كان الليل سيأتي في نهاية المطاف ، كان سيأتي حتما، يشخب العتمة من صدره الممتلئ بالحنين، فيما ينطلق الحزن لحوحا ، مثل ذئب أصابه السعار وحيدا في برية مزروعة بالسراب
كيف لا يأتي وأنا لم أر وجه شقيقتي منذ أربعين عاما!
وجه القمر الذي يسقط الطير من السماء
أختي الملكة التي ليس مثلها احد
ينحني لوجنتيها الورد ولابتسامها يرق النسيم
مرتين تهاتفنا اوثلاث متفرقات،مضطرين على امتداد الأربعين، في رحيل الوالدين، كأننا لم نفعل.
باعدت بيننا رغائب عيش ومال والنساء اللواتي لا يقتربن منها و الرجال الذين لا يبتعدون عنى
او ربما إيمان لم يبلغ درجة اليقين بان الدم أثقل من الماء في كل الأحيان!!
لفترة وجيزة كانها الزمان،التقينا أمس في صالة انتظار في مطار بعيد، صدفة غامضة كانها القتل،عرفتها على الفور وعرفتني(دم لا يصير ماء، او ماء لا يصير دما؟)
ورأيت في وجه شقيقتي ما رأت في وجهي،
فانطلقنا نئن بأصوات جرحها الخفوت،نختصر الذكريات بصلاة الغائب ، وميتين منذ عهد الغدر القديم بدونا، نتبادل النظرات خلسة لملامح غادرها الحلم والإشراق، وتسابقت على طرقاتها أفراس الوقت، ذهابا ذهابا،
وأردت ان أضمها إلى صدري دون ان انظر إلى وجهها الذي لم يعد وجه قمر، وأقول لها في حنان أصبحت تشبهين أمنا! ولم أكن اعلم انها ستبعدني عنها بأنصال الوجع نفسه وهى تتاتىء : وأنت.. صرت تشبه أبانا!! وانطلقنا في النحيب الصامت لاعترافات مسنونة انغرست مثل أنياب الذئاب في صدرينا... هي الذي هربت من حامى ذات ليلة متفحمة لتتزوج من تحب فأنكروها كأن الحياة لم تجر في عروقها ذات يوم، وأنا الذي بقيت احمل أوزار غيري طويلا قبل ان أغادر بدوري لأسباب اكثر حمقا و اقل موتا.
كانت طائرتها ستغادر بعد قليل،وكذلك طائرتي، لم نتكلم كثيرا،أريتها أحفادي الستة يطلون باسمين من محفظتي الأثرية التي أهدتها لي ذات زمان سحيق ،وارتني صورة لأصغر حفيداتها ملفوفة بمنديل بكت ذات يوم فأعرتها إياه ! وكان لا بد ان اسألها وتسألني ما إذا كانت حيواتنا التي هربنا اليها، تستحق كل ما انتهت إليه أيامنا وكان لا بد ان نعرف الجواب، ثم انفصلنا من جديد بخطوات أبطا مما التقينا بها وأثقل، وبيننا زجاج المغادرين،تتلامس أصابعنا خلفه، والوقت. و شاخت ملامحنا اكثر، لا نكاد نميز بعضنا في انعكاس الضوء،ونحن نسير معا في طريق واحد سيتحول عما قليل إلى طريقين،بيننا حاجز عازل شفاف ووداع مثابر لا يرعوي.
شعرت لحظتها بكل الأمهات يندفعن لصدرى يحتمين به في ما يشبه الاعتراف ،يهمسن مودعات:
.....ما علمنا، ان زمانا سياتى، نقف فيه بقاماتنا المنحنيه لصق الهباء فلا يفرق احد بيننا وبينه كأننا توأمان. زمان نعود فيه إلى الصفوف الاخيرة،مجللات بالهيبه والرماد
بعد ان حملنا الاولاد كرها على كره ، ودفعنا بهم إلى ابواب الرجولة والمفاجآت بزغاريد تشبه النحيب.
،وحملنا البنات إلى بعولتهن بمضغ من حنان، على اكف من حرير ووصايا،
زاحمنا الدمع على الفوات والايام التي تركض امامنا،وتقاسمنا ضحكا قليلا كقاماتنا التي انحنت ، ثم اصخنا السمع إلى الحداء يزفنا إلى الستين وابعد فاندهشنا اننا لم نعش بما يكفى ، لندق سقف الحياة بقبضاتنا، وننفذ إلى سطحها، نمشى بقامات عالية وظهور مستقيمه، لا نقلق على شئ او احد.
ثم اكتشفنا، حين اوشكت الستين على النفاذ،اننا لم نعش ابدا،لا لطيش الابناء ونكران الازمنه،ولا حتى انصراف الاحفاد إلى ارتباك البلوغ،بل لأننا منذ البدء اختبانا في عباءات الامهات، تلك التي اعدت لنا على عجل ونحن نخب في طفولتنا مثل يمام مذعور، تلك العباءات التي شملتنا بدفء الاعتياد ومرار الامتثال حتى ما عدنا نعرف غير ذلك ونحن نزف بدورنا إلى رجال سيكونون في ما بعد مردة القماقم لغيرنا،ونحن نختفى في سراب الولادات وابخرة الطعام، نجز على اسناننا عند كل انكسار وبوح حين نجتمع في المآتم والافراح،نتنهد في حسرة مكتومه تصلح للانين،فيما تعبر الابتسامات والدموع وجوهنا مثل سحب من كرم ولؤلؤ منثور، ونحن نتمنى لأهل الدار صبرا يليق بمصابهم او فرحا يهش العتمة المزمجرة حول هالات المصابيح الصغيره المعلقة مثل مطر محاصر على جدران البيوت.
وهكذا نعلم البنات الا يخضعن كما فعلنا كى لا ينتهين كما انتهينا، وهن في ضحكهن الماكر وهمسهن الاشد دهاء من امومتنا ،يعرفن اكثر مما نعرف ويقسمن بينهن بانهن لن يكن كما كنا لابائهم، قلوبا مفطورة على الطيبة والامتثال طلبا لحنان او املا في وفاء يذر الرماد في مآقى الليل المفتوحة على التشفى والعطب.
لكننا والسبعين توشك على الانتصاف،وفيما الحنين يعشوشب على طرقات الوداع، ندرك اننا لم نقل شيئا مهما يضئ قنديلا او شمعة في احتشاد البكاء، رغم اننا قد مررنا بحرب او حربين على الاقل ، راينا فيها بؤسا يفوق قدرة الحكاية وبرد الليالى يتجمع صقيعا على الاطراف التي تاكلها الرجفه ولا يطفئ زرقتها لهاثنا الساخن ، الخارج من صدور معمرة بالاحزان وسوء العواقب.حرب منها على الاقل اختطفت اماننا الصغير في اوطاننا البعيدة عنها،ونحن ننظر إلى لحم الصغار المبعثر يجمع في اكياس داكنه اكتظت بالحزن فخرجت منها اصابع الملائكة مقضومة الاظافر، او تدلت اقدامهم البضة كخيوط من نور ونحن نشد قبضاتنا إلى القلوب ننشج في صمت اسود اسود حتى لنكاد نتساقط في وقفتنا المريرة ،مثل مسبحة انفرط عقدها فجاة وتدحرجت حباتها على بلاط الفجيعة واختفت في الشقوق. ورأينا رجالا كرجالنا، يبنون مجدا وحياة ونساء تمنينا ان نملك صبرهن وبالتالى الجنة التي تحت اقدامهن،
رايناهن في الهول ضعيفات مثلنا في فقدان الفلذات واقوى منا في الاحتساب،وقد بانت شعورهن وزنودهن الكانها مرمر معفر بالتراب،فركب العفاف رجالنا على غير طبيعة البشر واشاحوا بوجوههم صوب الاكتاف وقد احمرت منهم العيون والاذان يكفكفون دمعا عزيزا بظهور الايدى خفيةوعلى غفلة منا،فتنخلع قلوبنا اسى عليهم وقد نسينا ما ادخلونا فيه من يباب ذات يوم وسامحنا بنبل افئدتهم ما اقترفوا في حقنا من قهر خطايا.
وهكذا ايضا تجولنا حول الحياة وتحتها نحلم للبنات برجال في طيبة الاباء ولا يشبهونهم في اى شئ آخر ،وقلنا لعل الدهر ينصفنا ولم نحدد ممن او بماذا،وقلنا نتعلم من الايام ولم نفعل ولم تفعل،فجلسنا في السهاد ننتظر الاعياد وقد قصر عمرها كثيرا – لا كأعمارنا- وجفت ينابيع الصحبة اما برحيل عاجل او احتضار طويل، ولم يعد لنا من الكلام الا اقله، نتدرب فيه على الايام كى لا يصيبنا الخرس اذ يدخل علينا الابناء او البنات وقد تذكرونا بعد غياب موحش، فنعرف كيف نرحب بهم مالم تغرقنا انهار الدموع .
ثم اننا ادركنا اننا لم نعد نتكلم كثيرا عن لحظة الرحيل حين تازف دون ان نكون قد انهينا توزيع ارث المحبة التي حملتها الينا امهاتنا مثل طيور لم ينبت ريشها بعد وكيف اننا اقسمنا ان نلقى بها في عرض البحر ذات يوم كى لا نكون مثلهن، فرحل البحر ولم نعد نراه الا خلف نوافذالنوم، ولم نعرف بعد ذلك اين نذهب بتلك الطيور التي اكتملت اجنحتها وظلت حبيسة الصدور.
اما البنات اللواتى علمناهن التمرد والحنان فلم يتمكن من تلقين ازواجهن الدرس تماما ، فتحولن الينا، وضعننا في سلال العقوق وحملننا إلى كهوف الوحدة ضامرات او تترجرج اعطافنا في النسيان، وقلن: لنسم الاشياء باسمائها،
فطفقنا نخصف على ارواحنا من سكينة الذكر ما يحول بينها وبين الشياطين ونحن ناوى إلى النهايات، فربما باغتنا البر او انطفات قناديلنا فجاة في زوايا الانتظار ،بعد ان تحولت قاماتنا المنحنية إلى وجود شحيح ينغرز في دعوات نأمل ان لا يكون بينها وبين الله حجاب،
لوحت شقيقتى بيدها المعروقه قبل ان تختفى في نفق الضوء ، فتسارع كل الآباء يستقرون بين اصابع كفها المشرعة يلوذون بالغفران ،سمعتهم يتهامسون:
دارت على شمعاتنا امهات كأنهن الحور العين او اكثر قليلا، سقن لآباءنا الاسباب، ليحمين ظهورنا من عصى التهذيب، وخطب العفه ويحفظن لوجوهنا الماء والرجوله فما كافئناهن بغير الغضب والثورة،حتى وهن يدسسن في جيوبنا في غفلة من الاباء ، نقودا قليلة نستعدى بها الآخرين ونستثير الحسد.ما كافئناهن بغير الغضب والثورة ونحن نحنى رؤوسنا لآباء قساة يريدون اخراجنا من طفولتنا قبل ان نشبع من سكر اللعب او اثواب امهاتنا اللواتى ما كافئناعن بغير الثورة والغضب ونحن نرى الاباء يطفئون في وجوههن الباسمه -حتى في هلعها على جلودنا- جمر الازدراء والخيبه،فيما نحتمى وراء ظهورهن بما يصل إلى ايدينا من مسك ثيابهن الثمين.
وحتى بعد ان ادخلننا إلى ابواب الرجولة بزغاريد تنتحب اكثر مما تزف،كان مسك ثيابهن يعبئ ارواحنا بتلك الرحمة التي غمرت قحط النكران باطياف جنة تخصهن دون الخلق اجمعين.
وهكذا، تعلقنا بامهاتنا بخيوط خفية غامضة من المحبة تستعصى على التفسير،وتقطعت حبال الوصل مع آباءنا القساة ليحل محلها ما يشبه الاحترام وما لا يشبه الشغف،ونحن نوحى لانفسنا باننا تخلصنا من اشباح مواضينا، ولم يعد علينا ان نحبهم لأنهم آباءنا وحسب .لكننا ونحن نربى قوافل الابناء بدورنا،اكتشفنا في دواخلنا آباءنا القابعين في ظل الشغاف، فما غيرنا كثيرا من تلك الخيبة التي كانوا يطفئونها في وجوه الامهات الباسمه، بل اننا زدنا على ذلك قليلا ونحن نراهم يمنحون الاحفاد ، ما كان حقنا في الاصل من تسامح ومحبه،ورحنا نواصل غموضنا مع امهاتنا البعيدات عن بيوتنا ونحن نقسو على الزوجات كلما قصرن في حقهن شيئا،وحملناهن ذنب نسياننا الامهات وهن منه بريئات،وافرغنا كل غضبنا البعيد وثوراتنا القديمةعلى زوجات دخلن بيوتنا على اكف من حرير ووصايا، ونحن نغذى رجولتنا في ضعفهن وخوفهن على الابناء فما رفعن في وجوهنا صوتا ولا عينا، رغم ان عيوننا تجولت ذهابا في تفاصيل الاخريات،ومنحناهن من عسل الكلام ماليس من حقهن، فيما كانت تستعر في جوانحنا المذنبة اقسى الكلمات لزوجاتنا اللواتى توهجت ذوائبهن في صمت الايام.
وحين طرقنا الستين بايد واهنه،كانت الزوجات اقوى منا واصح، فحسدناهن وزدنا جرعة الاهانه، ونحن نصبغ الشوارب ونحلق اللحى، ونضيع في رذاذ العطور وقد انتفخت جيوبنا بوصفات المشعوذين ،وعجائب العطارين. واكتشفنا والستين تجاوز عتبتها الاخيرة، اننا لم نعش بما يكفى لنكنز ذهبا او فضه، او نحظى بزوجتين او ثلاث، اوحتى نتمسك بذيل اعصار صغير ياخذنا بعيدا وعاليا في مغامرة،نستطيع ان ندعى بعدها اننا ثقبنا سطح الحياة باقدامنا ونفذنا إلى عمق صغير فيها يملأ صدورنا بالبهجة والفخر ونحن نسير إلى نهاياتنا بسعال متقطع كالصفير ورؤوس ضمرت الا قليلا مثل سيقاننا التي دقت وبطوننا التي ارتاحت كثيرا في سعة الثياب والابواب، تاركين جفاف السبعين يعصر ما تبقى من امان وامانى، ونحن في اقترابنا نحو السماء او الارض ربما، نصبح اكثر رقة ورهافة نحو الزوجات اللواتى مافتئن يقلبن ايامنا بشغب العجائز فنضحك في سرنا ،وننثر دراهمنا الشحيحة بين الاحفاد املا في محبة حرمناها على ابناءنا فحبسناهم في الوهم وقلوبنا تنفطر لأنهم لم يشبعوا من مطر محبتنا البخيل،وعاجلتنا والثمانين تدخل في الوقت، هموم اكبر من قدرتنا على الوصف والاحتمال،فانكمشنا في ثيابنا نرنو في الخفاء إلى احباب الله ونساء كانهن لؤلؤ وجمان، في حروب غير بعيدة ، لنا فيها اكثر من النوق والجمال وما تعجز عن تذكره الايام،فدفعنا ما تيسر من دمع ومال،واقمنا في الحسرة ردها من الزمان الذي اسلمنا إلى اسرة لم نعد نتحرك فوقها او من فوقها الا لحاجات خارجة عن الارادة، وكنا قد حججنا مرة او مرتين، ودعونا الله ان يتذكرنا الابناء ونحن نخصف على ارواحنا من سكينة الذكر ما يحول بيننا وبين الشياطين والحروب، بعد ان تحولت قاماتنا المنحنية إلى وجود شحيح ينغرز في دعوات نأمل ان يغفر الله بها ما اقترفنا من ظلم في حق الحياة...
.......
قلت : آمين...
فاطمه الناهض- 2006