سنوات في الملحق
وفاة أنسي الحاج اعادتني بالذكرى الى السنتين اللتين عملت فيهما معه في "ملحق النهار".
كان انساناً مرهفاً وقاسياً في آن. تعاقب على سكرتيرية التحرير مجموعة لم يوافق انسي على أي منهم. هذا ما قاله لي مدير تحرير "النهار" آنذاك فرنسوا عقل الذي استدعاني من صحيفة "الأنوار" حيث كنت مسؤولة في "الملحق" مع الصديق والزميل الشاعر روبير غانم.
"جرّبي وسنرى"، هذا ما قاله فرنسوا عقل. ولم تكن التجربة يسيرة لأن رئيس تحرير "الملحق" شخصيته غامضة سلطوية ومتوترة.
كان عليّ العمل معه وتقاسم المكتب نفسه في رهبة لا قدرة لي على تجاوزها إلاّ في لحظات تجاذب اطراف الحديث مع زائر أو زميل آخر كأمين معلوف الاكاديمي اللبناني الفرنسي حالياً.
أدرك أنسي بعد "أشهر التجربة" أن هذه السيدة البريئة والطيبة جيدة للعمل وقراءة مطوّلات انعام رعد وحبيب افرام وجوزف نعمه وصلاح الدين المنجد وكلوفيس مقصود وآخرين واعداد مقال اسبوعي والاشراف على التبويب ومراجعة التصحيح الخ... مما يتطلبه العمل التحريري.
تدريجاً، أخذ يعتاد عليّ وهو "المستقل" الى درجة الطيران، سواء في مشيته او في فكرته او في قراره، ويثني على مقالاتي ومنها "شيخ الديغولية يقطف رأس شرايبر" و"الاستاذ رئيساً للجمهورية والتلميذ رئيساً للوزراء" و"ظلوا اقزاماً" وتحقيق "الحرب ماذا تتوقعون" واصعبهم كان شارل مالك الذي أصرّ على مراجعة النقطة والفاصلة.
لم استطع ان اكتشف سرّ الغموض لدى هذا الرجل "الطائر" إلاّ في قراءة ما كتبه في رثاء مارك رياشي: كلانا موصوف بما ليس فيه وكلانا مجهول بما فيه وكلانا في الحقيقة طفل خائف وسط عالم راعب وطفل يبحث عن قادر يحميه وعن قدر يصير بالصلاة أكثر رحمة".
أغلق "الملحق" بسبب الحرب التي شنها الرئيس سليمان فرنجية على "النهار" وصلت الى حد سجن معلمنا الاستاذ غسان تويني. عدنا والتقينا بعد نحو عشرين عاماً، انا في صفحة "قضايا النهار" وهو رئيس تحرير الصحيفة.
اتسمت علاقتنا بالمودة وكان يعرج على مكتبي ليقول لي متسائلاً: ماذا افعل هنا؟ ويجيب هذا ليس مكاني... هذا العمل ليس لي.
تماماً! لا يمكن وضع طائر مغرّد في قفص. لأن هذا الرسام للصور والأفكار والاحلام، هذا المبدع في الرؤى، هذا الخلاّق للكلمات كان يشعر بأنه يختنق، وان حريته منقوصة إلا أن الضرورة فرضت عليه سلوك درب المهنة فعاشها خيّالاً بين الأدب والصحافة وصولاً الى ما يشبه البراءة عندما وضع في الأسابيع الأخيرة ما يشبه الأوصاف او العناوين لمجموعة من الصحافيين والشعراء والكتّاب الذين عرفهم.
أستعيد مقالاً له حمل عنوان: "هم لتهريب السلاح ونحن للأمل" وجاء فيه: مهما حدث يجب أن تظل ترتفع أصوات تمسكنا من يدنا في الظلام وتقول: لا تخافوا ولننتظر دائماً بشرى فالملاك الذي بشّر مرّة لا بدّ أن يعود من جديد. الوداع يا صديقي.
مهى ياسمين نعمه
* * *
أنا شاعر قبل أن أكون صحافياً
بدأت رحلتي مع انسي الحاج في زاوية "ادب، فكر، فن" التي كان مسؤولا عنها في جريدة "النهار" عندما كانت مكاتبها في آخر سوق الطويلة في بيروت، فأرسلت اليه مقالة نشرها سريعا.
ثم تابعت رحلتي معه في مجلة "النهار العربي والدولي" ايام الحرب الاهلية. وكان يومها الراحل الكبير جبران تويني مؤتمنا على اصدارها اسبوعية، وانسي الحاج يتسلم محتويات كل عدد فيمر عليها مبضعه ويختار الاصلح، ويرمي الغث في سلة المهملات.
"انا شاعر قبل ان اكون صحافيا" جملة كان يرددها باستمرار. ومن هنا لم تثنه مهنة المتاعب عن نظم الشعر في مجلة "شعر" ليوسف الخال. وفي هذه المجلة كانت لعدد من الشعراء اللبنانيين اطلالات مميزة في الشعر المتفلت من الوزن والقافية. وعن مجلة "شعر" صدر ديوانه البكر "لن" فعدّ يومها من عيون شعر "النثر"، وكان سبقه الى هذا المضمار صاحب مجلة "الاديب" الشهرية البر اديب بديوانه "لمن" الذي اهّله ليكون الشاعر الطلق الاول في دنيا الشعر الحر.
مع الايام ثبّت انسي الحاج قدميه في الصحافة والشعر معا.
في عالمه الصحافي كان دائما مشرئبا نحو المقال الحر، ينتقد بموضوعية ويحلل بصدقية.
ما نأى يوما عن الجهر بالحقيقة حتى لو كانت مرة. وما حاد يوما عن لغة الصواب التي كانت تستهوي المدمنين على قراءة مقالاته.
في رحلته مع الكتابة أهّله يراعه لان يصبح صحافيا لامعا. وكان ايضا شاعرا ذواقة، فتحرر من الاوزان سالكا درب قصيدة النثر، فعدت قصائده في قمة القصائد مثلما عدت قصائد بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ويوسف الخال ونزار قباني وجوزف حرب ومحمود درويش ونازك الملائكة وغيرهم، من الشعراء العمالقة.
كان انسي الحاج – يا طيب مثواه – شاعرا طليعيا. كان مجليا في كل ما سطرت يده.
انه من ارومة متجذرة في العطاء. ابدع في الصحافة بعدما تمكن من الخبر، وكتب التحقيق، وتحمل مسؤولية اصدار الصحيفة.
وابدع ايضا في الشعر الحر، فنظّم القصائد وترجم الى العربية شعرا بالفرنسية لناديا تويني ولكبار شعراء الفرنسية.
وآخر كتاباته كانت بعنوان "خواتم" ضمّنها انطباعاته في الحياة وغمزاته من الذين لعبوا بمصير البلد. كانت كتابات صحافية بلمسات ادبية.
انسي الحاج: تفتقدك قصيدة النثر، وايضا تفتقدك الصحافة المغموسة بدم الحرية.
ابرهيم عبده الخوري
* * *
عندما يرحل عملاق الكلمة
علّمني أن أعشق الكلمة. وبكل فخر كان... رحل عنا، الشاعر الكبير أنسي الحاج. تخفّى ومشى بهدوء وسكينة خشية أن يزعجنا.
معلمي ومرشدي إلى نكهة الكلمة ومذاق الشعر. عرفته منذ زمن، كنا في "النهار" سوياً ليلاً ونهاراً أيام حرب على الوطن، ويوم كانت الكلمة تتعرض لأقصى درجات التعذيب والتهميش. ويوم كان يُستشهد الحرف تلو الآخر حارب الحرب بالكلمة، تسلّح بالحب والعلم، ناضل مع أوراقه، اقتبس الحرية من حروفه... خاطب الكلمة، حاورها، عشقها، إلى أن أحبته...
فمن موقفه الحر والجريء منتصف ستينيات القرن الماضي من حرية المرأة، الى مقالاته الصائبة إبان الحرب اللبنانية، كان هناك خيط واحد يشد التأمل الشعري بالرؤيا اليومية ألا وهو لمحة الضمير. إذ كان أنسي يكتب ما يمليه ضميره، وبحرية كاملة، بحيث أصبحت كتاباته شهادة حية على تاريخ العصر العربي الحديث... ومرآة صادقة لأشياء كثيرة، بل كانت وستبقى مادة إلهام لكثير من الشعراء الشباب. لم يجرِ وراء الاحتفالات والدعوات التي لا يفوّت واحدة منها ذاك الدجال الكبير. لم ينل أية جائزة، لأنه لم يلهث وراءها أي لم يتقلّب من أجلها. بل بقي مرتكناً إلى عالم الشعر والقراءة: قراءة الكتّاب الكبار الذين كان يحبهم لصراحتهم واضافاتهم الكبرى لفهم الكائن البشري كـ"بودلير"، "بروتون"، "ماركيز دي ساد"... كان يعرف متى يصمت، ليعود بكلام واضح وصريح. بقي أميناً للقصيدة الحديثة بكل تجلياتها. كان ينام معها ويستيقظان معاً بركاناً من الصور والمعاني الثاقبة. وهكذا استطيع أن أقول إن آخر كبار الشعر العربي الحديث قد رحل... ولم يبقَ سوى كبار صغار يستجدون الشهرة حتى في شيخوختهم لأنهم يعرفون أن لا شيء حقيقياً في كل ما أنتجوه. لذا لا يسعني إلا أن أعزّي القصيدة العربية الحديثة: البقاء في حياتك... ستفتقدك كلماتي المبعثرة بعد رحيلك وحين افتقدك، أأبحث عنك بين الكلمات؟
كميل الحدّاد
النهار 20-2-2014