نبيل الملحم: هذه إكرام أنطاكي. مساء الخير!
إكرام أنطاكي: أهلاً بك!
نبيل: إكرام فتاة مجازفة. غامرت كثيرًا وكتبت كثيرًا. دخلت في روح النصِّ، ودخلت في روح المكان، ودخلت في روح الزمان. هاجرت سوريا منذ عشرين عامًا إلى المكسيك، وعادت حاملة معها تقاليد وكتبًا وتجربة في وسعها أن تغيِّرنا كثيرًا.
لذا نعتذر قبل أن نبدأ ونعدِّد بعضًا من الأعمال البارزة لإكرام أنطاكي: هنالك، أولاً، مغامرات حنَّا المعافى حتى موته - هذا الديوان الذي من الصعب جدًّا نسيانه، الذي عَبَرَ الحدود فعلاً؛ وعبوره كان مؤثرًا وفعالاً وحاسمًا في القصيدة كمطلق. ومثله كانت مجموعتها مغامرات حنَّا في التاريخ - وهو عمل آخر. ثم كان ثقافة العرب - وهي دراسة حازت إكرام فيها على الجائزة الوطنية للأدب الهامة جدًّا في المكسيك. ثم كان سرُّ الإله (رواية)؛ الحريق (ديوان شعر) - وغيرها مجموعة كبيرة من الأعمال في حدود الـ13 عمل حتى تاريخه، ومن ضمنها عمل له علاقة بالعمارة الإسلامية - لأن إكرام أنطاكي، على ما يبدو، امرأة متعددة جدًّا، وموهوبة جدًّا، ومؤثرة جدًّا.
لا أعرف من أين سنبدأ. لنقل، نبدأ من إكرام حنَّا المعافى حتى موته.
إكرام: كلا، نبدأ من حيث نحن الآن.
نبيل: الآن، ثم نعود إلى الوراء.
إكرام: ثم نعود إلى الوراء. لقد أضحى لي الآن عشرون سنة في المكسيك، أنجزت خلالها 13 كتابًا، من بينها 5 دواوين شعر، 6 أبحاث، وروايتان. وحاليًّا أعمل على كتابين، أحدهما بحث والثاني رواية. مما يعني - وأريد قوله - إنه قد مضى وقتٌ طويل منذ أن بدأت أعمل وأعيش من نتاج عملي ككاتبة محترفة. في العام 1989، حين حصلت على الجائزة الوطنية المكسيكية للأدب، تركتُ التعليم الجامعي، وتفرغت بشكل كامل للكتابة، التي إلى جانبها أعمل أيضًا في الإذاعة وأيضًا في التلفزيون، كما تعمل أنت. ومن حين لآخر، أكتب مقالاً للصحافة. أنا لست صحافية، لكنِّي أكتب مقالات صحافية.
نبيل: آ، نعم.
إكرام: ولديَّ برنامج إذاعي يدعى مأدبة أفلاطون - وهو عبارة عن برنامج ثقافي أتحدث فيه عن الثقافة والفلسفة والعلم، وأطرح فيه آراءً. لا أقدم في هذا البرنامج مقابلات، إنما أتحدث أنا.
نبيل: عمَّ تتحدثين؟
إكرام: أتحدث عمَّا يخطر ببالي.
نبيل: مثلاً...
إكرام: مثلاً، قدمت حلقة حول الماسونية، وحلقة أخرى عن سقراط، وأخرى عن منجزات علم الفلك... أمور كثيرة... حلقة عن أفكار ميكيافيلِّي.
عفوًا، أنا هنا أريد الاعتذار، قبل كلِّ شيء، على لغتي وكلامي بالعربية. لقد تبهدلتْ كثيرًا خلال هذه السنين.
نبيل: ما زالت ممتازة!
إكرام: هناك، في المكسيك، أنا لا أتكلَّم العربية، ولا أقرأ العربية. ثم هذه هي المرة الأولى التي أعود فيها إلى سوريا بعد عشرين عامًا من الغياب. وأنا عائدة الآن لبضعة أيام فقط؛ عائدة لأصفِّي حساباتي مع روحي.
نبيل: كيف يمكننا أن نصفِّي حساباتنا مع روحنا؟! تحدثنا عن البرنامج؛ وهو، على ما يبدو، برنامج ذو طابع فلسفي واضح - مما يعني نزوعًا فلسفيًّا لإنسانة هي إكرام أنطاكي، كانت أستاذة أنثروبولوجيا، كما هي شاعرة. أي أنك، في نفس الوقت، شاعرة، وباحثة في علم الشعوب أو الأقوام، وفي نفس الوقت أيضًا، تحملين شهادة في الفلسفة.
إكرام: أنا، آه...
نبيل: ميولك كثيرة. لكن، على الرغم من هذا الكلام، أنت جئتِ إلى دمشق لتصفِّي حساباتك مع نفسك. إنه لأمر صعب جدًّا أن يتسلل المرء إلى نفسه. لذا، تعالي سوية ندخل حتى نهاية نفسنا ونصفِّي حساباتِنا معها.
إكرام: أنظر. هناك تعبير جميل جدًّا للفيلسوف الفرنسي ميشيل سير. إنه تعريف غير إيماني لفكرة إيمانية هي "الروح" - حيث يقول ما معناه أن "الروح هي هذه الطريق التي تقطعها بين ولادتك وبين موتك". عندما تلد، تكون روحك هي ما أعطتك إياه الطبيعة؛ ثم تُضاف إليها جميع المخاطر التي تعرضتَ لها. وهذه المخاطر، حتى نهاية الطريق، هي ما يكوِّن روحَك. أي أن ما يكوِّن روحك، هو خبراتك، بالإضافة إلى ما أُعطيتَ إياه في البداية. فنحن نتعلَّم من الكتب، كما نتعلم من الآلام...
نبيل: الألم بمعنى... الوجع...
إكرام: نعم الألم. فنحن نتعلَّم من تكبُّر العلم ومن تواضع العذاب. إذ إن هذا الخطر الذي على الطريق - طريق حياتك - هو ما يكوِّن روحك. وهذا، بالنسبة لي، كان جزءٌ منه في سوريا - في هذه المدينة، دمشق، بشكل خاص، هذه المدينة التي عشتُ فيها شبابي، لأني غادرت من هنا في أواخر... لا، أنا لم أعد أعيش هنا منذ العام 1969 حين ذهبت لباريس للدراسة. درست هناك من العام 1969 وحتى 1975. ثم، في أواخر 1975، ذهبت نهائيًّا إلى المكسيك. مما يعني، في الواقع، أني لم أعش في سوريا فعليًّا منذ العام 1969؛ كما لم تعد لي أية علاقة جسدية بها منذ العام 1975. لكن هذا الجزء من حياتي في بداياتها، الذي قضيته هنا، هو جزء من روحي. وهذا الجزء هو الذي عدت لأصفِّي حساباتي معه.
نبيل: تعالي إذن لنتحدث عن هذا الجزء الذي هو أول جزء.
إكرام: هذا هو الجزء الأول... حيث كانت هناك بنيَّة طيبة، ذكية مبدئيًّا، وثائرة جدًّا. أرادتْ، في حينه، أن تحطِّم كلَّ ما أعطوها إياه. ثم لاحظتْ، بعد وقت طويل، أنها حطَّمتْ أمورًا لم يكن من المفروض أن تحطِّمها لأنها جيدة. بمعنى، أنني كنت ولدًا دعيًّا بأنه يعرف ويفهم أكثر من جميع الذين سبقوه في تاريخ الإنسانية. ويعتقد بأنه سيصحِّح كلَّ ما تم خلال هذا التاريخ. ثم اكتشف - وقد تجاوز من العمر الأربعين - وهو يواجه أمامه، في بيته، ولدًا ثائرًا آخر...
نبيل: الذي هو ابنك...
إكرام: الذي هو ابني. الذي وقف أمامي ونظر إليَّ مدَّعيًا أنه يعرف أكثر من جميع الذين سبقوه في تاريخ الإنسانية، وأنه سيصلح جميع الأمور غير الصحيحة التي صنعتها الإنسانية قبله. عندها، فهمت، أخيرًا، أنه قد سبق لي أن مررت أنا على نفس هذا الطريق.
لكن، لما كان هذا ليس صحيحًا؛ لما كانت، كما سبق وقال غاليليو، "ما زالت تدور"، فقد جاء الآن من جديد من يأخذ دوري! لذلك، أنا الآن أحاسب هذه الطفلة التي كانت تعيش هنا.
نبيل: وهذه البنيَّة التي جئتِ لتصفِّي حساباتِك معها كانت "عليمة بكلِّ شيء" - شيء بمعنى مرحلة هي مرحلة مطلع السبعينات؛ مرحلة كانت مرحلة التساؤل الكبير لتمرُّد كبير. حينئذٍ كان جيل بكامله يتمرد؛ كان عالم بكامله مُقبِل على السؤال. ولم تكن هناك حينئذٍ إجابات ناجزة. وحتى الآن، ليست هناك إجابات ناجزة - لأن الدنيا، كما يبدو من تاريخها، إن أمست فيها إجابات ناجزة، أصبحت مقابر ناجزة. أنا أعتقد بأن الإجابة تعني المقبرة. السؤال هو الحياة!
فهذه البنيَّة التي تساءلت، في حينه، وقدَّمتْ ملامح تجربة بَدَتْ وكأنها استثنائية - لماذا أنت تريدين تصفية حساباتك معها؟ تعالي نتحدث عن هذه البنت التي تريدين تصفية حساباتك معها.