رحيل المفاجأة الايجابية

ابراهيم الأمين

أنسي الحاج ما رأيكما لو انضمّ انسي الحاج الى هذه المغامرة؟
السؤال كان لزياد الرحباني. لم يكن جوزيف سماحة قد استقال من «السفير» بعد. كان البحث تجاوز دائرة الفريق الاساسي المفترض ان يكون معنا. لكن، زياد، الذي انضم الينا بطريقة توحي كأنه كان في اجازة، تحدّث امامنا عن شيء من أسرار الرحابنة. كان شديد المباشرة وهو يشير الى انسي الحاج، الشاعر والاديب، لا أنسي الصحافي. لم أكن، يومها، أساجل في ما يقوله جوزيف بأمر من هذا النوع. فقط اهتممت لارى اية معايير سيلجأ الى استخدامها في الجواب على سؤال زياد. لكن جوزيف، قال سريعاً: لنجلس معه، نخبره عن مشروعنا، ثم نسمع رأيه، وبعدها نقدر واياه على اتخاذ القرار.
في جلسة مسائية قرب منزله في ساسين، قابلنا أنسي بضحكة لا تشبه الصورة النمطية التي كانت تسكن العقل والقلب معاً. كان، بالنسبة لي، خطأ شائعاً. لم يكن مهماً، بالنسبة لي، ما الذي يفعله في نهاراته ولياليه. بل كان يؤرّقني كيف لرجل عجن نفسه مع «النهار» ان يكون معنا في تجربة ومغامرة، احد اهدافها تعرية مدرسة الصحافة التقليدية في لبنان، وعلى رأسها «النهار».
خلال اقل من ساعة، شرح انسي رأيه في أمور كثيرة تهمّنا. قال رأيه في جوزيف. كان الامر بمثابة الصدمة. قال له: أنت اهم كاتب مقالة يومية في عالمنا العربي. سأله بشغف: من اين لك القدرة على التجديد كل يوم؟ من اين لك القدرة على مفاجأة القارئ كل يوم؟
هرب جوزيف، كعادته، وسأل انسي رأيه في الصحافة اللبنانية والعربية اليوم. وفي دقائق سريعة. اظهر انسي اعجابه بمن كان جوزيف يرى فيهم مستقبل الصحافة اللبنانية. قال له: ما رأيك في جريدة تتجاهل الخبر اليومي الذي يُفرض علينا باسم المناصب والمواقع والوكالات؟ رد انسي: هل تجرؤون على فعل ذلك؟ هل سيقبل من يموّلكم ان تتجاهلوه، لا ان تحافظوا على مصالحه، هل يتحمّل منكم ألا تنشروا اخباره واستقبالاته وصوره؟
لم تنته الجلسة من دون نقاش سياسي مباشر. وجد انسي طريقته في الحديث عن موقعه مما يجري اليوم في لبنان والعالم العربي والعالم. روى لنا قصة اخراجه، لا خروجه، من «النهار» عام 2003. قال بحرقة وقساوة: كيف لي ان اقبل تبرير جريمة اميركا في العراق، ولأجل من؟ لكن حرقته الاكبر، في انه لم يكن يتصور انه سيتعذب كثيراً قبل ان يجد منبراً ينشر فيه اسباب تركه «النهار»؟
حسم جوزيف الامر سريعاً، وقال له كمن سبق ان عرض عليه التعاون وسمع قبولاً منه: هل ستكتب؟
ضحك انسي، وهو يشرح تعبه من هذا السؤال. وانه لا يعرف ان كان هناك من اشياء ستحفّزه على الكتابة. لكنه اضاف: لدي مشروعي «خواتم – 3» وهو قيد الانجاز. سأله جوزيف ان كان بالامكان نشره على حلقات في «الاخبار». وافق انسي فورا. وقال: ربما، لا اعلم، ربما اكتب.
في طريق العودة الى المنزل، قال جوزيف لزياد: أنسي مفاجأة ايجابية، وسيضيف كثيرا لـ «الاخبار».
***
لم يكن انسي مرتاحاً كثيراً لوضع «الاخبار» في العامين الاخيرين. زادت ملاحظاته على التحرير. كان قلقاً من تراجع منسوب النقد. كان هاجسه حماية الهامش. وكان ألمه كبيراً مما يجري في البلاد وحولها. قال لي مراراً: لم يعد في البلاد من يحظى بالاحترام. وفي المنطقة ترانا نضيع بين استبداديين وبين ثوار فاشلين بلا اخلاق. وما اخشاه على لبنان، ليس مزيدا من تسلط السارقين على الحكم فيه، او حتى على الناس، بل ان ينجح هؤلاء في سرقة ما تبقى من هواء الحرية.
قبل اشهر قليلة. تلقى انسي عرضاً للكتابة في جريدة تموّلها قطر. لم يتحدث عن الامر الا بعدما اجابهم. جاء الى المكتب على عادته في المساء. وكأنه كان يريد ان يسمع كثيرون موقفه. اختار لحظة وجود عدد من الزملاء، وقال على طريقته الساخرة : قلت لهم، دعوني في جريدة الممانعة الشيعية، بدل العمل في جريدة الثورة الوهابية!
أنسي صار يتذكر الله والمسيح والعذراء. كان قاسياً في سخريته من كل شيء. من الاحزاب والاديان والسلطات والمعارضات والاحتلالات والمقاومات. ومن قهر العالم الغني على تخلف الفقراء. وكان كثير الاهتمام بعائلته الصغيرة. صار يتحدث عنها اكثر بكثير من السابق. كأنه لم يعد يجد غيرها الى جانبه، او لم يعد غيرها ما يعنيه في هذه الحياة. هو لم يرغب يوما في التحدث عن مرضه. وكان سخطه على الطبيب اكثر من سخطه على الداء نفسه. وعندما اراد له الطبيب التفلّت من وصفته، رفض انسي الاكل والشراب.
في الجريدة، كما في مقهى البناء، كما في لياليه، وفي جمعاته، ظل انسي يترك المكان الاكثر دفئا للمرأة. لاي انثى حق اقتحامه في اي وقت. كان يشعر بقدرة هائلة على جذب النساء صوبه. صوب ما يقوله، او يحكيه، او ينصح به، لكنه كان يعرف السر: كان يحث المرأة، مراهقة او ناضجة، زوجة او أمّاً او متفلّتة من العائلة، كان يحثهن على التمرد، على مساكنة الحرية في كل شيء. على الاهتمام بأجسادهن، وبأعمالهن، وبثقافتهن، وعلى التدرب يوميا لقهر سلطة الرجل. كانت المرأة المشتهاة، هي الاكثر قربا من قلبه وعقله.
***
رحل انسي الحاج، الاسم الكبير لرجل عاش بساطة الحياة حتى لحظاته الاخيرة. رغب برحيل هادئ، صامت، بلا ضجيج كما كانت ايامه. وكانت حيرتي معه، وهو المستعد لكل شقاوة ولكل ما هو مختلف، في ان اتجرأ على مطالبته بمراجعة مواد، كتبت عنه بصفة الراحل. من كان يصدق ان انسي، يكتب قبل موته، مقدمة ملفّ يعد في رثائه

***

عن تلك «العشبة الهوجاء»…

بيار أبي صعب
«ولن أكون بينكم
لأن ريشةً صغيرةً من عصفورٍ
في اللطيف الربيع
ستكلّل رأسي
وشجر البرد سيحويني
وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل»

(«ماذا صنعت بالذهب/ ماذا فعلت بالوردة»، ١٩٧٠)
في عام ٢٠٠٧ أطفأ أنسي الحاج شمعته السبعين، وكان قد تربّع على عرش صفحته الأخيرة في «الأخبار»، حاملاً إلى جريدة جوزف سماحة هذا النفَس الخاص، الأبديّ التمرّد، الذي كنّا نشتهيه ونطلبه ونعتزّ به. كانت الأسطورة قد ترجّلت في الطابق السادس من مبنى الكونكورد في بيروت، وصارت جزءاً من مشهدنا اليومي.
الذين لم يعرفوه من الزملاء إلا في النص، لم يتخلّصوا من انبهارهم رغم علاقة التماس اليوميّة… والذين كانوا قد ارتادوه فوق الساحة الثقافيّة والأدبيّة والإعلاميّة، بحكم علاقات المهنة أو الصداقة أو الشعر، كان أيضاً ينتابهم شعور الرهبة نفسه، ويعيشون كل مساء حالة استثنائيّة في جوار تاريخ استثنائيّ من الشعر والتمرّد وإعادة اختراع اللغة والكلمات. أحد شركاء «شعر» وساحر «الملحق الثقافي» لـ«النهار» في بيروت العصر الذهبي، وحلم الحداثة والعروبة والتغيير. غاب مراراً في الصمت، وكانت تعيده الصحافة إلينا، كما أعاده رياض الريّس كاتباً، أو أعادت الاحتفاء به ووضع شعره في متناول الأجيال «دار الجديد» مع رشا الأمير ولقمان سليم.
خلال سنوات «الأخبار» ـــ وقد أعطته صدارة لا تليق بأحد مثله، بعد قطيعة مريرة مع حكاية عمره في «النهار» ختمها بـ«رسالة استقالة إلى القارئ» ـــ كان أنسي نفسه دائماً. لا يشبه معلّماً ولا أسطورة، بل شاعراًًًٍ عارياٍ، ملعوناً، لا يعرف المهادنة. كان الشعراء العرب من أصدقائنا يحجّون إلى «الأخبار» لمقابلته. كان نفسه: مراهقاً، عاشقاً، ساخراً، ونقديّاً، وغاوياً، رقيقاً وقاسياً، ومخالفاً لأشكال الإجماع، ومزعجاً في بعض الأحيان لكثيرين منّا، زملاء وقرّاء، في مسائل خلافيّة تتسع لها «الأخبار» بحضنها الخصب في الفكر والسياسة والاجتماع. «مزعج» كما يليق بشاعر كبير، أخذ معاصريه على حين غرّة، ووقف دائماً، منذ بيانه الشعريّ الأوّل، حيث لا ينتظره نظام القيم السائدة.
في ذلك اليوم من ٢٠٠٧، نشرنا ملفّاً خاصاً عن أنسي الحاج، وأخفيناه عنه ليتفاجأ به في اليوم التالي مثل جميع القرّاء. كان يصعب على كاتب هذه السطور أن يقبل فكرة بلوغ الشاعر منعطف السبعين، فعبّر عن ذلك الرفض في كلمته الافتتاحيّة. غير معقول! أنسي الحاج عمره عشرون عاماً. أو بالأحرى توقّف عند الثالثة والعشرين، عام نشر باكورته «لن» التي زلزلت المشهد الشعري في بيروت قبل أن تتردد تأثيراتها في ديار العرب إلى اليوم. لم ترق لعبتنا الأسلوبيّة تلك لأنسي يومذاك، فعاد إليها في «خواتمه» السبت التالي، ليؤكّد على الملأ أنّه شديد الاعتزاز ببلوغه السبعين. عشرون، سبعون، ما الفرق؟ إنّها لعبة أرقام. واليوم نعرف أكثر من أي وقت أننا أصحاب حظ استثنائي، وفرصة تاريخيّة، لأننا عايشنا لسنوات روح التمرّد، عند ذلك الرؤيوي الذي كان قد بشّرنا من أوّل الطريق، في بيانه الشهير، بالأزمنة الآتية: «الشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظاً». ما زالت كلمته راهنة، ترنّ في أسماعنا كأنّها كتبت للعرب في زمن الردّة الحالي: «إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمناً بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم».
كان أنسي مع التقدّم، مع كسر القوالب، وتجاوز الحدود، وإعادة اختراع اللغة كل صباح ومساء. توقّف طويلاً عن الشعر بعد «الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع» الصادرة عشيّة الحرب الأهليّة. لكنّه حمل علاقته الشبقيّة والصداميّة باللغة في كل فقرة نحتها، حتّى مقالته الأخيرة في «الأخبار» قبل أسابيع. كان أنسي فوضويّاً حتى النخاع، من دون أن يكون يساريّاً. كان متمرّداً في اللغة والحياة، ومتمسّكاً بنظرته الخاصة إلى العالم على حواف الرجعيّة أحياناً. وهذا كان يجعل منه مبدعاً، وصحافيّاً، وشاهداً استثنائيّاً لا يقبل التصنيف، وتضيق به الخنادق، وتعتمل في أعماقه التناقضات كأبطال دوستويفسكي: بين إيمان وغواية المحظور، بين انعزاليّة وراديكاليّة، بين محافظة وتمرّد وجودي وميتافيزيقي. كل هذه التناقضات تقف وراء نصّه الفريد، يضيق به اليمين التقليدي الذي ليس بعيداً عن بيئته، وينتفض لبعض مواقفه اليسار التقدمي الذي سبق الجميع إلى تبنيه والاحتفاء به.
لكن كل تلك التمييزات تسقط عند أبواب القصيدة، هنا تأخذنا قوّة خفيّة إلى حيث شيّد بودلير جنّته الفريدة. هنا تذوب التناقضات ولا يعود من معنى إلا للرؤيا، إلا للكلمات وقد تصفّت وتطهّرت من جاذبيّة اللغة القديمة. من خلال «قصيدة النثر»، ذلك الطوطم السحري الذي ما زال يقاتل من أجل شرعيّته كما لاحظ في وثيقته المقدّمة إلى «مؤتمر قصيدة النثر» («برنامج أنيس المقدسي للآداب» في الجامعة الأميركية في بيروت عام ٢٠٠٦): «أنا قصيدةَ النثر الصغيرة الدخيلة، عشبةٌ هوجاء لم يزرعها بستانيّ القصر ولا ربّة المنزل، بل طلعتْ من بركان أسود هو رحم الرفض. وأنا العشبة الهوجاء مهما اقتلعوني سأعود أنبت، ومهما شذّبوني لن أدخل حديقة الطاعة، وسأظل عطاءً ورفضاً، جليسةً أنيسة وضيفاً ثقيلاً، لأني ولدتُ من التمرد، والتمرد، التمرد الفردي الأدبي والأخلاقي، على عكس الثورة، لا يستكين ولا يستقيل حين يصل الى السلطة»… ستظل بيننا وبين أنسي تلك العشبة الهوجاء. أنسي في تاريخنا الثقافي المعاصر… هو بلا شكّ تلك العشبة الهوجاء…

***

أعدّ رحيله كأنه يشفق علينا

مهى زراقط

(هيثم الموسوي)
أنسي الحاج مساء الجمعة الفائت، كنت غارقة مع إميل منعم ويوسف عبدلكي بين صور أنسي الحاج، عندما انتفض إميل فجأة ونظر باتجاه باب المكتب، ليجد مروان طحطح واقفاً عنده. قال لي إميل: «نقّزني مروان... دعسة قدميه ذكّرتني بأنسي، اعتقدت أنه جاء».
كلّنا كان يحفظ دعسة قدمي أنسي، وكلّنا كان سـ«ينقز» لو أنه زار الجريدة مساء الجمعة. فقد كان الجميع ينتظر الخبر المؤسف بين لحظة وأخرى. لم يكن الأمر مفاجئاً، هو الذي حضّرنا لتلقيه منذ الوعكة الصحية الأولى التي ألمّت به قبل 7 أشهر. وها هو عبدلكي يبحث عن صور لأنسي ليعدّ غلافاً له، فيما أكّد لي إميل أنّ حالة صديقه الحميم تتدهور، وكانت راجانا حمية قد نقلت إلينا صباح ذلك اليوم إجابة ابنته ندى عن صحته «مش قادرة طمّنكم». العبارة نفسها كرّرتها أول من أمس، عندما جاءت إلى الجريدة. «ما في شي بطمّن، أنا معكم الآن، وخائفة أن أعود إلى البيت فلا أجده»، قالت.
لحقت بها، إلى مكتب والدها، الذي فتحته وراحت تجمع ما فيه من أغراض خاصة. سألتها: «ألن يتحسّن؟ أنا أجيب الجميع بالقول إنه سيفعل». هزّت رأسها مستسلمة. شرحت: «إنه سرطان... إنه الـ metastase».
كانت المرة الأولى، منذ دخل أنسي الحاج إلى المستشفى في آب (أغسطس) الفائت التي أعرف فيها أنه مصاب بالسرطان. لم يقل لي إن هذا مرضه، رغم أننا تحدّثنا كثيراً عن الأمر. كان يحكي بكلّ عفوية تفاصيل عن حياته مع المرض، لن يحبّ أن نذكرها هنا. يضحك وهو يذكر كم بات يخاف من ابنه لويس، الذي يدقّق في عدد حبات الأدوية «بطلت أعرف إذا أنا بيّو أو هو بيي». وما إن يرى رقم ندى على هاتفه، حتى يسارع إلى الردّ كي لا تقلق. يقول كلّ شيء، ولا يقول اسم المرض. ربما لم يكن يعرف، وربما لم يكن يرغب بأن يخيفنا، وهو يلاحظ أننا خائفون عليه فعلاً. مرة واحدة، مازح محمد نزّال، الذي طلب من رضوان مرتضى أن يلتقط له صورة معه، فقال له ضاحكاً: «بدّك تتصوّر معي؟ مفكّرني رح موت». ارتبك محمد، وقال له: «سلامة قلبك، انشالله أنا قبلك». ابتسم له قائلاً: «أنت طيّب يا محمّد»، ثم تأهّب لالتقاط الصورة.
بعد هذه الحادثة، كتب في نصّه «بلا منارة»، مقطعاً تحت عنوان «حزين»، جاء فيه: «بدل أن تدفع لي «الأخبار» راتباً، يجب أن أدفع لها». هذه العبارة كانت قد وردت في النصّ الجميل الذي كتبه إثر وفاة جوزف سماحة «موت كموتك قتل». خفت، دخلت إلى مكتبه مؤنّبة: «لا يحق لك أن تستسلم، وأنت الذي تحرّضنا على الحياة طيلة الوقت».
أرجع كرسيّه إلى الوراء، وقال: «انظري إليّ». كان قد كبر كثيراً خلال أسابيع، تغيّر لون وجهه، ونقص وزنه. قلت له: «سوف تتحسّن، أنا واثقة». منذ هذا اليوم، اتفقت مع محمد أن لا نتركه وحيداً، وخصوصاً بعدما غادر الجريدة عدد من الذين كان يحبّهم. إميل منعم، وزينب مرعي وشهيرة سلّوم. وقبلهم خالد صاغية، ثم ربى أبو عمو، ورشا أبو زكي. صرنا نحرص على أن لا يبقى وحيداً. إذا خرجت باكراً، أوصي محمد بأن لا يغادر قبل أن يجالسه. ولا ننسحب إلا إذا أعطانا إشارة إلى أنّه مشغول في الكتابة، أو دخل زميل آخر، أو رنّ هاتفه معلناً قدوم زوّار من خارج الجريدة.
عندما غاب في المرة الأخيرة، لم يعد يردّ على هاتفه. «انغلق» مطبّقاً ما كتبه في النص نفسه: «في آخرته يجب أن ينغلق الكائن، لا لأنّه لم يعد لديه ما يقول، بل لأنّ أحداً لن يعير كلامه أيّ اهتمام». لم يكن محقاً، وهو يعرف أن الآلاف ينتظرون منه كلمة. لكنه كان حزيناً ومستسلماً. احترمنا صمته، وصرنا نكتفي بصوت سميح، الممرّض الذي لازمه في منزله، يجيبنا باقتضاب عن صحته التي لا تتحسّن.
أمس، تعرّفنا إلى سميح وجهاً لوجه. كان جالساً يتقبّل العزاء في منزل أنسي في الأشرفية. هو الذي شهد على الرحيل. يكتفي بالقول إن أنسي توفي في تمام الساعة الواحدة وعشر دقائق. هل قال شيئاً؟ يرفض الإجابة «أفضّل الاحتفاظ باللحظات الأخيرة لنفسي». يقول له نعيم، شقيق أنسي: «أخبرني أنا»، فيرفض.
بكلّ بساطة يمكنك أن تحزر أن نعيم هو الشقيق، بسبب الشبه الكبير بينهما. «أشبهه بالشكل فقط، ليتني كنت مثله» يقول. تؤكد له نساء العائلة أنه مثله، فيما تلوم قريبته نفسها لأنها تأخرت أمس عن زيارة أنسي، فلم تودّعه، فتخفّف ابنته عنها. ندى، الجميلة، كانت هي من يواسي الذين لم يستطيعوا البقاء معه في اللحظات الأخيرة «لا. لا تزعلوا. كنتم ستتألمون لألمه». تحاول الابنة التي تحوّلت إلى والدة في الأشهر الأخيرة، أن تتماسك. فتروح تحكي كيف تلقّت الخبر، متفاجئة من وسائل الإعلام التي نشرته قبل أن تصل هي إلى بيت والدها «قبل أن أترك البيت اتصلت بشقيقي لويس أسأله عن وضعه، حاول أن يؤجل إبلاغي إلى أن أصل، ثم قال لي. المفاجأة كانت أني سمعت الخبر عبر الإذاعة في السيارة، ولم أكن قد وصلت بعد». تلتفت إلى مفارقة حزينة «أمي أيضاً توفيت يوم ثلاثاء، وكانت الساعة تقترب من الواحدة والربع».
روح أنسي الحاج انتقلت أمس إلى السماء، قال أفراد عائلته. روح أنسي الحاج تحلّق فوقنا الآن، وتذكّرنا بآخر خلاصات عمره، كما قال لي مرة، وكان قد كتبها في نصّ: «بعد هذا العمر، فهمت أهمية أن نتحلّى بالشفقة. الشفقة بوصفها الحبّ الكامل».

يصلّى على راحة نفس الشاعر في «كنيسة مار يوسف ـ الحكمة» (الأشرفية) عند الواحدة من بعد ظهر غد الخميس، قبل أن يوارى في الثرى في مدافن العائلة في بلدته قيتولي - قضاء جزين. وتقبل التعازي يومي الجمعة والسبت من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر إلى السادسة مساءً في صالون الكنيسة.

*****
تحية مازن كرباج

***

استراح من شجَاره المدهش مع اللغة

حسين بن حمزة

  استراح من شجَاره المدهش مع اللغة حين كتب أنسي الحاج (1937 ـ 2014) باكورته «لَنْ» (1960)، كان الحرف الذي في العنوان يعني نوعاً من الامتناع أو الرغبة في التوقف عن الاستمرار في كتابة ما يُكتب. وكان في ذلك نوع من الازدراء للجملة العربية التقليدية. كان «لن» حرفاً واحداً ومتفرّداً وصادماً، وكان الحرف الواحد الوحيد المنقطع عما يليه تأويلاً للرفض ومديحاً له، تأويلاً للتلعثم والركاكة ومديحاً لهما أيضاً.
«إنني حقاً متلعثمٌ»، كتب الشاعر في ذلك الديوان الأول الذي سيصبح منذ إصداره بداية رسمية لقصيدة النثر العربية التي ستُكتب لاحقاً بطرق وأساليب وحساسيات مختلفة عما بشّر به أنسي الحاج، بل إن الشاعر الراحل محمد الماغوط كان قد سبقه بعام واحد إلى كتابة قصيدة نثر مختلفة في باكورته «حزن في ضوء القمر» (1959)، لكن ريادة قصيدة النثر التصقت بـ «لن»، ولعل المقدمة النقدية الشهيرة التي استُهلّ بها الديوان هي التي عززت هذا الانطباع عن ريادة أنسي وديوانه الأول. ما يهمنا في لحظة غيابه أن نسجّل أن الشعر الذي كتبه في «لن» لم يذهب بعيداً عن منبعه، وعن دفقته الأولى، وأن النبرة التي أراد بها تحطيم الجملة العربية الكاملة ظلت تتحرك في الموضع ذاته. في الموضع الذي أُريد للقصيدة أن تكون طفلة جميلة ومتلعثمة وشقية وغريبة عما حولها فيه.
لقد حفر أنسي الحاج في المكان الذي بدأ منه، وفي الجوار المحيط بهذا المكان. لم يذهب أبعد من ذلك في «الرأس المقطوع» (1963) الذي هو استمرار آخر لـ «لن» على أي حال، ولم يذهب أبعد حتى في دواوينه التالية، وكذلك في «خواتم» التي كتب آخر نصوصه تحت عنوانها. لقد ظلت تجربة أنسي محكومة بطفولة شعره، وصعقة ولادته الأولى. صحيحٌ أن جملته استراحت أحياناً من توترها وهجوميتها وجحيميتها، وتخففت أحياناً أخرى من شِجَارها المدهش مع اللغة ومع المخيلة، إلا أن ذلك لم يكن تصالحاً كاملاً ونهائياً بين الشاعر وجملته نفسها. لقد ظلت روحية «لن» حاضرة حتى في القصائد التي حظيت ببنية سويّة ومنسابة في دواوينه التالية. كان «لن» نبتاً شيطانياً، وكان مكتوباً لصاحبه أن يظل ممسوساً بتلك الروحية التي كُتبت ضدّ اللغة وضد البلاغة وضد الجماليات التقليدية. كان «لن» مجازفةً بمعاني الكلمات في القواميس، وتمريغاً لها في أرض وعرة. لعب أنسي الحاج بمصير الكلمات، وتعامل مع قصيدة النثر التي بشّر بها وكتبها كأنها مستشفى للأمراض والانحرافات. كان شيئاً مباغتاً ومُجفِّلاً أن نقرأ سطوراً مثل: «نُكحتُ من بؤبؤيّ وعلى الورقة كتبتُ بياضاً»، و«عوض أن تُقبل من أمكَ تزوّجها»، و«أُسرطنُ العافية»، ولكن ذلك كان يترافق مع صور أقل عصفاً وأكثر عذوبة مثل «لآكلكِ عشاقكِ أنضجوكِ»، و«غداً تقولون: أعماهُ شعرها الطويل»، و«أنا جائزةٌ باسمكِ».
خصوصية أنسي الحاج بدأت بالرغبة في كسر الفصاحة وإفساد الجملة واللعب بذائقة القارئ. صفاتٌ مثل هذه كانت تُفسد عليه هو أيضاً لذة إكمال الجملة وإشباع المعنى، وهو ما نجده في أغلب نصوص ديوانه الأول ومنها قصيدة «سِفر التكوين والهجر، حيث يبدأ السطر التالي قبل أن يكتمل السطر الذي قبله: «أراكِ وفمكِ الحرّ، بعيدة/ يمرّ دهرٌ عميقٌ ثم أرفع فمكِ/ وتمرّ هنيهةٌ/ مقيّدٌ في صرّة لا أزيح الباب عن قلبي/ شفتايَ شفة/ أيها الموطن الزّفر، إنك معها/ أمرّ قبل جرعها/ أتناول الحبر لأعميك/ مصطفى كي أسبح فيّ وحدي/ دهر أبوابك لدي/ يا رجلكِ ترتع في نظراتي النواحة، رجلك عند رجلي كاحتضان/ يا رأسكِ (متى؟) على رأسي/ يا هربي يُردُّ إليّ، ينام عليّ/ أرقبكِ، والضجرُ عارياً».
سيتوقف هذا القطع والاقتضاب والحذف والتلعثم في «ماضي الأيام الآتية» (1965) و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» (1970)، ولكن المذاقات التي حملها «لن» ستظل تنبعث من جملته التي بات يُسمح لها بالاسترسال وإكمال المعنى، ولكن لا يُسمح لها بأن تنجو من حيرتها وترددها وعصبها الداخلي. هكذا، رحنا نقرأ صوراً مثل: «أنا شعوبٌ من العشاق»، و«جميلة كمعصية»، و«تجلسين على حافة السرير، بالكِ في الريح وقدماكِ في العاصفة»، و«كانت لي أيام ولم يكن لي عمر»، وهكذا، راح بعض الغناء والإنشاد الخفيف يظهر هنا وهناك، وراح الشاعر يدعونا إلى الباحة الخلفية للغته ومعجمه لكي يُرينا هشاشته ورقته ولطفه بعدما أوهمنا مروره العاصف بضراوته وجبروته وقوته، ولذلك كتب في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (1975)«أنا هو الشيطان أقدّم نفسي/ غلبتني الرِّقة». نعم غلبت الرقة صاحب اللغة الشرسة والعارية من ماضيها، وراح في أواخر أيامه يمتدح تجارب إيقاعية وتفعيلية، ويستحسن ما فيها من شعر صافٍ وإن كان منجزاً بما ازدراه ورفضه طوال حياته. تصالح صاحب «الوليمة» مع الزمن ومع العمر ومع المرض، وكانت له إطلالات فلسفية على فكرة الموت، وتأملات آسية في فكرة الغياب. تأملات ظل يخلطها مع مقاطع شديدة النثرية ولكنها أشعر من الشعر. أنسي الحاج في النهاية كان لاعباً مدهشاً ومجرّباً كبيراً، وكانت قوة نصوصه متأتية من طزاجتها وتوهجها وقدرتها على نقل عدواها بطلاقة إلى القارئ، ولعل «خواتم» التي دأب على كتابتها كل سبت في «الأخبار» منذ صدورها، وقبل ذلك في مجلة «الناقد» كانت تأويلاتٍ واضحة وصافية لتلك الروح الصاخبة والفظّة التي بدأ بها، حيث كانت الكتابة، كما لدى مجايليه من الرواد الآخرين، محكومة بمهمات جليلة على جبهة التجريب والتجديد، وكان الصفاء الشعري مؤجلاً إلى المستقبل. في «خواتم»، فتح أنسي أرشيف خياله للقارئ، وكانت تأملاته وخلاصاته الشخصية أشبه بكنوز متواصلة يعثر عليها أثناء الكتابة ويُريها للآخرين في اللحظة ذاتها، والغريب والمدهش، أن تلك الكتابة المنتظمة أسبوعياً لم تصنع له قالباً مملاً أو تكراراً مضجراً، بل كان قادراً على تحويل أي فكرة صغيرة وعابرة إلى خلاصة ثاقبة ومبهرة. لم يكن اصطياد الشعر واستعاراته مقصوداً دوماً في «خواتم»، بل كانت فيها عصارة العيش والحب والشغف والقراءة والتنفس والتأمل وصداقة الكلمات. بعضنا كان ينتظر «خواتم» لتصنع نهاره ومزاجه، وبعضنا كان يقرأها ليظل على اتصال مع الكلمة الحية والحرة والنزقة والمتطيرة والفائرة.
كان أنسي الحاج يشبه لبنان، ويشبه صورة لبنان كجغرافيا للتجدد واللهو والخصوبة والأسطورة. نتكلم هنا عن معجم لبناني وحساسية لبنانية موجودة في الطبيعة والشعر والصحافة والغناء والمزاج. نتكلم عن مختبر الحداثة والتنوير والعصر الذهبي لبيروت. أنسي الحاج هو ابن تلك الصورة، وأحد صانعيها الكبار. وبرحيله اليوم، تخسر المدينة جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي للخيال والحداثة والتحرر.

***

البطل السلبي بين الهالة والظلال

(هيثم الموسوي)

أنطوان أبو زيد *

أنسي الحاج لأكثر من أربعين عاماً خلت، وكنتُ بعدها في السابعة عشرة، أول سنة لي بعد خروجي من الدير، تلقيتُ أول هدية من فتاة صديقة بمناسبة إبلالي من المرض، كتاب شعر لمحمود درويش. ظللت أقرأ في الكتاب طيلة عام 1972 كأنه النيزك الذي سقط على أرض جرداء فنقبها وجعل عاليها واطيها، وأخرج الخصوبة الكامنة منها إلى الوجود. قلت هذا هو الشعر.
وبدأت أقرض الشعر على غراره. وحين تسنى لي أن أهبط إلى المدينة أواخر 1974، وقد صرتُ في كلية التربية، تسنى لي أن أقرأ عصام محفوظ، شعراً لا مسرحاً. ثمّ كرّت المعارف، فأمكنني، بفضل كتابات نقدية لي ألحّت عليّ بفعل دعاوى العدالة والتجديد ومعارضة الاستبداد اللاحق بزملاء قدامى، الكتابة في جريدة «النهار»، في بريد القراء، على ما أظنّ، وسمعتُ أنّ ثمة شعراء ولكني لم أجد الوقت ملائماً للدخول في علاقة. وبعد الحرب الأهلية وإصرار الشعر عليّ، على طريقة الشعراء الصوفيين أمثال سمير نصري، كتبتُ في جريدة «الأنوار»، وما لبثتُ أن غادرتُ هذا السبيل إلى كتابة الشعر المنفلت من الوزن متأثراً ببول شاوول، الذي كان له الفضل في تصحيح بعض القصائد التي كنت آتيه بها، وهو في «الهورس شو»، وأنا بين الجامعة وميدان الزراعة. أنسي الحاج صار لي، في ما بعد، من حيث شخصه المادي، إنساناً ذا اقتدار، وهذا ربما لم يشجعني على لقائه، فأنا ميال _عرفت نفسي متأخراً _ إلى المستضعفين. ومع ذلك، ظلّ نصّ أنسي الحاج الأصيل الأكبر بين نصوص قصيدة النثر. مكانته لا تكمن في أنه هزّ عرش الأوزان ولا أنه أبطل وحده الشعر الحرّ، إنما فضلُه، برأيي، في الصيغ والتراكيب العربية التي تلاعب فيها بالموروث وخربط الذائقة التقليدية، وبشحنات من المشاعر قوية موصولة تكاد تبدو لي مقطوعة عن أبعادها اللاهوتية. كانت شحنات شعر أنسي الحاج، لدى قراءتها، منتصف السبعينات تحدياً لنا، بل لي أنا الخارج من تراث الشعر الفلسطني العربي الصاخب ولكن على إيقاع، ولم أكن قد عرفت تراثاً شعرياً آخر كان يشق سبيله مع شعراء مثل عباس بيضون، ومن مناخ آخر ذاهب في اللغة الى محاكاة اليوميات، لكن بثقل فلسفي وتصاوير وتأثرات من السينما والمسرح والترجمة. أنسي ظلّ هنالك، أي أثره، في البدايات التي رسمت أعياد قصيدة النثر، مع فرسانها الأوائل، شوقي أبي شقرا الذي كان يكوكبنا، نحن الفقراء الشعراء حول كيسه وصفحته الثقافية، ويلقّمنا عن قرب. أما أنسي، فكان يلقّم عن بعد. وحتى لا يُفهم الأمر بحرفيته، كان أثر أنسي عليّ من بُعد، أثر اللوحة التكعيبية في من شاء الاستزادة من خطوطها والاستيحاء منها ومن غيرها، في آن واحد. ولربما ذلك الموقف البورجوازي، بل المتعالي، من العلاقات، الذي وقفه أنسي، أو هذا ما خيّل اليّ، كان بمثابة ردّ المعجب إلى النصوص؛ فكأني به يقول: «إذهبوا إلى نصوصي، ولاقوها، واحتفوا بها، أما أنا، فمحض ظلّ لها!» هناك تلقى «المرأة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وتلقى عواصف «لن» وبروق «الرأس المقطوع» حتى آخر المطاف. لم أكن تابعاً ولا جندياً تحت راية أحد من الشعراء الكبار مثل أنسي _حماني التعليم من هذا المجد_ وانما كنتُ معجباً بأنسي، وبشوقي وبول شاوول وفؤاد رفقة وسمير نصري وعباس بيضون، الذين احتفيت بهم في حياتهم، كاحتفائي بأدونيس أستاذي في كلية التربية، وخليل حاوي، ويوسف الخال، اللذين لم أعرفهما وعوّضت عن جهلي بهما بالإضاءة على أعمالهما. أما أنسي الحاج، فسوف يبقى موقعه، في قصيدة النثر، محفوظاً ومدروساً وموضع تقدير وتبيين تبياناً للأجيال الشعرية الجديدة التي غطّت الساحة وكادت أن تغطّي على الإنجازات في القصيدة (قصيدة النثر) الصائرة منارات يُستضاء بها، ولا يجوز التعتيم عليها، حرصاً على الشعر وذُراه، ومنها أنسي.
ما كان يُشاع عن أنسي أنه ذو نزعة الى التسيّد على الآخرين لم أكن لأسوّغه أو أدخل في تحليله، لأني لم أشأ مرة أن أكون في عهدة أحد الشعراء الكبار، أو تحت رعايته، لكن تلك الصورة، في شعر أنسي تكاد تكون نقيضاً من ذلك، أو ما استخلصته من شعره، منذ مجلة «شعر» وحتى آخر «خواتمه» المبتهلة في جريدة «الأخبار». إنها صورة البطل السلبي المضحّى به في سبيل الحبّ أو الصرخة أو الانتفاضة ضدّ التقليد والركون والبلادة وضدّ ضدِّ الحبّ. البطل السلبي هو إنسان العصر، المقيم في المدينة وليس قابلاً بشاعتها، والمنخرط في حراك الشعوب وهو الكائن الفرد فيها، والموافق على إيمانات الشعوب والكاره تعصّبها حتى حدود الكفر ولا كفر. هكذا كان أنسي الحاج، صانع أسطورته في شعره، ورافع نبرته حيال اللغة، مع حساب دقيق للجمالية في خط الرجعة. متمرّداً وصبياً حتى في شيخوخته، مع أناقة دهرية. هكذا كان أنسي الحاج.

*************

لغة تعبر الأجيال بلا حواجز

أسعد أبو خليل

لم أكن أعرف أنسي الحاج قبل أن يساهم في الكتابة الأسبوعيّة في «الأخبار». كانت مقالته تنتشر بسرعة وتُقرأ بعناية مع أنه لم يكن يجول في وسائل التواصل الاجتماعي كي يدرك حجم مريديه خصوصاً من النساء. أنسي الحاج من الكتّاب القلائل الذين عبروا الأجيال في تأثيرهم الأدبي القوي.
وعلاقتي مع الشعر العربي الحديث والحديث جداً علاقة مرتبكة (وغير إيجابيّة) تعكس خلفيّة سياسيّة عادت تجربة مجلّة «شعر» لأسباب سياسيّة وأدبيّة. كما أن مساهمة أنسي في تجربة جريدة «النهار» مثّلت لي عنواناً غير مريح مع أنه في تجربة «الملحق» (كان هو وحده مسؤولاً عن نجاحها وفي سن جدّ مبكّرة) خرج عن نطاق الحدود السياسيّة التي رسمها غسان تويني. وفيما كان تويني وغيره في الجريدة يمثّلون سياسات دول الخليج العربي ومعاداة الثوريّة والثورة الفلسطينيّة، كان هو يكتب في مديح العمل الفدائي وله مرثيّة جميلة عن غيفارا بعد إغتياله البشع من قبل عملاء المخابرات الأميركيّة ومن عاونهم في إصطياده.
أخبرني الزميل خالد صاغيّة في ما بعد أن أنسي لم يكن يقرأني في «الأخبار» ولتي كان يكتب فيها (وفي نفس يوم نشر مقالتي الأسبوعيّة) قبل 2008 عندما كتبتُ مقالة ضدّ جمانة حدّاد. قال إنه عندها فقط بدأ بقراءتي. وقد أصبح على ما قيل لي هو المسؤول عن تحرير وتنقيح مقالاتي عند وصولها. وفي أسبوع 7 أيّار، عندما كنتُ قد أرسلتُ (قبل أيّام من حدوثها) مقالة من سلسلة مقالات عن «اليساري السابق» إلى الجريدة، تريّث الزميل خالد صاغيّة حتى لا يظهر الأمر على أنّه تشفّ لما حدث لمكاتب «المستقبل» لكن أنسي— على ما نُقل لي— هو الذي أصرّ على ضرورة النشر، وتمّ ذلك.
لم ألتق بالراحل إلا مرّات قليلة أثناء زياراتي القليلة إلى لبنان. لكنني كنتُ أحرص على سؤاله كثيراً عن تجربته عبر السنوات لما لديه من خبرة طويلة ومعرفة. وما لفتني فيه في مكتبه في «الأخبار» أنّ باب مكتبه كان مفتوحاً دوماً وكان جد متواضع يتواصل باستمرار مع جيل جديد من الصحافيّين (وخصوصاً الصحافيّات اللواتي كان يحرص على حضورهنّ في مكتبه وعلى تشجيعهنّ). لفتني أيضاً أنّه كان سهل التعامل والتواصل على عكس الكثير من جيله من الكتّاب والصحافيّين في لبنان. وحدثته عن تجربته في «النهار» وأخبرني عنها الكثير. قال لي إنه لم يكن حتى يتفق مع سياسة والده لويس الحاج (كشف في كتابه «من مخزون الذاكرة» عن ميول كتائبيّة يمينيّة). قال إنه في سنواته الأخيرة في «النهار» كان يتلقّى مبلغاً كبيراً جداً لرئاسة تحريرها وكان عمله جد مريح من الناحية الماديّة لكنه شعر بضيق شديد من موقف جبران تويني و«النهار» من غزو العراق بالتحديد. لم يعد يستطيع أن يستمرّ، كما قال لي. حاولوا إغراءه في البقاء لكنه لم يستطع.
فاجأني بمتابتعته للأبراج التي تصيبني بالملل. أراد أن يعرف برجي فأجبته قائلاً: أتمنّى ألا تكون من هؤلاء الذين يتابعون الأبراج. فأجابني: لا، أنا أتابع الأبراج علميّاً فقط بناء على دراسات لحركات الكواكب، فضحكت في سرّي. لكنه كان سهل المعشر غير متكلّف. فوجئت عندما قرأت مقالته «حميميّة» (وهي من آخر مقالاته) عن أشخاص عرفهم عبر السنوات أنه ذكرني بالقول: «أسعد أبو خليل الفوضوي لحسن الحظّ». لم أفهم قصده ولم (ولن يتسنّى) لي سؤاله في الأمر.
لم أكن أتفق مع الكثير من كتابات الراحل. أنافق لو إدعيت العكس. كنت أشعر أنّه ينمّط في حديثه عن الطوائف وعن سلوكها وأهوائها، وكنت أتبرّم من إيمانه القطعي بفاصل بين «الرجل» وبين «المرأة» وعن صفاتهما. لكن لأنسي الحاج أثر بالغ في الثقافة اللبنانيّة التي إهتم بها كثيراً (ذهلت عندما علمت انه لم يزر مصر في حياته). لكن أهميّة الحاج تكمن في قدرته على التواصل والمخاطبة عبر أجيال، ومن دون جهد. كانت لغته تعبر من دون حواجز من أي نوع. ستكون جريدة «الأخبار» حزينة يوم السبت، كل يوم سبت. سأشتاق إلى الإستشهاد الغزير من مقالاته يوم السبت على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً من قبل نون النسوة.

***************

«خواتم»: لا مكان للرضى، لا مكان لليقين

يزن الحاج

هل كان علينا انتظار أكثر من نصف قرن لنكتب عن أنسي؟ أسماء كثيرة عبرت أرض الشعر، وهذا «العارف» يتأبّط سرابه بصمت كدأبه. لم تغيّره الحرب، أو الابتعاد عن الأضواء الحارقة، أو المعارك «الظلاميّة» التي تسعى إلى نسف الأرض بما فيها، بكلّ عابريها، إلا بما يتلاءم مع حدود ما تلقّنوه من معلّميهم الأكثر جهلاً. بقي الصامت الدائم، الذي لا يفضّل الصراخ، والذي يأبى إلا أن يغيّر الحياة والشعر والنثر بالهمس.
الهمس، وحده، هو الثابت، وكلّ ما عداه عابرٌ كالأسماء الرنّانة. هل كان أنسي الحاج يعرف أن بيانه الشهير في «لن» (1960)، لا يزال إلى اليوم يعكّر صفوّ كارهي التغيير؟ هل كان يعرف أنّ «الظلاميّين» من أهل السلطة، مثقفين وسياسيّين على حد سواء، سيتآمرون خفية لإعدام أعماله الكاملة في القاهرة قبل سنوات؟ لا نعلم حقاً درجة تعويله على «الكلمة» كسلاح بيد من تبقّى من «الروّاد» المخلصين الأوائل للتغيير، لكننا نجزم بأنّ هذا اللامبالي بالشهرة أدرك أنّ أعداء الكلمة هم أكثر من يساهمون في تقويتها.
منذ قصائده الأولى، بدا أنّ أنسي يؤسس لشيء أكبر من مجرد الاكتفاء بعضويّة هيئة تحرير في المجلة الشعريّة الأكثر شهرة، وأن هذا الشاعر «الأنقى»، سيمضي لتأسيس مشروع شعريّ (ونثريّ لاحقاً) يشبهه في الهمس الجارح. وبرغم أن شعر أنسي الحاج يستحق الكثير من الكتابة والتقويم النقديّ، إلا أنّنا نعتقد بأنّ كتابه النثريّ «خواتم» بجزءيه (1991، 1997) يستحق ضوءاً أكبر، بخاصة أنّ «أفق الكتابة الجديدة» اليوم يومئ إلى أنّ خيارات أنسي الكتابيّة كانت الأكثر صواباً بين مجايليه، وأنّ النثر هو غد القصيدة والحياة بأسرها، وأنّ المعارك الجانبيّة بين الأجيال الشعرية لن تثمر إلا العبث، وأنّ «الشذرات» هي اللغة الجديدة للجيل الذي لم يعوّل عليه أحد، جيل الفايسبوك والانتفاضات، الكاره للغة الخطابات الرنانة التي كانت ولا تزال أهم أسباب خيباتنا المتلاحقة.
يبدو «خواتم»، بتاريخ نشره الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحتواه غير الاعتيادي آنذاك، أشبه ببيان آخر لـ «سراب العارف» (الاسم المستعار الذي لجأ إليه أنسي في سنوات الحرب) الذي اعتزل الحياة العامة زمن الحرب الأهلية، بل يبدو أقرب إلى «مانيفستو» ثوريّ جديد لجيل ما بعد الحرب الباردة، وانهيار «الكبار» في السياسة والثقافة. الجيل الذي اعتاد هزائم آبائه، ومضى في طريقه الخاص ليرسم ملامح مرحلة ستأتي بعد عقدين. في «خواتم»، لن يجد القارئ قولاً فصلاً، بل سيلاحظ اتّساع موشور الحياة بوجوهها وألوانها المتعددة. سيجد أسئلة طازجة عجز عنها الشعر بكلّ مدارسه، أسئلة التحرر، الحداثة، الإيمان، الكفر، والتمرّد، كما سيجد إجابات عابرة لمسائل كانت تؤرّقه منذ سنوات. «خواتم»، الذي اعتبره البعض استراحة المحارب لصاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، أثبت أنّ هذه اللغة المتشكّكة في كلّ شيء هي أساس الكتابة القادمة. تفجّرت خلال السنوات الثلاث الماضية براكين من هذه «الكتابة المغايرة»، التي أوشكت أن تصبح هي الجنس الأدبي الأوحد، حيث بدأ «الجيل الضائع» من الكتّاب الجدد بالبوح في زمن الانتفاضات والحروب، ولا سلاح لهم سوى هذه الشذرات، وذلك الهمس. كان الكتاب (لحظة نشره، والآن أيضاً) بمثابة ردّ غير مباشر على معظم منتقدي «تقلّبات» أنسي الحاج السياسية والفكرية. «مَنْ يصنّفك يقتلك»، يقول أنسي، وتقول سطور «خواتم» العصيّة على التصنيف. سطور تحمل النثر، الشعر، التأمل، الفلسفة، بل وحتى الخربشات العجولة. وبذلك، يبدو «خواتم» أقرب إلى جيل الألفيّة الثالثة، أكثر من تلاقيه مع مجلة «شعر» ومريديها، أو حتى مع «التيار النثريّ الجديد» الذي اتجه إليه الشعراء الآخرون كمحمود درويش في «في حضرة الغياب». هاجس التحرر هو أكثر ما يمكن التقاطه في نصوص «خواتم». الهاجس المتّسم بالقلق، الشك، والتردّد. لا مكان للتعصّب في «خواتم» أنسي، لا مكان لليقين، لا مكان للرضى، لذا لا مكان لـ «امتلاك الحقيقة». وهذا الادعاء بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، كان أهم سمات «الثورجيّين» الجدد، الذين عاودوا الهجوم على أنسي الحاج في العامين الأخيرين. وبرغم أنّ العين المدقّقة يمكنها التقاط أصداء أنسي في كتاباتهم (وصلت في حالات متفرقة إلى «تلاص» تام)، إلا أنّهم تناسوا أنّ اللغة عصيّة على التقليد، وأنّ بذور التمرّد لا تنتقل عن طريق الهواء، وأن الاكتفاء بالتنظير للحرية لا يعني ممارستها.
تناسى هؤلاء المنتقدون أنّ من كتب يوماً «الرجولة لهذا النظام [نظام القوة العسكريّة والبوليسيّة] هي نباح قائد الجنود بأوامره وامتثال الجنود للنباح. الرجولة هي الرأس الحليق من خارج ومن داخل. هي الثكنة. هي اختصار العالم إلى حدود ما يجهله المتعصّب الأحمق، وما زاد كان للحذف والقتل»، لا يمكن أن يكون معادياً للتحرر، أو مناصراً لدكتاتورية ما، دينيّة كانت أم «علمانيّة». وبذا، كان تعريف الحرية بحد ذاته، هو الفارق الأهم بين الطرفين المتمايزين والمتناقضين.
هذا التحرر هو الشاغل الأساسي لصاحب «خواتم»، الذي تابع كتابة الجزء الثالث في «الأخبار». ومن يتابع «خواتم-3»، فسيلاحظ أن أنسي مشغول بإعادة تعريف ما اعتُبر لسنوات بمثابة أمر واقع؛ يبدأ بما ظنّ الآخرون أنه القول الفاصل، والنهاية، و«الحقيقة». يبدأ بانتقاد بيانه القديم في مجموعته «لن»، ولغته القديمة، وشعره القديم، محاولاً إيجاد فسحة لـ «الجديد»، لغة وأفقاً. ليس الشكل هو وحده ما يجدّد أفق الكتابة، وليس العمر وحده ما يصنّف الأجيال، بل هو طزاجة الأفكار وتمردها. «إلى أي مدى أكون «حراً» ما دمت مراعياً، وأنا أكتب، جانب القراء؟» يتساءل أنسي عام 1997، ليبدأ تطبيق هذه «الثورة» في الكتابة في «خواتمه» الجديدة. ليس القراء كُلاً واحداً موحّد الصفات والأمزجة؛ فالتماثل سيعيدنا إلى الثكنة وعالمها المتشابه والمعادي بالضرورة للفن، وكلّ ما هو «بدعة». هذا القارئ المتفرّد هو الهدف الذي يسعى إليه أنسي، وتسعى إليه شذرات «خواتم-3».
«الحرب لا تُبكيني. أغنية صغيرة قد تبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج»، يقول محمد الماغوط. هذا البكاء «الآخر» هو الأداة التي ستغيّر النفوس التي اعتادت تصنيف الضحايا، وتصنيف الحزن، وتصنيف الحياة. وكما هي الأغاني «مشاع»، يحاول أنسي الحاج في «خواتمه» إعادة «المشاعيّة» إلى الكتابة والتحرر، إلى أجيال اعتادت ذلك الانفصال الحاد بين «نخبة» عارفة ومتلقّين جاهلين، بين الحاكم والمحكوم، بين من يبيع الحرية ومن يشتري ما يناسبه منها. «خواتم» أنسي الحاج هي هديّة قرن كامل لقرن آخر، بكلّ لحظات جموحه، تحرّره، قلقه، شكّه، ومحبّته.

****

وداعاً أيها الحلم

سُلافْ فواخرجي *

عندما كتب الكبير أنسي الحاج عني في جريدتكم العزيزة أكثر من مرة، امتلكت جناحين من رقي كلماته. نعم امتلكت جناحين. والآن برحيله رحل أحدهما معه. وظل الثاني بما كتب. يا من مسّيتني بكل الحب ورحلت تاركاً كل الحب وأكثر. يا من حفر اسمه في شغاف قلبي وفي مسيرتي. ويا من صنعتُ لكلماته عني إطاراً من خشب السنديان ووضعته بين صور أولادي وجوائزي على جدران بيتي، الذي لم أره منذ زمن طويل، حين بكت سوريا وصرخ قاسيون واحتج الياسمين.
يا خوابي الذهب ويا نور الشعر الذي يسكن أحشاء الروح. وداعاً. ويا لنار رحيلك التي لن تخفف لظاها إلا أحرف من نور سكبتها مخيلتُك على أوراق من نور ونار. أيها الكبير رقيّاً وتواضعاً وابداعاً. عذراً على موعد بيننا لم يتحقق. لأهلك ومحبيك ومعجبيك العزاء بأنك لن ترحل. وستبقى. أنسي الحاج. وداعاً أيها الحلم.

* ممثلة سورية

***

3 تفاحات وسكّين!

ناهض حتر

في المطار، أخرجتُ الجريدةَ من جيبي، مزقةَ الصفحة الأخيرة، كأنها رسالة في زجاجة، الزجاجة قذفها بحر بيروت لي؛ كان نصُّه الأخّاذ: «عيون». منذ «لن»، وأنا مسحورٌ برنّة الكلمات في القلب. لطالما أردتُ السير على خطاه! هذه المرة، كتبتُ على حوافّ الجريدة، ما أملاه عليّ من «العيون»، اكتشفتُ، مجدداً، «ما هو أكثر» في العلاقة اليومية بالمرأة والعالم والحياة.
دائماً، بعد استنفاد كل وصف وتحليل ممكنين، يوجد «ما هو أكثر»، وقليلون، أحياناً، يحاولون اكتشافه، فيعصى، وما يبقى ممكناً هو الشرارة بين الإزميل والحجر. عاش أنسي الحاج عمره يسعى للاقتراب ممّا هو أكثر من المرئي والمسموع والملموس، فغدا هو نفسه الأكثر العصيّ البعيد، سوى أنه، في ذلك البرق الغامض، يحرّضنا على اكتشاف الدهشة، ويغرينا بكتابة تقتفي أثره. كتبتُ النص التالي، تحت التأثير المباشر لأنسي الحاج، وغالبتُ خجلي حين أرسلته إليه. الآن، وقد رحل وذاب في غيمة لا تُدرك، شيء ما يدفعني إلى نشر ما هو ممكن من ذلك النصّ المفتون بكلماته؛ أنا المشغول بالصراعات حتى الأذنين، وجدتني على رصيف الحاج، عاشقاً. الشاعر ليس من يكتب شعراً _ ولو عظيماً _ بل هو الذي يدلنا على منابع الشعر في الحياة اليومية، مَن يغوينا بالتسلل إلى مغارة الأشواق المهجورة في ذواتنا المتجهّمة الخائفة الصلدة.
3 تفاحات وسكين
عيناكِ فضيحة؛ مَن يلمحهما تسقط في قلبه ثلاث تفّاحات وسكين، تفتنه شهوةٌ مبهمةٌ، شهوةٌ لامرأةٍ مختزنةٍ في حلم أو ذكرى، يرتبك، ثم ينتبه ويستدرك.
وتنتبهين.. دائماً تنتهبين، وتكشفين المخبوء. يصعب أن تغادر عيناكِ وجدانَ الرائي، يُفاجَأ، في الذكرى، بأنه يعرف عنكِ الكثير. تتساوى في حجم معرفتك، النظرةُ والعمرُ الطويل؛ لا تفاصيل، وإنما اكتشافٌ مذهلٌ يلمع كالبرق. البسطاء أكثر يصدّقون البروقَ أكثر، يتقدمون، وأحياناً يفوزون!
الأكثر عُمقاً يشكّكون، يتفادون، حتى حينما تبرق الرؤيا في ابتسامة الوجه كالسحر، يتفادون، تغدو الشهوةُ إعجاباً، والفجورُ تهذيباً، والعلاقةُ الممكنة وقوفاً عند منحنى!..
***
العشّاق الوجلون كُثرٌ، لكنهم ضروريون من أجلكِ، من أجل ملكة النحل!
***
أنا معذّبٌ لأنني أحبك سبع مراتٍ؛
كالبسطاء أنا عاشقٌ فائزٌ، لكنني، كفيلسوف عاثرٌ، أفكّر في معنى امتلاكك! وكالوجلين لا أتيقّنُ من بروقك، وأقفُ على الحدود، وكالخائفين، أهرب من تسلّط العينين البغيتين، وكالأطفال، استحضر وجهكِ الضحوك، وكشريكٍ، أتواطأ، وكزوج متملّك، أغار!
لستُ واحداً، بل سبعة معاً؛
لذلك، تواصلين معي أيتها الملولة،
لذلك، يكون مذاقُكِ مختلفاً في كل مرة،
لذلك، أتوجس من اللقاء بعينيك مباشرةً، هل تلاحظين؟
***
كلّ جسدٍ يستنفدُ حضوره حتى آخره، إلا جسدُك يظلّ حاضراً. هذه الحقيقة العلمية أنا مكتشفها اللحوح، أفكّر، بلا مخرج، عن السر. السر في العيون، أعرف، لكنني أخاف من المرايا ومن الوقائع، أخاف من أحلام الرجال بين الكحل والبريق. آخذ جسدك، كالفوز بامرأةٍ عابرة، وحين أكون .. أستدعي ابتسامتك، وأهربُ من سطوةِ عينيكِ، وأفرُّ لأفكّر بكل ذلك، أخشى على ما أعددتْه من رجولة لتمنحك البهجة، ثم أعانقكِ كطفل.
***
هدأتي الوحيدة القصيرة الموجوعة الانتحارية، تحدث، فقط، حينكِ، وحين تمضين...
***
أتحاشى عينيك!
***
أفكّر بالرداء الأكثر سفوراً عن روحك، ويسمح للرّائي باقتناص عبقرية النحت في إيقاع الحركة بالذات، ثم أراك تنظرين .. لن يبلغ جسدك المنحوت للاشتهاء والصلاة معاً، مبلغَ العينين.
***
لا تنظري نحوي:
هذا الحبُّ شرسٌ،
يحتاج إلى الهدوء!
****
أبي أنسي

أحمد محسن
لا يهم هذا أحداً. ولكن إن كان للصعوبة معنى فهو الكتابة. أقوله مرتعباً من أن لا يكون مؤلماً بما يكفي، ولا يعكس حقيقة ملامح العالم بعد أُنسي. وأجزم بأنه ناقص أكثر بكثير مما يجب أن يكونه. كان يسمّيه فرح الزوال، برهافة ستبقى هكذا إلى الأبد بلا تفسير. أهرب دوماً، كان يقول، وكنّا نصدق بسببه أن الموت يمكن أن يكون أكثر جذلاً، فقط إذا كتبه أُنسي.
أكتشف الآن معنى الخسارة: شمس تغيب وزيف المواساة. أكتب كما لو أني تلميذ وحيد في مدرسة، والسماء صبورة زرقاء، يتحتّم عليّ أن أملأها بالكلمات، في وداع الأستاذ الأخير. أنظر إلى هذا البياض الكبير أمامي وأراه مبتسماً. كل شيء أمامي الآن، أراه بوضوح تام، يمرّ كشريط لا تقصه ذاكرة، ولا تستطيع يد مسّ شيء منه. مكتبه الذي تتناثر حوله كتبُ وقصص. خط يده ينظف أخطائي الوافرة في لغةٍ أخذ معه مفاتيحها. سيره سير الهارب في ساحة ساسين إلى منزله القريب، قرب المقاهي والعابرين الذين يحبّونه ولا يعرفونه. شغفه برينيه شار والإله البعيد والشِعر الذي هو روح العالم. ماض بطيء لكنه برّاق كأضواء تتلألأ من بعيد، ومياه راكدة في لوحة تعشقها العين ولا تقوى على تحريكها. أكتب، كأني أعرج على حبل طويل من الأحرف، وأكاد أتعثر بينها خائفاً من الفراغ الذي يتسع. فراغ شاسع يصل إلى أعماق القلب. فراغ بمخالب صلفة تحفر آثار الغياب، يستكين هناك، يئن قصائد ونصائح وضحكات قديمة لا تتوقف. لا أعرف من أين أبدأ، وكيف أصل إلى خاتمة، أوقن أنها غير لائقة بهذا الألم العظيم. تمرّنت على رحيل أُنسي ولدي شعور أنه تمرّن على ذلك أيضاً حتى أتقنه كما أتقن صناعة فرح الآخرين.
لست ناقداً جيداً يكتب عن فضل أُنسي الحاج على قصيدة النثر العربيّة، ولا قدرة لي الآن على تتبّع آثار سحر العبور بين نصٍ وآخر. لست ناقداً جيداً، ولا قارئاً عادياً حتى. أكتب الآن عن أبي أُنسي. علّمني الكتابة، وأخشى ما أخشاه أن يفلت مني سطر أو تسقط كلمة، فيبتلعها فراغ الرحيل. أتخيّله الآن في الكوريدور. يمشي ببطء شديد وبسرعة شديدة. كالغريب الذي يعرفه الجميع ويعرف أنه الغريب. أجرّب المواساة. أحدثه قليلاً عن الحروب والأخلاق وأعصاب النصوص. يفاجئني في غيابه كما في حضوره بنبذ المحتربين، وصرامة الوصف وسلاسة الأمل القليل المتبقي. أفكر الآن كيف أكون على مقربة منه، ويضعني في موقع للأقوياء، بينما شاركني مديح الضعفاء بسعادةٍ ونقاء. ولا أفشي سرّاً إذا قلت، براحة ضمير، إن ما قيل عنه هو الأصدق في تاريخ الأدب: أُنسي، الأنقى بيننا.
بعد كل شيء لا أدّعي معرفته أكثر من الجميع. مثل الجميع أشعر أني أقرب شخص إليه، أعرفه كثيراً ولا أعرف عنه شيئاً. ومن جملةِ ما أعرفه أنه حرّضني على الكتابة. وأوصاني بما لا يمكن نكرانه إلى الأبد، رغم أنه من أعداء الأبد. أوصاني أن أنحاز إلى الأطفال ضدّ الدبابات، وأنّ أنتظر السماء: ستمطر فراشات وعصافير وأرواح شعراء. ستمطر يا أبي، وأنا أصدّق الشِعر، مخلصاً لكآبة طويلة، تقف على أبواب الربيع، ولا تدخل. ولا أحبّ الرثاء، ويمكنني الجزم بأن أنسي الحاج لم يكن يحبّه. كان يسمّيه فرح الزوال. ولا أحبّ العاطفة التي تفيض بعد الرحيل. لكن فليسامحني إن خيّبت أمله الآن. لا طاقة لي على هذا. كل ما أعرفه عن اللغة، عن الكتابة، علّمني إياه من دون أن أفهم لماذا فعل كل ذلك. فليسامحني، إنه مسؤول عن كل هذا، وأشعر أن موته حدث ضدّي. كأن الأمر خسارة شخصيّة، وكأني أكثر المتضررين.

****

لا ثورة لا امرأة لا كلمة

جان عزيز

يوم قرر قلب جوزف أن يحتكر حبه وأن يستأثر بتلك البسمة وأن يغدر ويغادر، كتب له عشية 25 شباط 2007 أنْ «موت كموتك قتل». على مسافة أسبوع من «جريمة» سماحة اليومية، ولمن لم تقنعه سباعيتها السنوية، قرر أنسي أن يترك لنا كل القرائن، أن يتركنا نقبض عليها في إغفاءة عينيه، وأن يتركنا، ويترك ...
مع الفارق أن «قتل» أنسي اليوم يبدو مفهوماً أكثر. منطقياً.
مبرراً ومعللاً. فسباعية العجف الفاصلة بين الجريمتين كانت كافية لإقناعه. ماذا بقي لثائر مثله، في زمن تحول الثورات إلى ظلاميات، والثوار إلى مرادفي ثيران، وأحلام التغيير إلى فرمانات تعيين... ماذا يبقى لعاشق مثله، في زمن الحب المقنن والمقونن، زمن الحب المعتقل بين شرائع الطوائف وبربريات الأديان، وزمن الحب المبتذل بين مقاصل الأحقاد وتفاهات شاشات الواقع ... وماذا يبقى لمدمن «كلمات» كالذي كانه، في عصر سبيها إلى «مواقع التواصل»، وتعهيرها بحصرية «كلام الصورة»، وتكبيلها بتعداد الحروف وقطع الرؤوس...
كم ضاق صدر أنسي بعالمنا. أو كم ضاق زمننا المجهري المقزم المأزوم بعملقته وكلمته وثورته المستدامة. أو كم ضاقت كلماته ذرعاً بفراغنا وخوائنا وعدمنا، حتى «قتل» ورحل. في آخر كتاباته، كان كمن يرهص بما هو فاعل. أكثر من مرة حاول دس الخبر لنا، بين خيبة وصدمة. بهدوئه. بروعته. بأناقة العبارة وجمالية التعبير. اعتقدنا أنه يتصالح مع الجميع. بينما كان فعلاً يودعنا، ويودعنا آخر حبه. كان يصفي حسابه مع أحلامه الخالدة. حتى لا تخجل منه أو تزعل، إن ضبطته فجأة يمشي عكسها. استعاد كل الأشخاص الذين لم يلتفت إليهم يوماً. استحضر كل الأفكار التي رذلها كل يوم. كشف مواقف في السياسة والسياسيين، ما كان ليرويها وسط الطريق. قال رأيه في الدين بوقاحة المرتدين الأتقياء الأنقياء. جعلنا بإيحاءاته نستعيد إدراكنا عداوة الطقوس مع الحرية. بؤس الإيمان الحَرفي وظلم مؤسسات بيع السماء وإيجارها. قال كل ما في قعر رفضه. كمن يستعد لمواجهة الديان، بريئاً من جرائم وكلائه الحصريين وذرائعهم باسمه. ذات يوم، قبل مدة، بدا كمن وقف قبالة جردته. اطمأن إلى تمامها. خط آخر زيح تحت صحة الحساب، وأقفل المحضر. عاد خطوات إلى الوراء، أعاد التفكير ثواني لم تطل: لا ثورة جميلة مثل امرأة، لا حب يختصر العمر مثل ثورة، لا كلمة تستحق قراءة متأنية مثل جسد أو مانيسفت. ماتت الرسولة وانتحرت الكلمات ونحرت لن بأمر جزم ماضوي ... آن أوان «القتل»، وداعاً لكل الضحايا.
أفهمك، كما كل سبت. كما كل لحظة. كما أبداً.

***

بسيط ينضح علماً وجمالاً

معمر عطوي

لم تكن شخصية الأستاذ الكبير أنسي الحاج تلك الشخصية النرجسية التي تجعله يجلس في برج عاجي كمعظم زملائه في صرحي الشعر والصحافة، بل كان ذلك الإنسان البسيط الذي ينضح علماً ومعرفةً ويتمتع بلسان عذب ينطق بكل ما هو جميل، من دون أن يبخل على أي شخص بالإفادة من معينه.
عرفته منذ بداية عملنا في جريدة «الأخبار» يوم تأسست على إيقاع أصوات القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية، إذ كان حديثنا الأول عن زاويته المشهورة «خواتم 3» التي واظبتُ كل صباح يوم سبت على انتظارها لأفتتح بها مطالعاتي، وأشارك بها أصدقائي وصديقاتي في صفحات التواصل الاجتماعي. لم يكن سبر غور الشاعر رحلة مُرهقة بالنسبة الى صحافي شاب ينظر الى أستاذ كبير في الصحافة وعلم من أعلام الشعر الحديث، فقد كان الأستاذ أنسي قريباً لكل شخص منا أكثر من حبل الوريد. يناقشنا من دون تعال، ويوضح لنا بلا كلل أو ملل معلومة من هنا أو قضية تاريخية من هناك. لقد أعطانا، نحن زملاءه في «الأخبار»، اهتماماً أبوياً لم يتخذ خلاله دور الناصح أو الموجّه، بقدر ما كان يتعاطى بذهنية حوارية نقاشية استيعابية تؤكد أهميته العلمية وتواضعه في آن واحد، ولعل ميزته أنه كان إنسانياً بامتياز لا يعرف للإيديولوجيا طريقاً. لذلك كان منفتحاً على كل ما هو جميل وكل ما هو مفيد. لم يكن أنسي الحاج قبل أن أقابله شخصياً لأول مرة عام 2006 بتلك الصورة التي كوّنتها عنه سابقاً كشاعر كبير وعلم صحافي لامع يصعب الوصول اليه أو التحدّث معه، بل كان ذلك الصديق المُرهف الحس الذي يُقدّر عمل الآخر مهما صغر، ويثني عليه مشجّعاً ومحفّزاً وناقداً من دون أن يجرح. لذلك كان يتعاطى مع ما أكتبه من شعر، بجديّة كبيرة، رغم أني شخصياً لم أكن مقتنعاً بأن ما أكتبه شعراً. كان ينقّح لي كل قصيدة أكتبها ويصحّحها ويضع ملاحظاته عليها، كذلك كان يفعل مع مقالاتي التي كان لا يكتفي بقراءتها، بل كان يشرّفني بحضوره الى مكتبنا ليناقشني ببعض ما ورد فيها. كذلك كانت حاله مع كتابي «شريعة المفاسد ــ الاجتهاد الغائب عن فضاء النص الديني» الذي فاجأني بعد أقل من أسبوع من إهدائه إياه بأنه قرأه وكتب عنه في صفحته الشهيرة في «الأخبار» كلاماً جميلاً أعطاني جرعةً من مجد.
لطالما كنت سعيداً حين يدخل الأستاذ أنسي الى مكتبنا طالباً جريدة «النهار» وجريدة «الشرق الأوسط» أو «يديعوت أحرونوت»، كما كان يصفها مازحاً، فقد كان حريصاً على متابعة معظم المقالات رغم تدهور صحته في الأشهر الأخيرة.

***

شاعر القطيعة مخترقاً الحدود

محمد بنيس *

1
عندما صدر ديوان «لن» لأنسي الحاج سنة 1960، عن دار «مجلة شعر» في بيروت، أحس القارئ بصدمة مضاعفة في ذوقه الشعري. كان ذلك ــ من ناحية ما ـــ اعتيادياً في فترة الاختراقات التي عرفها الشعر العربي، منذ نهاية الأربعينيات في بغداد، ثم امتدت الشعلة إلى بيروت. صدمة مضاعفة، لأن أنسي الحاج أتى من أفق شعري يختلف جذرياً عن ذلك الذي أنشأه الشعراء المعاصرون في قصيدتهم، من حيث اللغة الشعرية وبناء القصيدة، أو من حيث الرؤية إلى الذات والعالم في آن واحد.
كانت قصيدته تنحدر من سلالة شعرية فرنسية في الأساس، بعكس النموذج الإنكليزي الذي استقاه بدر شاكر السياب من ت.س. إليوت وإديث سيتول. وأصبح، آنذاك، مشتركاً بين الشعراء التموزيين، بمن فيهم أدونيس، الذي كانت لغته الأجنبية هي الفرنسية وسط شعراء كانت لغتهم الثانية هي الإنكليزية.
شيئان جاءا مترابطين في ديوان «لن». أقصد المقدمة التي خص بها قصيدة النثر ثم قصائد الديوان. ولأنّ من الأفضل تجنب الربط بين توجه المقدمة وطبيعة القصائد، فإن المظهر الدادائي والسوريالي للقصائد كان السمة الأولى التي اكتشفها بعض الشعراء الشبان، وعدّوها نقطة انطلاقتهم في كتابة قصيدة متمردة على الثقافة الشعرية، التي كرسها الشعراء المعاصرون. أفضّل تجنب الربط بين المقدمة وقصائد الديوان بالنظر إلى أن المقدمة قراءة متسرعة لمقدمة كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، الصادر عن «مكتبة نيزي» في باريس في 1959، أي قبل أشهر معدودة من صدور الديوان، مما يؤكد أن كتابة القصائد استقـت نموذجها من الشعرين الدادائي والسوريالي، قبل أن تكون مدركة لقصيدة النثر، عبر تاريخها ومنعرجاتها النظرية. ذلك ما لم يكن ممكناً لأنسي الحاج أن يتعرف إليه في فترة قصيرة.
2
ما اكتشفه بعض الشعراء الشبان في ديوان «لن» ثم في «الرأس المقطوع» (1963) و«ماضي الأيام الآتية» (1965) أو في الدواوين اللاحقة، التي أصحبت متداولة بين هؤلاء الشعراء، الآتين إلى بيروت من العراق والأردن وسوريا، أو من الشعراء الذين تعرفوا عليه في مصر، أو البلاد المتاخمة، هو ما أصبح معروفاً بـ «قصيدة النثر». ولا أعتقد أن دواوين أنسي الحاج الأولى وصلت إلى المغرب ولا إلى الجزائر حين صدورها، مثلما لم تستطع مجلة «شعر» أن تصل إلى المغرب قبل أواسط الستينيات. وهو ما يفسر أن جيلي من الشعراء المغاربة أو شعراء الجيل السابق علينا، لم يكن لهم علم بما أقدم عليه أنسي الحاج في كتابة القصيدة، بل لم تكن لهم ثقافة شعرية، بالعربية، خارج مجلة «الآداب» ومنشوراتها، بما هي تمثل المرحلة الأدبية لما بعد مجلة «الأديب»، لكن النقد العربي نفسه لم يقدم على قراءة قصيدة أنسي الحاج، التي كانت ثقافتها شبه مفقودة. ذلك ما يجعلني أقول إنّ أنسي الحاج نسج عالماً محجوباً، لا نراه من خلال الخطاب النقدي بقدر ما نتعرف إليه من خلال الأمواج المتوالية للشعراء الذين رأوا في قصيدته مستقبل تمردهم وحريتهم، بل مستقبل تمرد القصيدة العربية على بلاغتها وتحررها من القداسة التي أحاطت بها. وربما كان الفعل الشعري لأنسي الحاج يزداد، اليوم، التحاماً بالتمرد. فما نعيشه من رجات في منظورنا الشعري والثقافي، في زمن الإسلام السياسي والأصولية الدينية، يضيء أكثر ما لم نستطع أن نراه من قبل في قصيدة أنسي الحاج.
3
التقيت أنسي الحاج أول مرة في الثمانينيات في مكتب «النهار العربي والدولي» في الشانزيليزيه في باريس. كنت آنذاك مراسلاً ثقافياً للمجلة، وغالباً ما أزور مقرها خلال زياراتي لباريس. وتجدد اللقاء في التسعينيات عندما زرته في مكتبه في صحيفة «النهار» في بيروت. في كل مرة، كنا نتقاسم كلمات المودة. كنت أتساءل، من قبل، عن سبب تجنب أنسي الحاج حضور المهرجانات الشعرية أو الندوات واللقاءات. وفي لقائنا في بيروت، تبيّنْتُ الجواب. سلوك أنسي الحاج الشخصي مخلص لتمرده على كل ما يمكن أن يعرض حريته لأي مضايقة، مهما كانت. بل هو سلوك يتطابق مع سلوك شعراء التمرد الأوروبي، الذين عاشوا في قطيعة مع المواضعات الاجتماعية في الحياة الثقافية. ما كان يشغل أنسي الحاج هو ما يكتب لا سواه. وهذا جانب يتفرد به، ويرفعه إلى مرتبة معلم التمرد في الحياة الشعرية العربية. وقد مكنه هذا السلوك من ممارسة حرية لا سبيل إلى تشويهها.
لكنني، وإن كنت تعرفت متأخراً إلى شعره، فقد سعيت إلى قراءته. من أول ما قرأت ديوانه «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» الصادر سنة 1970. شيئاً فشيئاً، حصلت على الدواوين الأولى، فيما كنت حريصاً على تتبع الجديد من أعماله. وفي غمرة قراءة الدواوين، اطلعت على ما كان ينشره في مجلة «شعر»، بعدما أهداني أدونيس مشكوراً نسخة كاملة من المجلة التي كان أنسي الحاج أحد أعضائها المؤسسين. في العدد الثاني، ربيع 1957، نشر مراجعة نقدية لديوان عبد الوهاب البياتي «المجد للأطفال والزيتون»، تلتها مراجعة دواوين لشعراء آخرين في الأعداد الموالية. ولم ينشر قصائده الأولى في المجلة إلا ابتداء من العدد الخامس، شتاء 1957، بعنوان «ثلاث قصائد»، لم يعد نشرها في أي ديوان، حسب ما أعلم. ويمكن النظر إلى الأسس النظرية التي استند إليها في مراجعاته النقدية كإضاءة للقصيدة المضادة التي كان يكتبها أو يعمل على كتابتها. وأكثر هذه الأسس إثارة للجدل في الخمسينيات هي الالتزام، الذي كان البياتي من أبرز ممثليه. إنها طريقته في الإعلان عن شعريته، بجرأة هي نفسها التي كتب بها رفقاؤه وأعطت مجلة «شعر» تلك الحدة في الاختيارات الجمالية التي اخترقت بعنفها (ومعرفتها) أوهام قصيدة مؤدلجة، لا تجرؤ على نقد ذاتها.
4
شعرية أنسي الحاج اختراق لم يتنازل عن الريبة في المُجمع عليه. لا أحصر هذا الاختراق في الماضي، ما كان وتم، في الدواوين والأعمال التي بدأ الشاعر في نشرها، منذ أكثر من نصف قرن. إن زمننا الشعري، اليوم، يدلنا على أن ما أنجزه أنسي الحاج ورفقاؤه، كل واحد بطريقته الشخصية، لا يزال يقف عند نقطة اللاوصول إلى الفعل الثقافي والشعري، عبر العالم العربي. ليس هذا القول من قبيل اليأس مما تعرفه الثقافة العربية، اليوم، في ظل الانهيارات الكبرى، ولكنه استنتاج خلاصة من تاريخ القصيدة العربية المعاصرة، من الخمسينيات حتى الآن.
عدم حصر الاختراق في الماضي يعني أن لهذا الشعر طاقة متجددة، وهي تنتظر زمنها، بغير إرغام الزمن على ما لا يحتمله الزمن ذاته. ومعنى الانتظار، هنا، الانتباه اليقظ لأركان تراها القصيدة بجسد كله عيون. ذلك ما أحتفظ به من شعر أنسي الحاج، وأنا أتأمله عبر عقود من الزمن، صاحبته فيها دون أن أتقاطع معه في رؤيته الشعرية، لأنني لم أكن، في حياتي الشعرية، على وفاق مع السريالية، التي انتقدتها في «بيان الكتابة».
والأبعد من هذا كله أنّ الشعراء، الذين قرأوا شعر أنسي الحاج، واعتبروه مرشدهم إلى التمرد على بلاغة القصيدة كما على قيم الطاعة، قاموا هم الآخرون باختراقات لا تتوقف عن المفاجأة. وأعتقد أن هذا ما يساعدنا على النظر إلى تجربة فتحت حداثة الشعر العربي على التعدد، الذي هو الوشم الذي لا يُمحَى في الكلام الشعري وفيه.
5
في العدد 14 من مجلة «شعر»، خريف 1960، نشر أنسي الحاج ترجمة 11 قصيدة من شعر أنطونان أرتو مصحوبة بدراسة. يفتتح الدراسة بمقولة لرامبو (من رسالته إلى بول ديميني، 15 ايار/ مايو 1871) أقتطف منها بدايتها «أقول إنه يجب أن يكون الشاعر عرافاً... أن يجعل من نفسه عرافاً... يصبح الشاعر عرافاً عن طريق إخلال متماد، هائل، واع، بجميع الحواس، يصبح بين الجمع المريضَ الكبير، والمجرم الكبير، والملعون الكبير ـ والعالم العظيم ـ لأنه يصل إلى المجهول.» يأتي أنسي الحاج بهذه المقولة (بتصرف) فيرى أن أمر الشاعر العراف هذا «لعله لم يعثر على فاعل ينفذه حتى الرعب، حتى الانتحار الشنج، وحتى مصير جُهل قبل ذاك، جُهل وقُوطعَ وخُنق وهو يبزغ إلا في أنتونان أرتو.» (يكتب الاسم الشخصي لأرتو بطريقتين مختلفتين) (ص. 92ـ 93.)
قراءتنا لهذه الدراسة في 1960، سنة نشر ديوان «لن»، تدلنا على أنها صورة الشاعر التي وضعها أمامه ليجسّدها في المستقبل. بهذه القطيعة الجذرية، التي تفرد بها أنسي الحاج، وضع قدمه على تجربة المخاطرة القصوى، بقيمها المضادة لجمالية القبول. ورغم أن الحياة الشعرية أخذت أنسي الحاج إلى حيث لم يكن ينتظر الذهاب، فإن كتابته في الشعر والنثر، أو ما ترجمه من شعر ومسرح، يشير إلى سلوك القطيعة الذي يظل الأشد ضرورة من سواه في حياة كل مبدع ينزع إلى أن يصبح حديثاً، قريباً من حلمنا الجماعي في حياة من الحرية.

* شاعر مغربي

***

ذلك الزمن المغلّف بالحلم والضوء

نضال الأشقر

نضال الأشقر أيام الطَيش، لم نكن طائشين، كنا نحبُّ الشعر. أيام الطَيش من زمان، كنا مختلفين بالنسبة إلى ذلك الوقت، بأفكارنا وأحلامنا وتطلعاتنا، كنا نحبُّ الشعر والشعراء، الأدب والأدباء، السياسة والفكر الجديد. كنا نحلُم. أيام الطيش. في أول مشوارنا مع الحياة كان بيت والديّ مشرعاً للجميع وكانت ديك المحدي، هذه التلة الجميلة المطلّة على البحر من جهة، وعلى صنين من الجهة الأخرى، كانت تستقبل السياسيين والمفكرين والمنظرين والشعراء والكتاب من لبنان ومن فلسطين وسوريا والعراق... وكان الباب مفتوحاً للجميع هناك على التلة المشرعة على الضوء والهواء والأفكار.
هناك في بيتنا رأيته لأول مرّة: شاب مُضيء. شاب نحيل شفاف ذو شعر طويل ناعم، شكله مختلف، سكوته لافت، وصوته خفيض هامس. شمعي البشرة واللون مختلف المشية. مختلف الضحكة الخاطفة. خجول. لم يكن مرتاحاً بثيابه الرسمية ولا مع نفسه ولا مع غيره. لكن ذلك كان خياره منذ البداية!
أنسي الحاج، عرفني بنفسه عندما استقبلته كما أستقبل الجميع من الأصدقاء الوافدين دائماً وبحرية وراحة تامة الى بيتنا.
أما الباقون من الشعراء، فكنت أَعرفهم جميعاً قبله: محمد الماغوط وأَدونيس، خالدة السعيد يوسف الخال، شوقي أبو شقرا... ثم لاحقاً، ومن بيت أدونيس حيث انطلق خميس شعر في ديك المحدي أيضاً، سمعت وتعرفت إلى نازك الملائكة وليلى بعلبكي وبدر شاكر السيَّاب.
أحببته كما تحب مراهقة شاباً مختلفاً ولا تعلم لماذا. شاب شاعر أديب صحافي معروف في ذلك الحين، ورغم حداثة سنه، رغم شبابه. لا شك في أنّ عبقريته كانت مبكرة. عرفته مع الكثير من الشعراء والأدباء لكنه هو الذي سكن مخيلتي. أحببتُ شِعره وخجله وابتسامته العابرة السريعة.
أنسي الحاج. الآن وبعد خمسين عاماً أظن أني أحببتك من النظرة الأولى. ولم أكن أعرف. وهو أحبني ولا أعرف إذا كان قد عرف. لم نكن نفكر في هذا كله، كنا نعيش حالة مختلفة من الوجود السوريالي.
في ذلك الوقت، كنت قد تخرجت من «كلية البنات الأهلية»، ولم أكن قد ذهبت الى لندن للاختصاص. كل ذلك حصل قبل أن أذهب الى لندن وقبل الانقلاب. في ذلك الوقت القصير، كنت أذهب إلى بيروت لأراه في الجريدة أو نذهب إلى ناديا تويني لنزورها قبل أن نذهب إلى المسرح بسيارة أجرة إلى ديك المحدي. لم أكن أعرف أنه لم يكن يريد أن أذهب وحدي بالليل إلى البيت، ولم أكن أعرف أنه معي خصيصاً كي لا أبقى وحدي، ذلك الوقت لم نكن طائشين أبداً، كنا مختلفين. ذلك الوقت كان مغلفاً بالحلم والضوء والحب. ذلك الوقت كان مغلفاً بالأَرق والسهر والمغامرة من نوع آخر.
زمن الطيش كان مليئاً بالآمال والأفكار والشعر والشخصيات المختلفة. ثم كان «لن» كتابه الذي ضجت به الأوساط الثقافية. وعرفت في ما بعد، بعد عشرات السنين أنه كان من وحيي ومن وحي الصنوبرات في ديك المحدي. وفي ديك المحدي، كنت أسمعهم يلقون الشعر في بيت أدونيس، فأسمع وأنبهر بهم وبجمالهم. لكن الشاب النحيل جداً، الجميل كان أحدثهم في شعره. وجاء «لن» ليثبت ذلك.
وبعد الزيارات إلى الجريدة في آخر سوق الطويلة، والمقاهي والجلسات في الجبل، سافرت إلى لندن إلى «الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية»، فكان سعيداً بجرأتي، وكان يكتب لي وعني ويتابعني ويعلم القراء أين أصبحت وماذا أفعل.
ثم كان الانقلاب وكنت أول سنة في لندن، وانقطعت عن أهلي وعن الجميع. لكن أُنسي كان يوصل إليّ الأخبار والرسائل (التي لسوء الحظ نهبت مع كل ما نهب في بيتنا).
لم يتركني وحيدة. تابعني كل حياتي بقلمه ومحبته. لما عدت من لندن وكان والدي أسد الأشقر في السجن، كان أُنسي قد بدأ بنشر مقالاته الأسبوعية تحت اسم «سبع بولس حميدان». وكان الناس ينتظرون الملحق كي يقرأوا مقالة «سبع بولس حميدان» ولم يكن أحد يعرف هويته الحقيقية، إلا أُنسي. كان الناس ينتظرون ملحق «النهار» كي يقرأوا مقالاته تحت اسم «سبع بولس حميدان». ثمَ جاء دور المسرح. وبدأنا بمسرحية «الآنسة جولي» لأوغست ستريندبرغ، وكنت وروجيه عساف نود أن نخرج هذا العمل. فاقتبسها أُنسي ونفضها وغيّرها حتى أصبحت عصرية.
وكانت، والحقُ يقال، من أجمل المسرحيات. وكان أيضاً هو المتفرج الدائم. فإذا كانوا عشرة متفرجين، يكون الاول، واذا كانوا عشرين، يكون الاول. فكان دائماً في الطليعة يدعم المسرح. وكنت كل ليلة في «مسرح بيروت» أَنظر من وراء «البرداية» كي أتأكد أنه هناك. فأطمئن.
واستمررنا في مسرحنا. واستمر هو في دعمه لنا ولغيرنا، فاقتبس وعرّب وأعاد كتابة المسرحيات اليونانية وشكسبير. بلغته التي لا تضاهى وحداثته المعهودة، جدد نفس المسرح باللغة العربية.
عندما أعود الى تلك السنوات المضيئة بحضوره، أذكره في الجريدة وفي المسرح ومع الشعراء ومع الكتاب. كان مالئ الدنيا وشاغلها. أُنسي الحاج أيها الصديق المقنَّع بالمحبة والشغف. أيها الفارس الشاعر الجميل. أحببتك وأُحبك، ولم أَبُحْ ولم تَبُحْ حتى مرّت كل هذه السنين. وضحكنا عدّة مرات على حالتنا، حالة البوح وعدَمِه. ولم نَبُحْ. أُنسي الحاج أنت الحافة. أنت حافة اللغة وحافة الحياة، تقف كأنك تريد أن تهوي في فضاءات أنت فقط تعرفها. وحافة الشعر التي ما زلت تدفعها حتى حافة أخرى وأخرى وأخرى
أيها الأَمير أكتب لك هذا البوح كي تقرأني.

* ممثلة ومسرحية لبنانية

إسهاماته في المسرح

بالرغم من غياب ترجمات أنسي الحاج المسرحيّة عن متناول القرّاء، إلا أن هذا لا يخفي إسهامه في نضوج المحترف المسرحي اللبناني خلال الستينيات، عبر ترجمات حديثة ولامعة لعدد من المسرحيات العالمية. وأبرز هذه الترجمات هي «كوميديا الأغلاط» لشكسبير، وترجمته المهمّة لمسرحية «الملك يموت» لأوجين يونسكو. كذلك عرّب «العادلون» لألبير كامو، و«القاعدة والاستثناء» لبريشت، و«رومولوس الكبير» لدورنمان و«الآنسة جوليا» لسترندبرغ. وتعاون على صعيد الترجمة مع بعض الفرق المسرحية اللبنانية مثل «بعلبك»، ومنير أبو دبس، وبرج فازليان، وشكيب خوري، وروجيه عساف، ونضال الاشقر. أما قصائده، فقد شكّلت بدورها مادّة لبعض المخرجين المسرحيين، كما فعل رضوان حمزة عام 2010، حين نقل ملحمته الشعرية «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» إلى عرض أدائي راقص، والراحل يعقوب الشدراوي الذي إقتبس بعض قصائده في مسرحيته «اعرب ما يلي».

*****

الحوار الأخير... إيه فيه أمل

أنسي الحاج

* سأبدأ حديثي عن زمن الطفولة. أخبرني عن أهلك والمكان الذي سكنت وتربيت فيه؟
أنا من بلدة قيتولي في قضاء جزين (جنوب لبنان). لكنني ولدت في بيروت في «مستشفى الدكتور جورج حنّا»، وسكنت مع أهلي في حيّ خندق الغميق. كان الحيّ مزيجاً من كل الطوائف، من الأرمن، الأكراد، السريان، المسلمين شيعة وسنة، ومن المسيحيين. وكان فيه كنائس وأديرة، وما زالت كنيسة السريان قائمة إلى اليوم، وأيضاً «مدرسة الفرنسيسكان للراهبات». أذكر دكاكين باعة الخضار، وعلى بعد أمتار منها الـ«غران تياتر» (المسرح الكبير) الذي يمثل تاريخاً مهماً، وفي مقابله «دار المكشوف»، التي نشرت الكثير من الكتب اللبنانية المهمة. كانت بيروت حينها «ملمومة» على بعضها بعضاً، وكان شارع واحد يضم كل الناس. أمي توفيت عندما كنت في السادسة، وكانت قد أنجبت أربعة أولاد؛ صبيّان وبنتان. ثم تزوّج والدي وأنجب ستة أولاد، فأصبحنا عشرة. أبي كان من الآباء الكادحين، وعمل في أماكن عدة ليؤمّن تكاليف تعليمنا في مدارس راقية. لم أره يوماً بلا عمل، فحتى في البيت كان يعمل. كان يكتب، ويترجم، ويمارس الصحافة بين جريدتي «النهار» و«المكشوف». لا أدري إن كانت طفولتي سعيدة أم حزينة، لكنّها كانت مخطوفة. لم أكن أملك الوعي الكافي لأضع «اتيكيت» تقول ما إذا كنت فرحاً أو حزيناً، لكن حين توفيت أمي، قرّرت ألا آخذ علماً بوفاتها، وقرّرت عبر نوع من النسيان اللاإرادي أنّها لم تمت.
*قلت لي إنّه تزوّج بعد وفاة أمك، متى تزوّج؟
لم ينتظر طويلاً نظراً لوجود أربعة أولاد صغار لا يستطيع الاهتمام بهم في الوقت الذي هو ملزم بالذهاب إلى العمل. لذا تزوّج بعد فترة قصيرة.
*كيف كانت علاقتك بزوجة أبيك؟
كانت علاقة جيدة جداً. خالتي «أليس» امرأة تمثل مزيجاً من الطيبة والإرادة. والإرادة كانت ضرورية في تلك الحال. كانت تكبر أخي الكبير بسنوات قليلة وكانت جميلة أيضاً. وامتلاكها لهذه الصفات مجتمعة مكّنها من القيام بأعباء العائلة مع الأطفال الستة الذين أنجبتهم. كانت طيبة ابنة القرية بإرادة فولاذية للقيام بالأعباء على نحو صاف.
*هل أثّر الفقر على شخصيتك؟
أجل، لكن ليس على نحو مأساوي. فأنا لا أدلّل على أنّنا فقراء، وهذا شأن شخصي وليس موضوعاً للكتابة.

العلاقة مع الله
*كيف تفهم الله؟ وهل تمارس طقوس دينية؟
علاقتي بالله جدلية. أحياناً تخفّ وأحياناً تشتّد. لا أعلم إن كنت مؤمناً أم لا. مع انني أفضّل أن أكون مؤمناً.
*لماذا تفضّل الإيمان؟
الإيمان منظّم للوجود والكون، هو في الحقيقة إيمان بالنفس، بمعنى أنّه يمنحني الشعور بأنني الإله، وبالتالي فإن الموت لن يقوى عليّ بالمعنى الوجودي للكلمة لا الجسدي.
*نجد عادةً أنّ مَن يتجه نحو الدين، يتعصب في ممارسة طقوسه الدينية، وإذا نظرت الى حياته، لا تجد الأمان فيها، ما رأيك؟
التعصب الديني أمر سخيف جداً وأبشع ما في الانسان. هناك تعصب جميل كتعصب الحب وتعصب العشق وتعصب الفن والتعصب للحقيقة. لكن أبشع انواع التعصب هو التعصب الديني، لأنه ولّد مجازر بشرية ولا يزال الى الآن. عندما أدركت كم تتشابه الاديان في جوهرها، الاسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفوشوسية والعقلانية، تساءلت عن أهداف هذه الاديان وعن كل هذه الاحزاب، ولماذا لا نأخذ الفكرة التي هي نفسها لدى الجميع؟ أنا اخذت الفكرة لكنني مررت ببعض الطقوس. أنا أؤمن ببعض القديسين لأنهم وسطاء. أنا أؤمن بوجود انسان وسيط بيننا وبين العالم الغائب.
*هل تؤمن بالحياة بعد الموت؟
لا ادري.
*هل صليت ذات مرة؟
كثيراً ما أصلي. عندي صلواتي. ومع ذلك، فأنا أحب الصلوات التقليدية. فبمجرد أن يقول الانسان: أبانا الذي في السماوات، أو بسم الله الرحمن الرحيم، ينفتح قلبه. نلاحظ دائماً في الرسم أنّ الراكع عليه شعاع من نور، وهذا ليس صدفة لأنه يعبّر عن البصيرة والحب واشتماله بمن يرعاه.
*هل تستعمل عبارة «الله يخليهم»؟
اجل أنا أدعو، وعندي ايمان كامل بقديسة تدعى سانت ريتا وكتابها لا يفارق جيبي. هي احدثت لي معجزات وحققت لي طلبات مستحيلة وهي تدعى شفيعة القضايا اليائسة.
*هل أنت انسان حرّ؟ حتى من نفسك ؟
لا. الحرية موضوع طويل. لقد بدأت كتاب «لن» بكلمة «أخاف» وأنهيت آخر قصيدة بكلمة «حرية»، أي إنّني لا أريد غيرها لأنه لا يوجد غيرها. وفي إحدى قصائدي، أقول إنّ الحرية اجمل من الحب، وبمعنى من المعاني هذا صحيح. الحرية أكثر راحة من الحب، فلا غيرة ولا ما يشبهها.

الحرب الأهلية
*خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كنت تكتب في جريدة «النهار»، أي قضية تبنيت وقتها؟ أخبرنا عن تجربتك في الحرب.
أنا من اوائل الذين كتبوا متغنين ومادحين للمقاومة الفلسطينة، حتى قبل ظهور ياسر عرفات علناً. وأول عملية مقاومة حدثت كتبت عنها في مجلة «كلمات»، واستمررت في مدح المقاومة الفلسطينية الى حد أنني اعتبرتها الحلّ لكل الأنظمة العربية المهترئة التي يجب عليها التعلّم من هذه المقاومة حتى تصبح شبيهة لها. ليس فقط من حيث السلاح إنما أيضاً من حيث الثورة والشباب الطاهر. ولم تكن هذه نظرتي وحدي، فقد كونت لها شعبية هائلة في الوطن العربي. لكن حين حدثت ما سميت حينها «التجاوزات الفلسطينية» أحسست بالخوف. كان خوفاً على الفلسطينيين من قيام مؤامرة لبنانية ضدهم، وبالتحديد مؤامرة لبنانية مسيحية. وخوفاً من أن يصبح رد الفعل فعلاً في اماكن معينة كالدفاع الذي يصبح هجوماً، بعد الحواجز التي أقامها الفلسطينيون في تل الزعتر والنبعة، والذبح على الهوية، علماً أنّ الفلسطينيين هم الضحايا فكيف أصبحوا جلّادين؟! حينها احسست أني انقسمت شقفتين. ولم أعد اعلم أين أنا. كتبت حينها افتتاحية في جريدة «النهار» بعنوان: «كلنا ضحايا». أنا مع الضحية اينما كانت. مع الضحية اليوم في سوريا. والمصادفة في لبنان أنّ كلهم ضحايا، وعيب عليهم أن يتقاتلوا وقد وقعوا معاً في الفخ بمنتهى السذاجة والجهل.
*ما هو سبب الحرب الأهلية اللبنانية برأيك؟ هل هو مؤامرة خارجية أم حتمية داخلية؟
أكيد مؤامرة خارجية. عن أي حتمية يتحدثون؟ لقد ثبت مع الزمن أنّه عندما كفّ المسيحيون عن الوقوف ضد مواجهة الفلسطينيين، وفهم الفلسطينيون أنّ المسيحيين ليسوا ضالعين في مؤامرة لالغائهم، انحسرت القضية بين المسيحيين والفلسطينيين، ووكلت بالتنكيل بالفلسطينيين اطراف مسلمون وعرب لا المسيحيون اللبنانيون. كان لبنان المستهدف دائماً، والفلسطينيون بالدرجة الاولى.
*ماذا فعلت في الحرب؟
توقفت عن الكتابة والعمل عام 1976، رأيت أن الصحافة انتهت بمجرد دخول الجيش السوري الى لبنان. عندما دخل الجيش السوري الى لبنان وقام الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية بالاعلان عن وثيقة دستورية مع نظيره السوري حافظ الاسد، رأيت حينها أنّنا انتهينا، ولم يعد هناك لبنان أو بالأحرى لم يعد لدينا صحافة. البلد عانى حينها أزمة مالية هائلة، وانخفضت كمية المبيعات في «النهار»، ولم يتمكنوا من الوصول الى المناطق لتوزيع الاعداد، فبقيت في بيروت. صرت اتقاضى حينها نصف معاش، ثم أصبح ربع معاش «ويكتر خيرهم» لأنهم ظلوا يدفعون لي.

الزعماء والطائفية
*هل سبق أن صدّقت زعيماً ما، أو هل تصدق مسؤولاً سياسياً في أيامنا هذه؟
لا انتمي الى أي زعيم، فالزعامة عندي فقط للكتابة، ليس عندي زعماء اشخاص، بل زعماء شعراء كالمتنبي وبودلير وفيكتور هوغو وشكسبير. الزعماء عندنا لا يشعرون بما أشعر به تجاه الناس. هناك مئات الألوف من اللبنانيين ينامون بلا عشاء، فمن يحسّ بهم ومن يسأل عنهم من الزعماء؟

أنسي الحاج*لا حل للطائفية الا بحل مشكلة الدولة؟
هذا اكيد. الطائفية ليست المشكلة. الطائفية السياسية هي نوع من الديمقراطية، فبدلاً من أن تتمثل الاطراف بأحزاب يسارية أو يمينية فهي تتمثل بالطوائف. لا مانع من ذلك شرط أن لا تصبح الطائفية على مستوى الشارع والتعصب الديني. هناك الكثير من البلدان موزعة طائفياً أو موزعة عرقياً. المشكلة تربية الشعب أولاً وتأهيله للديمقراطية وللعلمانية والغاء دوائر النفوس الدينية، فأنت مثلاً لست موجودة الا اذا كنت مسجلة عند الشيعة.

الجيل الجديد
*جيلكم الذي عاش بيروت بعزها وعظمتها حين كانت «سويسرا الشرق» أعطاها لجيلنا مدمرة مغبرة، ولا تزال رائحة الجثث تفوح الى الآن، ماذا تقول لهذا الجيل؟
جيلكم حلو وأنا عندي أمل. أرى هذا الجيل متمدناً متعصرناً وحديثاً ولامعاً. ودائما نجد أنّ وراء كل جيل مآسي، ستقولين: إن وراءكم الحرب الاهلية، وسأقول وراءنا حوادث عام 1958 والحرب العالمية الثانية ووراء ابي الحرب العالمية الاولى. هذا قدرنا طالما نحن متخلفون سياسياً. أما اللبناني على الصعيد الفردي فهو ليس متخلفاً بل هو أغنى انسان في العالم، فأهم اطباء القلب وجراحته كانوا لبنانيين.

الصحافة
*لنعد الى الصحافة. هل تذكر أول نص نشرته؟
أجل أذكر. أول نص نشرته كنت حينها في الصف الثالث المتوسط أي البريفه، وأرسلته الى مجلة شهيرة كان اسمها مجلة «الاحد»، وقد وضعت اسم ابي خلف اسمي كي أجعله جسراً، وحتى يقال هذا ابن لويس، فلنسايره اذن. هكذا بدأت كتاباتي وقد كان نفسي قصيراً ولم يكن المقال طويلاً متماسكاً، بل عبارات وجملا، اشياء مشابهة بدائية وطفولية. وقد نُشر في صفحتين.
*هل دخلت الى عالم الصحافة من باب الوراثة؟
لا. أنا لم أفكر أبداً في الصحافة. عندما وصلت الى صف البكالوريا، فكر والدي في ارسالي الى «السوربون» لمتابعة الاختصاص الذي ارغب به. وقد اغرمت حينها الغرام الاول الذي لا يقاوم. ثم تطور الحب مع ليلى زوجتي بفعل الشهامة والمروءة والفروسية. وقد كانت رائعة الجمال ومدللة ووحيدة أهلها. تمت الخطبة وكنت لا أزال طالباً في عمر 18 عاماً. وعندما أصبحت في صف الفلسفة، تركت المدرسة، اذ لم يكن الغزالي ولا ابن رشد يستهويني. واتجهت نحو التعليم الخصوصي وكنت اتقاضى 30 ليرة شهرياً وكان مبلغا زهيداً. فطلبت من والدي أن يساعدني في الحصول على عمل افضل. عرض عليّ العمل في جريدة «النهار» فرفضت لأنه كان رئيس تحريرها. بدأت اتدرب عند كامل مروة في جريدة «الحياة»، التي كانت حينذاك من اكبر الجرائد اللبنانية والعربية، وكانت في المرتبة الثانية بعد «الاهرام». تعلمت الصحافة على يديه، ولما خطبت ليلى كان راتبي في «الحياة» مئتي ليرة. بعد ذلك استدعاني غسان تويني وسألني: «كم تتقاضى في الحياة؟ انا سأعطيك 300 ليرة على أن تتسلم القسم غير السياسي في «النهار». اهتم بالصفحات الادبية وكل ما لا يتعلق بالسياسة»
*كم سنة عشت مع زوجتك؟
كل العمر. من عام 1957 حتى عام 2005 وكنا صغاراً عندما تزوجنا، لا نعرف شيئاً.
*دائما نجد في الزواج «طلعات ونزلات»، أنسي الحاج الشاعر كيف كان زواجك، وهل خنت زوجتك يوما ما؟
الزوجة في البداية تكون العشيقة والمعشوقة. لكن الزواج مع الوقت يقتل الشغف. أفضل نهاية له أن تصبح الزوجة رفيقة وصديقة والا تحول الى عدو وأسوأ من عدو: كائن لا يبالي به.

خواتم
*سنتحدث الآن عن «خواتم»، هل تناجي هذا الجيل؟
صدقيني أنّني عندما أكتب، لا أفكر لأي جيل اكتب. وقد فوجئت على نحو مفرح جداً بأنّ اكثرية القراء الذين يقرأونني في جريدة «الأخبار» هم من الشباب والصبايا، فوجئت أيضاً بردودهم عبر الانترنت وجدالهم حول المقال. جدل حر جداً من اقصى اليمين الى أقصى اليسار، ومن أقصى المحافظة الى اقصى التحرر.
*هل يجد في ما تكتبه هموماً تمسه؟
هموم مشتركة. إذا طالعت مواقع الانترنت الخاصة بـ «الأخبار»، ستفاجَئين بعدد الصبايا وبالاختلاط الطائفي، وأنا سعيد جداً لأنّها المرة الاولى التي أختبر فيها هذا الامر. في الماضي، كانت تصلني الرسائل، اما الانترنت، فهو كالمرآة الصادقة لأنهم لا يكتبون للمجاملة والاصدقاء الذين اكتسبهم، اكتسبهم بعد الكتابة، لذا لا مشكلة عندي مع هذا الجيل، وانا شاكر جداً لهذا الشيء.
*لاحظنا انه منذ بدء الثورات، وخصوصاً السورية، كتبت مرتين أو أكثر عن الموضوع في الوقت الذي يحتاج فيه الناس الى قراءة رأيك؟
أنا لست معلِّقاً، بل كاتب وجداني والوجدان يعبر عن نفسه مرة أو مرتين أو ثلاث مرات. ثم ماذا يفعل؟ هل يكرر النشرة ذاتها؟ أنا كتبت ما أردت قوله في مقال تحت عنوان «ما تستحقه سوريا». كان ذلك في بداية الثورة في شهرها الاول أو الثاني. وسبقه مقال آخر عبرت فيه عن ضياعي، إذ لم أكن أعلم ما هو الموقف الذي يجب تبنيه، لأنّ البداية كانت «مضيعة»، وكان الأمل معقوداً كلياً على أن بشار الاسد سينقلب على نظامه ويجدد الدولة السورية. وما كتبته في مقال «ما تستحقه سوريا» هو بمثابة دعوة لهذا الأمر. فماذا كان يريد الشعب السوري؟ في ذلك الوقت، لم يكن الشعب يطالب باسقاط النظام، بل بتغيير المحافظ في منطقة معينة واشياء مشابهة.
*هو تحوَّل الى سلطة؟
تحول الى صراع على السلطة وهو إحدى ادواتها، فاذا تخلصنا من حزب «البعث» وأتينا بالحزب الشيوعي، فهل هذا يعني أنّ مشكلة سوريا قد حلّت في ظل الأنظمة الدكتاتورية؟ يجب أن تمنح الحرية لا مجال للبحث، وما بقي ليس سوى كذب ودوران حول الموضوع وخوف من تسمية الاشياء بأسمائها.
*يعرف عنك أنّك لا تحب القصيدة العمودية؟
هناك فرق بين أنّني لا احب القصيدة العمودية وأنّني كنت اطالب بحيز شرعي لقصيدة النثر. لم أكن أريد لقصيدة النثر أن تلغي الشعرالموزون. وعندما وصلنا الى وقت تأزم فيه الوزن وانعدم، دعوت في حديث مع صديقي الشاعر والناقد والكاتب الكبير عباس بيضون لمجلة «الوطن العربي» التي كانت تصدر آنذاك في باريس، الى إعادة ضخ الحماسة في الوزن واعادة الكتابة بالوزن.
*الا ترى أن القصيدة الكلاسيكية العمودية ليست حرّة، بمعنى أنها مسيجة بروية وصدر وعجز؟
هناك استسهال وأفكار خاطئة عن قصيدة النثر ولا نستطيع دائماً أن نذّكر بمبادئ قصيدة النثر، حتى وصلنا الى حد أنّ كل من يرغب في كتابة مذكراته يعدها قصيدة نثر، أو كل من يريد أن يرسل رسالة الى حبيبته يعدها قصيدة نثر. وكل من يريد أن يقول «نكتة» في مقهى على نحو «مرت ذبابة فوق رأسي وكانت خضراء لا سوداء» يعد ما يقوله مبرراً كافياً لوضعه في كتاب واعطائه عنواناً. الامر ليس كذلك، والكتابة ليست نهفة. الفن عدو النهفة وعدو النكتة. لا يمكن الاستناد الى نهفة لإنشاء قصيدة. القصيدة تحتوي على الطفولة وهناك فرق بين الطفولة والبراءة والسذاجة، التي هي رائعة في الكتابة والفن، وبين من يسعى إلى اضحاك مستمعيه.

النقد الأدبي
*برأيك هل لدينا نقد صريح؟
لا يوجد. المشكلة تكمن في غياب النقد، لكنني لا أريد أن ابالغ، فهناك نقاد جديون وهم اساتذة جامعيون ممتازون، لكن للأسف فهم منهمكون بالتدريس والاشراف على اطروحات طلابهم وهم نادراً ما يكتبون.
*من المعروف أنك ناقد اضافة الى كونك صحافياً وشاعراً.
لقد جنت عليّ مجلة «شعر»، حيث بدأت اكتب كناقد. أتذكر حين طلب مني يوسف الخال رحمه الله قبل صدور العدد الاول أن أكتب شعراً، فقلت له: لا أكتب شعراً. فضحك وقال: كيف هذا وبالامس قرأت لك قصيدة في مجلة «الاديب». وبالفعل، كان ألبير أديب رحمه الله قد نشر لي قصيدة.
كانت مجلة «شعر» مختصة بالشعر فقط، وكان يكتب فيها شعراء كبار كأدونيس ويوسف الخال وميشال طراد وجورج صيدح وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني. لذا كنت متهيباً منهم.
هل حدث ذات مرة أن « هزك» نص كتبه أحدهم؟
كثيراً ما يحدث هذا الأمر، عباس بيضون «يهزني» كثيراً، فهو يمتلك شجاعة لا أمتلكها وأحسده عليها، كما أنه يمتلك وعياً مفترساً وحقلاً يهتم به وأنا اعجز عن دخوله: الأدب الاجتماعي السياسي. واشعر بنقص يملأه شخص كعباس لأنه يجمع هذا الوعي الاجتماعي السياسي التاريخي الموضوعي، ويجمع احساس الشاعر ورؤياه. وهذا شيء عظيم جداً. وعبدو وازن أيضاً أحب كثيراً ما يكتبه وشوقي بزيع، أنا اعجب الى حد «الشهقة» بكتاباته الشعرية الموزونة والنثرية. فهو متمكن من لغته بحيث انه يتصيد العبارة ويصيب بذكاء مطلق وعنده احساس نقدي. فالشاعر عندما يكون ناقداً هو أهم ناقد، وشوقي لديه الميزتان: شاعر كبير وناقد عظيم.
جزء من حوار أجرته لوركا سبيتي مع الشاعر أنسي الحاج في برنامج «صوت الشعب»، عبر أثير إذاعة «صوت الشعب»، بتاريخ 24 آذار (مارس) عام 2012 (الحوار الكامل على موقعنا)

***

على حافة المستحيل... عند نهاية «لن»

عبد المنعم رمضان *

أنسي الحاج القدر الإنساني ـــ إذا كنت محظوظاً ـــ سيكافئك بأن تظلّ على حلم، كأن تعيش في مكان، وتهيم به، وتتعلق بمكان آخر وتشتهيه، ولقد أحببت القاهرة، مدينتي، ومدينتهم، ورفستها بقدمي، وحلمت ببيروت، مدينتهم ومدينتي، واشتهيتها بقلبي. وتصادف أن بيروت الستينيات، كانت أرض اليوتوبيا. في تلك الفترة حبستنا السلطة المصرية الحاكمة، وأنشأت حولنا أسواراً تمنع دخول الكتب والمجلات المعادية لها.
ولما سقطت الأسوار في بداية السبعينيات، وشاع الانفتاح، وتسرّب إلينا الصالح والطالح، ورفعت السلطة الحظر عن مطبوعات جماعة «شعر»، أيامها، كنت طالباً في الجامعة. وكنت في كل نهار، أتلمظ قبل أن يملأني الشيوعيون والناصريون والإسلاميون بالأسئلة المصابة بالنشاط والوخم، وقبل أن أصادف بعض الوجوديين فيملأوني بالأسئلة المصابة بالمسؤولية والالتزام. ولمّا أصل إلى الليل أو يصلني، أكتشف أنني أفرغت جيوبي، وأصبحت خالياً إلا من نفسي. وكنت أيامها أعبد نفسي، أعبدها بسذاجة وتهور، كأنني لن أقابل في ما بعد أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا. هذه الحال تغيّرت عندما التقيت باثنين، أدونيس ومحمد خلاف: الأول هو الذي تعرفونه، والثاني هو الشخص المجهول الضائع في كل مسرحية، الثاني كان زميلي، وكان مفتوناً بأدونيس، وعن طريق أدونيس، وطريق خلاف أيضاً، تعرفت إلى العائلة كلها، على خالدة سعيد، ويوسف الخال، وفؤاد رفقة وعصام محفوظ، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وتعرفت إلى شوقي أبوشقرا، وأنسي الحاج. كنا في السبعينيات، وكان أنسي قد أصدر أربعة دواوين، أولها «لن»، وآخرها «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة».
الغريب أنني قرأت الدواوين الأربعة حسب ترتيب صدورها، هكذا مصادفة من دون قصد. الثلاثة الأُول تغنّت بالعفة والكبت، والأخير شفافيته جاوزت الحواس، الأربعة حققت تمييز أنسي بين الإيقاع المنظوم والإيقاع المنثور، وكان قد هجر الأول (الأصح أنّه لم يقربه قط)، ولاحق الثاني، لأنّه أدرك أنه لا بد من الإيقاع، وأن كليهما، الإيقاع والشعر، ينبع من روح الآخر، ولا معنى لكتابة، أي كتابة من دون إيقاع. أما القافية، فقد انقلبت عنده إلى صدمة ودهشة ومفاجأة. في خاتمة «لن»، يكتب أنسي: «نحن في زمن السرطان، هذا ما أقوله ويضحك الجميع: نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى، والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة النثر بِنْتُ هذه العائلة. نحن في زمن السرطان: نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره». انتهى كلام أنسي المثير للدهشة. هو إهداء الديوان، ذلك الإهداء البتولي الخجول، (إلى زوجتي). في تلك الأيام، اتسعت روحي وانفتح عالمي، أدونيس كان أبي، الذي لم أفكر في قتله، لأنه بيده اليسرى شدّ على يدي اليمنى وأصبح أخي. أما أنسي، فمنذ اللحظة الأولى، ومنذ «لن»، ومنذ «إلى زوجتي»، أصبح أخي، حتى أنني استمتعت بالتوافقات التي غمرتني بعد قراءته، فشعره الذي استفز المصريين: عبد القادر القط، رجاء النقاش، أحمد عبد المعطي حجازي واللبناني المصري في ما بعد، إلياس سحاب، جعلني أنفجر بالبهجة لأنه استفزهم. كان رجاء يقول بثقة واعتداد إنّه ـــ يعني أنسي ـــ لا يريد سوى الخراب والهدم الكامل للعالم الذي يعيش فيه. أفكاره تفوح برائحة وحشية تنبع من نفسية قاتمة لا ترى أمامها إلا القبح والحرائق والدمار والعفن. وكنت أضحك، وتنقسم نفسي إلى نفوس كثيرة، أقودها، وأهتف فيها، يعيش الخراب والدمار. وتردّد النفوس الكثيرة، يعيش يعيش. تعيش الوحشية والعفن، يعيش يعيش، ثم أتهلل، ولما اعترفت لنفسي بأنني أحب فيروز، ولا أكره أم كلثوم، رأيتني أقترب من أنسي. كان يهمس في أذني، عندما تخون مرة، ستبقى خائناً إلى الأبد. بعدها، اعترفت بأنني أحب حميمية نضال الأشقر أكثر من شعبوية سميحة أيوب، ووجدتني أقف إلى جوار أنسي تماماً، ليهمس ثانية، لا أؤيد الديموقراطية في الفن، لا أؤيد المساواة، فتجاسرت واندفعت ورفعت أقدار ليلى بعلبكي، وحنان الشيخ، وهدى بركات لتكون أعلى كثيراً من أقدار لطيفة الزيات ونوال السعداوي وأخريات. عند ذلك، لاصقت أنسي، ولما هدأتُ، وشوشتُ نفسي بأنّ الشغف بالفن يعيد خلقنا ونعيد خلقه، وشوشتها ثانية بأنّني أحب نادية تويني، وأكتفي بالإعجاب بجويس منصور، ثم جهرتُ بوشوشتي، ثم قلتها عالياً، وكان أنسي سنة 1967 قد شارك تويني في كتابة حوارية «كم هو مر ولذيذ طعم الحرب في فمي» مثلما شارك شوقي أبوشقرا في حوارية أخرى (أين كنت يا سيدى في الحرب). أيامها كانت القاهرة الواقع والشعار والكل في واحد والخوف من الحرية، وكانت بيروت الحلم والشعر والكل في الكل واللعب مع الحرية، ومثلها كانت فيروز، ونضال، وتويني، وحنان، وشوقي أبوشقرا، وأنسي. قراءاتي الأولى لأنسي اختبرتني، وعلمتني أنّ الشاعر أمام الواقع محض عاشق فاشل. الشاعر والواقع مجرّتان، تبعد الواحدة عن الأخرى فراسخ أطول مما نظن. علمتني ثانيةً أنّ التاريخ أيضاً واقع فوق الواقع، علمتني ثالثاً أنّ الصمت عن الواقع شهادة وجدان، وأنه إما خوف وإما خيانة. كانت مقدمة «لن» تحجزني بعض الوقت عن الوصول إلى «لن»، وكانت «لن» تحجزني بعض الوقت عن الوصول إلى «الرأس المقطوع»، والرأس يحجزني عن «ماضي الأيام الآتية» الذي يحجزني بعض الوقت عن «ماذا صنعت بالذهب». وكنت عند كل انتقال، أحتاج إلى شهيق أعمق من شهيقي، وإلى زفير أعنف من زفيري. كائنات «لن» وموجوداته وأشياؤه السابحة في قصائده، لا أسماء لها، لأنها تستعصي على التسمية. كأن التسمية ـــ أي تسمية ـــ ستحيطها بالنجاسة والطهارة، فيما هي مكتفية بلانهائية وجودها، مكتفية بهيوليتها، منذ «ماذا صنعت بالذهب»، وبصورة أوضح منذ «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». يتخفف أنسي ويغادر سفينته العاتية التي اختار مكانها في وسط المحيط كي لا تتيح له رؤية قرائه. غادر السفينة إلى قارب مطاطي كبير، أتاح له الرؤية والتواصل. أتاح له النظر بتحديق وإمعان. حكت لي إحدى صديقات أنسي وصديقاتي أنّه في فترته الأولى، أيام «لن»، كان يرتدي ملابس داكنة، بدلة سوداء، وربطة عنق حمراء وغير سوية ومدعوكة، صدره مغطى بقميصه وخجله. الملابس لها هيئة الملابس العتيقة، والحذاء أيضاً كان أسود وتقليدياً. كذلك كان شريطه أسود، ولحيته تكسو خديه، وخجله الظاهر يكسو جسمه كله، جسمه الذي كان نحيلاً كأنه راهب في ملابس افرنجية. لكنه منذ «الرسولة»، أصبح حريصاً على أناقته. بنطلوناته زرقاء فاتحة أو غير زرقاء فاتحة، قمصانه غالية ومفتوحة الصدر، حيث سلسلة ذهبية تتدلى. الحذاء حديث ولامع، واللحية مهذبة مشذبة خفيفة ولا تملأ الوجه كله، لا تخفي وسامته، الخجل تراجع، ربما اختفى، كأنه راهب منبوذ. حينذاك رجعت إلى فوتوغرافيا جماعة «شعر»، عموماً. ملابسه القديمة منذ «لن» كانت تشبه سفينته العاتية، وعليهما ـــ الملابس والسفينة ـــ ترتفع لافتة القطيعة. ومنذ «الرسولة»، أصبحت الملابس الجديدة على غرار قاربه المطاطي، وعليهما ـــ الملابس والقارب ـــ ترتفع لافتة التواصل.
السفينة كانت تمتلئ برياح تدوّم، لعلها رياح الحب، والقارب منفوخ بهواء أبيض يشبه هواء الغزَل. قبل «الرسولة» كان الحب، وبعدها كان الغزل. قبلها كانت السيادة للداخل، بعدها انتفش الخارج. هكذا أرشدتني خالدة، إن فتنة الحب الآسرة، أعقبتها فتنة الغزل الآسر. في سنة 2005، التقيت أنسي في مرسم الفنانة نجاح طاهر في الحمراء، لم يكن ملتحياً. كانت هالة النبي بمسوح الرجل الناضج، تحل محل هالة النبي بمسوح الطفل، اللذين كانهما، في أول قراءاتي لأنسي. قلت لنفسي، ثقافة الجماعة، الثقافة الوطنية المؤمنة جداً، ثقافة الملائكة، أو بلغة أخرى ثقافة الجنة، تحتاج دائماً كي لا تموت، تحتاج إلى النبي المسلح، النبي الشيطان الذي يربك الملائكة، ويفتن الجماعة، ويخرج بالجميع من الجنة، وثقافتنا الشعرية كانت توشك أن تموت على أيدي السادة الملتزمين، وكان أنسي أحد الأبالسة الضروريين لإعادة بعثها، لإنقاذها من الموت. ترجمات أنسي المبكرة لشعر أنطونان آرتو، أغرت البعض بالزعم أنه كان الشيطان الذي يشبه شياطين الدادائيين والسرياليين. زامله منذ البداية الشاعران محمد الماغوط وتوفيق صايغ. رحلة أنسي بدأت هكذا. السفر في أقاليم العتمة، السفر في الليل، السفر إلى الجحيم، السفر داخل أنسي. حتى صوره الشعرية كانت تنشعّ من الداخل. حتى لغته كانت تتهشم وتبتكر لتنشعّ هي الأخرى من الداخل. كأنه يعمل من أجل الذهاب بعيداً عن ماضي اللغة، عن تاريخها، عن سياقاتها المألوفة، لغة «لن» لغة عمياء، لا تقصد ولا تبوح ولا تعني ولا تدل. إنها فقط تكون. وعندما تكون، نحس بأننا لم نسمعها من قبل، لم نرها من قبل، لم ننطقها من قبل. اللغة هنا ترفض أن تكون مرآة أو آلة أو أداة، إنها الشيء ذاته، والفعل ذاته، زميلاه كانا فاتنين بتفاوتٍ، لكنهما كانا أقل جذرية بتفاوتٍ أيضاً. الماغوط شاعر محافظ إذا قارناه بأنسي. لذا مال إليه الشعراء المغنّون الكبار، ومدحوه، وتفادوا به تهمة معاداة قصيدة النثر. هكذا فعل محمود درويش. فوضى أنسي أعمق من فوضاهما (الماغوط وصايغ)، وهزيمة الماغوط كانت الأسرع، فمنذ ديوانه الثالث، خرج من فتنته بالفعل، إلى فتنته بالقوة.
المسافة بين شعر أنسي ومقالاته تشبه المسافة المفقودة. حتى كأنهما النار وحجر النار. لم يأبه أنسي بالتنظير حول النوع، فيقينه ويقيني أنّه لا ديمومة في التنظير، وأن كتابة النوع، والكتابة الخارجة على النوع، والكتابة العابرة للنوع، كلها معيارية، فيما كتابة أنسي، شعراً ومقالات، تتأسس وتتشكل على صورتها ومثالها هي بالذات، وبعد أن يفرغ أنسي من تدمير المثال العام، ينشغل بتدمير المسافة. يدمر المسافة مرة بينه وبين قارئه، ومرة بين ظاهر لغته وباطنها، ومرة بين معناها ومبناها، ومرة بين شعره ونثره، ومرة بين كتابته وأخلاقه. المعتاد هو إقامة المسافة من أجل إقامة الوضوح، غير المعتاد هو إقالة المسافة من أجل إزالة الوضوح، أملاً في الاحتفال بغموضٍ بطعم الخوف والمجهول والضياع، بطعم الحياة. هكذا يظل الشاعر طفلاً، هكذا يظل وحيداً، رافقت بعض شعراء تأثروا بأنسي ومشوا خلفه. في البداية، أدهشتهم وحدته، ثم لم يحتملوها لأنها سرعان ما أفزعتهم. أغلب هؤلاء حاولوا ترويضه أثناء قراءتهم له، أغلبهم ابتعد لأنّ قصائده ـــ أعني أنسي ـــ لم ترغب في المشي فوق رمل الصحراء. لم ترغب في البداوة، حيث الآثار الواضحة التي يستهدي بها قصاصو الأثر. قصائده رغبت في المشي على ماء البحر، لتغيّره دون أن تكشف عن أثره. ذات مرة، ذات مرات، حاولت تفكيك أنسي، لكنني فشلت، فانصرفت إلى محاولة أخرى، أن أرجع إلى السهم لأرتقيه، وأن أفرش على روحي القصائد والمقالات الأدبية، وأن أتناوم. سمعته يقول لي بأنّ العرب كُتّاب مقال أكثر من أي شيء آخر. العرب لم يصلوا في الرواية إلى سدرة المنتهى، باستثناء نجيب محفوظ، لأنه خالط الأعراق. المدهش أن البعض يزعم أن الرواية مختصر الأدب عند العرب. وهؤلاء بيضتهم لم تفقس بعد. كنت أثناء سماعي له، أفكر في مقالات المازني ويحيى حقي، وأفكر في مقالاته هو نفسه، لكنه فاجأني وسألني عن طه حسين، ثم قال: «طلبتَ مني أن أحكي كلمة، إذاً سأحكي، كان طه يسخر من الشاعر قيس بن الملوح، مجنون ليلى، ويُضحكُ قراءه، فهو لم يعرف عاشقاً أُغمي عليه كما أُغمي على قيس. لم يعرف عاشقاً شهق وزفر كما شهق قيس، وكما زفر، لم يعرف عاشقاً كان يقضي أكثر حياته ساقطاً على وجهه مغشياً عليه مثلما قضى قيس حياته. يرى طه أنّ قصة المجنون أشد القصص سخفاً وأخلاها من المغزى النافع والمعنى المفيد، مع ضرورة التشديد على الأخيرين، المغزى والمعنى، والحق الحق أقول لك، إن طه لم يفهم البعد السحري في الشعر، غلبته طبيعته الفولتيرية الهازئة، ولم تؤهله للتعامل مع الشعر والشاعرية إلا في نطاق الوعي الجراحي. طه لم يدرك أن المخيلة البشرية تصدّق الشعراء ولا تحب جراحيهم، تصدّق قصة قيس بن الملوح، ولا تحب وعي طه التاريخي، جميع الفنون شرطها التغريب، التغريب الساحر، أكثر من التغريب الساخر، تغريب رامبو وبودلير، وليس تغريب فولتير وموليير». قبل أن ينهي جملته، كنت أسمع باستغراب صوت تفتيح الأبواب، وهو الصوت الذي رافقني دائماً وأنا أقرأ قصائده، لا تزال قصائد «لن» وما تبعه هي المقدمة الأصلح لمعرفة أنسي. هي أمارته على أن الشعر توق إلى الحب، والحب توق إلى مزيد من الحب، والمزيد توق إلى المستحيل من الحب، وعلى حافة المستحيل وعند نهاية قصائد «لن»، عند آخر سطرين في الديوان، نسمع أنسي بصوت يشبه خاتمة الكريشندو: أغرق أو أحلق، أو أنام، لا وجهة لا وجهة، أسرطن العافية، أهتك الستر عن غد السرطان. حرية.

* شاعر مصري

***

حين يكون الشعر ارتطاماً بالعالم

عباس بيضون

شاعر في كل شيء، في طلّته وكلامه وجسارته ومزاجه وبالأخص في شعره. شاعر حين يكون الشاعر غير الأديب وغير الناظم وغير الحاذق وغير المتفنن. حين يكون الشعر ارتطاماً بالعالم وخياراً سليباً ومعركة وجود واعتراضاً جوهرياً ونفياً كلياً.
إنه الشاعر حين يكون الشعر كلاماً أوّل، كلاماً عفوياً وفورياً ودينامياً، حين يكون الشعر كل شيء إلا الصنعة والحذق والفصاحة والجزالة والزخرفة والتنميق، أي حين يكون الشعر رد اللحظة إلى أوليتها، الى مكانها في العصب والجسد ومكانها في الصراع ومكانها في الفكر، إنه الشاعر حين يكون الشعر موازياً للحياة، موازياً للدراما الإنسانية، موازياً للتأمل، موازياً للجسد.
حين أخرج أنسي الحاج كتابه الأول «لن»، كان بالتأكيد مذهلاً. لا بد أن القارئ العربي جفل أمام هذا الكتاب وغرق في الحيرة. لقد قرأ ما ينافي كل ما يعرف أنّه اللغة والأدب. لم يكن في هذه النصوص ما اعتُبر فصاحة وجزالة وسلاسة، أو حتى ما اعتُبر رقة وحناناً، وما اعتبر تغنياً وتسامياً. «لن» لم يكن مديحاً للغة وتهويلاً من شأنها. لم يكن تجميلاً أو زينة، لم يكن صنعة ولا تنميقاً، لم يكن ترجيعاً ولا تغنياً، وإذا خلا النص من كل ذلك، اعتبرت «عربيّته» مجروحةً، واعتُبر اعتداء على اللغة وزرايةً بها، واعتبر منافياً للجمال الأدبي والمثال الأدبي كيفما كان. لن نستعيد هنا الردود التي تلقاها «لن» في حينه، وما زال يتلقاها الى اليوم، لكننا نقف هنا عند مطالع التجربة «الأنسية»، ولم تكن هذه مطالع بسيطة أو تمهيدية أو متدرجة. كانت هجوماً عاصفاً وضع اللغة على المشرحة وعرّضها لتجريب قاس ومتنوع. في البدء، كان لا من تعرية اللغة من مؤثراتها الملازمة، تعريتها من فصاحتها ومن نظمها ومن أوتارها ومن عملها وبوارقها. بعد التعرية، كان الدور للتركيب، تركيبٌ قوامه البتر والقطع والقص والفك وتزويج للشتات وتكوين المفارقات والتركيب شبه التكعيبي شبه التعبيري للصور والفصول. لم يكن هذا عملاً عشوائياً كما خطر لكثيرين، لم يكن خلطاً ولا أي كلام، كان مختبراً حقيقياً وتجريباً عميقاً ومركزاً. كان «لن» بذلك ورشة تجريب خرجت بعشرات الاقتراحات التي اندرج بعضها في تراث القصيدة الحديثة، بينما كان البعض الآخر فوق احتمال اللغة وفوق احتمال الشعراء، فبقي جزء من تجارب «لن» معلقاً ولا أعرف إذا كانت الأيام المقبلة ستعيده الى الميدان.
بعد «لن»، كان «الرأس المقطوع» الذي اكتملت به موجة «لن». لكن أنسي الحاج ليس بالذي يكتفي بالاهتداء الى أسلوب. ليس صاحب القصيدة الواحدة ولا النظم الواحد. من كان مزاجه مزاج أنسي لا يملك أن يذعن لطريقة أو مرحلة انتهى إليها. لا يملك أن يتعبّد لأسلوب اكتشفه. لشعر الموازي للحياة هو مثلها نهر لا تمرُّ مياهه مرتين، مع «الرأس المقطوع» انتهى اختبار أنسي الأول، وبالتأكيد استخرج أنسي كل ما في نفسه منه، بالتأكيد انتهى لحنٌ واستُنفدت عُصارةٌ ووصلت الى ختامها. أنسي المجرّب الأكبر فرغ من تجربته الأولى وتوجب عليه أن يستولد تجربته الثانية.
«ماضي الأيام الآتية» من أَحب كتب أنسي إليّ، ومن أحب المجموعات الشعرية قاطبة إليّ، لا يبدو «ماضي الأيام الآتية» لأول وهلة خارجاً من مختبر «لن» و«الرأس المقطوع»، وقد يخطر لقارئ ما أنه مواجه لهذه التجربة وأنه قد يكون متحرراً منها.
يبدو لأول وهلة أن أنسي في «ماضي الأيام الآتية» ينقضُّ على نحو ما على تجربته في «لن». فتلك القساوة التي صاحبت «لن» ليست في «ماضي الأيام الآتية»، وذلك العنف اللغوي في «لن» ليس فيه أيضاً، لكن هذا لا يمنع أن يكون المختبر هو المختبر نفسه. «ماضي الأيام الآتية» هو نظير «لن» في استبعاد الفصاحة، بل هو بالدرجة الأولى ثمرة هذا الاستبعاد، لكن تعرية اللغة من المؤثرات البلاغية جعلتها في «ماضي الأيام الآتية» تعود تقريباً الى مادتها الأولى. يعود الكلام في هذه المجموعة الى براءته، الى نوع من الطفولية التي لا تغرق في التركيب ولا تستعبد المباشرة تماماً. «ماضي الأيام الآتية» لذلك أكثر من بيان شعري، وأكثر من مختبر، وأكثر من معرفة مع اللغة. إنه شحن للغة بمعان جديدة بعد تشذيبها من المتداول والمتواتر والبلاغي فيها. شحن بمعان جديد أو ردٌّ الى معان أولى، الى اللغة قبل أن تثقل بالبلاغة وبالفصاحة وبالأدب.
يمكننا أن نقول الكلام نفسه عن «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، لكن هذه المجموعة هي في المسار الشعري لأنسي الحاج مرحلة أخرى من التجريب. إنها أيضاً خروج من تجربة الى تجربة. مرة ثانية، لا يركن أنسي الى أسلوب أو الى صيغة. يصعب بل يستحيل عليه أن يحوّل أسلوباً أو طريقة الى قالب. مرة أخرى، يكسر القالب قبل أن يتكون. في «ماذا فعلت بالذهب، ماذا صنعت بالوردة»، ينحاز أنسي الى الغناء، لكنه كمن هو الغناء الأول، كمن هو الغناء بعد تعرية اللغة من غنائها. غناءٌ غير مألوف للغة كأنها تباشره لأول مرة، كأنه غناء جديد. غناءٌ يستعيد وحياً أثرياً قديماً مولداً جديده تحت هذا الوحي.
كل مجموعة شعرية هي لغة جديدة، هي اختبار آخر، هي باب آخر للشعر وعالم خاص. هكذا تكون «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» و«الوليمة». بعدهما سكت أنسي الحاج. لقد فتح أبواباً وشقّ تجارب وبنى عوالم أكثر مما فعل أي شاعر آخر. لم يكن أنسي في يومٍ محترفاً. لقد غامر في الشعر وأطلق إشراقات فيه، وكانت كل مجموعة له مجازفة ومعركة وامتحاناً إضافياً للشعر واللغة. جزءٌ مما نقوله في الشعر هو من كلام أنسي نفسه في مقدمة «لن» وفي «خواتمه» التي تكمل شعره. إننا مدينون لأنسي في شعرنا بقدر ما نحن مدينون له في كلامنا على الشعر وتنظيرنا له.

* شاعر وكاتب لبناني

****

كأنّ فُلْكاً يحملُـنـا!

سعدي يوسف

لإنسي الحاج، هناءةُ الزمن.
وضعَ مِيْسمَه، واضحاً وعميقاً، في جمرة التحديث الأولى ...
ثمّ اكتفى.
لم يشأْ أن تتحوّلَ الجمرةُ، إلى فحمةٍ في السوق.
هناك مَن يُنازِعُ أنسي على قبضهِ الجمرةَ.
لكنّ الجمرة تظلُّ أولى.
إنْ أردتَها، ثانيةً، صارت فحمةً.
أنسي الحاج، عنوانٌ أوّلُ، لدربٍ لن يكون شارعاً.
الفنّ دربٌ ضيِّقٌ.
أخلاقٌ وأسئلة.
السؤالُ الأوّلُ يظلُّ أوّلَ.
هذا ما جادَ به، علينا، أنسي الحاج.
مرةً ، وهو في «النهار»، وأنا عابرُ سبيل في بيروت، قلتُ له:
يا أنسي، لديّ كتابُ شِعر ...
قالَ: هاتِه !
« حانة القرد المفكر» كان ذلك الكتاب .
من الـمُـنْـتَـبَـذ اللندني، أصافحُ أنسي!

Courage camarade!
London 12.01.2014

***‏*

ليست هذه مرثية

صلاح فائق *

أكتبُ عن صديقٍ يحتضر
ليست هذه مرثيةٌ، انما قصيدةٌ عن نخلةٍ
خرجت سالمةً من طوفان قديم
وظلت تمشي حتى وصلت الى منابع نهرٍ
وبقيت هناك.
أكتبُ عن صديقٍ يحتضر
سلواهُ، لزمنٍ طويل، نواعير تدور
هو الهارب من ظلمة مدنٍ
الذي له مظهرُ عاشقةٍ
وطفلٍ يرقص
أكتبُ عن صديقٍ يحتضر
لن أبكيهِ ولن أنتحب، أمجّدُ ميراثه ومآثرهُ
بكلماتٍ هي مرايا نرى فيها حيواتٍ كثيرة،
حيواتنا، وحياتهُ أيضاً
في إحداها يمضي في أرضِ مجاعاتٍ وحروب
لكنهُ يغني.
أكتبُ عن صديقٍ يحتضر
بعيدٌ أنا لأمسّدَ أصابع يديهِ
وكانت تلتهبُ في شتاء الجبال
بعيدٌ أنا، أمكثُ في أوهامي عن كهلٍ
يصنعُ تابوتهُ في منتصف ليل
ثم يرمي خاتمهُ الى الهواء
أصدقائي خانوني، كلهم خانوني
لأنهم ماتوا
تركوني بين غربانٍ شرسة
وسلالم لا أدري الى أين تؤدي
أكتبُ عن صديقٍ يحتضر

* شاعر عراقي

***

تحية عبد الحليم حمود

***

الرائي، والمبدع وصوت الحريّة

خالدة سعيد *

أنسي الحاج أنسي الحاج، هل هو الغروب حقّاً؟ وأنت القائل:
«في ظلام النهاية جلستُ أكتب البداية.
في دم الأرض غمَسْتُ ريشةَ السماء.
وأقول للموت الداخل:
أدخل! لن تجد أحداً هنا» (الوليمة ص 38)
كلاّ، لن يجدك الموت. لن ينطفىء ذلك الوهج وذلك الشغف بقيم الإبداع، وذلك التنسّك للحقّ والجمال والمحبّة، وذلك الاعتناق العنيد لمذهب الحريّة. وسيبقى لنا شعرك وتبقى أفكارك ومواقفك وتاريخك المضيء.
أنسي الحاج من أهمّ الانفجارات الشعرية في زمن التجدد الشعريّ العربيّ. هو الأكثر تطرّفاً وتجاوزاً والأوسع تأثيراً. ومع أنّه جانَبَ الوضوح والخطابيّةَ، فقد جاء شعره صرخة هي نداء اللوعة والتماس الحقّ وزعزعة المستقرّ وأمل الجريح.
بدأ تألّق أنسي الحاج مع تسلّمه الصفحة الأدبية في جريدة «النهار» مطلع الخمسينيات، وبرز حضوره مع انطلاقة مشروع يوسف الخال الذي تجسد في مجلة «شعر» وجماعة «شعر». تميّز بين أوائل المندفعين الداعمين للمشروع الطليعيّ. التجديد عنده كان يتجاوز مسألة الكتابة المختلفة وتطوير الأشكال الشعرية وتحرير الشعر من الخطابية؛ كان يصبو عبر حركة «شعر»، إلى ملاقاة الحلم والتماس الأفق الإبداعي الأروع، وإلى تجديد الصوت الإنساني والرسالة اللغوية. فالثورة الشعرية، بالنسبة إليه، كانت أكثر من ثورة على القيود اللغوية. كانت ثورة على معنى الفعل الشعري ذاته. لأنّ الثورة الشعريّة إمّا أن تكون كشفاً وتجديداً للصوت الإنسانيّ ولرسالة الكلمة أولاً، ومن ثمّ نهوضاً لإعلاء معنى الوجود، أو لا تكون.
من هنا أنه كان متهيِّئاً لكل عطاء.
ومع أنه كان في أوائل عشريناته، فقد ظلّ حضوره يغذي تجمّع المجلة الرائدة « شعر» برؤى جديدة مجازِفة كاشفة ومساهمات ملهَمة.
رائد قصيدة النثر، شاعر الحضور والخطاب النقدي المربك المتحدّي في «لن» و«الرأس المقطوع»، ثمّ شاعر الاحتجاب وخطاب التّعالي والهيام والغفران في «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» وما بعده، لكن ليست غنائيته في مرحلة هذا الكتاب الأخير غنائية التوبة، بل هول الاعتراف ونداء اللوعة. لأنّ ثورته الشعرية في «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» ترتدّ على الذات تدفعها إلى المحيط ليتمحور المحبوب حتى ليغدو الشعر تسبيحاً.
بقي، على امتداد خمسين سنة، في زواياه، ولا سيّما «كلمات كلمات كلمات»، منذ الملحق الأسبوعي لجريدة «النهار»، وصولاً إلى صفحته الأسبوعية في جريدة «الأخبار» يوجه ضوءه الرائي الكاشف الحاضن الشامل في حقول الإبداع والاجتماع والمحبة والمعرفة وسائر المواقف العامّة. فقد تميّز أنسي الحاج، على امتداد حياته الكتابية والشعرية، بالمغامرة عند النهايات، بالارتماء الكلّي في طرق الحقّ والشعر والحبّ، بالكلام الخطير المجازف. تميّز بعناق الخطر بلا دروع وعناق الحقيقة بلا حساب. ولم يعرف طرقاً للرجوع. إذ ما الحبّ والشعر عنده، إن لم يُعاين الهول ويرتفع «كروح من تحت الماء»؟ (الوليمة)
ليس بين كوكبة الأصدقاء التي أحاطت به، من لم يُكرَم بكلماته. تجلّى هذا الكرم الأدبيّ الخلقيّ منذ بدايات مجلّة «شعر». اكتشفنا شعراء وقرأنا عديدين من خلال كتابته أو بَعدَ كتابته. وتميزت كتاباته النقدية بالعمق واللمح والانفتاح والنفاذ والتماس الجمال الخفيّ.
كان رهانه الكبير على جيل الشبّان، لكنّ خنادق الحرب الأهليّة، التي لا تنفكّ تزداد عمقاً، قد أوجعت كثيرين وضيّعت كثيرين. كان الصوت العالي لحلم لبنان دولةً للثقافة والحقّ، دولةً للإنسان، وظل كذلك حتى كلمته الأخيرة. فهو لم يتنازل عن حلمه أو مقتضاه، على الرغم من توالي المحن واستمرار التمزق الأهلي.
إنه مع زملائه المفكرين والشعراء والكتّاب وبعض الطوباويين، الجيل الذي بقي على جزيرة المثُل الموعودة بعد تفكك جغرافيا الطموحات المثالية.
عَبَر الحروبَ اللبنانية ووحولها الطائفية وما مسّته ذرة من غبارها. عبرها ضوءاً وسراطاً شعرياً روحياً إنسانيّاً. فقد كان وسيبقى رجل الحب ومحبة الحرّيّة. رجل الصدق والخفر الأخلاقيّ.
إذا كان صوته، الذي جلجل بين الخمسينيات والسبعينيات، قد مال في الآونة الأخيرة إلى الحكمة والتأمّل والألم، فلأنّ الحرب المتواصلة المتعاظمة لتفكيك لبنان والمنطقة قد طعنت هيامه وأحلامه وتجاوزت كلّ حدّ.
أنسي الحاج، أيّها المتمرّد، الشاعر والمفكّر المضيء، عجّلتَ بالرحيل، لكنّ كلماتك الرائية باقية لنا، باقية في أفكار هذا الجيل والأجيال بعدنا، ومن سيأتي.

* كاتبة وناقدة لبنانية

***

إصدارات

عام 1960، صدرت مجموعته الشعرية الأولى «لن» (دار مجلة «شعر»)، مع مقدّمة لا تزال تعد مانيفستو قصيدة النثر العربية. في 1963، صدرت مجموعة «الرأس المقطوع» (دار مجلة «شعر»). وبعد سنتين، صدرت «ماضي الأيام الآتية» (المكتبة العصرية). وصدر «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» (دار النهار للنشر) عام 1970، لتتبعها قصيدته الملحمية الطويلة «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (دار النهار للنشر) بعد خمس سنوات. أما «كلمات كلمات كلمات» (النهار)، فقد ضمّ مجموعة من مقالاته الصحافية، وصدر في ثلاثة أجزاء عام 1988.
في 1983، صدرت النسخة الثانية من «لن» و«الرأس المقطوع» (الدار الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع)، وفي 1991 صدر «خواتم 1»، و «خواتم 2» عام 1997 عن «دار الريس». عام 1994، أعادت «دار الجديد» إصدار «لن»، و«الرأس المقطوع»، و«ماضي الأيام الآتية»، و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». وفي السنة نفسها صدر «الوليمة» (الريس). وبالفرنسية، صدرت أنطولوجيا «الأبد الطيار» (دار أكت سود _ باريس) عام 1997، وقدّم لها عبد القادر الجنابي. كذلك صدرت أنطولوجيا «الحبّ والذئب الحب وغيري» (1998) بالألمانية ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر. أما أعماله الكاملة، فقد صدرت للمرة الأولى عام 2007، في ثلاثة مجلدات لدى «هيئة قصور الثقافة» (القاهرة).

***

فليُصْلَب على صُلْبان كثيرة

رشا عبد الأمير*

إلى أنسي الحاج شاعراً ولبنانياً
تُريد الخرافة، ولعلكَ، بل الأرجح أنك شريك فيها، أنّك نؤوم الضّحى، لا تُغادر فراشك إلا عندما تطمئنّ أن البشر قد أحرزوا قصب السبق في الإعادة والتكرار؛ تتثاءب كثيراً قبل أن تقرّر أنّ المساء، ساعتك الأثيرة، قد دخل حقّ دخوله، فتتهندم كأنّك الضيف الشرف على احتفال سلطاني باذخ يقام مرةً، في العمر، واحدةً لا شريكَ لها، وتمضي إلى مكتبك، ومنه إلى ليلك الحاشد بالجنيّات والشياطين والمُستوحشين والكسالى وأحاديث قلّما يؤتى فيها على ذكر الشعر!
هذا ما تريده الخرافة، ولا سبب وجيهاً لوضعها على المِحك، أو لتمحيصها أو للشك بما تريده ــ أعني بما تريده الخرافة، وبما تريده أنتَ من الخرافة التي استَأمنت عليها سيرَتك وروايتَك، لا مُتكاسلاً، بخفر، بل بخفة النشّال، من تنقيحها كلما بدا لك ذلك، كأني بكَ بدا لك ذلك كلَّما أهلك الزّمانُ جيلاً من حوارييك وأهداك جيلاً جديداً.
لسواي أن يقولَ فيك غيرَ ذلك ولكن هذا، عندي، بعض ما يبقى منك من أول يوم طرقت فيه بابك الباريسيَّ في «النهار العربي والدولي» مُتلمسةً سبيلي في متاهات العمل الصحافي، إلى آخر يوم، قريب، أجاءتني فيه الصدف إلى تصفّح «ماضي الأيام الآتية». بل، كلّي يقين أن لسواي فيكَ غير ذلك، وكلّي يقين، أيضاً، أنَّ المسافة التي تعمّدتَ، دوماً، أن تخطّها خطاً مُبيناً بينك وبين شِعرك ــ (ولو أنَّه آثَرُ عندي، والأرجح عندكَ، أن أقولَ كلماتك) ــ طريقٌ إلى شِعرك، مِنْ طرق شتى، إليه. ليس أنَّ الشعر في مكان آخر بل إنه مكان آخر: مكان آخر تمضي فيه حياة أخرى، وأحيانًا آخرة، على رِسْلِها مُنْتَحِلَةً الحِكْمةَ أو بسرعة الطلقة مُعانقة الجنون، وتدعو، مِنْ غير أن تَدعو، كلّ من يعنيه الأمر، أنْ يحذوَ حَذوك فيمضي فيه، في الشعر، حياة أخرى، وأحيانًا آخرة.
هو كذلك، ولكن الشّعر هذا ليس بالمكان الموهوم أو بالمكان المستحيل؛ و«لن»، مقدمةً ونصوصاً وورثة ذوي استحقاق ـ ومتطفّلين، خير دليل على ذلك. وإن أنسى، لا أنسى يوم أعادت «دار الجديد» نشر الخمسة الأوائل من دواوينك ــ دواوينك «التاريخية» على افتراض أن للصلح بين «الشعر» وبين «التاريخ» محلّاً أو مجالاً ــ إن أنسى لا أنسى بكم من الدقة، بل بكم من الوَسْوَسة، كنت تُصحّح وتستأنف، المرة تلو المرة، تصحيح تلك المسوّدات على قلق متّصل كأن هذه الطبعة ــ أو تلك أو هاتيك ــ هي «الكتاب» الأخير بعينه ونفسه، أو قل كأنّها «الكتاب» الذي يحاسب عليه المرء، يومَ الشّعر، وعلى ما فيه، الحسابَ العسير.
وإنْ أخشى، وحقُّ القَلْب أن يتوجَّس الخيفات، فأخشى ما أخشاه على «الخرافة» أنسي الحاج أن تُصْلَب على خشبة «الشعر» دون سواها، أو أن تُودع في كتاب ــ كائنا ما كان هذا الكتاب. إنْ كان لا بدَّ من ذلك، فأنسي الحاج يستحق أن يُصْلَب على صُلبانَ كثيرةٍ ليس أخشنَها، ولا أقلَّها ارتفاعاً، صليب لبنانيته الهازلة المغرورة في آن واحد، ولو أنها قد تبدو اليوم، لبعضهم على الأقل، من زمن غابر.
أحب أن أتذكر أن أنسي الحاج، بوصفه المدير المسؤول لجريدة «النهار»، استُدْعِيَ ذات يوم، في عز «الوصاية»، أمام القضاء اللبناني، لمُساءلته عن نَشْرِ مقالات ذات صلة بالدّخْلل والحميمية بين «الأجهزة» اللبنانية والسورية (البعثية)، وأحبّ أن أتذكر أن أنسي الحاج، قبل التحاقه بـ «الأخبار» بسنوات، غادر «النهار»، بيتَ أبيه، مُحْنَقاً، فاحتكم في نزاعه ذاك «إلى القارئ»، في كرّاس نشرته «دار الجديد»... أحب أن أتذكر أن «الشعر»، على دِين أنسي الحاج وذمته، هو «العكس مِنْ كلّ ما يَقهر».

* كاتبة وناشرة «دار الجديد».

***

الإرادة ولادة دائمة

شكيب خوري *

ألو،أُنسي؟
شكيب خوري
- مرحبا أُنسي،
يا عاشق السَّهر.
هيدا اليوم هو الواحد والثلاثون من كانون الأوَّل. خَفّ البرد. يلا نمشي بحارات الأشرفية، في شمس. بعرف. بتحب شمس الظهيرة. بتخلصَك من أَرَق نص الليل وكوابيس النهار. باستمرار بتذكَّر لمّا تلفن لك عند الصبح وتكون بعدك نايم، تْـبَـحْبِش، وعيناك غـفْيانِه، عَ سمّاعة التلفون.
ويرنُّ الهاتف:
- مين؟
- شكيب.
- آ، شكيب؟
- مقالتك اليوم رائعة. «كلمات كلمات كلمات» منّها مجرَّد كلمات مألوفة. من وين بيجي هاالجديد؟ وين بتتصيَّدُ الـمُدهش؟
- من العذاب. الخوف. الجذور اللي عَمْ تضمر عَ إيقاع الصواريخ.
- بعتذر، ازعجتك.
- تقلَّصت ساحات اللقاء. منشرب قهوة بساحة ساسين.
وتَـلْـتَحِف غِطاءَ السّرير ناشداً قليلاً من الرّاحة والسّكون، أو ربّما الفرج.
-2-
وصلتُ إلى الموعد وكان أُنسي يجلس على طاولة يفصلها زجاج المقهى عن الرصيف. عيناه ذابلتان. ابتسمتْا عندما رأتاني. لكن سرعان ما عادتا إلى الصَّمت المذهل. سألته:
- في شي زاعجك؟ صار شي؟ عَـيْـلْـتَـك بخير، أُنسي؟
- آي صار.
- خير. شو صار؟
- أنا يائس. هاالحرب بين شرقية وغربية دمَّرت إيماني بفرادة بيروت.
تقلَّصت ساحات اللقاء، ساحات الإبداع. ما بقى في طرقات سالمة، مسرح، ندوات فكرية؛ نور النّهضة اللبنانية تحوَّل لدم. سيطر الدم بلونه الداكن عَ لوحات التشكيليين، شخصية العمارة اللي ميّزت مدننا، ضيعْـنا تدمَّرت، البرج امّحى. كل هاالأزقة القديمة اللي ريحتها أَنعشت رئتي زالت معالمها. لازم فِـلّ. پاريس غربة بس، ربّما، بتكون العلاج... الأمل بدل اليأس.
وسافرت. وكنت كل ما زور پاريس، تَـلْـفِن لَـك. وعادت حليمة لعادتها
القديمة:
- صباح الخير.
- ألو ... مين؟
-3-
- بعدك نايم؟
- آ. شكيب، أهلا. أيمتى وصلت؟
ويكون موعد ولقاء. وبين الإثنين، يا أُنسي، كنت أتذكَّر انطباعات بعثتها علاقتنا. أولاً، حَياؤك الصّارخ عندما كنتُ أسدِّدُ ما يتوجَّب عليَّ دفعه لك لقاء ترجمتك لمسرحيتي «رومولوس الكبير» و«الصَّيف». نعم. حَياؤك كان يشعرني بأني أرتكب غلطةً مميتة مع صديق. نفسك كبيرة، يا أُنسي.
ثانياً، مَيْلُك... أو شغفٌ مكبوتٌ للتمثيل لديك. عبَّرتَ عنهما عندما طلبت مني أن أُسندَ إليك دوراً في مسرحية «رومولوس الكبير». واستجبت لرغبتك. وكيف لا. كانت سمعتك الشعرية والأدبية مكسبـاً معنويـاً للفرقة. وانطلقت ورشة العمل. وبعد بضعة تمارين، قرّرتَ الانسحاب. لأنَّ مشاغلك الإعلامية والأدبية لا ولن تسمح لك بتكريس الوقت الضروري لتحقيق «الممثِّل» فيك. كان صوتُك ينبض بالحزن. يومها خسرتُ والممثّلين رحابةَ صبرك وغنى ثقافتك. وحُرِمْتَ أنت تحرير خاصية إبداعية في ذاتك المتعدِّدة المواهب. ولنعد إلى الحاضر. سأجتمع بك قريباً، وآمل أن يتوقَّف غدرُ السيّارات المفخَّخة. إنها الموتُ المتربِّص بنا. على كل حال، عندما نلتقي، سأطرح عليك سؤالاً بدأتْ أجراسُه تطنُّ في رأسي منذ تعرّفت إلى حفيدتك لارا:
-4-
- هل انتقلت جينَةُ التمثيل فيك إلى حفيدتك البارعة لارا بو نصار؟ معها تجدَّدت لقاءاتي معك. البذرة الأصيلة تنمو وثتمر برفقة الجذور. وبكل عفوية رحت أراجع علاقة الممثّل الكائنة فيك بالترجمة وخاصةً للأعمال الدرامية. سطع صدق ترجمتك لمسرحية «الصَّيف». وأدركت توأمة شاعرين: أُنسي الحاج ورومان ڤينغارتن في عمل واحد. لمّا لغة الشاعر الـمُترجِم بتجسِّد رؤية شاعر أجنبي وبتكشُف عن المستتر بين السطور والموسيقى اللي فيها، وبتتصيّد المعنى الصحيح وبترسم دلالات الطبيعة والحيوان... لـمّا لغة المترجِم بتنقُش النص بإزميل مايكل أنجلو ساعتها بتتوحَّد المعاني وبتظهر الرموز والأحاسيس وشفافيّة البلّور. كل هاالعناصر ساهمت، يا أُنسي، برؤيه إخراجية لـ «الصَّيف» جسَّدت الحلم والشاعري. فجاء العرض أثيرياً متل «باليه» ... وهيك زميلك نزيه خاطر وصف الإخراج.
اسمح لي بأن أكشفَ لك أيضاً عن تجربة لي كنتُ قد أخفيتُها عنك وعن رفاقنا: ذهبت إلى الفريكة لحضور حفل يحمل اسمك. جلست بين الحاضرين أنصتُ إليك تلقي شعرك، وأتخيّل صوره. وفجأةً أرى ريشةَ أمين الريحاني تمتلىء حبراً وشعرُكَ منها ينسابُ. اقترن الشاعر العريق مع الفيلسوف الأصيل. وفيما أنا مستسلم لهذه الرؤيا، أسمع من القبو العتيق المجاور، خوابي النبيذ تهلِّلُ.
هاالذكريات، يا أُنسي، بتفاجئني متل البرق اللي بيسبق الرَّعد وبفرح. ومع
-5-
طلوع الشمس بنط عَ التلفون تَـ عبِّر عن إعجابي المتجدِّد بزهورك اللي عَمْ تولد عَ صفحتك. وفوراً بسمع صوت إيدك عَمْ تْبَحْبِـشْ عَ سمّاعة التلفون وإنت بعدك نايم، وبأجّل الإتصال. وبصير شَـبِّه أفكارك بلمعان البرق، وشَـبِّه دعساتك السَّريعه وإنت لابس الكبوت بصوت الرَّعد.
بعدنا شباب، يا زَلـَمِه. السيارات المفخَّخة ما رَحْ تغلب إرادة الحياة. والساحات رَحْ يزيّنها إبداع ولادنا وأحفادنا. وإنت أنا، إلنا ساحتنا وعليها رَحْ يرقص المستقبل اللي كنا نخطِّط أهدافه وبعدنا مننشده.
«الإرادة ولادة دايمه»، ما هيك كنت تقول؟

* مسرحي وروائي لبناني

****

إلى الأمس إكليلاً من الغوى

شوقي ابي شقرا *

  في استديو الرسام اللبناني بول غيراغوسيان في منطقة جديدة المتن أواخر الثمانينيات (من أرشيف جمعية بول غيراغوسيان) إنه الرحيل، إنها الساعة، إنّه أنسي الحاج ولَّى. ويحدث الانشقاق بين الشاعر وجسده، بين البركان والحمم، بين الشاعر ونفسه التواقة، بينه وبين الغد، بينه وبين الوصول إلى الترياق، إلى الأمس الذي هو ربما اكليل من الغوى، من الأزهار التي تذبل أو يغمرها الشحوب. ويغمرها الشاعر فيكون الرجوع إلى العافية، إلى الآتي من الأيام، وإلى تلك المغامرات التي كانت له، والتي كانت لنا. ونحسب الحساب، فإذا هي ملعب طويل العشب تنط عليه الكرة، وتنط الأمنيات.
ويكون الرجوع إلى النضارة، وإلى الأدق الأدق من الكلام، من الرضى وتربية الذوق، وترويض العقل الفاعل على أن يحمل الزاد، أن يحمل الأفكار وأن يتأبط القافية أو قامة الحرية. ونركض نحن على البساط الأحمر ومعنا الربابة ومعنا البيانو ومعنا الآلة التي تعزف للوطن، للشاعر الذي كالموج يروح ويجيء ولا يتعب ولا تديره الظنون. ولا غفلة عن الحقيقة عنده، بل هي الحقيقة ما ينبغي أن يكون وأن يتربع على الكرسي الكبيرة، وحيث الصولجان وحيث التاج وحيث السلطان هو يقرر. وهو يدعو إلى الاحتفال وإلى أن يرقص الراقصون وينزل المهرج إلى الساحة. وتكون الضحكة ويكون الحزن ويكون من ثم ذلك الانشقاق بين البارحة والشاردة.
بين الصحو الملهم والمطر الذي يفرقع ولا يمحو ولا يطفئ بل يزيد النار حين يحدث الشاعر عليها وحين يرمي لقمة الحطب على لونها الغامق، على الرماد الأصيل وعلى قدرة الالتهام بحيث ينتفض الطائر وجناحاه وينهض من العدم، ومن أي حثالة أو أي ثمالة. وهو سكران وعدواه تمس الآخرين وتصيب القراء طراً ولا ينزحون ولا يغضبون.
ولا انشقاق معه، ولا هو ولا أنا كنا تلك الحالة، تلك الأزمة بل تلك النزهة نحن منذ الخمسينات إلى الردح والبرهة والسنوات التابعة، إلى الحقبة الخصبة منذ حلقة الثريا إلى مجلة «شعر». ومنذ كنا هو في «النهار» وأنا الصياد أصطاد اللحظة العابرة والهنيهات والساعات الرخية، وكانت العذوبة والصداقة هما عصاي، وكنت أطرق الباب، باب الرفقة والشعر وهو ولي التوفيق. ونحن تلك القصيدة التي تهمي، وتلك الكلمة التي تمر ونكتب اسمها وهيكلها على بحبوحة الورقة وكنا نتداول الجيد والمرهف وما يندر وما لا يزول هباءً وضياعاً في خندق الرداءة، خندق المعتاد ولا تجدي الطبابة.
ومع الشاعر والشعر تلك هي الخطة والمنهاج والبرنامج. ولا نترك العروس أي الكلمة وحدها، بل نعمد إلى إخراجها من العش حيث هي دافئة، ومن الخدر حيث هي في الناعوسة ووراء الناموسية لئلا يتاح للبرغشة أن تؤذي الوجه أو ذلك البض، ذلك العري الهائم في مداره، في أحلامه. ولا ندع الجمال إلا نأخذه كأنه الغزال، وعلينا أن نحط عليه وأن نتلوث كما الفراشة من الزهرة، وكما لها فنها في التحليق وفي أن تعمل أعمال الفراسة وأن تنقل الرسالة إلى ما حولها، وأن تبث مهنتها للطبيعة طراً وللناس طراً حتى الفناء في مناخ الزوال في الاتحاد ثانية وكل مرة بالفضاء. وإنما هلاكها هو العلامة على الوجود والإياب إلى الأخضر إلى الأبهى إلى نعمة الظفر بالبقاء بالذوبان في ما يقوم على التجدد والصعود إلى حيث المملكة مملكة اللامرئي والصعب أن لا يدوم ولو في أحلك الأزمنة. نائية وقريبة هي الطريق إليه، إلى من نطل عليه، حتى يرانا إلى أنسي الحاج، وكنت أنا منذ مطلع الشمس ذياك القادم إلى منظره، إلى فتون إطاره باكراً، إلى سر اللقاء إلى عهد يتقادم ويطول. وكنت في خطواتي مسرعاً وبطيئاً ورويداً تلي رويداً. إلى أن أثمرت الزهرة في الأرض زهرة الصداقة وصعدت من التراب والإناء إلى السقف، إلى الفضاء الذهبي الذي يملك الرحابة ويملك القوة على ذلك، ويملك العاطفة التي تعبر أي سقف وتجتاح أي عائق وتقلب الخشبة من فسحة إلى فسحة ومن ضحكة إلى ضحكة ومن آخ إلى آخ ومن شاعر إلى شاعر. وما كنت سوى العفوي سوى المتطلع إلى الجدة المشتعلة.
والحق هنا أننا كنا في ما مضى، في بحر الخمسينات نرحل إلى الأوسع وإلى ما يؤلف السعة وما يجعل الكلمة طائراً صعباً لكنه يأوي إلى الدفء. كنا نهجم ونهاجم ونصطلي على الأصول على التراث على الوجود ونكتب الورقة وعلى الورقة وعلى حائط الوقت أحلى الصور وأحلى العبارات وأحلى القصائد، منذ تلك الأيام الغابرة ونحن في الشروق ولسنا في الغروب. وطالما حلمنا وسرنا وروينا وكان القلم في نضارته سيداً على المكان وكان في معظم أحواله منذ الحقبة الاولى، يفوح ويصل عطره إلى ما بعد الشميم الداني. إلى ما ينتظرنا إلى القارئ الذي يجلس في هدوء الحياة، وحوالى بركة الماء، وحوالى النافورة، لكننا نثور وهكذا كنا نضع النقد على الغلطة وعلى الأمر وعلى المرارة وعلى الجرح ونضع النقطة على القد المنتصب، حيث نحن نبصر أين هي وأين الصواب وأين هي الشبكة لتدخل الكرة أو لتدخل هي الكلمة المصطفاة والتي كانت كأنها الطفلة تركض إلينا ونحن لها نشرع الذراعين، نشرع ذواتنا لتهبط على مهل وبكل أناة وكل انبهار ودهشة. ونحن حينئذ نأخذ ونأخذ، والنحلة إنما هي كذلك ونحن كنا ذلك الراوي وذلك الشاب المتقدم إلى النيران، وذلك الفتى الذي من نبتة إلى نبتة يفعل ما تفعله النحلة الطروب وتلك العادة لديها، عادة أن تتغاوى وأن تكون غنية كل الغنى، اذ في فمها لا ماء بل عسل يشفي ويسقي. ورحنا ملياً في المشوار وفي الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح إلى الخصيب من الأيام من العطاء الأدبي. وأنا في حلقة الثريا، وفي «جريدة الزمان»، ثم انصرفت إلى مجلة «شعر»، وأنسي يحضر ويقول النص الذي يفور طويلاً ويهوى أن يكون الإلحاح إياه، وأن يكون الشك وعدم اليقين، وأن يكون الشاعر وقصيدة النثر التي تخرج من العلبة، من العتمة إلى المصباح إلى وهج الغد ومن القماشة الضعيفة إلى طرحة العروس وكثافة الفرح والحزن على السواء.
وإذ يبدو أنسي الحاج وإذ يصرخ أمام الجميع، أمام الرسولة وأمام نفسه، إنما يكبر دوره ويكبر الزاد الذي صنعه لطبقة القراء، لأي طبقة لأي فئة لأي مرحلة في مسار الشعر اللبناني ومن ثم العربي والآخر الشفاف ويلتفت دائماً إلى كل جهة من حيث الغناء ومن حيث الصدى الذي يتوزع ليكون الأرغفة في الرخاء والأحوال المتصادمة إلى وادي القوم المتحرك هنا وهناك.
وكنا معاً في البأساء وفي الرضى. وكنا، والحرب قائمة لا ننسى الأصالة، أصالة الجهد الذي صرفناه ولم نقامر به، والذي تعاظم إلى حدود الإبداع وداخل الإبداع وداخل الزمن الذي ما فتئ يداعبها لنتكلم في شباكه كالسمكة ولا نفنى، ونحن نداعبه ولا نرعوي. وأنسي أيضاً بهذه الصفة وجد الضالة، وجد الفعل وجد الجاذبية والمتعة في ما كتب واندفع به مجالاً تلو مجال، ليكون حرياً بأنه من شعراء لبنان في الطليعة وأنه، في ما يترك من أعمال، وما يزاوله من أفكار وآراء وأصوات، ذلك الهوس الفني، ذلك المتربص الشجاع وذلك الساهر ومعه سيفه والقلم. ومعه النخوة التي تمتشق العافية في القد المنسرح واللين الحركة ومعه دوام القنديل. ومعه نحن الذين نحبه، ونتمنى له أن يطرب دائماً وأن يغني لنا كأنه عصفور نزل من ضواحي الجنة، ونحن في الإصغاء، وفي صدد الاعتراف بأنه الوجد كاملاً كنجمة الصبح في ديارنا حتى الثمالة. وانه كلما انقلبت الأوراق من حقبة إلى أخرى، له العذوبة في الصراخ وله المنطق المزدهر يصيب به الغاية إلى عمق الدجى وعمق الهوى. ويصعب على شهرزاد والحقيقة والليالي المزدحمة بنا والمغامرة الناجحة أن لا نصف «النهار» بأنها كانت الميدان والمعاني المثلى والرسالة الدسمة عبر كلينا وعبر بعض الآخرين من الرعيل المقدام وحيث بضعة فرسان وحيث بضعة نبلاء. وفي الجريدة تراكمت معنا ومع أولئك حرية الكلام وحرية الأدب والغوص على الطريف والتالد. وحيث استقبلنا الأسراب الملهمة وشتى الفصول وكنا غالباً نحلق ويحلقون وننال لذة الارتفاع ونشوة البلاغ. وننال أقصى ما نريد وأسمى ما نريد. وأنسي الحاج عبر أبيه لويس وعبر غسان تويني وعبر فرنسوا عقل على الأخص وعبر اللغة وكونها المتمردة، كان يخلق أسلوباً في الصحافة وفي مطهر الأشغال ورمي السهام حتى مداها الثمين، كما هو الحب والاندفاع وجلبة الربيع ويقظة النيام من النوم.

* شاعر لبناني

****

قمر في سماء نهارية

عبلة الرويني *

قبل سنوات عديدة، تحديداً قبل عشر سنوات، وجدتني في معركة مع أنسي الحاج، أقصد في معركة حوله، أقصد في معركة بسببه، تراشق، وغبار، وروائح دخان، وبكاء، وغضب محموم . لا لشيء إلا لأن أنسي الحاج رفض بعنف وتعالٍ أن أجري معه حواراً لجريدة «أخبار الأدب»، مفسداً مهمتي الصحافية لإعداد ملف خاص عنه للجريدة. وكان غضبي أشد، لم أفعل سوى البكاء المتواصل وسرد الواقعة، وكان ذلك كافياً لإغضاب اللبنانيين، إلى الحد الذي تساءل فيه الشاعر عباس بيضون: «وما الذي أتى بها إلى بيروت؟».
وسألني الشاعر عبد المنعم رمضان بهدوء لا يخفي لوماً: «هل كنت تريدين تقديم أنسي الحاج إلى الجمهور المصري»، كأن لسان حاله يعني بوضوح: «هل كنت تقومين بإعداد ملف عن أنسي الحاج، بدعوى منح الشاعر الكبير الفرصة للحضور في مصر؟». وكان أحد أسئلتي التي أثارت غضب أنسي الحاج، فألقى بالأوراق في الهواء، في انفعال غاضب. كان السؤال حول غياب تأثير قصيدته على شعراء قصيدة النثر المصرية، وأنهم (الشعراء المصريون) في الأغلب أحفاد محمد الماغوط، لا شاعر آخر. سؤال رمضان أنطوى على التعريض بي بالطبع، برغم أن الكتابة عن أنسي الحاج في القاهرة، كانت ولا تزال محاولة للاقتراب من عالم شعري غائب وبعيد عن المشهد الشعري المصري.
حقيقة لا تنفي مكانة، ولا تنقص تقديراً، حقيقة لا تجهل قيمة، ولا تتجاهل تاريخاً أو إنجازاً، تماماً كما أن محبة الشمس والانتماء للنهار، لا تعني عدم القدرة علي رؤية الليل، وإدراك سحر القمر …
أختصر اللقاء في معركة، وأختصر السؤال في غضب وتراشق، تماماً كما يختصر أنسي الحاج في أوصافه وألقاب ، فهو الشاعر «الملعون، الأنقى، العاصي، المتمرد، الوحشي، آخر القديسين». كما أن شعره أيضاً اختصر في مقدمة ديوانه الأول «لن»، بل إن مقدمة الديوان التي أعتبرت البيان الأول لقصيدة النثر، ظلت الأكثر شهرة وحضوراً من الديوان نفسه، وربما من كل أشعار أنسي الحاج، كما كتب الشاعر حسين بن حمزة، بل كما كتب أنسي الحاج نفسه «بعد ثلاثين سنة من كتابتي الشعر، لا يتحدث الباحثون في شعري، إلا عن مقدمة «لن»..».
الذين يعرفون أنسي الحاج، الذين قرأوه، النقاد الكسالى وربما غير الكسالى أيضاً يختصرونه وينمّطونه في صورة محددة واحدة ووحيدة. والقراءة حول أنسي أسهل عادة من قراءة أشعاره، والحكايات المثيرة والغريبة حوله، أكثر متعة عادة وأكثر رواجاً وقبولاً. هكذا، انتشرت شائعة مصادرة الأعمال الشعرية لأنسي الحاج في القاهرة، بتهمه العيب في الذات الالهية برغم قيام «الهيئة العامة لقصور الثقافة» بطبع 5 آلاف نسخة لأعماله الكاملة عام 2007، وبيع 4000 نسخة بالفعل إلى أن انتشرت شائعة التحفظ الشفاهي على النسخ الباقية في المخازن، بعدما احتج الشاعر محمود الأزهري على رفض طبع كتابه بحجة خروجه عن القيم والأخلاق، فصرخ الأزهري محتجاً: «ولماذا تكيلون بمكيالين، تمنعون كتابي، وتصدرون أعمال أنسي الحاج الكاملة، وهي الأكثر خروجاً وانتهاكاً!». الأهم أن النسخ الباقية من ديوان أنسي الحاج جرى توزيعها على 540 مكتبة تابعة لقصور الثقافة عبر محافظات مصر كلها، وهو ما يعني بالفعل «نقيض المنع» وتعميمها بصورة أكثر انتشاراً وحضوراً، لكنها الحكايات المثيرة، والرغبة في ملاحقة الصورة، وإضافة ألقاب وأوصاف واسهام في تأكيد النمط. لا يُعرف أنسي الحاج في القاهرة. لا تجري قراءته وتداول أشعاره، ليس ثمة حوار حول شعره، وما من مراجعات نقديه لتجربته. ليس ثمة تأثر حقيقي بقصيدته، قصيدة النثر المصرية هي بالفعل أقرب إلى قصيدة الماغوط، أو هي ذات ملامح وخصوصية تبعدها بالتأكيد عن قصيدة أنسي الحاج، وربما عن قصيدة النثر اللبنانية عموماً. يكتب الشاعر ابراهيم داود «لم يقرأ أنسي في مصر بسبب الخيال التقليدي الذي يدير الثقافة الرسمية»، لكن أنسي أيضاً لا تعرفه الثقافة الشعبية، أو هو لا يقرأ خارج الثقافة الرسمية.
هل هناك ما يغضب في القول بأنّ تجربة أنسي الحاج هي تجربة خاصة جداً وفردية جداً، وداخلية جداً، ومسيحية جداً، أسباب كافية لوضعه في سماء بعيدة، ومسافة هو أول من يدرك هوتها؟ كتب أنسي الحاج بعد قراءة «الكتاب»: «لأدونيس كتاب مهيب، لا أجرؤ بعد قراءته على أن أعتبر نفسي كاتباً عربياً، كتاب كهذا يفضح أميتي، كيف يكون كاتباً عربياً ويجهل ما تنضح به عروق أدونيس عن الإسلام؟ وما يكابده؟ وما أقتطع شطراً عظيماً من حياته في استنطاقه ومجادلته والتصارع وإياه؟ تكاد كل ملاحظة فيه أن تكون معجماً مصغراً عن الإسلام؟ وعن الجاهلية وكل العرب. والأخطر في أوضاعنا المتفجرة أن هذه التفاصيل باتت جزءاً من الحديث المتداول للأجيال اليوم، وبمعانيها التي علي رؤوسها القتال. من السهل القول إن هذا العالم لا يعنيني، أنني مسيحي ولن تكون أسماء السلطة والخلافة والدم أكثر من رموز بالنسبة إلي، ولكن من أنا اللامسلم في هذا الخضم الفاجع؟ إذا كان هذا الخضم لا يمثلني، فأنا طبعاً لا أمثله مهما حاولت مجاملته، ومهما حاول التسامح معي». هكذا، اختار أنسي الحاج أن يكون، أو هكذا كان دائماً، خارج تلك الأرض، وخارج تلك الثقافة، شاعراً لا يشبه إلا نفسه، يسكن سماءً بعيدة ووحيدة، ولا يريد أن يغادرها.

* كاتبة وناقدة مصرية

***

اكتشاف الدهشة

محمد أبو زيد *

في تاريخ القصيدة العربية مفاصل لا يمكن تتبع تاريخ الشاعرية العربية من دون أن نمر بها. مفاصل بدأت بالمعلقات السبع، ومرت برموز ديوان العرب العمودي من أمثال المتنبي والبحتري وأبو فراس وأبو نواس، ثم من شاركوا في إحياء الشعر العربي أوائل القرن الماضي، ثم رواد قصيدة التفعيلة، وانتهاءً بمن كانوا عتبتها على البوابة الأكبر، قصيدة النثر، وهؤلاء يقف في مقدمتهم أنسي الحاج.
لا يمكن المرور إلى قصيدة النثر دون ذكر مجموعة «شعر»، والحديث عن أنسي وعن الماغوط، ليس فقط لأنهما أول من كتبا قصيدة النثر العربية، فهناك تجارب أقدم غير مؤثرة، بل لأنهما غيّرا خارطة الشعر في العالم العربي. «لن» هو ديوان مفصلي في القصيدة الجديدة، ليس لأنه أول نثري، بل لأنه ديوان مؤسس، وكاشف عن موهبة عملاقة، هي موهبة أنسي الحاج.بالنسبة لي، وكما كانت شاعرية أنسي مفصلية في القصيدة العربية، كانت مفصلية في كتابتي. أذكر نفسي الآن عندما كان عمري 19 عاماً، قبل 15 عاماً، وأنا أقطع الطريق من الغورية إلى «مكتبة مبارك العامة» لأكتشف دواوين أنسي الحاج ومحمد الماغوط، فأقرر أن أهجر قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية إلى هذا اللون الجديد، المبهر بالنسبة لي، الذي به كل ما في الشعر الذي أحبه والذي أريد أن أقرأه، وأكتبه، والأقرب إلى ذائقتي. كان اكتشاف أنسي الحاج بالنسبة لي هو اكتشاف الشعر، في «لن»، و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، و«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة»، وغيرها من الدواوين التي مهدت طريقاً لي، ولغيري، نكمله، ونبني عليه، وننهل منه. أنسي الحاج، بالنسبة لي ولأجيال سابقة ولاحقة، أحد الآباء الروحيين الذين لا ننفك نذكرهم، ونحبهم، ونضعهم في مقدمة صانعي وصائغي الشعرية الجديدة. أنسي الحاج هو حامل شعلة الدهشة التي أبداً لا تنطفئ.

* شاعر وصحافي مصري

***

كأنّه نسيم ذاهل فوق غابة من أعاصير

شوقي بزيع *

  لوحة بريشة الفنان اللبناني فؤاد نعيم تحية إلى أنسي الحاج مات أنسي الحاج. هكذا قالت الصديقة المتصلة عبر الهاتف، قبل أن تطلب إليّ أن أرثيه بما تيسّر من الكلمات. لكن ما أنا بصدده هذه المرة ليس نبأ موت عادي لأُطرق قليلاً في المعنى الساخر للحياة، ثم أدبّج مرثية في رحيل الشاعر سبق لي أن كتبت مثيلاتها من قبل. فالموت الآن ليس حدثاً يأتي من الخارج لكي أدرأه بالكلمات أو بالأيدي، بل هو يندلع من الأقلام الصغيرة للروح تاركاً للجسد أن يصاب بالشلل، وللغة أن تسقط في الهذيان. صحيح أن أنسي كان منذ سنوات يعاني من مرض ما، كان صاحب «الرأس المقطوع» حريصاً على إبقائه طي الكتمان، ولكن الصحيح أيضاً أن أحداً لم يصدق أن هذا الرجل الاستثنائي في جبروته ورقّته يمكن للموت أن يأخذه غيلة، وللحياة التي منحها كل ما يملك أن تسحب البساط من تحت قدميه. قيل عنه الأنقى، وقيل عنه الساحر، وقيل عنه الأمهر، وقيل عنه القديس الملعون. وكل ذلك صحيح بالطبع، وهو فوق كل ذلك الذكي اللماح، والماكر على بشاشة، والذي يشيع أينما حلّ فرحاً في الاماكن وجلسات الأنس قلّ نظيره.
وهو الشاعر والناثر والمحرر ورئيس التحرير. وهو الذي رتّب في ضوء حضوره وجودنا على الأرض، وعلاقتنا باللغة ونظرتنا الى الجمال. وانتظرنا دائماً ضحكته لكي نضحك ودموعه لكي نبكي، وشكواه لكي نتبرم بالواقع، وعشقه لكي نتدرب على العشق، وتواضعه لكي نتخفف قليلاً من أحمال الصلف والادعاء. ولم نكن نعلم أن كل هذه الحيوات التي عاشها كثيرة على رجل واحد، وأن ثمة شيئاً كالموت يهيّئ لذلك الجبين المرفوع الشرك الذي لا فكاك منه، والعثرة التي سترديه في نهاية الطريق. كيف لأحدنا أن يتصوّر لبنان بلا أنسي الحاج. منذ عقود ستة تقريباً وهو يعمل بدأب النساك وصبرهم على ترميم الحدود الفاصلة بين ما سمّي المعجزة اللبنانية المتصلة بشهوة العيش وألف الإبداع ورحابة التنوّع الأهلي، وبين العجز الذي يقارب الشلل عن إيجاد ظهير سياسي ورسمي لذلك الحلم الفردوسي الذي يتمّ وأده والتضحية به كلما آنس طريقاً إلى التحقق. كأن أنسي هو التجسيد الرمزي للمقال اللبناني الأعلى الذي شكّلت مجلة «شعر» في الخمسينيات والستينيات نواته الجمالية وعموده الفقري. إنّه فينا بقية ذلك العالم الذي كادت تطمسه نذالات السياسيين وسعار الطوائف المتناحرة وانغلاق العقول المتطاحنة على تحجّرها.
ومن دونه لا يمكننا قراءة المعنى اللبناني، ولا قراءة معنى التنوير، أو روح بيروت، أو نهوض الحركة المسرحية، أو فتنة شارع الحمرا، أو الصعود المباغت للمسرح الرحباني الغنائي. ومن دونه لم يكن صوت فيروز ليجد، على روعته، من يحيطه بكل ذلك الخشوع الابتهالي.
كيف لأحدنا أيضاً أن يتصوّر الشعر والنثر بلا أنسي الحاج. فهو أحد الروّاد المؤسسين، لا في اجتراح قصيدة النثر العربية فحسب، بل في تخليص اللغة العربية السائدة من ترهّلها وميوعتها وجنوحها إلى الإنشاء والإطالة. وهو الذي «فخّخ» الشعرية القديمة، لا بالديناميت القاتل والماحق، بل عبر تقويض الأسس الموروثة للذائقة الجمالية وخضّها بعنف توليداً لما تختزنه من احتمالات جديدة وخيالات غير موطوءة. وحين تشعر أنّ المجازفة في «لن» و«الرأس المقطوع» قد بلغت التخوم التي لا تفضي إلى غير الصمت والعدم، كما حدث لمالارميه من قبل، أعاد أنسي اللغة إلى مرمى القلب وحقنها بأوصال الأنوثة والحب البريئين من شبهة التكلّف والإبهام، كما هي الحال في «ماذا صنعت بالذهب/ ماذا فعلت بالوردة» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». ومرّة بعد مرّة كان الشاعر يؤاخي بين صراخ الوحوش في البراري وبين تنهدات الفراشات في الحقول، ويوائم بين شهوانية نيتشيه وجموح زوربا وطهرانية ريكله وعذوبة «نشيد الإنشاد».
أما في النثر، فقد تخفف أنسي من كل أثقال الشعر وضروراته لكي تنبجس كلماته كالينابيع من جوف العالم، ولكي تلتحم بالحياة التحام الشجرة بنواتها، دافعة كهرباءها الغامضة إلى إصابتنا برعشة المفاجأة أو بنشوة الافتتان.
لكن من أتحدّث عنه الآن قد مات، وخلَّى لنا بلداً كسيحاً وقاسياً ومهيضاً وخاوياً على عروشه. ورغم كثرة معارفه، فإنّ قليلين هم الذين عرفوه عن كثب.
القليلون وقفوا على قراءة تلك الكاريزما النادرة التي امتلكها، والتي تضافر على صنعها وجهه الوسيم، وجبهته العريضة المرفوعة، وعيناه الطامحتان بالرغبة والحنو، وضحكته التي كانت تفيض عن حاجة الفرح والفكاهة المجروحين، لتصيب بعدواها بلاداً كاملة من البؤس والتجهّم والشقاء. قليلون وقفوا على تواضعه الجم، وأناقته البسيطة التي لا يحسن تقليدها الملوك، وعلى الخجل الذي يعتريه كلّما باغته مديح مفرط، وعلى الأنفة التي يبديها إزاء الجوائز والمناصب وحفلات التكريم. والآن وأنا على مرمى دمعة حارقة من غيابه أتساءل إذا ما كان أنسي الحاج مصنوعاً كسائر خلق الله من لحم ودم مجردين أم من غيوم بيضاء شرَّدها نسيمٌ فوق غابة من أعاصير.

* شاعر لبناني

***

ينابيع «الخواتم»

علي الديري

يعرف صديقي، الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، عشقي لـ «خواتم» أنسي الأسبوعية، في جريدة «الأخبار». ويعرف أكثر أن مرسمه، هو مكاني المفضل لقراءتها. في حروف أنسي دوماً الجمال والحب، وأجدهما دوماً في مرسم عشتار ورباب، وهما المكانان اللذان يرسم فيهما أبوصبا.
الحب والجمال قيمتان مولدتان في المرسم وفي تجربة أنسي. نرتشف القهوة هناك ونستلذ بتقطيع نصوص الخواتم وقراءتها وكأنها آيات منجمة أو محكمة أو متشابهة، نهيم في ظلال الألوان على وقع مذاقها.
في هذا المكان (المرسم) الذي هو في معناه أكثر من مرسم وأضيق من محترف وأمتع من مكتبة وأعمق من مجلس وأجمل من مقهى وألذ من حانة، قرأت قصيدة أنسي "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع". كانت متعة اكتشافها تشبه لحظة الوقوع على ينبوع ماء وسط البحر، لا وسط الصحراء، وهي صورة لا يعرفها إلا من عرف ينابيع البحرين التي تنفجر وسط البحر. الجمال وسط الجمال، جمال البحر المالح وجمال الماء العذب لحظة الالتقاء من دون أن يبغيا، في مشهد طبيعي نادر. هكذا تبدو لي نصوص أنسي، ينابيع ماء وسط بحر جميل، لها قوتها وفرادتها وخصوصيتها ومذاقها.
منذ ثلاث سنوات أي منذ مغادرتي البحرين، وأنا أتشوق لطقس المرسم، وقراءة أنسي فيه. كثيرة هي الأوراق التي تحمل «خواتم» أنسي تركتها هناك. أعرف أن صديقي عباس يحب قراءة الخواتم مطبوعة على الورق. لعله حدس ما، كنت أهجس به، أنها ستستحيل يوماً لوناً أو خطاً أو لوحة. أعرف تماماً أن الألوان في تجربة عباس يوسف مفتونة بالكلمات، الكلمات تشم ألوانها، وجدران المرسم شاهدة على ذلك. نكتب عليها الكلمات الفاتنة في لحظة مرح اكتشافها، إنها مختومة على الجدران كفصوص خواتم جميلة.
قبل أسبوع يصلني عبر «الواتس آب» من مرسم عباس "صديقي هذه اللوحات لم تعرض ولم يرها أحد غيرك ورباب الأعمال نتاج 2013، بمقاس 50/70 سم" انظر في اللوحات، فإذا هي خواتم قصيدة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":
أيُّها الرّبُّ إلهُ الخواتم والعُقود والتنهّدات
يذهب الناس الى أعمالهم
ومن حبّها أذهبُ إليك
هي تنظر فأراكَ
بقدر ما كنت منتشياً بختم تشكيل اللوحات التي ستخرج في شكل كتاب يدوي فني، كنت لحظتها قلقاً أن أخبره أن أنسي على وشك أن يختم حياته، كما ختم درويش حياته قبيل أن يعرض عباس لوحات قصيدته «كاماسوترا». صباح الأمس، أرسلت له ما يشبه النعي المبكر لأنسي من أحد الكتاب، كنت أهيئه لاحتمال أن أنسي لن يتمكن من رؤية حروفه ألواناً فاتنة في لوحاته.
«خواتم» أنسي هي النهايات لكن ليس بمعنى الإقفال بل النهايات بمعنى الذروة في الجمال، والإيجاز والفرادة، والأثر الذي لا يُمحى، هي أشبه بالفص المكتمل التكوين، وهي بهذا المعنى أقرب إلى "فصوص الحكم" ابن عربي، كلاهما ينابيع للحكمة والجمال والحب.

* كاتب بحريني

***

لقد خسر الشعر طراوته في غيابك

عماد استيتو

الرباط | ما عاد يحتمل الأرض، وما عاد يحتمل الجالسين، مثلنا نحن ربما، كما قال في إحدى قصائده. هكذا اختار أنسي الحاج أن يغادرنا فجأة بعد صراع قاس مع المرض، لم يعد بيننا لأن ريشة من عصفور في اللطيف الربيع كللت رأسه، كان للشاعر الكبير جمهوره العريض. ليس في لبنان وحده فقط، بل في كل بقعة من بقاع الوطن الذي يتنفس العربية. لذلك اتشحت جدران جمهوره المغربي بالسواد بمجرد أن وصل الخبر الحزين.
صحافيون، كتاب، مدونون، ناشطون شبابيون، ومتذوقون للشعر، وحّدهم الحداد على رحيل أنسي. الفايسبوك المغربي غطته "لن" وزينه "الرأس المقطوع ". الصحافي والشاعر المغربي محمد أحمد عدة كتب على صفحته على الفايسبوك: " أيها العالم، مات أنسي الحاج، بمقدمة ديوانه "لن" يكون أنسي الحاج الشاعر العربي الوحيد الذي كتب بياناً أصيلاً ومؤسساً لقصيدة النثر العربية، خارج قطيع سوزان برنار، وداخل شرنقة الشذرة المختزلة لليومي، خونه كثيرون ممن أرادوا ان يكون الشعر بياناً إيديولوجياً، وأبعده عن مملكة الشعر آخرون أرادوا صلب الشعر الى عمود القصيدة، وطارده سفلة التفعيلة. وداعاً يا صاحب الوليمة".
الصحافي محمد أحداد كتب غير مصدق موت أنسي الحاج " هل فعلا رحلت دون أن تكمل رحلتك في أعالي القصيدة؟ أنت من خارج الأرض جئت شفافاً، رسولاً للكلام الطيب، صمتّ عن الكلام الرديء" ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟ القدر انتقم مد "رأسك المقطوع" وصعدت إلى حتفك باسماً... وداعاً أنسي". أما رسام الكاريكاتور المغربي خالد الشرادي، فكتب: «فقدان الكبار المؤلم. عملاق جديد يرحل، يبدو أنه لن يبقى سوى الرديئون على هاته الأرض".
بينما تعيش الدار البيضاء معرضها الدولي للكتاب هذه الأيام تؤبن روح "الفاجومي" الراحل أحمد فؤاد نجم، سقط خبر الخسارة الفادحة. الشاعر محمد عابد لخص كل شيء في جملة واحدة "لقد خسر الشعر طراوته في غيابك يا أنسي". صديقه الشاعر محسن العتيقي هو الآخر قال إنه لا شفاء من إدماننا على أثر أنسي الحاج، وأضاف "حقق النجومية في مجال لا نجومية فيه، فجعلنا نستلهم ميزان جملته الشعرية، تقديمه وتأخيره للكلمات، قرار العبارة كما لو كانت مقاماً موسيقياً. لم نسلم من صورة المريدين، ولم يشأ في المشيخة الشعرية. لكننا تبعناه كما يتبع الجمهور المغني، وكذلك كان منشداً للحياة والحلم، متصوفاً وعازفاً على الربابة اللغوية، أفقده الجمال جماله، فأيقن الشعر التام في نسيانه، ولا شيء أوقفه، فجعلته القناعات معلماً نبيلاً".
العزاء واحد. قلة هم الشعراء الذين استطاعوا أن يخلقوا حولهم إجماعاً من المحيط إلى الخليج، وأنسي الحاج كان واحداً من هؤلاء فلا عجب أن يكون موته صادماً لمحبي قصيدته في كل مكان، هوواحد من أولئك الذين يزلزلنا موتهم، يكون موتهم قاسياً علينا لدرجة الإنكار، أنت لم تمت يا أنسي، كلما تعبنا سنستحضر "خواتمك"، وداعاً يا معلمناً، لك من المغرب سلام.
*****

الليلة خلته مراهقاً

في كتابه «رسالة إلى الأختين» («النهار»، ٢٠٠٤)، يتناول الشاعر اللبناني عيسى مخلوف على طريقته أنسي الحاج.
نعيد نشر المقطعين بإذن من الشاعر (العنوان من التحرير)

عيسى مخلوف

تسألينني عن الشاعر الذي جاء ومضى، وهو في ما يكتب يسعى إلى أن يكون خارج التسميات التي ما عادت تعني شيئاً. خارج الشعر الذي تغيّر معناه. حتى الكتابة ذاتها، هل نعرف ماذا تعني؟
من طفولتي جاء ومن دهشتي الأولى بالكلمات والأشياء. الليلة خلته مراهقاً يستظل النمش المنثور تحت نظرك. نظرك المشرف على الجمع، متدفقاً وحاراً. يستمد نوره من زيته الخاص، ومن انتباه يطوّقه ويحتفي به.
أخبرني في مسائه الباريسي الأخير، وكنا نجتاز المدينة من أولها إلى آخرها، أنه كتب قصيدة يتحدث فيها عن طفل يلتهم ثدي أمّه. أو أنه يلتهم أمّه بأكملها. لستُ أدري. حين سمعتُ هذه الكلمات القليلة، بات الصوت مبعثراً، مشوّشاً وغامضاً. لم ألتفت إليه لأتأكد مما جاء على لسانه. لم أجرؤ على الالتفات. كنتُ أفكر في ما يمكن أن يقوله رجل مثله فقدَ والدته وهو لا يزال طفلاً. وكنتُ أتساءل في نفسي: هل تلفّظ هو فعلاً بتلك الكلمات؟ ما الذي قاله بالتحديد؟ أيّ كلام لفرط وضوحه يعصى على الإدراك؟
تابعنا طريقنا. عبَرنا الجسر إلى الضفة الأخرى. عبَرنا الكلام الذي يُشعل حرائق. كأنني لم أسمع شيئاً. أو كأنني، بلا وعي مني، لا أريد أن أكون شاهداً على مجاعته إلى أمّ. إلى الأمومة. إلى أن يكون هو الأم والابن معاً. الثدي الذي يُرضِع والرضيع في آن واحد.
إنها الحاجة إلى الافتراس، سواء أكانت المرأة أماً أم لم تكن. وهل تنفصل الرغبة في المرأة عن جسدها؟ تلك الرغبة التي "قد لا تكون سوى نزوع مقنَّع إلى اللحم البشري"، بحسب نوفاليس، أو كما كتب بودلير تحت رسم امرأة:
Quaerens quem devoret
هكذا يمسي الحب، لعبته، لعبةً على حافة العدم، أو شكلاً من أشكال الاندماج فيه والاتحاد به.
من هنا أراها طالعة غيومه. كلماته.
كيف يمكن كلمة أن تحمل هذا الذي يحمّلها إياه ولا تنوء؟ هكذا يأتي، من وراء الكلمات، عارماً، بدائياً ومتوحشاً. مكلّلاً بالأسرار لأنه يعرف سر الألم. ألم الرضيع الذي لم يرضَع. وإذا هو لم يفِ بوعده، فمن أين للحب أن يفي بوعده؟ ليس المقصود بالحب هنا ذلك المطوَّق ببداياته ونهاياته، وإنما الكنز الضائع في أعماقنا منذ بداية التكوين.
باقترابه من المرأة، يقترب من المقدّس. كالهنود الحمر، أبناء الحضارات البائدة. أولئك الذين يعرفون المقدّس ولا يعرفون الدين. عن المقدّس يتحدثون وكلمة دين غير موجودة في لغاتهم.
إلتهام الآخر، أتعرفينه؟ افتراس الآخر وأكله! كان أفراد بعض القبائل الإفريقية إذا ما فقدوا أحداً منهم أثناء رحلة طويلة، يضعون رماده في حساء ويشربونه، ثم يتابعون المسير، وهو في داخل كل منهم. شيء أشبه بالقربان، أليس كذلك؟
***

عزلة الشاعر في ابتكار مراياه

خليل صويلح

سوف نستعير أولاً، عنوان ديوانه الأخير «الوليمة» (1994) لفحص تجربته المتفرّدة في الحداثة الشعرية العربية، ذلك أن مائدته غنية ودسمة ومدهشة في ابتكار نص يشبه صاحبه. اللهاث وراء مقدمة ديوانه الأول «لن» (1960)، لم يتوقف منذ ذلك التاريخ، فهذا البيان الشعري الاحتجاجي، كان وما زال العتبة الأولى لاكتشاف وتوصيف معنى قصيدة النثر، جيلاً وراء جيل، كذلك علينا أن نتأمل تلك الصورة المشهورة بالأبيض والأسود التي جمعت فرسان «مجلة شعر»، والسجالات الصاخبة التي أنجزت ذلك الانقلاب الشعري في الذائقة العربية، قبل أن يتباعد أصدقاء الأمس في جغرافيات شعرية متنافرة.
وحده أنسي الحاج ظلّ متمرّداً ومخلصاً لبيانه الأول لجهة التوتّر وإعادة النظر في تربة القصيدة وحراثتها من الداخل بمعول رشيق، بقصد تخليصها من مقدساتها القديمة المتوارثة نحو فضاء حرّ وشاسع ومفتوح، من دون أسوار بلاغية قديمة تقيّد حركتها، أو مشاغلها المختلفة. هكذا سطعت قصائده الطليعية مثل حقل من عباد الشمس في ديوان الشعر العربي الجديد، من دون أن تتراجع إلى الظل، رغم تعدّد التجارب الشعرية اللاحقة وتنوّعها واختلافها، فهذه التجربة كانت أحد المنابع الأصيلة والمرجعيات المؤسسة لقبيلة شعراء قصيدة النثر. وإذا كانت تجارب محمد الماغوط وشوقي أبي شقرا وأدونيس قد وجدت مريديها ومقلديها، فإن تجربة أنسي الحاج بقيت عصيّة ونافرة ومتمرّدة؛ لأن نارها ظلت موقدة، من طريق الهتك الدائم لبلاغتها واستقرارها اللغوي، وكسر قالبها باستمرار، وصعوبة التقاط مسالكها السريّة المتأرجحة بين السريالية والنفحة الصوفية، الصمت ولهيب النار، الجذوة العاطفية والطهرانية، ومعانقة الأسئلة الكونية، بأدواته السحرية، ونبرته المغايرة، وسجادته اللغوية التي ابتكر خيوطها على مهل، في محو مفردات «التراث الرسمي» ومقارعتها بمعجمٍ آخر، والتأسيس مبكراً، لسرد شعري حميمي، سوف يكون بعد حقبة طويلة ملاذاً لتجارب شعرية أخرى، وجدت في السرد ضوءاً لعزلة القصيدة وانغلاقها على نفسها.
ليست الريادة وحدها من وضعت مغامرة أنسي الحاج في إطار مذهّب، إنما تلك الدمغة الخاصة في قماشته الشعرية، من دون وصايا لاحقة، أو كما يقول عنه محمد الماغوط «شعره ساقية صافية، وليس نهراً مسموماً». كأن بيان «لن» هو النسخة الأصلية الوحيدة، بصرف النظر عن ارتحالاته التالية التي كانت على الدوام من داخل تجربته، وليس من خارجها، عبر زجّها المتواصل واللامرئي في أرضٍ جديدة، حتى في عبوره إلى أرض نثر أخرى، كما في «كلمات، كلمات، كلمات» التي أتت بوصفها بياناً آخر موازياً لندائه الشعري الأول، ومنافحاً عن موقفه من قضايا عامة، لا تدخل في مشاغله الشعرية، بل تستعمل الأدوات نفسها. أما في «خواتم»، وهي الحركة الثالثة، في تجربته، فقد كانت الخلاصة الناصعة لمسيرته، أو المغزل الذي صقل العبارة أكثر، وذهب بها إلى الكثافة القصوى، على هيئة شذرات وحكم وتعاليم، نابذاً ما هو فائض ويحتاج إلى الشرح أو التعليل، كأننا حيال أحجار كريمة تلمع في العتمة، أو ندوب في الروح، وطعنات غائرة في الجسد. هذا الهدم المحتدم للكلمات هو برزخ التجربة الأخيرة؛ إذ تتناوبها الروحانية من جهة، والشبقية من جهةٍ أخرى. الشبق هنا لغوي في المقام الأول، قبل أن يحيل إلى الحسيّة المخبوءة في المتن العميق، أو الجوانية المطلقة، بالإضافة إلى أفكار لا تتوقف عند حدود، بل تتشظى إلى كل الجهات، كصرخة موجعة، وألم، وحلم، وصمت، وعاصفة. عند هذه المنطقة، على وجه التحديد، تتداخل نثرية صاحب «الرأس المقطوع» بشعريته، وطهرانيته بآثامه، وما هو دنيوي، بما هو ميتافيزيقي. جموح يهتك المتوقع نحو المفاجئ والمباغت والمدهش بضربة مدية واحدة، فالاقتصاد اللغوي يشفّ إلى طبقة الحرير، خصوصاً، في خواتمه الأولى والثانية. أما خواتمه الثالثة، فكانت ضرباً من المتناقضات، تبعاً لمزاجه وانخراطه بقضية عابرة أو أصيلة، من دون أن يتخلى عن الجماليات الدنيوية بوصفها مطلقاً آخر موازياً للمقدس.
الآن، ونحن نفحص كنوز أنسي الحاج، وميراثه الطويل، ودروبه المتعرّجة، ومعجمه النفيس، قد نلتقي، في محطةٍ ما، بنسخة أخرى من جبران خليل جبران، من دون وقائع مؤكدة، فلكلٍّ منهما نبيه وصوفيته وجنونه، وإن اختلف لون الحبر، وإيقاع الكلمة، ودرجة الروحانية. لكن ما هو مؤكد، أنهما حاولا زعزعة الأعراف، وحفر مسالك مبتكرة في اللغة، وقد أتيح لأنسي أن يصرخ بصوتٍ أعلى، وببسالة أكثر هتكاً لما هو مستقر وسكوني وصارم. في كل الأحوال، سيقودنا أنسي الحاج أخيراً، إلى عزلته، عزلة النص في تشكّله، وعزلة الشاعر في ابتكار مراياه الفردية، ونزقه وعناده وعشقه المرتبك، وأنثاه المشتهاة التي تتمرّد على صورتها، كلما اكتملت في المرآة، وسعيه المحموم إلى اكتشاف ألغازها، ذلك أن جانباً أساسياً من تجربته، يضعه في مقام الحب بكل طبقاته، من فرط توقه إلى النشوة، نشوة البلاغة المتفلتة من أجراس الأسلاف. ولعل هذا ما سوف يبقي نصوص الشاعر الراحل حاضرة على الدوام، في عنفها الخفي، ومشهديتها المتجدّدة، ومصيدتها المباغتة لطرائد اللغة الناصعة. أنسي في غيبوبة؟ نعم، ولكنه لن يغيب.

****

نسي وأساطيره الحرة

محمود قرني*

الحضور المتجدد والحي لأنسي الحاج في الشعرية العربية، يعني أن الشعر مدعو لإقامة احتفالية دائمة. وهي، رغم عوارض الذائقة العربية، غالبة وحادثة. يتبدى ذلك بوضوح في تهتهات وشقشقات المبتدئين والراسخين على السواء. ومن يستعيد مقدمة "لن"، سيتأكد من نجاعة الحدس الذي جعل لأنسي مكاناً في كل مستقبل.
الرجل لم ينس أن يترك لنا فرجة تقود من يريد إلى حرية وانعتاق أبديين حين قال: ليس في الشعر ما هو نهائي، وما دام صنيع الشاعر خاضعاً أبداً لتجربة الشاعر الداخلية، فمن المستحيل الاعتقاد أنّ شروطاً ما أو قوانين ما أو حتى أسساً شكلية ما، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال".
إن الحرية لدي أنسى الحاج بقدر ما هي نمط للتفكير، تبدو جذراً إنسانياً يمنح الحق في الجنون، في الانفصال والاتصال، والتوحد والسفور في وجه عتمة القبيلة وتبجح مقدساتها. كان ذلك الوصف المبكر للشاعر مفارقاً، وتتأتى فرادته من وصفه بالاعتباطية عندما يقول: "إن قصيدة النثر عمل شاعر ملعون في جسده ووجدانه. الملعون يضيق بعالم نقي، إنه لا يضطجع على إرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كائن إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر". وما يقوله أنسي هنا يجعل من الخطل إغفال القداسة التي حازتها تلك المقدمة شبه المعصومة لديوان "لن ". فقد تحولت بدورها إلى برزخ أخير تلتقي عنده نوافل الشعر وفرائضه. وقد كانت تلك المواصفات التي قدمها أنسي وأقرانه مبكراً، نقلاً عن سوزان برنار، قد تحولت إلى براهين ومشاعل للأبناء والأحفاد، وما زال البعض – من مجايلينا – ينظر إلى المواصفات الثلاث الرئيسية لقصيدة النثر "الإيجاز، التوهج، والمجانية" باعتبارها صكوك "الفردوس" المسمى بقصيدة النثر. هذا رغم أن أنسي الحاج نبه مبكراً إلى أن تلك الخصائص قد تم تجاوزها في ما بعد، وفي ما قبل وربما لدى شعراء سوزان برنار نفسها. إلا أن ذلك لم يعصم عامة الشعراء من الخلل، ولم يعصم الخصائص نفسها من الوصول إلى درجة عمياء من المعصومية.
في الوقت نفسه، يبدو ذلك التحول إلى المجانية التي أدركها أنسي مبكراً وعياً مضافاً لذلك الاكتشاف المذهل للغته المتفردة التي استمسكت بمستويات محسوبة ودقيقة من تاريخيتها وأسطوريتها وطبقاتها التركيبية، وهو الأمر الذي احتفظ لها بحياة تضمن لها التجدد، عبر ذلك الوعي المفرد بزمنية النثر المحض الذي تحول إلى وشائج تتحلل من ذلك الرباط غير المقدس مع فكرة الراهنية.

* شاعر مصري من جيل الثمانينيات

***

مقدمة "لن "

أنسي الحاج

هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ النثر محلول ومرخي ومبسوط كالكف، وليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أوبرهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق، مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة.
النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير، النثر يتوجه إلى شيء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له. النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي- بمعناه العريض- ويلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع. الشعر يترك هذه المشاغل: "الوعظ والإخبار والحجة والبرهان، ليسبق. إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقل تورطا في الزمن الموقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر.
أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه. القصيدة، لتصبح هكذا، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها وإنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشد حزمتها. القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر. القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كله قصيدة واحدة، فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه.
النثر، تقول العرب، خلاف النظم من الكلام. النثر، يقول الفرنجة، كل ما يقال ويكتب خارج النظم. القصيدة من أبيات، بل يذهب العرب إلى الاشتراط: ما فوق السبعة أو العشرة أبيات؛ والتحديد الكلاسيكي للقصيدة عند الفرنسيين هو أن تكون مجموعة كبيرة من الأبيات. بكلمة: النثر خلاف الشعر (لأن الشعر، لا القصيدة وحسب، هو النظم في نظر التقليديين) والقصة، وهي كائن نثري، خلاف القصيدة التي هي كائن شعري. وهنا يبدو البحث في قصيدة النثر هذيانا.
لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقه أو ما يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة أو على أنقاضها. وما يجوز على المفهوم يجوز على العطاء. قصيدة النثر احتلت في أدب كأدب فرنسا مكانها الطبيعي حيث تمثل أقوى وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن. أما عندنا فأخف ما تنعت به، على العموم ، أنها هجينة، وأرصن ما يقول فيها المترصنون أنها سحاب زائل يغشى السماء الأزلية. خارج بضعة من المرافقين المتفهمين، يمكننا أن نرى المهلل الذي يهلل لكل جديد سعيا خلف إرواء ظمأ سطحي إلى إثارة كإثارة الزي، والصعلوك الذي يعلق كحشرة بجسم كل انتفاضة تعشقا منه للتهريج والظهور، المعرض، المهاجم، المتشكك، والمتشكك الذي يرجح أكثر ما يرجح، أخيرا، في كفة الأعراض. هل للتحفظ مبرر هنا؟ أجل، ما دام مدعو قصيدة النثر على جهل تام بها وإساءة إليها وإسفاف فيهم، يتصدرون الواجهة، وما دام لم ينقض على معرفتنا الجديدة بقصيدة النثر عامان، وما دام العطاء الحقيقي ضمنها، لا التقريبي والصدفي، لم يأخذ بعد طريقه إلى الناس. إننا نتحفظ لكن هل يحق لنا رفض الشيء قبل رؤيته؟ أليس انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا، أن نصرخ: "قصيدة النثر غير صالحة"و"قصيدة النثر ستموت" وليس بين يدينا نتاج للحكم؟ "الشعر" يقول قائل، هو الموسيقى كعنصر أول، والنثر خلو من الموسيقى التي يخلقها الوزن والقافية. موسيقى الوزن والقافية هي التي في الدرجة الأولى، تحث في القارئ الهزة الشعرية". لكن لا. موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم أنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها. وكان في عالم يناسبها ويناسبه. لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد. حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها ولا أهم ما يزلزل القارئ. وقارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه. ثم إن الشاعر يأتي قبل القارئ، لأن العالم المقصود هو من صنعه. والشاعر أعلم بأدواته، والشاعر الحقيقي لا يفضل الارتياح إلى أدوات جاهزة وبالية، تكفيه مؤونة النفض والبحث والخلق، على مشقة ذلك. والشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظا. إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمنا بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم، فلم يروا في تاريخ الشعر غير ما يؤيد رجعتهم ويحك العواطف القشرية للجماهير، وجعلوا يستخدمون المنطق- منطق اللغة والتراكم الأدبي وحاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية- وفقا لما يدعم نظرتهم المبتسرة إلى الأشياء إرادتهم البقاء حيث هم، وإنقاذا لأنفسهم من عجلات النهضة.
أي نهضة؟ نهضة العقل، الحس، الوجدان. ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون. لكي يتم لنا خلاص علينا- يا للواجب المسكر!- أن نقف أمام هذا السد، ونبجه.
بين القارئ الرجعي والشاعر الرجعي حلف مصيري. هناك إنسان عربي غالب يرفض النهض والتحرر النفسي والفكري من الإهتراء والعفن، وإنسان عربي أقلية يرفض الرجعة والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطيه غريبا، مقاتلا، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية "النخبة" والرعاع على السواء. لدى هذا التشبث بالتراث "الرسمي" ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب، أمام أمواج السم التي تغرق كل محاولة خروج، وتكسر كل محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة لجذور في السخف، أمام بعث روح التعصب والانغلاق بعثا منظما شاملا، هل يمكن محاولة أدبية طرية أن تتنفس؟ إنني أجيب: كلا، إن أمام هذه المحاولة مكانين، فأما الاختناق أو الجنون. بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كي يسمع. ينبغي أن يقف في الشارع ويشتم بصوت عال، يلعن، وينبئ. هذه البلاد، وكل بلاد متعصبة لرجعتها وجهلها، لا تقاوم إلا بالجنون. حتى تقف أي محاولة انتفاضية في وجه الذين يقاتلونها بأسلحة سياسية وعنصرية ومذهبية، وفي وجه العبيد بالغريزة والعادة، لا تجدي غير الصراحة المطلقة، ونهب المسافات، والتعزيل المحموم، الهسترة المستميتة. على المحاولين، ليبجوا الألف عام، الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد؛ وقد يتعرضون للاغتيال، لكنهم يكونون قد لفظوا حقيقتهم على هذه القوافل التي تعيش لتتوارث الانحطاط، وها هي اليوم تطمح إلى تكريس الانحطاط وتمليكه على العالم.
أول الواجبات التدمير. الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لا بد. حتى يستريح لمتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس.
هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر.
لكن هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع.
إلا أن قصيدة النثر ليست غنائية فحسب، بل هناك قصيدة نثر "تشبه" الحكاية، وقصائد نثر "عادية" بلا إيقاع كالذي نسمعه في نشيد الإنشاد (وهو نثر شعري) أو في قصائد شاعر كسان جون برس.
وهذه تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو عمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط. ولعلك إذا قرأت قصيدة من هذا النوع (هنري ميشو، انتونان أرتو..) قراءة لفظية، جهرية، للالتذاذ والترنح، لعلك تطفر وتكفر بالشعر لأنك ربما لا تجد شيئا من السحر أو الطرب.
التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككل لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ. ومن هنا ما قاله إدغار ألن بو عن القصيدة (أي قصيدة) إذا أنكر عليها أن تكون طويلة. إن كل قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأن قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن حاجة إلى التماسك، وإلا تعرضت للرجوع إلى مصدرها، النثر، والدخول في أبوابه من مقالة وقصة ورواية وخاطرة..
لكن هل من المعقول أن نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم أدوات النثر؟ الجواب أن قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات "النثر من سرد واستطراد ووصف لكن، كما تقول سوزان برنار، " شرط أن ترفع منها وتجعلها "تعمل" في مجموع ولغايات شعرية ليس إلا" وهذا يعني أن السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتهما الزمنية، يبطلان أدوات الروائي والخطيب والناقد توصلهم عبر تسلسل من الآراء والحجج إلى هدف واضح ومعين، إلى الحسم في شيء.
هنا العناصر النثرية تدخل في "كتلة لا زمنية" هي قصيدة النثر، وتغدو مجردة من وظائفها السابقة.
كل هذا بحاجة إلى تفصيل وتحديد أوضح لا يتسع لهما المجال. النثر وارتفاع مستواه كان، عندنا، التمهيد المباشر، ومما ساعد أيضا ضعف الشعر التقليدي وانحطاطه والإحساس بعالم متغير يفرض موقفا آخر، الموقف الذي يفرض الشكل على الشاعر. ثم هناك الوزن الحر، القائم على مبدأ التفعيلة لا البيت، الذي عمل منذ عشر سنين على زيادة تقريب الشعر من النثر. ونلاحظ هذه الظاهرة بقوة عند جميع الشعراء العرب الشيوعيين، والواقعيين، الذين اقتربوا من النثر لا في أسلوبهم ولغتهم فحسب بل في الجو والأداء، بينما نلاحظ عند فئة أخرى هي فئة شعراء "المستوى" اقترابا من النثر من حيث تبسيط الجملة والتركيب والمفردة، وتبقى التجربة أو الموقف في "عصمتهما" الفنية الصعبة.
هذه العوامل وسواها كالترجمات عن الشعر الغربي خاصة، جعلت بزوغ النوع الجديد ممهدا بعض الشيء، على صعيد الشكل بالأقل، وإن لم تتهيأ له الذواق حتى الآن التهيؤ الطبيعي.
يحتاج توضيح ماهية قصيدة النثر إلى مجال ليس متوافرا. وإنني استعير بتلخيص كلي هذا التحديد من أحدث كتاب في الموضوع بعنوان "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" للكاتبة الفرنسية سوزان برنار.
لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجار (أو الاختصار) التوهج، والمجانية. فالقصيدة، أي قصيدة، كما رأينا، لا يمكن أن تكون طويلة، وما الأشياء الأخرى الزائدة، كما يقول بو، سوى مجموعة من المتناقضات. يجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفر عنصر الأشراق، ونتيجة التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة، وهذه الوحدة العضوية تفقد لازمنيتها إن هي زحفت إلى نقطة معينة تبتغي بلوغها أو البرهنة عليها. إن قصيدة النثر عالم "بلا مقابل".
وفي كل قصيدة نثر تلتقي معا دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضا على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رمبو حين أراد "العثور على لغة (…) تختصر كل شيء، العطور، الأصوات، والألوان"، وبودلير، عندما قال أنه من الضروري استعمال شكل "مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان" إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع، والغل. انتفاضة فنية ووجدانية معا، أو إذا صح، فيزيقية وميتافيزيقة معا. لكن هذه الفوضوية كانت لتبقى بجناح واحد عند رمبو لو لم يعطها الجناح الآخر: الهيكل. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة. هذه الملامح تسمح لا بتبين النوع الجديد فحسب بل كذلك بتجنب ما ليس قصيدة نثر. على أن ثمة وجوها نسبية ظهرت وتظهر متبدلة وفقا للتطور، وهذا التبدل هو من ضمن ما توفره قصيدة النثر من حرية شاسعة وإمكانات لا تنحصر في عمل الخلق وطلب اللانهائي والمطلق.
لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وحكاية، وقصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر. لا نريد ولا يمكن أن نقيد قصيدة النثر بتحديدات محنطة. أن أهميتها لا بالقياس إلى الأنظمة المحافظة في الشعر وحسب بل بالقياس إلى أخواتها من الانتفاضات الشعرية كالوزن الحر، إنها أرحب ما توصل إليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد.
لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والإنهماكات الثانوية والسطحية والمضيعة لقوة القصيدة. رفضت ما يحول الشاعر عن شعره لتضع الشاعر أمام تجربته مسؤولا وحده وكل المسؤولية عن عطائه، فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها، ولا بأي حجة برانية مفروضة عليه. ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر. فعناصر الإيجاز والتوهج والمجانية ليست قوانين سلبية، بمعنى أنها ليست للإعجاز ولا قوالب جاهزة تفرغ فيها أي تفاهة فتعطي قصيدة نثر. لا إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان. وهذه "القوانين" نابعة، كما يخيل إلي من نفس الشاعر ذاته. لقد استخلصت من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورؤي، بعد كل شيء، إنها عناصر "ملازمة" لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مخترعة لقصيدة النثر كي تنجح.
لكن حتى هذا الانسجام بين الشروط والشاعر ليس نهائيا. ليس في الشعر ما هو نهائي. وما دام صنيع الشاعر خاضعا أبدا لتجربة الشاعر الداخلية فمن المستحيل الاعتقاد بأن شروطا ما أو قوانين ما أو حتى أسسا شكلية ما، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال. القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة. ومثلها جميع المواضعات المتعلقة بالإنسان. الشاعر ذو موقف من العالم. والشاعر في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد. لغة "تختصر كل شيء" وتسايره في وثبة الخارق الوصف إلى المطلق أو المجهول. أقل عقدة شكلية تعطل انطلاقه وتحرف وجهته. أبسط هم خارجي يسرق من وحدة انصبابه على الجوهر.
وأخطر من ذلك كل العقد والسنن حين تكون جاهزة، وذات تراث طويل، أي ذات قوة أقدر على إيقاع الشاعر في حبائلها بما لها من إغراء (إغراء الراحة) ومن سلطان (سلطان التراث الطويل). وهذا ما يحدث للشاعر العربي مع الوزن والقافية وشعره القديم، وقطع هذه المرحلة يقتضي جهدا فائقا لا من أجل الرفض النظري لها فقط بل كذلك النجاح في التخلص من رواسيها، ورواسبها شكلية وضمنية. وإذ يجتاز الشاعر عقبة العالم الميت يفر من الأقماط. غير أن أبواب الشعر الصافي، عالمه الجديد الذي عاد إليه، لا تنفتح أمامه ما لم يحسن مخاطبتها، أو هي، إذا انفتحت، لا بد للشاعر أن يضيع في الداخل ما لم يكن يعرف تبين عالمه وبلورته. اللغة.. أنه في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها. لغة الشاعر تجهل الاستقرار لأن عالمه كتلة طليعية.أجل في كل شاعر مخترع لغة. وقصيدة النثر هي اللغة الأخيرة في سلم طموحه، لكنها ليست باتة. سوف يظل يخترعها. ما يسمونه الأزمنة الحديثة هو انفصال عن زمن العافية والانسجام. إنه تكملة السعي الذي بدأ منذ قرن لا من أجل تحرير الشعر وحده بل أولا لتحرير الشاعر. الشاعر الحر هو النبي، العراف، والإله. الشاعر الحر مطلق، ولغة الشاعر الحر يجب أن تظل تلحقه. لتستطيع أن تواكبه عليها بالموت والحياة كل لحظة، الشاعر لا ينام على لغة.
شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنسانا حرا، أيضا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معا. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي.
نكتب لتقطع مرحلة، وما نكتبه يطوى، يحرق، ما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بعد فيه، هو الهم.
يجب أن أقول أيضا إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على أرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر. لكن قصيدة "النثر" التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر بهم. أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون.
نحن في زمن السرطان. هذا ما أقوله ويضحك الجميع. نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة "النثر بنت هذه العائلة.
نحن في زمن السرطان: نثرا وشعرا وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره.

خريف 1960

****

ربيع أنسي العربيّ

مهاب نصر*

أين هو الشعر الآن؟ لا أعني أين دواوين الشعراء، ولا منابر القصائد، بل أين هو كممارسة إبداعية تجاوزت حدودها، عقوداً، لتمثل رأس حربة في التمثيل الثقافي، وصراعات النخبة؟ ربما كان صراع الأجيال الجديدة أكثر مباشرة، وربما ابتدع لنفسه رموزاً شعبوية انتقلت بالشعر وألعابه إلى الميادين.
لكن في عهود الاستبداد، خصوصاً ما تلا ما يسمى بحركات التحرر الوطني، كان الشعر معركة، وكان الشعراء يخرجون علينا في جلال زعامة مناقضة ومقابلة للزعامة السياسية. كانوا حراس الجمال، في مقابل حراس السلطة، المدافعين عن جنون الخلق، مقابل عقلنة الاستعادة والتكرار. ولأنهم تفرغوا تقريباً لمناقضة السلطة، فقد حملوا قدراً لا يستهان به من صفاتها. أنسي الحاج كان واحداً ممن دخلوا هذه المعركة مع "لن" و"الرأس المقطوع". الأول صدّر ببيان قوي عن قصيدة النثر كأنها أكبر من أن تكون "قصيدة"، إنها بيان ثوري. بيان ليد تحطم وتهدم، ولكلمة منفلتة من أضابير اللغة الكلاسيكية، عارية كالجنون. تحدث أنسي في بيانه عن "الف عام من الضغط" كأن قصيدته، جاءت لتنهي تاريخاً كاملاً مترامي الأطراف من السياسة إلى الدين إلى الثقافة، ولم تجئ لتقر نوعاً أدبياً جديداً. كان أدونيس يفعل ذلك أيضاً، ولم يفق حتى اليوم من هذا "الدور"، ولا من تلك المرحلة التي مثل الشعر فيها، غموضه وهيجانه، استعارة كبرى لثورة لم تقع أبداً في الواقع، بل كان الواقع يسير باتجاه عكسي تماماً لها، ليكشف حتى بعد ثورات الربيع العربي كم هو معقد، وكم التاريخ أكبر من صفحة تطوى، ومن قضية نوع أدبي يركل آخر في خاصرته! لكن أنسي الحاج مع حفاظه على المرتكزات الإنسانية نفسها للمعاني المتقابلة للحرية والاستبداد، الجنون، والعقل الأداتي، والإبداع والبلادة، عاد خطوة "إلى الوراء، هي في الحقيقة قفزة إلى الأمام، عاد إلى ما يمكن تسميته "الجوهر" ليصنع قصيدته الخاصة شديدة التفرد والحساسية. خرج أنسي الحاج من مظاهرة قصيدة النثر، أو من التلويح بها كقبضة في مظاهرة، لتكون عَيْناً للتأمل هادئة أحياناً، وفي أحيان أخرى عمياء تماماً، تدفع الجسد إلى أن يتقرى بملامسه معنى الحياة كجسد وروح. الحب كان بانتظار أنسي الحاج. الحب كما عبّرت في مقال قديم عن ديوان "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، دفعه إلى صداقة الأرض، أي الانتباه إلى الثالث المرفوع في التناقض بين السلطة والجمال. تديّنت لغة أنسي الحاج إن صح التعبير، تديناً علمانياً. شفّت وتنبهت واندهشت دون أن تصرخ. يكتب أنسي: "التخلص من شهوة الانتقام يخفف من حدة اللغة، ويعوض عنها بكثافة الألم. وحزن الاحتقار ـ إن لم يكن الصفح ـ أكبر من هيجان النقمة، الذي إغراؤه الأول يبقى "الحيوية" الخارجية لا جوهر المعاناة. الغريب أن الشارع العربي في ثوراته أحيا النمط الصراعي القديم للتناقضات من دون أن يتعلم من درس القصيدة. أعاد الأخطاء نفسها باستخدام رموز من الشارع. لكنه أيضاً لم يرفع سوى قبضات في مظاهرة، بدلاً من أن يقدم اعترافاً بالمشاركة في الذنب، ولذلك أبدل سلطة بأخرى ووجد نفسه أمام حائط مصمت.

* شاعر مصري مقيم في الكويت

****

حلقة خاصّة (إلى أنسي الحاج)

أنسي الحاج منذ أكثر من ثلاث سنوات، وخلال دردشة اعتيادية في مكتبه في "الأخبار"، قال أنسي الحاج: "عندي وصيّة واحدة لا أعرف كيف يمكن تحقيقها". لم يكن للحديث الذي سبق استطراده هذا أي علاقة بالموت أو بالموسيقى. قال: "كم أتمنّى لو يُعزَف خلال مراسم دفني "القدّاس الجنائزي الذي ألّفه موزار". قلنا له: " هذه كانت وصيّة شوبان (ابتسمَ)... وتحقيقها صعب، صحيح، لكنه ليس مستحيلاً". انتهى الموضوع عند هذه الحدود، لكنه بدا راغباً بتحقيق هذه الوصيّة رغبةَ الطفل بالحصول على ضمّة من أمّه. أكملنا الجلسة ثم افترقنا.
بصراحة، أول فكرة خطرت في بالنا لإتمام هذه المهمة يوماً ما (وقد حلّ هذا اليوم) هي التواصل مع الأصدقاء السوريّين الموسيقيّين، الطلاب في الكونسرفتوار في دمشق أو الأعضاء في الأوركسترا الوطنية، لنرى إن كان هناك إمكانية لذلك. اتجاه فكرنا إلى الاستعانة بالسوريين له سببان: أولاً، قبل هذا الحديث مع أنسي بقليل سمعنا بأن الموسيقيّين السوريّين كانوا قد قدّموا هذا العمل بكامله في أمسية، بالتالي لديهم خبرة وإمكانات لتنفيذه. ثانياً، لدينا شعور ويقين أن في سوريا تقدير عام، شعبي ورسمي، للشخصيات المهمة في الحياة الثقافة أكثر منّا.
اليوم سوريا بأكملها بحاجة إلى موسيقى جنائزية.
لهذا السبب، نعترف بعجزنا عن تحقيق هذه الوصية. لذا، ونظراً للظروف القاهرة، سنقدّم لروح أنسي الحاج هذه الحلقة ونسمع فيها مطلع "القدّاس الجنائزي" الذي كتبه موزار على فراش الموت ورحل قبل إتمامه.

****
أنسي الحاج في «مؤتمر قصيدة النثر»: أدعو الكتابة إلى وليمة الخلاص

افتتح أنسي الحاج «مؤتمر قصيدة النثر» الذي نظمه «برنامج أنيس المقدسي للآداب» في الجامعة الأميركية في بيروت (19 ـــ 21 أيار/ مايو ٢٠٠٦)، بنصّ طويل يلقي الضوء على نصف قرن من عمر قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي، ويفتح بها آفاقا شعرية جديدة. ننشر في ما يلي هذه الوثيقة التاريخيّة

أنسي الحاج
بيروت ــــ ١٩ أيار (مايو) 2006
أيها الكرام،

الجواب، أمام دعوة الى مؤتمر حول قصيدة النثر، الجواب الفوري هو: لماذا، وقد انتقلنا الى الجهة الأخرى من المرآة؟...
لكن الجواب واهمٌ، رغم انه صادق. صادقٌ كما هو صادق كل مأخوذ بعالمه الداخلي. فهو يغوص، حتى يقطع صلته أو يكاد بالعناصر الخارجية. وفجأةً يكتشف انه هو قطع، انتقل الى الضفة الاخرى، ضفة الكينونة الصافية المأخوذة بشروطها، لكن الأرض الخارجية، ارض الواقع والسوابق، أرض الأقدام التي على الأرض، لم تنسَ، وأنها تنتظره، تنتظر وقتها لتسائله. لتفحصه. لتعود وتسأله: من انت؟
انا، تجيب قصيدة النثر، مخلوق دخيل أراد أن ينتزع وجوده بالقوة، لألف سبب شكلي ومعنوي. انا، تتابع قصيدة النثر، أعترف بالوزن لكنه هو لا يعترف بي. أنا، تقول أيضاً، ليس همّي مباراة الإنشاء، بل أن أكون على صورة خالقيَّ ومثالهم، متمردة وصارمة، حرة ومسيَّجة، متنوعة حتى التناقض، إيقاعية وفالتة، متوترة ومنفرجة، غنائية وناشفة، وقائلة ما لا تقوله الأوزان.
وتمضي قصيدة النثر قائلة للباحثين فيها: ظننتُ أن مسألة البحث في أمري حُسمت، وها هي تعود الى التداول. كنتُ واهمة وكنتم على حق. فأنا المخلوق الدخيل سأظل، مهما أجلستموني بين أنواعكم الأدبية، مخلوقاً دخيلاً. أو في أحسن الأحوال مخلوقاً مقبولاً على مضض. يبدو أن هذا هو جزء من هويتي، بل من قَدَري. لأني بنت التمرد، لا التمرد على الأوزان فحسب، بل التمرد أيضاً على أوزان القضاء والقَدَر. فأنا قصيدةَ النثر الصغيرة الدخيلة، عشبةٌ هوجاء لم يزرعها بستانيّ القصر ولا ربّة المنزل، بل طلعتْ من بركان أسود هو رحم الرفض. وأنا العشبة الهوجاء مهما اقتلعوني سأعود أنبت، ومهما شذّبوني لن أدخل حديقة الطاعة، وسأظل عطاءً ورفضاً، جليسةً أنيسة وضيفاً ثقيلاً، لأني ولدتُ من التمرد، والتمرد، التمرد الفردي الأدبي والأخلاقي، على عكس الثورة، لا يستكين ولا يستقيل حين يصل الى السلطة.
على افتراض أنه يصل.
ولكنه لا يصل.
لأن السلطة التي يصل اليها التمرد هي سلطة التمرد، ولا علاقة لها بتلك السلطات، فهي كوكب للحرية، وللحرية المتجاوزة على الدوام نفسها حتى الاستهتار بالذات.
وهل كثيرٌ، بين هذه المجرّات المنتظمة بثباتها ودقتها ورتابتها وصلادتها، مجرات النظام والتشابه والتراتبية العسكرية، هل كثيرٌ ان ينفرد كوكبٌ صغير بالانحراف عن المسارات، ويغرّد خارج السرب ولا يعبأ بزمجرة الحكّام، واستنكار الآباء، ولعنات الدهور؟
***
والآن، الى شيء من التأكيد.
أيها الأحباء،
طويناها صفحةً من عهد الكتابة. طوينا صفحة الغرفة الممنوعة وفتحنا الغرفة الممنوعة. بالاستحقاق والاغتصاب، لا بأس. بالسلاسة وبالوحشية، لا بأس. بالهمس والفضيحة، لا بأس. بالنعمة والانقضاض، لا بأس. لا شيء كان سيتم بسلام. كانت حرباً ولولاها لما دخلنا تلك المساحة الحديثة، ذلك المجهول المتلاطم الاحتمالات. ارتكبناها خطيئةً كُتبت علينا. خطيئة تجاوز الخطوط الحمراء، خطوط الشكل واللغة والفكر والمعتقد والذوق والمحرَّم والمقدَّس. طويناها صفحة. صفحة بمئات السنين، وما أتينا به أردنا ولم نُرد له أن يلغي شيئاً، فنحن في صميم مجيئنا مأخوذون أيضاً بأسرار وكنوز من الماضي، ومع هذا نحن "تقليديون"، تقليديو الفنون المرذولة والعلوم السوداء، تقليديو السحر، والآن تقليديون خوارج من عائلةٍ ماضيها حاضر وحاضرها مجهول.
وكما قلنا، لا ندّعي إلغاءً للوزن ولا للقافية، بل نحن من عشّاق الأغاني، كثيراً ما نفضّلها على كتاباتنا. فكيف ندعو الى إلغاء وكلّ حملتنا حملةُ غرسٍ وإيجادٍ وإكثارِ حياة؟ ليكتب كلٌّ على هواه، ولينقل الهواء ما يحلو له نقله. لقد أردنا مكاناً لما لم يكن له مكان، أردنا جسداً لإيقاع لا يضطرب به روح النثر العربي فحسب بل يضطرب به روح الشاعر العربي ولا يريد سكبه في الأطر القديمة، بل يتطلع الى شكل أكثر ملاءمة لمناخه، أقلّ عسفاً حيال فكره وشعوره، أكثر قرباً من أصواته الخارجية والداخلية، أقلّ تفريطاً بحذافير تجربته، أكثر استيعاباً لحوادث لحظته وأوزان كيانه. لو لم تُرد قصيدة النثر التعايش مع قصيدة الوزن لما سُمّيت قصيدة نثر بل لزعمت لنفسها تسمية قصيدة، قصيدة فقط، بلا تمييز.
قال بعض النقاد ان ثمة قصائد نثر تنطوي على إيقاعات واضحة يمكن استخراج أوزان منها تضاف الى الأوزان المعروفة. وهي نظرية وجيهة. وليُسمَح لنا بأن نضيف اليها فنقول: أياً تكن الأوزان التي قد يستخلصها علماء الغد من قصائد النثر، نرجو ان لا تكون حدوداً ولا قيوداً، ونؤمن إيماناً راسخاً بأن إيقاعات جديدة ستظل تطل في تجارب جديدة ومعها احتمال أوزان جديدة. وهذا هو الهدف من بحر النثر، أن يكون بلا حدود ولا نهاية، وأن يظل حقل الحقول الذي كلما وطئتْه قدمٌ أحست أنها تمشي على غابة عذراء.
***
عهدَ الفظاظة كنتُ سأقول: عقابٌ لقصيدة النثر أن يأويها مؤتمر في جامعة. وكان سيكون ذلك كاذباً. اليوم أقول: لا ضير عليها من ذلك. وسيكون ذلك أيضاً كاذباً. الكذبة الأولى استفزاز، والثانية مجاملة. وتظل الحقيقة، مع هذا، خارج الكذبتين.
ومع الشكر للذين نظّموا هذه الحلقة الدراسية، أعتقد ان المبرر الأكبر لمؤتمر كهذا، هو ان يكون انطلاقةً نحو أبحاث نقدية وتقييمية لما أنتجه هذا النوع منذ تأسيسه قبل نحو نصف قرن. الحاجة ماسة الى النقد. حاجة القارىء، وهو ضائع وزاهد، وحاجة الشاعر، وهو الضائع والمضيِّع. لم تصبح قصيدة النثر العربية، كالمعلّقات، وثيقة للتاريخ حتى نستريح من قراءتها أو من كتابتها ولا تعود صالحة إلاّ للمراجعة الأكاديمية. ولم تُقرأ بعدُ كفايةً، لا بعين الفضول ولا بعقل التمحيص. من هم شعراؤها؟ ما هي أنواعها؟ أين هي جذورها الظاهرة والخفية؟ ما هو مستقبلها؟ ما هي الاحتمالات بعدها؟
الحاجة الى النقد هي اليوم أشدّ الحاجات الأدبية إلحاحاً. وإن كنا نعتقد مع المعتقدين أن الشعراء هم أنبه النقاد، ويظل أكبر مثال على ذلك بودلير، فلا يعفي هذا النقّادَ النقّاد من مسؤوليتهم. كان بودلير الناقد شاعراً معلناً، ولكن كم من ناقد معلن هو شاعر سرّي.
وإني أرجو لهذا المؤتمر أن يكون مناسبة ليقوم المشاركون فيه – وكذلك غير المشاركين من كبار الشعراء والدارسين – بعملية إعادة نظر تكون هذه المرة إعادة نظر لقصيدة النثر في ذاتها من الداخل، وقد كان معظم النظر النقدي اليها في السابق هو من خارجها، او من ضفاف مخضرمة.
***
ليُسمح لي الآن، وقد ازدحمت في رأسي خواطر كثيرة عن موضوعنا الليلة، أن اكتفي ببعضها، وسأورده على سجيّته، بدون ضبط تسلسلي:
قصيدة النثر شغل وِحدة. شغل من يدرك أو يشعر أن هذا الذي يكتبه ليس موجهاً الى جمهور معروف بل الى شخص واحد ربما، وأحيانا الى مجهول. رسالة في زجاجة يتقاذفها الموج. موجهة الى مجهول مرغوبٌ الوصول اليه رغبةً حارة، ولكنه قد يظل، بل على الأرجح سيظل كجهولا ولو عُلم.
قصيدة تكسر عزلتها ما ان تنكتب كلمتها الأولى، ولكنها العزلة الخارجة من ظلام واضح الى وضوح مبهم. الكاتب هنا قانع بزاويته الصغيرة، لا يمد ذراعيه أبعد من أفياء سطوره. هو يعرف انه ليس مطرباً، ويعرف أنه يقف على رصيف الذاكرة. هذا المصير الفقير هو الذي اختاره حين اغترب عن الاوزان المباركة والقوافي السعيدة وهبط ذلك الهبوط المدوّي خارج النعيم، منقذفاً على خطايا نثره من جيل الى جيل، تجرّحه عظامه وعروقه قبل ان تجرّحه صخور الآخرين وجبالهم، فيما هو يسبح بين الأجرام، تتشلّعه التيارات كما تتشلّع كل من يخرج على مدار الجاذبية.
***
في اساس قصيدة النثر، فضلاً عما قيل ويقال، بديهة نكاد ننساها. وهي، بكل بساطة، حبّ النثر. ما يجده الناظم في الوزن أجده في النثر. موسيقى الأوزان تناسبه، موسيقى النثر تناسبني. الامتحان الذي يخضع له في تطويع الوزن، أخضع له في تطويع النثر. استنباط الايقاع من النثر هو أشبه بتحويل المعدن الرخيص الى ذهب. ليس هذا فحسب، بل الكتابة كلّها هي هذه العملية الخيميائية، ولا قيمة لها الا بمقدارها، وبمقدار تحدّيها شبه اليائس لاستحالة النجاح في هذه العملية. ليس هذا فحسب، بل الفكر، مجرد الفكر في مجرد الرأس، ان لم يكن توقاً، وبكل جدية التوق ومأسويته، الى تحقيق تلك العملية الخيميائية السحرية التي تشتقّ الشيء من خصمه والنبل من الوحل والوجود من العدم والجمال من الغياب، فأي معنى له ولصاحبه؟
فلنعد الى الخواطر حول قصيدة النثر.
ان الطاقة التي ولّدت قصيدة النثر في اواخر الخمسينات – مطلع الستينات من القرن الماضي وحملتها كالاعصار مفجّرة في وجهها حرباً هي الأخرى اشدّ من الاعصار، تلك الطاقة وازتها طاقة لا تقل زخما في ارادة بناء عضوي لقصيدة النثر وهندسة لكياناتها يحميانها من الذوبان في نهر الانحلال او من التساقط تحت خيول الانفلات.
ان أي قصيدة هي كيان متوهّج قائم بذاته، وقصيدة النثر لا تشذّ عن هذا الوصف. لكن يجب الاقرار بأن اللحظات الشعرية ليست متساوية، وقد تبتعد قصيدة عن مفهوم الكيان المتكامل السيّد وتقترب أخرى، وتستوفي قصيدة الشروط جميعاً وتنحرف اخرى. وإذا كان في هذا الانحراف وهن فليس بعارض قاتل ولا بخطيئة مميتة إن توافرت صفات شعرية أخرى تُغرق الفجوة التقنية أو الشائبة العضوية بفيض من الدفق الشعوري أو الجمالي أو ما لا يحصى من ميزات الفيض.
ويؤخذ علينا، أنا وسواي من المؤسسين، اننا حددنا شروطا ومواصفات لقصيدة النثر عدنا، أنا وسواي، وخرقنا العديد منها. من ذلك حجم القصيدة. قلنا بالقصيرة، ثم اكتشفنا بالممارسة ان لا ضير في الطويلة، حتى لو تنافرت، حين تدعوها تجربتها الى الافاضة، او حين يجرفها سيلها فيمنعها من الانحصار في ساقية تحت طائلة التشويه. وغيرها قليل، خيانات ارتكبناها، انا وسواي، ولكنها خيانات من نوع الشذوذ المثبّت للقاعدة، بل من نوع توسيع الحدود. لم نفرّط في مفاهيم القصيدة، بل طوّرناها وجعلناها أرحب مما أريد لها في القرن التاسع عشر الأوروبي والأميركي يوم كانت مجرّد رفيقة صغيرة فقيرة لصاحبة الجلالة قصيدة الوزن.
فالشعر يبتدع أصوله كما يبتدع السائر ظلاله. ويتلوّن ويتجدّد كما يتلوّن الاغراء ويتجدد. لم يخطىء العرب في تسمية روح الشعر بالشيطان. شيطان الشعر هو اكسير المفاجأة. شيطان هائم في الطهارة والنقاء كما هو هائم في الرذيلة والتهتّك، ودوما فمه مضرّج بماء التفاحات، ينهش فيها ويثمر أطيب منها، وعند قدميه المصابيح، وعلى خطاه المعرفة، معرفة الاطفال، المعرفة التي تتقدم الحياة وتسخر من ذاتها وتصنع الحياة والخيال والرغبة والجمال، ولا تدّعي انها عارفة بل تتجلى كالظهورات وتكون في أول المفاجأين بذاتها، تلسع وتمطر وتُشعل وتؤنس وتلعب، والشعراء لا يتبعهم أحد ولا حتى ظلهم، لأنهم ارواح ترفرف على وجه الحياة وامام عيون الابرياء وجرحى الوجود واحلام الصبايا، مثلما قديما قيل ان روح الله في البدء، قبيل النور، كان يرفرف على وجه المياه.
***
خاطرة اخرى: من الحق أن يُسأل شاعر النثر لماذا لم يكتب نظما؟ عن عجز ام عن رغبة في التنويع؟ والاجوبة باتت معروفة. ولكن لماذا لا نسأل ان لم يكن هناك وراء اختيار النثر كيانا شعريا، نقصٌ ما في قدرة الأوزان على ملاقاة ما يريد الشاعر قوله – ملاقاته بأمانة ورحابة، بطواعية وتناغم، بعدما فتحت اطوار الحياة الحديثة أبواب الانقلابات والاحتمالات على مصاريعها، وحتى تلك الأشد عجباً والأكثر استدعاء لا لأساليب تعبيرية جديدة فحسب، بل للغة جديدة؟
لا عبرة في القول ان كثيرين من ادعياء الشعر يختبئون وراء مسمى قصيدة النثر او الشعر المرسل، لصفّ الكلام وطلاء العقم تارة بالفراغ المنقّط وطورا بإنشائيات سقيمة تعمّق الهوّة بين القارىء والشعر، والشعر منها براء والقارىء فيها مظلوم. لا عبرة في مثل هذا القول، فهو صحيح، كما هو صحيح القول إن كثيرين من ادعياء الشعر اختبأوا ويختبئون وراء مسمى قصيدة الوزن او الشعر العمودي لصف الكلام والخ. انما العبرة في قياس الشعر – بل الخلق عموماً – بحجم القَدَر الذي يصارعه. ولا ألعب هنا على اللغة، فالالتباس مقصود: لأن الخلق يصارع القدر، كما أن القدر، رغم مظاهره غير العابئة أو قناع اختفائه، هو ايضا، هو خاصة، هو دائما يصارع الخلق.
ان اغراء السهولة الذي تلوّح به قصيدة النثر إن هو إلا سراب، اكثر ما يشبه سراب الانخداع بسهولة الحرية. ومرة أخرى لا أستعمل التشبيه صدفة، بل هو مفروض تبعاً لقاعدة السبب والنتيجة. فقصيدة النثر بنت الحاجة الى الحرية، والحرية النثرية هذه حرية انعتاق من قوالب وحدود اكثر بكثير مما هي حرية قول أي شيء نريد باي شكل نريد. ولأنها حرية الانعتاق من العبودية، فسرعان ما تلمّست اشكالا وضوابط من نوع آخر، من صميم التجربة الجديدة، تقيها تشوّهات الفوضى. ولا أقاوم هنا استعمال تشبيه غريب لمحاولة وصف العلاقة التي تربط قصيدة النثر بصاحبها وصاحبها بقارئه وقارئها بها: اراها علاقة جدلية سادية مازوشية، طرف فيها يقسو وطرف يلين.
***
ومع هذا، مع هذا،
سنتظل الأوزان المعروفة مرغوبة لأن ايقاعاتها استراحة للوجدان ونزهة راقصة للذاكرة والقلب، ولأن في اتقانها براعة تنتزع الاعجاب، وكم يحتاج الانسان الى الاعجاب بما لا يستطيعه شخصيا، ففي هذا ما يريحه في مقعد التلقّي، يطربه ويهدهده ويحمله على أجنحة النغم السائغ الى الضفاف الهنيئة.
ستظلّ الأوزان مرغوبة وقبلة أسماع الكثيرين، وربما الأكثرية، بمن فيهم أحياناً العديد من شعراء النثر. ستظلّ ما دامت الحاجة إلى الرقص المضبوط الإيقاع حاجة للذاكرة والحواس كما هي حاجة للجسد بأعضائه جميعاً.
لا أعرف إن كان أحدنا في زمن الاندلاع الأول، أو ردّ الفعل قد قال مرّة إنه يريد بقصيدة النثر إلغاء الوزن. ربّما. لكنّ الحقيقة هي أن قصيدة النثر لم يَخْلقها تحدّي الإلغاء بل حاجة مطلقة إلى الانوجاد. حاجة بدوافع وعوامل وعناصر كثيرة، ولّدها الانفجار بين كبت الماضي ونداء الحياة. حاجة إلى التمرّد الكياني والتعبيري، وحاجة إلى لغة وفيّة. حاجة إلى نبش تراب الكتابة حتى جذوره الخفيّة الرطبة في أديم الشعور. حاجة إلى الانبثاق لا تخضع نتيجتها إلا لامتحان القدرة على الصمود بعد الانبثاق.
هل أردنا من حيث لا ندري إعادة ربط صلة ما لا نعرفها بنثر عربي قديم، يقال إنه لم يكن موجوداً، وبعض الظواهر، فضلاً عن عقلنا الباطن، يومئ لنا بأنه كان موجوداً؟
أم كانت فقط حركة حداثة صافية، أرادت اللقاء بإيقاعات العصر والعالم، ولم تذكر بعض الجذور المحتملة لها في التراث إلا من باب التشنُّع؟
على كلّ حال، من جهة، كائن مستقرّ ومرغوب وشعبي هو الوزن. ومن جهة أخرى، كائن متمرّد وشقي ومبهم هو قصيدة النثر.
زواج شرعي، في وجهه علاقة غير شرعية.
الحلال والحرام.
واحدهما يستدعي الآخر.
الحرام يفقد نكهته الانتهاكية، إذا تلاشى الحلال،
والحلال يصير موتاً إذا لم يكمن له الحرام.
وهكذا نحصل على نوع جديد من التعايش الأدبي نستطيع أن نسمّيه تعايش الخير والشرّ، والجريمة والعقاب، وآدم القانع بمصيره، وآدم الآخر الرافض مصيره، وطبعاً حوّاء الزوجة العاقلة، وحوّاء الأولى، ليليت العفريتة، المتمرّدة التي فضّلت حرية اللعنة، أو لعنة الحرية، على دموع الاستقامة وقداسة الأمومة وتاج الآخرة.
***
أيها الكرام،
هل يكره الخالق الخليقة؟ إذا أجبنا عن هذا السؤال بنعم، نفهم لماذا الموت. إذا أجبنا بلا، يتعاظم اتهامنا للخلاّقين: فإن كانوا يحبّون خلائقهم فكيف يتركونهم يموتون؟ وإن كانوا يعجزون عن حمايتهم فلماذا يخلقونهم؟
وقد يكره الخلاّق خلائقه لسببين على الأقل: الأول حسداً منها إذا رآها وقد ابتهجت بوجودها أكثر مما يحتمل، والآخر تبرّماً منه بالمقلّدين إن اعتبر أن مخلوقاته تستنسخه.
والخلاّق معذّّب في كلّ الأحوال. فإن هو لم ينجب سلالة، يُصلب على عزلته. وإن أنجب، يُصلَب على حرمانه صفة الوحدانيّة.
وخلاصه ما كان سيكون إلا ببقائه مغلقاً، يُعفيه عقمه من النَدَمَين.
***
كلّ تكوين إنما ينبثق من حلم. وما ينبثق من التكوين قد لا يكون حلماً أو تحقيق حلم. ومرّات، من التكوين تنبجس الكوابيس. وذلك هو أحد آلام الأحلام. الحلم كالحرية كالحبّ، إما تأخذ به وبكلّ نتائجه، أو تعتذر منه وتستقيل. الحلم لا يرحم. ولستَ أنت من يحدّد ثمنه. لا أعرف مَن. ولكن لستَ أنت.
لا يقتحم أحد ميداناً إلا وفي قرارة نفسه رغبة بأن يكون البادئ والخاتم. حتى ولو تظاهر بالعكس. أتحدّث هنا عن الخلاّقين لا عن الأنواع. الأنواع تتعايش ولكن بذكائها الخاص لا بإرادة خلاّقيها.
أفظع ما في الأمر ليس مقدار التبجّح ولا شغف السلطة ولا حمّى الإلغاء عند الخلاّقين، أفظع ما في الأمر أن القدَر يشاء، بين مفترق وآخر في التاريخ، أن يحقق بعض المقتحمين هذا الحلم، وغالباً بعد موتهم، فيكون للبشرية، مثلاً، سوفوكل وأفلاطون وشكسبير ودانتي وميكل آنج ودافنشي وموزار وفان غوغ وبيتهوفن وبودلير ودوسيتوفسكي ونيتشه... هؤلاء، وغيرهم من طينة مشابهة، حلموا وكوّنوا، وإن كانوا قد تركوا الحلم مفتوحاً فإنما أغلقوا التكوين. كيف؟ بوحشيّة إبداعهم. وحشيّةٌ ترغب في التقليد، ولكنها لا تُقلَّد. وحشيّة طبعت الزمن كما طبع الإنسان الأول الأرض والبشر حين انبثق. ونحن إذ نغبط هذه الوحوش الذهبية الإلهية، فليس فقط لتركها لنا جمالات توقف قليلاً سير الموت فينا، بل لأننا نحبّها أو نكرهها ولكننا لا نستطيع أن ننتسب إليها إلا كعشاق أو كارهين، لا كأنداد ولا حتى كمقلّدين.
ولكن أنّى لنا، نحن الأقزام، مثل هذا المصير الرائع المروّع؟ لقد حُكِم علينا، وقد سربلونا بتسمية الروّاد، أن نفتح الأبواب ولا نستطيع إغلاقها. هل يؤلمنا هذا الوضع؟ يؤلم بعضنا بالتأكيد، إذا توكّلنا على نوازع النرجسية. ويؤلم بعضنا الآخر إن اعتبرناه، أو اعتبر هو نفسه المرجع الأكبر. وفي هذا ما فيه من أنانية الأبوّة التي لا ترى خيراً في الأبناء إلا لأنهم يذكّرونها بنفسها وهي كانت تريد لنتاجها أن يكون مستودعها الأخير. وضعٌ مؤلم لمن ينسى أنه هو أيضاً كان طارئاً ودخيلاً قبل أن يغدو مقيماً وأصيلاً، ومؤلم لمن يكره العودات، ولمن يكره البدايات إلا على يد ذاته، ولمن يكره أن يضيف إليه أحد، فكيف بمن يتجاوزه أو يطويه.
هذا الوضع المؤلم، أنا شخصيّاً عرفتُه. عرفتُه من زمان، ويومها لم أكن قادراً أن أحبّ من الشعراء والأدباء إلا من لا يشبهني في شيء. كنت أغترب بواسطتهم. أهرب. كان ذلك علامة مألوفة لدى جميع كارهي ذاتهم.
لم أنقلب من هذا الموقف إلى عكسه. كلّ ما حصل هو أني، بالإضافة إلى استمتاعي بقراءة اللامشابهين، تعلّمت أن أكتشف، أن أكتشف جميع مَنْ تتاح لي مطالعته، بدون حبّ جاهز ولا بغض جاهز، بل بملاءة ذهنيّة ونفسيّة، يطغى عليها ميل إلى الإعجاب، وتعطّش إلى الفرح بالموهبة أو النبوغ فرحي بالنعمة وكأنها مُنحت لي.
نحن الأقزام هذه مكافأتنا. نجدها هنا، على حياتنا، وفي أبنائنا وأبناء سوانا ممّن تخطّانا بعضهم ونريد لغيرهم لا أن يتخطّانا فحسب بل أن يدفنونا دفناً ذات يوم.
***
شيء يجعلنا لا نرغب القيام من أمام فيلم سينمائي، من أمام شريط متسلسل لا ينتهي إلا ليبدأ تخديرُ شريط جديد، واستسلامنا الكلّيّ إلى براثن أحضانه.
عندما كنتُ طفلاً كنت أبكي في صالة العرض حين ينتهي الفيلم، وأتشبّث بالمقعد رافضاً الانصراف، ظنّاً منّي أن بقائي سوف يعيد الحلم.
هذا الحلم هو نفسه ما يعدنا به الفن، والشعر، وما تعطينا إيّاه السينما بسخاء لا يكدّره أبداً طابعها الصناعيّ ولا حسابها التجاري. هذا الحلم، هذا التهرّب من قدرنا ورعبنا، طلبناه من الشعر، كما طلبنا منه أن يكون سلاحنا عند الاضطرار إلى المواجهة مع تلك الوحوش أو أولئك الآلهة. كلا الفرار والصراع، هما في أساس قرعنا لأبواب النثر. لقد كانا كلاهما منذ فجر التعبير، طبعاً، ومنذ فجر التعبير وأساليب هذا التعبير تتحرّك وتتغيّر تبعاً للحياة. وهذا هو أيضاً ما أحسسنا بالحاجة إليه في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، عندما راحت نداءات الداخل وعوامل الخارج تستحثّنا لاكتشاف أثوابنا الجديدة، وصناعة مفاتيحنا الخاصة، والدخول بخطانا نحن لا بخطى مستعارة إلى حقول لم نعرف، والأمل أن نظلّ لا نعرف، أين تؤدي، شرط أن يبقى الدافع إلى السير عليها هو تلمّس لحم الروح وتجرّع شراب لحظةٍ تُصعدنا كالأولاد العابثين فوق ظهر الموت، وعدم إحناء الظهر، بل الظهر والرأس واللغة والأرض، إلا لشيء واحد، لشيء واحد يتكرّر ولا يتكرّر، يتكرّر ويظلّ معلومه مجهولاً، يتكرّر ويظلّ هو المفاجأة، شيءٍ واحد يضع حدّاً لحرب الخير والشرّ، شيءٍ واحد هو فضيحة الفضائح وشريعة الشرائع، شيءٍ واحد أجمل من الجمال، شيءٍ واحد هو الحبّ.
***
كان غوته يقول: "الشعر هو الخلاص". وقال دوستيوفسكي: "الجمال سيخلّص العالم".
هذا السباق الى الخلاص، أريد أن أختم تحت رايته.
وبعيدا عن الأنواع والأجناس، ومعارك القديم والجديد، وجهود المعبّرين في البحث المتواصل عن لغة أكثر أمانة في تقمّص التجربة، اسمحوا لي أن أعقد أمنية.
أنا صاحب الهدم والصلاة، أتطلع، وقد أَضنيت وأُضنيت، إلى كتابة تشفي.
لا أقصد كتابةً تُلهي، وأنا أحبّها، وفي مرحلة طويلة ما هربت إلا بها.
بل أقصد الكتابة التي تشفي، التي تُنقذ، التي تخلّص، كما تشفي المعجزة وتنقذ وتخلّص.
لا أتنكر لكتابة الغضب واليأس، ولا لكتابة الهدم والإطاحة، بل اتبنّاها وأنا من جنودها، وسوف تظلّ، كما تظلّ كلّ كتابة صادقة وحيّة، ضرورية ضرورة الحقيقة وضرورة الحياة وما فوقهما.
لا تنكّر ولا انقلاب، بل إضافة. إضافة نعمة. نعمة تنير الليل الكوني كما تنير الليل الفردي.
إن للبشر في ماضي الكتابة روائع حقّقت معجزات.
والكلمة في الأساس معجزة.
وما أتمناه هو أن يستعيد الكاتب، شاعراً كان أم روائياً أم فيلسوفاً وناقداً وخطيباً، أن يستعيد لا سلطة التكوين التي هي له فحسب، بل سلطة الشفاء من أمراض الوجود.
في مطلع الألفية الثالثة، وعلى هامش حديث الشعر الذي هو جوهري دائماً، ومن هذا المنبر العريق في التفاؤل أدعو الكتابة إلى وليمة.
إلى وليمة القوة التي تغلب البؤس، تغلب اليأس، تغلب العجز، وتغلب الاختناق.
إلى وليمة الخلاص بسحر المعجزة الشعرية. والمعجزة، أيها الكرام، هي دائماً شعرية.

*****

طقس للتطّهر من الذنوب

سيد محمود

قبل ربع قرن، قرأت «لن» ولم أحبه. شغلتني المقدمة عن النص. وقبل عشر سنوات، اكتشفت موقعاً إلكترونياً لقصائده وكتاباته النثرية، فقررت أن أقرأه كاملاً. وفي أول زيارة لبيروت، عدت بأعماله الكاملة. زرت جريدة «النهار» ومررت إلى جوار مكتبه وخفت أن التقي به، فيعتدي اللقاء على جمال الصورة.
حين انتقل إلى «الأخبار»، وقفت أمام صورته كمراهق والتقطت صورة تجمعنا بكاميرا الخلوي لا أعرف أين ذهبت الآن. لكني كنت أريد هذه اللحظة لأعوض لحظة فقدتها إلى الأبد، لأن عمري لم يمكنني من التقاط صورة مع صلاح عبد الصبور الذي مات محتفظاً بلقبه كشاعر حزين. ما أعرفه أنّ أنسي قرر بعدها أن يكون ملازماً لي. كانت نصوصه «قراءة طالع». أقرأه فجر السبت كمن يبحث عن مصير، من يريد أن يغطي ألمه ويطمئن له. لا أعرف إلى الآن لماذا كان شريكاً في منعطفات السنوات الأخيرة ؟
ربما احتجت إلى نبرة الإنشاد التي تصون شعره من التكرار، احتجت إلى هذا الإيمان القلق الذي يجعل من الحب وقوفاً في «المطهر» أو أرض الأعراف. لم يكتب أنسي عن الحب إلا بوصفه «ألفة» أو «حوار»، ضبطاً لإيقاع اللحظة الغامضة التي تقتحم حياتنا وتغير قوانينها بعذوبة محاطة دائماً بالألم. لغته الأليفة المتاحة، القريبة البعيدة، الأنيقة كملابس سهرة. أرادها هكذا مغايرة للغة التي كان يكتب بها من بدأوا معه وفارقهم إلى حديقة تخصه. لغة زاهية تصلح للمناجاة، قوامها الحياة اليومية التي يعجنها بحسّ صوفي ألق يجعلها وسيلة كشف، وأداة لمواجهة الذات بالندوب.
قبل سنوات، كنت في قطار قادماً من الإسكندرية وإلى جواري امرأة جميلة أخرجت من حقيبتها كتاباً، وظلت تقرأه طوال الطريق. وحين طلبت شاياً وأسندت الكتاب إلى حجرها، نظرت بتطفل فوجدت «الرسولة بشعرها الطويل كالينابيع». لكن حين استقرت في مكانها من جديد، قررت أن أسألها من أين اشترت الكتاب، فروت لي تجربتها معه. تألقت عيناها كأنها تصف غراماً لم يكتمل، تضع يدها على جرح لا تريد لأحد أن يراه. لذلك صمتت فجأة وظلت تخفي وجهها بالكتاب. وحين وصلنا، عرضت أن تهديني نسختها، فأخرجت لها الكتاب ذاته من حقيبتي.
كان معي يذكرني بلحظة لم تغادرني قطّ عشتها مع امرأة أخرى. استمعت إلى قصيدته بصوتي ثم طلبت مني أن أتوقف، ظننت وقتها أن أخطائي في القراءة أفسدت الطقس، لكنها أجابت بالدموع. قالت: «لا يمكن أن أتحمل هذا» ثم غادرت المكان بارتباك. وفي المساء، لم تعتذر وقالت: «أنسي يصلح طبيباً نفسياً، ونصه مصحة للعلاج». هذه المرأة تشبه «الوديعة» أغازلها بما كتبه واهتف: «ساعدني/ ليكن فيّ جميع الشعراء/ لأن الوديعة أكبر من يديّ». سأخبرها بمرض أنسي لتصلي له. وحدها تعرف أنه كان دليلاً إلى تجربة في الكشف والمواجهة، حفرت في ذواتنا بعمق حيث لم يعد للدموع مساحة في أرواحنا؛ لأنّ قراءته كانت درساً في الاغتسال وطقساً للتطهر يمكن بعده التصالح مع كل الذنوب.

***

«لن»: لعنات لزمن قادم

يزن الحاج

في البدء كان الخوف، وفي الختام كان التمرّد، وبينهما عاش أنسي الحاج. ليس غريباً أن يبقى أنسي متفرّداً وموشوماً بلعنة مجايليه، ومرجوماً بحجارة الباحثين عن «الاستقرار». لم يكن لهذا النبيّ حواريّون أو أتباع؛ ولعل هذه السمة هي ما ميّز أنسي عن «شعراء مجلة شعر»، وما جعله (إلى اليوم) شاعرها «الملعون».
ليس ثمة مبالغة في القول إنّ شعر أنسي لم يُدرس دراسة نقدية حقيقيّة إلى اليوم. بقي شعره دوماً على هامش «الحركة» النقدية العربية المحكومة (في معظمها) بفصل تام بين تطرّفَيْن: مديح مفرط أو ذم هدّام، أما ما يشذ عن هذين التصنيفين، فلا يحاول التأسيس لبناء نقديّ مستقل أو حتى «منزلة بين المنزلتين»، بل يستند إلى «ثقافة عربيّة» مديدة شغوفة بالمقارنات. وقد كان معظم نقّاد شعر أنسي الحاج من أنصار الاتجاه الأخير، حين عجزوا عن التقاط فرادة هذا الشاعر فألحقوه بـ«مدارس» أو «تيارات» مكرّسة، كأن يقارنوه بالمدرسة الرؤيويّة الأدونيسيّة أو «القصيدة اليومية» الماغوطية، وإنْ كان ذلك لإظهار بأنه «هجين» بين هاتين المدرستين. أو عمدوا إلى القول إنه سليل المدرسة الفرنسيّة لقصيدة النثر، دون الأخذ في الاعتبار التيارات المتباينة والمتمايزة في القصيدة الفرنسيّة وشعرائها.
وربما يعود هذا التردد النقدي إزاء أنسي إلى أيام تأسيس مجلة «شعر» (1957)، إذ كان من بين الأسماء التي واكبت تقلّبات المجلة الشعرية الأشهر والأبرز في القرن العشرين، ابتداءً بتأسيسها الجريء، وانتهاءً بإغلاقها المتكرر عدة مرات، مروراً بالمعارك والجدالات التي شنّها كثيرون ضد تلك المجلة، ومن بينهم «أبناء» لها، بدأوا مسيرة «ردّتهم» بإعلان التنصّل من تلك «الخيمة» التي آوت جميع البذور الشعرية التي ستُزهر بتنوعات شتى في السنوات اللاحقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السنوات الثلاث التأسيسيّة للمجلة (1957ــ1960) لا تزال حقلاً بكراً لم يقاربه النقد الجاد إلا في استثناءات نادرة. كانت تلك السنوات هي الحامل الأبرز لمعظم الدواوين الأولى للشعراء الذين سيصبحون الشعراء الأبرز في السبعينيات، وكانت أعداد «شعر» ومنشوراتها هي البوصلة الفعليّة في الكشف عن «الشمال الشعريّ» الذي ستتجه إليه القصيدة العربية في مسيرتها المضطربة.
خلال تلك السنوات، وصولاً إلى المحاولة المخفقة لإحياء مجلة «شعر» في الثمانينيات، كان أنسي هو الشاعر الوحيد (إذا استثنينا المؤسس يوسف الخال) الذي شهد «تقلبات» المجلة، ومضى يكتب وينظّر لقصيدة النثر. ويمكننا القول إنّ باكورته الشعرية «لن» (1960)، بقصائدها ومقدّمتها النظريّة، هي المعبّر الأفضل عن الأفكار الفعليّة لمجلة «شعر»، قبل أن تعاني تلك الأفكار، لاحقاً، من تعديلات وانحرافات ترافقت مع ابتعاد شعرائها عن تلك «الخيمة»، ليؤسسوا خيمهم الخاصة التي بقيت مرتبطة عضوياً بالمجلة الأم وأفكارها، وإنْ اختلفت سبل أبنائها.
في ديوان «لن»، سنجد روح قصيدة النثر وعمودها الفقري النظريّ. أنسي كتب مقدّمته الشهيرة تلك وهو مدرك أنّه يؤسّس لعالم شعري جديد. وللمفارقة، يمكننا اعتبار أن تلك المقدّمة عاشت أكثر من القصائد المرافقة لها، إذ لا تزال مقدّمة «لن» هي البيان الأشد توازناً ووضوحاً لقصيدة النثر، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابتها. بينما لن تجد معظم قصائد ذلك الديوان مكاناً متقدماً لها اليوم إذا وضعناها تحت عدسة نقد صارم. كانت تلك القصائد ابنة لزمن كتابتها، بينما كانت المقدمة النظرية ابنة لزمن قادم. وقد كان أنسي مدركاً لهذه المسألة، برغم نفوره من التنظير الشعري، لذا كانت دواوينه اللاحقة، بخاصة «الوليمة» (....)، مختبراً شعرياً لتلك الأفكار النظرية، مبتعدة عن الصرخة الأولى في «لن»، دون أن تتخلى – في الوقت ذاته – عن «الثوابت» الأبرز في شعر أنسي؛ أي، التمرد والخوف و«خيمياء» اللغة (بمعنى إخضاعها الدائم لثورات متلاحقة)، والروحانية الشفيفة.
ومجدداً، ليس ثمة مفر من تكرار القضية الجدليّة الدائمة بين الإبداع والنقد، ولا أعتقد بأنّ ثمة مبالغة في القول إنّ شعر أنسي متقدّم على نقّاده بمراحل عظيمة. كان شعر أنسي الحاج (ونثره بصورة أوضح) أعمق بأشواط من الكلام المعتاد في المقالات والدراسات «شبه النقدية» التي تحاول مواكبة مسيرة الشعر العربيّ. كان أنسي يُذهل قرّاءه ونقّاده دوماً بقفزات يتزايد عمقها مع كل ديوان جديد. حتى المرأة، التي تعدّ «الثابت» الأهم في شعره، تظهر بصور متعددة ومتناقضة في كل قصيدة جديدة؛ هي القديسة أحياناً، العاهرة أحياناً، الكون بأسره تارةً، والتفصيل المنمنم تارة أخرى، والإيروتيكيّة دوماً. ولا يمكن فهم شعر أنسي دون المحاولة المثابرة لفهم صورة المرأة لديه. ولعل تغيّر هذه الصورة وتباين أصدائها لديه كانا السبب الأكبر في تهمة «الغموض» التي أُلصقت بأنسي، دون أن ننسى «المختبر اللغويّ» الدائم لديه في كل قصيدة؛ «فالشاعر لا ينام على لغة»، كما عبّر في مقدّمته الشهيرة.
إن فرادة أنسي الحاج (شعراً ونثراً) تكمن في كونه يعيش دوماً على التخوم، ما جعله عصيّاً على التصنيف. إنه يتأرجح دوماً بين الهوامش: هوامش الروحانية، التمرد، المسيحية، السوريالية، التصوف، الإيروتيكية، واللغة. وتلك هي الصفة الأهم للنثر، كحالة كتابيّة وحياتية في آن واحد، ولذلك أوغل أنسي الحاج في النثر كداء وترياق في الوقت ذاته في «زمن السرطان» الذي لا فرار منه، ولا حياة فيه، إلا للمتمردين والخائفين والمجانين والملعونين.

****

يسوع المسيح احضر حالاً

أنسي الحاج

لم نعد نريد أناجيلك. لم نعد نريد أعاجيبك ومواعظك والحقّ الحقّ أقول لكم. لم نعد نريد حكاياتك وأمثالك. لم نعد نريد صلواتك وتهديداتك. تعال. احضرْ حالاً.
الجميع بانتظارك والأهل والأقارب ليسوا في خير.
احضرْ حالاً. الأرض التي أنجبتك خربانة . الجيران متدهورون. روما الحديثة مسعورة وبيلاطس ملايين ويهوذا الاسخريوطي قوانين والرسل الإثنا عشر أفلسوا.
«أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي» لكنهم بنوا على الصخرة مؤسسة تلعب الرياح فيها بالأوراق والملفات والغبار والألفاظ.
أأنت المسيح صاحب قصة لعازر؟ إذن تفضّل.
الألفا سنة فاصل طويل. معنا ضعف نظر ولم نعد نراك.
المسافة شاسعة. اقترب وادخل. هذا وقتك. لن يكون لك وقت أفضل. إذ لم تجئ الآن فلا تجئ بعد ذلك. الحاجة إليك الآن.
نريد أن نعرف. نريد أن يقول لنا أحد ماذا نفعل، أين الحقّ، لماذا نعيش، من هم هؤلاء ومن هم أولئك.
نريد أن يقول لنا أحد من نحن، ولماذا يضربوننا، ويكذبون علينا، ويجوّعوننا، ويبّشعون حياتنا، ويهدرون مستقبل أولادنا، ويعهّرون الحياة من بابها إلى محرابها.
نريد أن نعرف منك أنت مع من.
لقد سئمنا التراتيل والأناجيل ومتّى ومرقس ولوقا ويوحنا. وسئمنا خصوصاً أعمال الرسل. وبولس. وبطرس. والرؤيا. وجميع القديسين.
وفلقونا بالأخ بابا نويل.
شكراً. شكراً لمجهودات ذوي النيات الحسنة والذين يحبون أن يزينوا لنا الحياة في المناسبات.
ليس هذا المطلوب. المطلوب واحد وهو حضورك. حضورك حالاً، وكلّ عذر لعدم حضورك مرفوض. أنت مسؤول. أنت المسؤول الأول والأخير فلا تقف في ظل الأناجيل. قالوا انك ستعود. شرّف.
تعال أخبرنا، تعال تكلم من جديد، تعال نقِّح أقوالك القديمة، تعال أعد النظر في هذا العالم، تعال راجع ضميرك وأعمالك وأقوالك.
قل لنا أين الطريق. أعرف أعرف: «أنا هو الطريق والحق والحياة». لكنْ قديمة. نريد غيرها الآن في ضوء الطرق اللانهائية المتداخلة، والحقوق التي لا يُعرف سرابها من طغيانها، والحياة التي نعيشها بالحبوب والأقراص.
نريد أن نعرف موقفك من اليهود،موقفك من اسرائيل، موقفك من العرب، موقفك من الغرب، موقفك من الزنوج، موقفك من الحب، والجنون، والطب، والعمل، والمال، والحرب، والعائلة، والبابا، والعقائد، وموت الأطفال، والأمم المتحدة، والفنون، والشعر، والجنس، ومسيحيي لبنان، وسوريا، والأردن، ومصر، والسودان، والعراق.
الكلمة عظيمة. الكلمة الله. الكلمة أنت. لكنْ قديمة.
نريدك «أنت».
جسداً وصوتاً، كما أنت، نازلاً من السماء، طالعاً من القبر، آتياً من الجدار، أومنبثقاً من الماء لا فرق.
تعال.
الأمم مجنونة وبلهاء والشعوب مسحوقة وغبية والزعماء يقتلون ويعبدون أنفسهم. الكنائس تعيش على الذكريات. الأديرة مهجورة. الرهبان رهبان لأجل أنفسهم. الصليب نجم سينمائي. الأناجيل صارت كتاباً كجميع الكتب.
لا بد من حضورك.
اقطع أشغالك الحالية، أجِّل ما تفعل الآن، انهض من بين الغيوم واترك كل شيء واتبعنا.
اتبعنا على الأرض. احمل صليبك واتبعنا.
ذات يوم طلبتْ منك أمرأة كنعانية أن تشفي لها ابنتها المجنونة، فلم تجبها، وقلت لتلاميذك انك أرسلت لخراف بيت اسرائيل وحدهم. فسَجَدتْ الكنعانية لك وقالت: «يا سيد أعنّي». فأجبتها: «ليس حسناً أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب» . فقالت لك: «نعم يا سيد، والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها».
«الكلاب». معك حق. لقد كَشَفْتَنا. من أيامها ونحن كلاب. لكن الكلاب أيضاً يا سيد «تأكل من الفتات».
عد إلينا. نحن الكلاب أحوج إليك من أرباب المائدة لأن أرباب المائدة أكثر توحشا من هؤلاء الكلاب.
عد إلينا. قل لنا مرة أخرى إننا نحن الكلاب وسنصدق. قل لنا عندما تجيء إننا لا نستحق وسنصدق. قل لنا أي شيء عندما تجيء وسنصدق.
لكنْ تعال.
كلامك السابق سَبَقَتْه الأحداث. نعم كلامك أبدي لكن الأبدية أيضاً تسبقها الأحداث.
لم نعد نريد الكتب. لم نعد نريد سفراءك على الأرض. لم نعد نريد اللجوء إلى الغيب والتجريد. نريدك بلحمك وعظمك.
أنت يسوع المسيح. نريد أن نعرف. أن نعرف كل شيء. نريد أن نعرف منك أنت شخصياً، بكلام جديد، واضح، هادئ أو صارخ.
تعال.
الناصرة تنتظر.
بيت لحم تنتظر.
القدس تنتظر.
جبل الزيتون ينتظر.
الجلجلة تنتظر.
فلسطين تنتظر.
العالم كله ينتظر.

24 كَانون الأول 1967
الملحق - «النهار»
الاخبار 19-22014