ألسنا نحدسه، بينما لم نلمسه أبداً؟ أليس طاغياً ومتعجرفاً؟
ان لمندلشتام البصيرة التي تنفذ فتقرِّب بين الأقاصي، وتسمي الافعال. ندرك عنده ارتعاشة قشرة الأرض، حمياته المنقسمة، حظ الملهمين الذين يوحدون النار المركزية للإنسان بالرطوبة لمعانيهم المتعدِّدة.
لماذا نغيّر من منحدر الطريق الذي يؤدي من الأسفل الى القمة وليس لدينا الوقت ولا القوة بما يكفينا لكي نقطعه الى آخره؟
الفن يصنعه الاضطهاد، التراجيديا، لكن اجتياح الفرح يخرقهما بانقطاع، ذاك الذي يغرق موقع الفن ثم ينسحب.
لنتخل عن العزم، ولنعد الى العزم. مقياس الزمن؟ الفتيل بين الملامح التي منها نبين ومنها نحتفي مرة اخرى في الخرافة.
الحرية الوحيدة، الحالة الوحيدة التي جربت فيها الحرية دون هوادة، كانت في الشعر الذي بلغت إليه، في دموعه وفي بريق بعض الكائنات الآتيات إليّ من الأقاصي الثلاثة، كائن الحب ضاعفني عدداً.
لدرجة ان منطقة الكتابة صعبة الاجتياح، فإنها عارية أسفل المنحدر، لكنها تعود إليه.
ينبغي في كل لحظة أن تطرد من الذات ما يعكر هذا المنبع، ويمدد العصا والناي اللذين تحبهما العاشقة. فهناك دائما مكان في الأرض، حتى وإن ضاقت بنا الأرض.
أرض خصبة، نعاس فطن ومسرف حتى الدم، إذا كان يرغب في الفرار.
لقد غادرت قدري الآن. وفاضت بي الاشياء. في اللحظة الأكثر قنوطاً رأيت الواجهة المجدورة لنجمة في القناة، قبل الفجر.
إنها المعركة المستمرة نفسها، معركة الجاحدين: كأنما اسم بدون شيء، بينما هناك ينادي الشيء مع الاسم. أهو الغياب الذي يزعج، أنا هذا الغياب الذي لا نراه أبداً مرتين.
لقد تناولني نعاس هادئ تحت شجرة، وحينما أفقت كنت محاطا بالأعداء، السلاح موجه نحو رأسي، الآخر نحو قلبي، وهنا، هل يدرك القلب؟
حين نخيب ظن الآخر فنحن نداويه من ألم لم يكن يفترض ان يلازمه، إننا نحرره. "ستبقى جائما وركبتاك معلقتان على جدار شكك".
أتألم حين أخنق ثم تنخرط في النعاس كالسنبلة.
أرض للضياعات، غير انها لن تستمر للأبد. ينبغي ان نعرف ان الحداد يصبح تقريبا قارا عندما تستنجب الحفلة او تفقد صواريها.
الآن وقد قرفت الشمعة الحياة، السماع يفر الى النوافذ.
ساعة رملية حادة بالشراسة تغرق في زمن قديم سيعود.
وحش في ثنايا وردتي النفلية
لنشتبه في أن القصيدة هي حالة بين ممزوجات الحياة، الوصول الى الألم، الصوت الممتحن، والتقبيل في هذه اللحظة ذاتها. إنها لا تنفصل عن قلبها الحقيقي إلا حينما ملؤها يكتشف قسوتها، فتبدأ المعركة اذاً بين الفراغ والتوحد. في هذا العالم المتراكب، لا يبقى لنا سوى أن نمدح قليلا المشتبه فيها، الوحيدة التي تحتفظ بقوة المفردات الى حد البكاء. جنونها اليافع ذو الأبعاد الاثني عشر يتوهم ظانا انه سيثري أياويمه القادمة على أقل المغامرات هشاشة وسيادة من كائن حي قد عاش الفوضى التي اعتقدناها لا تقاوم. لم تكن إلا أساسية لكنها دون أي أثر للنزوة. من أين جاءت؟ من رزنامة التاريخ المقبولة لا من الرزنامة المتوحدة بالزمن، دون ان نحس بالنزيف.
التعب محسوب على الحيوانات الكريمة، عندما نبدي حساسيتنا لوجودها المحصور بالضيّق.
غثيان بها بعد أحلام مستعجلة. ثم نفس أول للخوف والسعادة.
ما مصير الذئب بعد أن تخلينا عنه طيلة هذه الازمنة؟ انه يصطف إزاء الإنسان حين استخلص ان ليس بمقدوره الخنوع له، على فضاء موته ينفتح القفص اولا، قريبا من مخالبه القلقة.
* "مديح المشبوه فيها"، عنوان الديوان الذي أخذت منه هذه القصائد. هو عبارة عن مجموعة نصوص كتبها الشاعر وسلمها شهر ديسمبر عام 1987 الى مدير غاليمار للنشر كلود غاليمار. بعدها بشهر تمّ نقل الشاعر الى مستشفى في مرسيليا ومن ثم الى فال دي غراس في باريس حيث وافته المنية بعد أزمة قلبية حادة يوم 19 فيفري 1988 ولهذا يعد هذا الديوان الأقرب إلينا زمنيا من كل أعمال الشاعر والأكثر تعبيرا عن تجربة حياته.
(السفير الثقافي)-06/04/2007
نشيد الرفض
(بدايات الرجل الحزبي)
عاد الشاعر لسنوات طويلة الى العدم الذي يشكّله الوالد. لا تنادوه، أنتم من تحبّونه. إذا تهيّأ لكم أن جناح السنونو لم يعد له مرآة على الأرض، إنسوا هذه السعادة. هذا الذي كان يخبز العذاب ليس مرئياً في سباته المائل الى الاحمرار. آه! أيها الجمال وأيتها الحقيقة إجعلاهم كثراً أولئك الذين سيحضرون في فرحة التحرير!
من فم السبد (1)
أيها الاطفال الذين كنتم تثقبون بالزيتون الشمس المغروزة في خشب البحر، أيها الاطفال، مقالع الحنطة، عنكم يحيد الغريب، يحيد عن دمكم المعذّب، يحيد عن هذا الماء الكثير الصفاء، أيها الاطفال ذوو العيون الشبيهة بالطمي، أنتم الاطفال الذين كنتم تجعلون الملح يغنّي في آذانكم، كيف يمكننا أن نقرّر بأن نتوقّف عن الافتتان بصداقتكم؟ السماء التي كنتم تقولون ريشها، المرأة التي كنتم تخذلون رغبتها، الصاعقة جمّدت كل هذا.
عقابٌ! عقابٌ!
أرضٌ متحرّكة، فظيعة، شهيّة وحالة بشريّة غير متجانسة، كلها تتجاذب وتنعت بعضها بعضاً بشكل متبادل. الشعر يأتي من المجموع المنتشي الطالع من النسيج المتموّج لكل هذا.
الشاعر هو إنسان الثبات الأحادي الجهة.
القصيدة تطلع من فرضٍ ذاتي ومن خيار موضوعي. القصيدة جمعية متحرّكة من قيم فريدة وأصيلة وجازمة في العلاقات المعاصرة مع أحدٍ يكون هذا الظرف قد جعله في المرتبة الاولى.
القصيدة هي الحب الذي تحقّق لرغبة ظلّت رغبة.
ألا ان الشعر الذي يسير عارياً وحافياً على قدمين من قصب، على قدمين من حصى، لا يمكن إلغاؤه في أي مكان. أيتها الامرأة، إننا نقبّل الوقت المجنون على فمها، حيث أنها تغنّي ليل الشتاء، جنباً الى جنبٍ مع الجدجد السّمتي، في المخبز الفقير والحزين، تحت لبّ رغيفٍ من نور.
الشاعر لا يغضب من الانطفاء الكريه للموت، بل لأنه يثق بلمسته الخاصة، انه يحوّل كلّ شيء الى صوفٍ مديدٍ.
الكائن الذي نجهله هو كائن لا متناهٍ، ويمكنه، من خلال تدخّله، أن يغيّر قلقنا وعبأنا صباحاً شريانياً.
بين البراءة والمعرفة، بين الحب والعدم، يفلش الشاعر كل يوم صحّته.
من خلال ترجمة نيّته الى فعل ملهم، من خلال قيامه بتبديل دورة من التعب الى شحنةٍ من الانبعاث، يدخل الشاعر واحة البرد عبر كل مسام زجاج الارهاق ويخلق البـــلّورة الموشورية (أو البريسم) هدرة (2) الجهد تــلك، هدرة ما هو رائع، هدرة الصرامة والفيضان، وفي حوزته شفتاك بمثابة الحكمة، ودمي بمثابة مذبحٍ.
منزل الشاعر هو أقلّ المنازل دقة ووضوحاً. لجّة نارٍ حزينةٍ تتعهّد بأن تكون له طاولته من الخشب الابيض.
حيوية الشاعر ليست حيوية العالم الآخر، انما نقطة ألماسيّة راهنة من الحضور الفائق والسامي ومن حجّاج الاعاصير.
عند عتبة الجاذبية، الشاعر كما العنكبوت يعبّد طريقه في السماء. وفي تواريه عن ذاته بعض الشيء، يظهر على الآخرين، في أشعة احتياله الخارق، مرئياً للغاية.
أن تكون شاعراً، يعني أن تكون لديك القابلية لضيق يكون استهلاكه، في خضمّ زوابع مجموع الاشياء الموجودة والمحدس بها، وعند لحظة انتهائها، حافزاً للسعادة.
الشاعر يقلق، بواسطة اسرار لا نستطيع سبرها، شكلَ ينابيعه وصوتها.
الشاعر يوصي: «انحنوا، انحنوا أكثر». لا يخرج دائماً سالماً من صفحته، لكنه على غرار الفقير، يعرف كيف يستغلّ أبدية حبّة الزيتونٍ.
(1) جنس طير يصطاد الحشرات ليلاً
(2) أفعى ذات رؤوس كثيرة (أفعى خرافية)
(السفير الثقافي)
06/04/2007