صبحي حديدي

February 18, 2014

أنسي الحاجسبق لي أن ساجلت بأنّ شعر بدر شاكر السياب لعب دوراً ملموساً في تشجيع وتحصين الولادات المبكّرة والنماذج الأولى من قصيدة النثر في أواخر الخمسينيات ومطالع الستينيات(1)، وذلك على الرغم من حقائق ثلاث:
ـ أوّلاً، أن السياب لم يجرّب قصيدة النثر، واقتصرت تجربته الشعرية على العمود الخليلي ثم التفعيلة أو الشعر الحرّ حسب المصطلح الذي كان شائعاً آنذاك. ليس هذا فقط، بل يجب القول إن خياراته في التنويع التفعيلي تقوم على هندسة إيقاعية عالية وصلدة ومحْكَمة بما يكفي لدفع أي لبس حول موقفه من تجارب الإبدال الوزني لبحور محددة مثل المديد والمتدارك، هذه التجارب التي حاولت إشاعة مناخ من الارتباك الوزني، وخلخلة التربية الإيقاعية السائدة، فشكّلت بهذا القدر أو ذاك عتبة على طريق الولادة غير العسيرة لقصيدة النثر.
ـ ثانياً، أنّ موقف السياب من قصيدة النثر لم يكن غامضاً، وكان مناوئاً لها صراحة أو مواربة، كما نستدلّ من رسائله. ولدينا نصّ حلي واحد على الأقلّ، جاء ضمن رسالة إلى أدونيس نشرتها مجلة ‘شعر’، يعلّق فيها السياب على قصيدة أدونيس ‘مرثية القرن الأول’، ويقول:
‘أمس كنت عند جبرا. حدّثني عنكم كثيراً، وكانت شاعريتك الضخمة الحية وقصيدتك الأخيرة مدار الكثير من الحديث. كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور، لا أكثر. ولكن هل غاية الشاعر أن يُري قرّاءه أنه قادر على الإتيان بمئات الصور؟ أين هذه القصيدة من ‘البعث والرماد’ تلك القصيدة العظيمة التي ترى فيها الفكرة وهي تنمو وتتطور، والتي لا تستطيع أن تحذف منها مقطعاً دون أن تفقد القصيدة معناها. أما قصيدتك الأخيرة، فلو لم تُبقِ منها سوى مقطع واحد، لما أحسستَ بنقص فيها. ليس هناك من نموّ للمعنى وتطوّر له. مازلت، أيها الصديق، متأثراً بالشعر الفرنسي الحديث أكثر من تأثرك بالشعر الإنكليزي الحديث، هذا الشعر العظيم، شعر إليوت وستويل ودلن توماس وأودن وسواهم’.(2)
ـ ثالثاً، أن محاولة استكشاف دور النصّ السيابي في الولادات الأولى لقصيدة النثر لا تنطوي على حكم قيمة حول هذا الخيار في الكتابة الشعرية، مثلما لا تشكّل أي مسعى لشَرعنة ذلك الخيار ومنحه ‘شهادة منشأ’ جديدة، تأتي هذه المرّة من شاعر معلّم وعبقرية فذّة صنعت القَسَمات الأبرز للحداثة الشعرية العربية. لقد حسمت الحياة هذه الحكاية في المدى الراهن على الأقل، وينبغي ألا يدور أي نقاش جدّي حول شرعية أو لا شرعية النثر كوسيط في التعبير الشعري، بل حول شعرياته كما هي على الأرض، في النصوص وفي وضح النهار، غثّة كانت أم سمينة.
وفي ضوء العوامل السوسيو ـ أدبية، التي تكتنف أية ثورة أدبية أو أية ولادات أسلوبية وتعبيرية كبرى، يكون السيّاب أحد الآباء الكبار الذين مهّدوا الأرض الوعرة لحركة تجديد معمّقة وراديكالية في السائد الشعري، وشقّوا الطريق العام الأصعب الذي ستتفرع عنه مسالك فرعية عديدة. وفي طليعة هذه العوامل تأتي مسألة الانعطاف الكبير الذي طرأ على مضامين وموضوعات نصوص روّاد الشعر الحرّ، بسبب من هذه الانعطافة السياسية ـ الاجتماعية أو تلك، أوالخيارات الجمالية ـ الفكرية النابعة من هذا الموقف الفلسفي الحداثي أو ذاك. وتكفي الإشارة إلى أن تعاقب الاستقلالات، ونكبة 1948، وإعلان قيام إسرائيل، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، وصعود البرامج السياسية للبرجوازية الصغيرة… كانت كفيلة بإحداث ارتجاج عميق في الوجدان العربي، وجَبّت الكثير الذي كان قبلئذ راسخاً وعريقاً. روّاد قصيدة النثر لم يكونوا خارج هذا المخاض، ولم يكن في وسعهم أن يكونوا خارجه حتى حين مالوا إلى التعبير عنه على طريقتهم. لنقرأ ما يقوله أنسي الحاج في مقدّمته لمجموعة ‘لن’:
‘بين القارىء الرجعي والشاعر الرجعي حلف مصيري. هناك إنسان عربي غالب يرفض النهضة والتحرّر النفسي والفكري من الاهتراء والعفن، وإنسان عربي أقليّة يرفض الرجعية والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطيه غريباً، مقاتلاً، ضحيّة الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية النخبة والرعاع على السواء. لدى هذا التشبث بالتراث الرسمي ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتّاب العرب، أمام أمواج السمّ التي تغرق كل محاولة خروج، وتكسر كل محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة الجذور في السخف، وأمام بعث روح التعصّب والانغلاق بعثاً منظّماً شاملاً، هل يمكن لمحاولة أدبية طريّة أن تتنفس؟ إنني أجيب: كلاّ. إن أمام هذه المحاولة إمكانين، فإما الاختناق وإما الجنون’.(2)
وباستثناء النبرة الرسولية المشبوبة في لغة أنسي، بمقدورنا العثور على مثل هذا التشخيص الاحتجاجي لدى عشرات الأدباء العرب، والشعراء بصفة خاصة، في الفترة الزمنية إياها. وكان السياب، في بيروت تحديداً وخلال إحدى ندوات ‘خميس مجلة شعر’، قد وصف علاقة الشعر بمتغيّرات الشارع العربي على النحو التالي:

‘لو أردتُ أن أتمثل الشاعر الحديث، لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه، وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل (…) وقد حاول الشاعر، مرّة تلو المرّة، أن يتملّص من الواجب الضخم الملقى على كتفيه: تفسير العالم وتغييره. ولكنها محاولات لم يُكتب لها ولن يُكتب لها أن تنجح وأن تستمر، فتهاوت مدارس وحركات شعرية بأكملها، غير مخلّفة سوى شاعر هنا وشاعر هناك، لعلّ لهما من القيمة التاريخية أكثر مما لهما من القيمة الفنية (…) إننا نعيش في عالم قاتم كأنه الكابوس المرعب. وإذا كان الشعر انعكاساً من الحياة، فلا بدّ من أن يكون قاتماً مرعباً، لأنه يكشف للروح أذرع الأخطبوط الهائل من الخطايا السبع، الذي يطبق عليها ويوشك أن يخنقها. ولكن ما دامت الحياة مستمرة، فإن الأمل في الخلاص باق مع الحياة. انه الأمل في أن تستيقظ الروح. وهذا ما يحاوله الشعر الحديث’.(3)
تلك كانت حقبة الهزّات الكبرى والتجديدات الأكثر عمقاً، حين ‘يتطلّب العصر صورته’ كما عبّر إزرا باوند، وحين يقع على عاتق الشعر جَسْر الهوّة بين اللغة اليومية وشعرياتها، وبين الشعر وانقلابات النفس… الإنسانية حتى ‘المأساة المنثورة’ بالمعنى الهيغلي. لقد توجّب على القديس يوحنّا أن يبصر الخطايا السبع في اللغة الطبيعية لعالم الكابوس وأفراد ومفردات عالم الكابوس، كانت هذه مختلفة تماماً عن أية ‘لغة طبيعية’ في أية بلاغة غير طبيعية. وتلك كانت أخطر عتبات ما يمكن اعتباره ‘تسوية تاريخية’ بين الوزن والنثر في أنساق التعبير الشعري: تسوية بمعنى التفاعل التبادلي بين الوسيطين، وتاريخية بمعنى وجودها في سياق ثورة شعرية جذرية يشهدها مجتمع (وذائقة جمالية) في حال عالية من الترقّب والتعطّش للجديد.
في هذه الفترة كتب السياب رائعته ‘مدينة بلا مطر’، التي يتخيّل في مقطعها ما قبل الأخير نشيد أطفال بابل وهم يحملون القرابين إلى عشتار:

قبورُ إخوتِنا تنادينا
وتبحثُ عنكِ أيدينا
لأن الخوفَ ملءُ قلوبنا، ورياحَ آذار
تهزّ مهودَنا فنخافُ. والأصواتُ تدعونا.
جياعٌ نحنُ مرتجفونَ في الظُلْمْة
ونبحثُ عن يدٍ في الليل تطعمُنا، تغطّينا،
تشدّ عيونَنا المتلفتاتِ بزندها العاري.
ونبحث عنكِ في الظلماءِ، عن ثديَين، عن حَلْمَهْ
فيامن صدرُها الأفْقُ الكبيرُ وثديُها الغيمه
سمعتِ نشيجَنا ورأيت كيف نموتُ..فاسقينا!
نموتُ، وأنتِ ـ واأسفاهُ ـ قاسيةٌ بلا رحمهْ.
وفي الفترة ذاتها كتب أنسي الحاج قصيدته ‘فَصْل في الجِلد’، التي يقول في مطلعها:
فليذهبْ ملكوتُ القشعريرة. أبا الهول! أبا الهول! خذ صمتيَ ، امنحني. يسوع
ديكك لا يصيح
ديكك لا يصيح
يسوع!
ديكك لا يصيح.
ريّش بسحرك تنديمه، أعتق لسانه، نجّه
يسوع أنقذْ نفسك إنّي
أرضع

ريق التماسيح.
كما كتب محمد الماغوط قصيدته المعروفة ‘أغنية لباب توما’، التي يقول فيها:
ليتني حصاة ملوّنة على الرصيف
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس (…)
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء (…)
أشتهي أن أقبّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين،
تنبعث رائحة الثدي الذي أرضعه،
فأنا ما زلت وحيداً وقاسياً
أنا غريب يا أمّي.

والحال أنّ مضامين هذه القصائد تخرج من مشكاة واحدة، وجودية واغترابية، أو تموزية بمصطلحات تلك الأحقاب؛ ولكنها تتباين في:
1ـ الوسيط (وهو هنا التفعيلة أو النثر)، إذْ في حين يعتمد السيّاب على جوازات بحر الوافر (مفاعيلن) وهندسة عدد التفعيلات وفق الشحنة الإنشادية في السطر الشعري؛ فإن الحاج يعتمد على التكرار الإيقاعي لعبارة ‘ديكك لا يصيح’، وتنويع الخطاب التكراري بين ‘أبا الهول! أبا الهول!/يسوع! يسوع!’، فضلاً عن التحريك المقصود لأواخر الكلمات في السطر الأول (الطويل على غير عادة نصوص الحاج غير المكتوبة بطريقة التدوير)؛ أما الماغوط فيلجأ إلى التنغيم بين الحدّة والثقل (العلاقة النغمية بين الحروف الأخيرة في نهايات السطور والحروف الأولى في بداياتها) وبين نَفَس التموّج الذي يصنع الصوت وحال التمّوج الذي يقيم اتصال الأجزاء، لكي نقتبس مصطلحات الشيخ الرئيس ابن سينا.
2 ـ طرائق التوجّه إلى العنصر الخارجي، ففي حين يذهب بها السيّاب إلى التضرّع والتعبّد والإنشاد الغنائي الرفيع الذي ينهض على ضمير الجماعة ويكاد يطمس ملامح الأنا لصالح الأنا الجَمْعي؛ يعتمد الحاج على المزج بين التهكّم الخفي، أو المعلن بحيادية إبهامية مقصودة، والتوسّل بالسخرية السوداء؛ والماغوط يتضرّع بدوره، لكنه يسبغ على حال التوجّه الخارجي سياقا داخلياً ذاتياً من التوجّع الرومانتيكي والشكوى.
3 ـ طبيعة العنصر الخارجي كموضوع نداء، فهو عند السيّاب عشتار الكونية، الإلهة ـ الأمّ الرامزة إلى الخصب والنماء، والملجأ الجسدي والروحي، ومكمن الأمل واليأس، الرأفة والقسوة؛ وهو عند الحاج المسيح/أبو الهول (اسم العلم واسم الدلالة في آن معاً)، واهب النجاة والمحتاج إليها، الصامت الحاجب للفجر، المهدد بالكائن المتحرر من القشعريرة؛ وهو عند الماغوط الأمّ الطبيعية، المرضعة، والثدي، والاستعارة الممتدة من باب توما إلى الطفل، مروراً بقسوة الوحدة والغربة. والرضاعة هنا قاسم مشترك في التجسيد الفيزيائي لموضوع التوجّه: من الثدي والحلمة عند السيّاب والماغوط، ومن ريق التماسيح عند الحاج.
4 ـ التنويع في أصوات التوجّه وإنشاء ضمير السرد في النص، بين المخاطب المفرد/المتكلم بالجمع عند السيّاب، والمخاطب/المتكلم بالمفرد عند الحاج والماغوط. وهذا التنويع ينطوي على مغزى فلسفي وسياسي خاص، حين نسترجع سجالات الخمسينيات حول الوجودية والالتزام والذات.
وإذْ يضع المؤرخ الأدبي في الحسبان مقادير الاختلاف في قوّة علاقة هذه النصوص بالذائقة الأدبية السائدة آنذاك، إذ من الواضح أن نص السّياب وفق هذا المعيار تحديداً كان يتفوّق على نصّيْ الحاج والماغوط، فإنه لا يستطيع إلاّ ملاحظة النقاط التالية:
1ـ أنّ هذه النصوص تمثّل قطعاً جذرياً صريحاً مع لغة وتقنيات ومضامين النماذج الكلاسيكية والرومانتيكية والخطابية.
2ـ أنها تحقّق، بطرق مختلفة، درجة متقدّمة من الخطاب الأسطوري والتأمّلي والوجودي المختلف تماماً عن السائد التقليدي والقومي والطبقي.
3 ـ أن نصّ السياب يضفي حصانة فنيّة وفكرية منطقية على نصّيْ الحاج والماغوط، لأنه يتعايش معهما في الزمان وفي المضمون والهمّ والموقف الوجودي، ويؤمّن لنفسه ولهما هذا القدر أو ذاك من التغطية؛ الأمر الذي لا ينفي التوتّر المباشر وغير المباشر بين الوسيطيَن المستخدمين، ولا يبلغ بهما حدّ إعلان الإلغاء والإلغاء المضاد.
وإذا كانت هذه العوامل غير كفيلة بشقّ الطريق أمام قصيدة النثر، فإن من الصعب أن نتخيّل نصوص رامبو وبودلير ومالارميه وسان جون بيرس وهي تقوم وحدها بذلك الاستقلاب السحري وتلك الولادة العجيبة خارج الرحم، أي رحم. ومن العبث الحديث عن ثورة شعرية في الشكل والمحتوى استناداً إلى حفنة بيانات شعرية وتنظيرية اختزلت أو أساءت قراءة كتاب واحد وحيد (عمل سوزان برنار)، هو في الأصل اختزال لظاهرة بالغة التعقيد شملت قامات شعرية فذة من أمثال بودلير ورامبو. وهكذا أجدني أستنتج أنّ علاقة التأثر بين ‘الشعر الحرّ’ كما كتبه السيّاب و’قصيدة النثر’ كما كتبها الحاج والماغوط، كانت في الآن ذاته بمثابة ‘تسوية تاريخية’ بين التفعيلة والنثر في الكتابة الشعرية، الأمر الذي يبرهن على مآل ائتلاف داخل نسقَيْ الاختلاف.

‘ ناقد سوري يقيم في باريس

إشارات:

(1) ضمن دراسة مطوّلة، بعنوان ‘حداثات الشعر العربي المعاصر: أنساق اختلاف أم مآلات ائتلاف؟’.
(2) ‘شعر’، العدد 15، 1960، ص.146.
(3) أنسي الحاج، ‘لن’، دار الجديد، بيروت 1994، (الطبعة الثالثة).
(4) مجلة ‘شعر’، العدد 3،1957. ص.ص. 111-112.

****

وداعاً أيها المبدع الكبير

عبدالعزيز المقالح

February 18, 2014

عبدالعزيز المقالحبغياب أنسي الحاج عن دنيا الشعر تفقد قارة الشعر الأجد واحداً من أهم مؤسسيها وحراسها المتسمين بالإخلاص والتواضع.
شكلت أعماله الأولى وهي: ‘لن’ و’الرأس المقطوعة’ و’الرسولة’ زلزالاً في عالم الشعر وشدت إليها عشرات المبدعين الشبان من جميع الاقطار العربية.
كان صوتاً مميزاً في عالم الكتابة الشعرية المناوئة للتقليدية القديمة والحديثة، بجرأة ومعرفة عميقة لما ينبغي أن يكون عليه شعر القرن العشرين. لم يشغل نفسه بالدفاع عن تجربته الشعرية وتركها تنمو وتدافع عن نفسها، كما لم يكن مفتوناً بمدارس الأحدث في الشعر العالمي.
اكتفى بأن يكتب نصه بوحي من ثقافته وإحساسه تجاه هذا الفن الذي يكره التقليد والتكرار معاً ويحلم بالتجاوز.
لم ألتقِ به، لكن صلة مودة خالصة جمعت بيننا على بعد، كان يتذكرني ويشير اليّ في بعض كتاباته، وكنت دائم التذكر له، ودائم المتابعة لما يكتبه، ومن ذلك تلك الكتابات التي وجد لها في الأخير منبرا أسبوعياً في جريدة ‘الاخبار’ البيروتية.
ومنذ أسابيع افتقدته، وكنت أظن أنه في إجازة قصيرة من الكتابة، وسيعود إليها بشغف يعكس شغف قرائه وإعجابهم، ولم أكن أدري أنه كان يستعد للرحيل بعد أن أنجز مهمته الإبداعية والفكرية. وكان واضحا من كتاباته التي ظهرت في العامين الأخيرين أنه يعاني من حزن شديد تجاه ما يجري لوطنه الصغير لبنان، ولوطنه العربي الكبير. لم يكن يتوقع أن يصل المشهد الدامي إلى ما وصل اليه، وأن يتجرع العرب بأرادتهم المنحرفة عن مسارها الصحيح وبردود أفعالهم هذا القدر من الذلة والهوان.

شاعر يمني

****

أنسي الذي لا يرحل

شوقي بغدادي

February 18, 2014

  شوقي بغدادياحمد فؤاد نجم هو امتداد لبيرم التونسي ولفؤاد حداد ولصلاح جاهين، لكن في منحى اكثر شعبية ولذلك شكل مع الشيخ إمام في الستينات ظاهرة ثنائية نادرة في اختيار الكلمات الشعرية المناسبة للوضع السياسي مع الحان شعبية يسهل حفظها وهذا ما جعل منزل الشيخ إمام في تلك الفترة محجا لكل المثقفين والفنانين العرب الذي كانوا في ضيق من الانظمة السائدة في تلك الفترة.
لذلك يذكرني موت أحمد فؤاد نجم بواجبات كل فنان ومثقف ان لا يبتعد عن شعبه وعن نبض الشارع الحي في بلده تحت اي ذريعة كانت سواء باسم الحداثة او باسم الجمال الفني، لذلك انا حزين على نجم ،لانه برحيل هذا الشاعر ستنتهي ظاهرة تكاد تكون بلا امتداد حتى الآن، الا اذا فاجأنا الشعب المصري بشعراء وملحنين وأصوات جميلة قادرة على الاحتفاظ بالظاهرة الفنية الشعبية التي تزعمها بشكل عفوي الشيخ امام كمغن وملحن، واحمد فؤاد نجم كمبدع كلمات اصبحت سارية على الألسن اكثر من أي شعر آخر… هكذا يموت الشعراء.. يتركون وراءهم كلماتهم التي لا تموت.
وكل شاعر يحلم بالخلود يجب ان يفكر جيدا بهذه الظاهرة المصرية التي جسدها أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام اروع وأجمل تجسيد جعلتنا نحن السوريين في الستينات نحيي اجمل اجتماعاتنا في البيوت والمقاهي ونحن نجلس ونستمع ونصغي بخشوع ومتعة الى الشيخ إمام يغني كلمات أحمد فؤاد نجم… اما الآن ونحن نعيش في ظروف اصعب من ظروف مصر فنكاد لا نجد نموذجا لأحمد فؤاد نجم معنا ولا الشيخ إمام.. لا يوجد الآن في سوريا المنكوبة من يقوم بهذا الدور العظيم الذي قام به الراحل فؤاد نجم.

‘ شاعر سوري

***

ماذا صنعت بي يا أنسي…

منذر المصري

February 18, 2014

منذر المصريهل هناك داعٍ لبقية الاسم!؟
(ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة): دار النهار للنشر، 1970، /144/ صفحة، 8.ل.ل أو ما يعادلها: كتاب أنسي الرابع، ذو المقاس 17-21.5سم، أي أقرب ما يكون للمربع المتطاول، والغلاف الفيروزي، الذي لم يرسم عليه حفاظاً على صفائه، سوى العنوان، بخط فارسي أبيض، على سطرين.
أحضرته لي من بيروت، أستطيع أن أكشف الآن، الفتاة، التي سكنت مع أبيها وأختها الصغيرة، القبو المجاور لقبو صديقي الراحل محمد سيدة، فتوله بها، كما كان محتماً، وكتب عنها، أروع وأشد قصائده قسوة وألماً ويأساً. كانت أمها لبنانية وأبوها عاملاً سورياً في لبنان، أحبتني على نحو ما! وعندما طلبت مني أن أوصيها على شيءٍ من بيروت، طلبت منها، شرط أن أدفع ثمنه: (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة). فأحضرته وقدمته لي دون أن ترضى بأي شيء بالمقابل، رغم حاجتها، كان ذلك في عام 1972. وكان أول نسخة من المجموعة تدخل اللاذقية، وربما سوريا، حسب معرفتي، التي كان بها أنسي الحاج، مع بقية جماعة شعر، ما عدا أدونيس طبعاً، أشبه بمجهول.
هناك أشياء كثيرة تقال عن: (لن) و(الرأس المقطوع) و(ماضي الأيام الآتية)، ولكن بالنسبة لي لا شيء يقارن بـ: (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة). ولا حتى ما تلاه مباشرة، مطولة (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع)، التي صبَّ بها أنسي خلاصة كلَّ تجربته، حتى وكأنه يريد بعدها أن يكفَّ عن الشِّعر، ثم بعد انقطاع (الوليمة)، التي كانت أقرب لبقايا من وليمته الأصلية.
علمّني (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) تقريباً كلّ شيء، وفي كلّ ما كتبت كنت أودُّ أن أكتب شيئاً خاصاً بي جميلاً ومؤثراً مثله، وحين يقول البعض بأن الشعر الحديث لا يحفظ، أجدني أقرأ لهم عن ظهر القلب، وها أنذا أفعل الآن:

1- فرِحَ على الأرض

(بدون العودة للكتاب)
بحثَ عنها كثيراً ولَمّا وجدها
احتار ماذا يفعل بها
فتركها تذهب
ثم عاد وبحث عنها كثيراً
ولَمّا وجدها
قال: يا إلهي
اجعلْ نظري كبيراً فيحويها
وحجري ماءً فيسقيها
طوِّقها بي كسجن
وطوِّقها بي كشكران
أو اكسرني يا إلهي عليها
كالصاعقة
في البحر.
/
كان ضائعاً فلَمّا وجدها
فرحَ على الأرض قليلاً
ثمَّ طار إلى السماء.

2- فردة حذائها

كي أرتمي فيها كعملاق يرتمي في كأسه، كي
أقبل عليها كغرباءٍ إذا استوطنوا يأكلون الوطن وفاءً.

كي أَنهار فيها مثل رجفان الجبال.
الغائبة القلب في اليدين، الغائبة اليدين في صدأ
العادة الجمري.
/
التي تفقد فردة حذائها من أجل أن يهتدي الأمير
إلى مصيره.

3- أنتَ

(بدون العودة للكتاب)
**
إذهبْ إلى الطبيعةِ، ثلاثةً
أنتَ، هوَ، هيَ
يتحابان
وأنتَ وحدَك
تتحاب
وتعشقك الطبيعة.

4- عندما يفتحونه عندما يغلقونه

سأطبع كتاباً
لتعرفي أنَّكِ
سأطبع كتاباً
ليقولوا عندما يفتحونه:
‘ كنّا نحسبه شخصاً آخر’
سأطبع كتاباً

ليقولوا عندما يغلقونه:
‘ لم نكن نعرف أنَّهُ
كنّا نظنُّ أنَّهُ’
سأطبع كتاباً
لأن عينيكِ لأن يديكِ
سأطبع كتاباً
لأنّي لا أصدق
لأنّي لا أصدق
لأنّي لا أصدق.

5- أوراق الخريف مريمُ العذراء

الكآبة التي كانت تسكنني ماتت
حلَّ محلَّها، برياحه وأمطاره،
السيد الوقت.
صرتُ أستغرب الشِّعر
أقول عن الأطفال أطفال
عن ركبة امرأة ركبة امرأة
وعن غصن حورة مقطوع غصن حورة مقطوع.
ولم أكن، عهد الكآبة
أتداول أسماء المسميات المتداولة
لا تكبُّراً وحدَه
بل لأنني كنت شاعراً
فكنت أُسمِّي مثلاً
أوراق الخريف مريمَ العذراء.
وآه كم كنتُ غنيّاً
كلُّ ما يلمسني يسحرني
كلُّ ما ألمس أسحر
ولم أكن أجهل
لكن لم أكن أعرف
وظننت صبحَ يومٍ من الأيام
أنني خالد حتى فاحت الكآبة التي كانت
والتي لم أعرف كيف
ماتت كالمسك.

سئلتُ كثيراً، وأقسم إني سئلت البارحة: ‘أيّ كتابٍ تحبّ ؟ سمِّي كتاباً واحداً لا غير.’ فلم أجد جواباً سوى: (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة)، إنه كتاب، قلت، تقريباً، علمني كلَّ شيء، ولكن ما لم أقله هو أنه .. علمني الحب. فهل، ولو أنّي، لأي سببٍ في العالم، رغبت أن أسمّي كتاباً آخر، أستطيع أن أُسمّي… سواه .

‘ شاعر سوري

***

أنسي وحيدا

فاروق يوسف

February 18, 2014

  فاروق يوسفكلما كتبت عنه أخشى أن أخونه، أن أربك وصيته، أن انحرف بصورته. أنسي الحاج ومنذ القصيدة الأولى التي قرأتها لم يكن شاعرا، ولم يكن ما يكتبه شعرا.
كان هو الآخر، المختلف، وحدته عدوى وشراسته حنين إلى إنسانية، كانت نضارتها درسا في تأليف الفصول. شعره (إن جاز القول) يعلم أشياء كثيرة تقع خارج المعاني.
لنقل إنه يرتاب بالموسيقى ليذهب إلى ما ورائها، يفتش في جذورها عن لمعة لم تغسل بمياهها هدب امرأة من قبل.
كانن الحب بالنسبة له رسالة، نبوة الكائن الذي لا يزال قادرا على محو أخطائه، لا بدمه ولا بدموعه بل بأثر من روحه لا يزال نقيا. ‘إنه الانقى من بيننا’ كان يوسف الخال يقول، منذ ضربة الحاج الأولى على باب مجلة (شعر).
لقد كتب أنسي ما لا يكتب ولن يكتب إلا من خلاله، ليبشر به مرة أخرى. جملته تسري مثل الهواء بين الكلمات ولا تقودها مثل الأغنام. لم يكن راعي الكلمات بل لصها. كان مفجر صخور من أجل زهرة رآها في حلمه.
أناقته الشعرية لم تكن غنجا ولا صبابة ولا رقة، بل هي الأثر الذي يتركه السهم الذاهب إلى الغيوم ليمزجها، وليستخرج منها تضاريس مرآته الشخصية.
مرآة الشاعر الذي وقف وحيدا، من غير أن تشكل وحدته عبئا على الآخرين ولا على الشعر. بغياب أنسي تكون اللغة، أية لغة قد فقدت مزاج عصفورها الذي ينظف بمنقاره رئتيها.

‘شاعر وناقد من العراق

***

‘الحاجّ’ الذي يهشّ الأبد بعصاه

حسام الدين محمد

February 18, 2014

   حسام الدين محمدأحب تذكر أنسي الحاج على طريقته: بمقابلة قديمة مع فيروز في مجلة ‘الشبكة’ أو بمقالة تحكّ جروح اللغة مثلما كتب مرّة في مجلة ‘الناقد’ ساخراً من مصطلح ‘الوطن الأم’ أو بتذكر شخصه اللطيف عابراً شارع الحمراء.
أفضّل كثيراً لو أن بعض النقاد لا يحمّلون ديوانه الأول ‘لن’ كل ما حمّلوه إياه فهذا الكتاب الذي كتبه شاب صغير متمرّد يفسّر كيف بدأ لكنه لا يضيف إلى نهايات أنسي الفكرية والشعرية الواسعة التي أنتجت ‘خواتم’ و’الرسولة بشعرها الطويلة حتى الينابيع′.
أحب تذكّره في مكاتب صحيفة ‘النهار’ تحت ظلّ غسّان تويني الكبير، ورفقة ثلّة السلاح القديم وعلى رأسهم اللاعب الأجمل شوقي أبي شقرا الذي احتضن كفّي الصغيرة ذات يوم ونشر أول قصيدة لي.
ولا أحب تذكّره في هشاشة التعاطي مع التراجيديا السورية من خلال جزعه الركيك على الممثلة التي بالغت في تمثيلها محبّة بالرئيس الذي يدمّر بلاده وشعبه.
يصعب عليك أن لا تحبّ معادلة أنسي الحاج الغريبة التي يجتمع فيها عمق اللطافة والأنوثة بفظاظة التعقيد المذكّر، ولا يمكن أن تستمتع بها لو لم تعبّ كفاية من خمر لبنان أو تغتالك سمومه، فالحاج هو اجتماع غرابة لبنان وانفتاحه على متناقضات العالم حيث يدافع أقصى اليسار عن أكثر التنظيمات رجعيّة وطائفية، ويرعى إطلاق جاسوس اسرائيل حزب كل آلته الدعائية موجهة ضد الصهيونية، ويدافع أكثر الأحزاب وطنيّة عن دول أخرى أكثر مما يدافع عن وطنه!
يهشّ أنسي الحاج الآن بعصاه على ظهر الموت ويضحك ساخراً من مرآة الأبد.

‘ شاعر سوري

***

لا أقول لأنسي وداعاً، أقول شكراً

ناصر فرغلي

February 18, 2014

 ناصر فرغليكيف يمكن لأحد أن يكتب عن ملك الكتابة؟ صاحب الخواتم وملاك الرسولات حامل الوحي إلى شعرهن الطويل؟ كيف تطيعك لغة لبست الحداد على عشيقها الأخير؟
هل تقول اللغة وداعاً لأنسي؟ أم تراني أسمعها تقول له: شكراً يا جميل؟
لحم أنسي الحاج وعظامه هي ما نودعه اليوم، أما جسده الحقيقي فلن تفارقه اليناعة ولا الخصوبات المستديمة مادام الشعر عمودا لخيمة العالم.بين كل شعراء القرن الفائت، يجلس شاعران في حجرة المسامرة في بيت القلب: محمود درويش وأنسي الحاج. شعرت دائما أنهما وجهان لأغنية واحدة تقول نفسها على موسيقييْنِ. هما أفضل تمثيل لإشارة إلهية وضعها التوحيدي في مقابساته:
‘.. ومع هذا، ففي النثر ظِل من النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا، ولا طاب ولا تحلّى. وفي النظم ظِل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله ولا عذبت موارده ومصادره، ولا اختلفت بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه’.
كتابة أنسي الحاج نموذج حقيقي للقصيدة بكل عناصرها، كان يكتب خارج الوزن داخل الإيقاع، صانعا للغة ما تستحقه من أعراس. كان أنسي الحاج فوق تعريفه كشاعر فذ، وأهم منه، محبا حقيقيا للشعر، مدركا لمعنى الأخوة في الجمال وجدارة احترام الخلق.كان أنسي رساما يحترم النحت.
وزعيما يحب الديمقراطية.
وواحدا مؤمنا بالتعدد.
لو كان لأنسي من وصية، فهي كلمته التي ألقاها في افتتاح مؤتمر قصيدة النثر في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 2006. ولأنسي من الجدارة والمحبة معا، ما يسمح له بأن يقول: اسمعوني:
‘.. وكما قلنا، لا ندعي إلغاء للوزن والقافية، بل نحن من عشاق الأغاني، كثيرا ما نفضلها على كتاباتنا. فكيف ندعو إلى إلغاء وكل حملتنا هي حملة غرس وإيجاد وإكثار حياة؟ ليكتب كل على هواه، ولينقل الهواء ما يحلو له نقله. لقد أردنا مكانا لما لم يكن له مكان. أردنا جسدا لإيقاع لا يضطرب به روح النثر العربي فحسب، بل يضطرب به روح الشاعر العربي ولا يريد سكبه في الأطر القديمة، بل يتطلع إلى شكل أكثر ملاءمة لمناخه، أقل عسفا حيال فكره وشعوره، أكثر قربا من أصواته الداخلية والخارجية، أقل تفريطا بحذافير تجربته، أكثر استيعابا لحوادث لحظته وأوزان كيانه. لو لم تُرد قصيدة النثر التعايش مع قصيدة الوزن، لما سميت قصيدة نثر بل لزعمت لنفسها تسمية قصيدة، قصيدة فقط، بلا تمييز′. (أنسي الحاج بيروت 2006)

‘ شاعر مصري
القدس العربي- 19-2-2014