بول شاوول

 أنسي الحاج... طويلاً ورحلتَ ويا لجلجلة الوجع يا أنسي. وطويلاً كنّا معاً. أكثر من عمر. وأكثر من ميلاد. وأكثر من ميتات ورجوع، وأكثر من شِعر. وأكثر من درب. وأكثر من صداقة. خمسة وأربعون عاماً يا أنسي. معاً. وكأننا نوازي نهراً لا نعرفه. وسماء غامضة. وأقداراً لا تُحسب لنا، وأرصفة تغير أسماءها. ومدينة كلّما مشت مشينا ومشيناها. وكلما توقفت أصاب حواسنا الحنين. أصاب أقدامنا الوقوف بلا إشارات... ولا قبعات، ولا مفترقات كأنما باتت الحياة طريقاً واحدة ضلّ حُرّاسها طويلاً.

كنت لي يا رفيقاً، وطويلاً، كنت لي المغامر وحدك، وحدك، في المنعطفات الخطرة. كأنما كنت دائماً على حافة هاوية مفتوحة على سماء. من «لن»، هذه القصيدة المحظية، الصرخات المتتالية، المتطاولة على ما هو سائد، وعائد والانفجار المتعاقب في قلب الواقع. أي اللغة. اللغة. جاءت من ورائك كقبائل تبحث عنه أعمارها ولا تجدها. الضربة الخاطفة، في «لن»، أو اللمسة كشعاع يتلمسه الهواء وتراه.

هكذا في وعورة خصبة، «لن» وكان المفتتح ليديك، والمفتتح لزمن جديد كدنا نخسر علاماته، أو يُفقدنا علاماته. لن «المعجزة» الشعرية البوابة التي شرّعت على لا معقولها. على خرائطها الغامضة، على غيلانها، وكائناتها، ولغاتها، وشعوبها، (واللغة عندك شعوب تخرج من تواريخها)؛ ومن «لن» يا صديقي الذي كان لي أن أقرأه وأكاتبه وأحاوره وأهاجسه واتواراه وأفتشه وأشمشمه وأقلبه، وأساوره، حتى قضني وأضنيته من نشوة نادرة وكتبت ما في النشوة، لكن أقل ما في الصفحات. ومن هذه الدُّرف، المتوغلة في درف، والمتشابكة في شبابيك، وأزقة، وصنوبر، وألم وخوف وشوارع، وتسيّب، ورعب، وسرطان، وقدر... ولغة لا تمشي إلا لتجتاح، ولا تجتاح إلاّ لتؤنس يا أخي. «الرأس المقطوع». يوحنا المعمدان. كل الرؤوس التي نسيت أجسادها. في الحقل. أو على المصطبة. أو في الشجرة. أو على أنهر. أو أمامك أو وراءك... وكان للرأس المقطوع أن ينشد، كما لم تٌنشد سماء التحمت بكواكبها بل كأن الاسترجاع هنا، وأكثر: استعباد العذاب، والموت، وانتهاكهما، على مساحات قصية من «ماضي الأيام الآتية». الشموس تراجع ثباتها. الحقائق تستعيد جذورها. النسمات شهقاتها. الزمن دورانَه. الموت عانّته. الحياة اختراقاتها البهية، وعوالمها بلغة تهزم القدر، تنعم بما هو آت، تكسر ماضيها، لتحيي ما في أوردتها، وشروشها، ولحمها وكائناتها. هنا الإيقاع أرحب لكن أصعب. هنا المدّ منقطع والصورة ملتاعة من وقتها، كأن تقول «الارض مستديرة للعاشقين». مستديرة؟ نعم؟ ولكن بأي نهش، بالاظافر، والاصابع والعينين، ليكسر دورانها الالفي في بهاء المُطِلّ، والراحل، والمجهول، والقادم، والغارب والسارب.. ثلاثية بأنفاس لهثى. بأجساد لا تتعب، بعشق لا يعرف سكانَه. كأنما الى الوردة. وما اعطبها. وكأنها الى الذهب. وما اشقاه. وماذا عساك فعلت «بالوردة والذهب». أبعد من الوشائح، والتناقضات، انها حكاية الروح في وتائرها العابرة، الذابلة لكن الملكة بتيجان الفقدان. انها حكاية الروح في وتائرها اللاحقة. حيث للذهب ان يذوب ببريقه في العبق. وليكون للذهب عبق. عميق كأنه من رائحة الجنة، وكأن للوردة ان تتطاول على الوقت بما اكتنزها المعدن، حوار الوقت والموت يا انسي. حوار الارض والسماء. حوار العمر والذبول. حوار الوهم والوهم. حوار ما يرحل وما لا يرحل... حوار النهر الذي جاورناه وما جاورنا.. حوار الحب والآخرة والسماء الآتية «برسولتها» حتى الينابيع. بشعرها الذي من عمر الوف السنوات. انه الحب، او الخروج الدائم الى الينابيع ولا قهقرى، بلا مجد، بلا اشياء الرسولة.. ويا لشميم العشق الجسدي الذائب، المرئي والشفاف، العاصي والمستحيل، كلغة الانبياء، بحرياتها الموروثة ولغاتها المفتوحة. وأي شفافية يا انسي. وأي غنائية. وأي سلاسة. وأي تجلّ. وأي صوفية شهوانية تماثلت الى العناصر، بل واي لغة صَفَتْ، واي قصيدة ملمومة، محمومة بهدوئها بشغولها بفضائها اللامتناهي، لكن لا تخفي الغرابة، ولا الفجاءة، ولا تصادم الصور، ولا عناد الكلمات، ولا بطش اللحظة الخاطفة، ولا انسياق الايقاع المائي، ولا سيولة الشعر الذي سار درباً الى الينابيع...

هكذا كنت يا انسي، وعلى الرغم مما حاولوا سجنك فيه، من عناوين، وألقاب، وحالات، ظللت متمرداً على كل شيء، على المجتمع، والعادات، ولصوص المعبد، والطغاة... تماماً كالحرية. والتمرد اخو الفوضى. والفوضى شقيقة الجنون. والجنون ابن المغامرة المفتوحة.. تمردت على كل ما من شأنه ان يأسرك بحالة، او بجماعة، تمردت على نفسك. نفيت نفسك مرات، وعاكستها مرات، وكم كانت اللغة في هذا التمرد، ابنة المجهول، مولدة اقدارها الجديدة. كنت وحدك يا انسي. ورحلت وحدك. هكذا. وقطعت جلجلة الألم وحدك. وصارعت الوحش وحدك.. تماماً كما كنت دائماً وحدك في شعرك الآخر، في شعرك الفريد، المتلاطم بمجازفاته الدائمة.

وماذا اقول اخيراً يا انسي؟ «كل الذين احببتهم سقطوا من القطار؟»... إمّا رافقوك أم ذهبوا بعد ان ذهب القطار... ولن يعود.

********

عندما يتنبأ الشاعر بموته بالسرطان

فصل من الرسالة الجامعية عن قصيدة النثر في «لن» لأنسي الحاج عام 1973

بول شاوول
(لبنان)

 أنسي الحاجننشر هنا جزءاً من فصل مأخوذ من الرسالة الجامعية التي قدمتها في كلية التربية في الجامعة اللبنانية وتمت مناقشتها عام 1973، وأشرف عليها الدكتور ميشال عاصي، بعنوان «قصيدة النثر العربية في ديوان «لن» لأنسي الحاج»، وكانت أول رسالة جامعية تقدم عن قصيدة النثر سواء في الجامعة اللبنانية أو في مختلف الجامعات العربية.

البحث هنا خاضع للمتطلبات الأكاديمية، لكن ما تعلمته من هذه الرسالة، أنه لا يمكن الكلام عن قصيدة النثر العربية (أو غير العربية) من دون الانطلاق من النص. ولهذا فكل تنظير لقصيدة النثر خارج تحليل النص يقع في اللاجدوى، بل وفي تناقض أساسي مع كل قصيدة... خصوصاً مع قصيدة النثر، بل ومع كل شعر وفن.

اخترنا هنا جزءاً من فصل بعنوان «حركة المضمون في «لن».

وفي هذا الجزء مقاربة عن رعب أنسي الحاج من الجسد، ومن السرطان الذي صرعه عام 2014.

في ديوان «لن»، حركة القرف الذي يجتاح إنساناً، وقع في متناقضات الوجود، وشعر بوطأته ووطأة الأشياء حوله، بما يشبه الوعي الواقع بين الظلمة والنور، بين الكابوس والحلم، بلامعقولية هذا العالم وعبثيته. من هنا إن الشعور بالوجود يأخذ عبر قصائده، شكل القلق: الإنسان العاجز محاصر بالقلق. محاصر بالزمن. محاصر بالصدفة مثله مثل أي شيء في هذا العالم.

هذا السعي المجنون يلازمه الخوف لدرجة الرعب والقلق «الخوف ظاهرة بارزة في لن»(1) يبدأ بها وترافقه كالهاجس في جريه.

أخاف الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظاراتاي. ابتسم، إركع، لكن مواعيد السر تلتقي والخطوات تشع، ويدخل معطف(2) كلها في العنق. في العنق آذان وسرقة.

يواجه أنسي الحاج العالم بالخوف: فيتجسّد وتتجمّد معه الأشياء «الصخر لا يضغط صندوقي»، «إركع»، ومن خلال هذه المظاهر الخارجية يتسرّب الخوف إلى أعماقه حيث «مواعيد السر تلتقي».

هذا التسرّب من العالم الخارجي إلى المغلق يمثّل ذروة الخوف الذي يسحب الشاعر إلى ذاته: الإنسان الذي يشعر بأنه من دون حماية: عار. ومن دون تعزية ولربما كان من دوافع هذا الخوف موت أمه وهو بعد في السابعة «يخسر الإنسان قطعة منه عندما يفقد إنساناً قريباً. وهذا أثّر عليّ كطفل: فقدت في هذا الإنسان أي أمه الحنان والحماية(3) «هذا الشعور جرّه إلى نوع من الانطوائية. إلى نوع من الحنو الذاتي على نفسه: «هناك حنو من ذاته على نفسها، حنان ذاتي(4)...».

هذه الانطوائية يلازمها الخوف: «الخوف رقم لا نهائي»(5) «الخوف يلازم من أوّل حرف إلى آخر حرف»(6).
«لكن الخوف! ما الخوف؟ لا تبدأ، سأضؤل، واصمت جناحك. عينك الأفقية! مولاي: لا! خذ قبلي حصادي!»(7).
مولاي: هذه الانطوائية تحوّل هذا الكائن الخائف إلى الصمت. إلى التضاؤل أمام العين الأفقية. إلى الانسحاق. فهو يختبئ. يفتش في ذاته عن مكان يختبئ فيه. عن مكان يلتهم فيه نفسه: فالخوف صنو الاختباء.
«كل ما أذكر أنني في الخندق ألتهم جسدي فيموت فاحشو جثتي ندماً فيحيا. ولم يكن الباب مسدوداً. كنت أختبئ وأتصوّر، وهكذا أطمئن»(8).
هذا التوحد في الذات يحوله إلى مازوشي. إلى آكل نفسه ويخلق فيه «ندماً» وشعوراً بالذنب كي يطمئن، كي يعوّض عن فقدان الحماية. لكن هذه الانطوائية الساحقة ترسم جداراً عالياً أمام تحركه. هذا الخوف يجمده. يسمره.
«أنطر وصرير عظامي
ما من مقعد أشد تحطماً»(9)

أو مقيد في صرّة لا أزيح الباب عن قلبي»(10).
ويرميه الخوف في رهبة التردد: التردد نحو الآخر. نحو الآخرين. نحو الأشياء. وهذا ما هو رهيب في هذا الخوف. إنه يخاف من «الخطوات التي تشع» وترسم له سبيلاً:
«كنت تصرخين بين الصنوبرات، يحمل السكون رياح صوتك إلى أحشائي
كنت مستتراً خلف الصنوبرات أتلقى صراخك وأتضرّع كي لا تريني.
كنت تصرخين خلف الصنوبرات: تعال يا حبيبي!
كنت أختبئ خلف الصنوبرات لئلا تريني، فأجيء إليك، فتهربي»(11).
الخوف هنا يتجه حتى نحو الجنس والمرأة:

إنه تلقى النداء ويختبئ ويبرز هذا التردّد في قصيدة «فقاعة الأصل»:
«وفجأة رأيت شارلوت على الإصبع فرسمت إشارة
الصليب فازدادت شارلوت وهنا خفت ثم خفت ثم خفت
حتى أصبحت غابة من الخوف وبعدما أصبحت غابة من
الخوف عدت فأصبحت غاية في الخوف وبعدما أصبحت
غاية في الخوف عدت فأصبحت آية في الخوف»(12).
هذا الخوف حتى مع المرأة، وحتى في ظل الجنس، يدمّر حتى إمكان الحوار. محاولة الحوار إبهام. بل يصبح الحوار مخاطبة بلا حوار، لا تفضي إلى شيء كما نجد في قصيدة «حوار»(13). ويتحوّل إلى نوع من الهاجس.
إن ملاحظة تكرار الخوف تدلّ على تملّكه من الشاعر: بل ويرتفع إلى الرعب، إلى درجة أعلى من التملّك والهاجس وأشمل ليتناول العالم والأشياء في شبه مواجهة مريضة سقط فيها التكافؤ.

وترتفع النبرة في صراخه، فيجتاحه رعب مميت يسيطر عليه يتملّك وقسوة ورهبة: تقول خالدة سعيد في دراستها عن «لن»: «عام 1945 في السابعة من عمره ماتت أمه. عام 1945 وهو في السابعة من عمره انتهت الحرب وانتصر فريق من المتحاربين بعدما امتلأ العالم موتاً، وتفجرت القنبلة الذرية الأولى في هيروشيما. من نجا من الموت عاش في جسد يتحلّل وينهار، وتلا ذلك العديد من الانفجارات النووية. لا بد أنه سمع بكل هذا لطبيعة عمل أبيه لويس الحاج في الصحافة. الكبار تناقشوا في المسبّبات والنتائج. فلسفوا الأحداث، أسفوا أو أعجبوا. كان طفلاً عاري الروح، بلا شغاف من الحنان، فأصيب. لم يدرك الأمر ولم يناقشه، ولعلّه نسي الحادثة، لكنه أصيب وإن لا شعورياً بإشعاعات من الرعب. اخترق الرعب روحه الغضة العارية، واستوطنها، وعمل فيها نخراً من الداخل. صار السوسة العريانة التي تقطع الصوت»(14).

هذا الرعب سيطر عليه، واتجه إلى كل كيانه، فأوجد بينه العالم فجوة لم يتمكن من عبورها. فسقط في ذاته ووحدته: في عالم الرعب. «تراجع أنسي الحاج من العالم الخارجي المضيء اللامع الثابت المستتر، إلى عتمات الجسد حيث التشوش الفظيع، فجأة، لكل نظام، حيث النظام المؤسس للانهيار»(15).

«كل ما أذكر أنني في الخندق ألتهم جسدي فيموت فأحشو جثتي ندماً فيحيا»(16).
في هذا التوغل المفترس وراء أبواب العالم الداخلي المظلم بدأ شعوره المضخم بجسده(17) «ضمن حدود الجلد أدرك وحدته»(18).
«فقد تملكني الرعب، لا أذكر» أو: «الجلد يرتفع كغطاء التابوت»(19): رعب وقلق فيزيقي من الشبح الأجرد. الدم الفاسد الذي يحمله كل منا راية للقبر المنتظر.

هذا التلمس للرعب من الجسد وعتمات الداخل نشعر به دائماً ونحن نطالع الديوان الذي هو «تعبير عن التفكك الجسدي والروحي»(20) «تعبير عن حالة السرطان»(21). و»نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل»(22) و»السرطان المادي والسرطان الروحي. تعبير عن فساد الأهل، فساد الحياة وفساد نسغ الحياة: «الدم»(23): «ليل نهار تقرع أجراس النجدة في الأحشاء، والسوسة عريانة تقطع الصوت. بجلودنا مرصعة، مرتدية، تاريخنا معروكة بدم هاطل بالسم فائض لا امل. آدم! لا أمل. سوسة أو عقرب، نخر وامتصاص، أشباحاً نهوى تحت حوافرها»(24) و»وصلت أمواج الدم الأسود إلى الحواجب، أنت تفرزين ونحن نسبح، نغرق ويحتل الأطفال دوائرنا(25).

وفي القصيدة الأخيرة يعود ليختم آخر كلماته في الديوان:
«يا قشة البحر الوحيدة
كسرتك، لم أكسرك
سرطاناً أحوّل أشنة القاع...»(26)

[الآلة العمياء

 أنسي الحاجفهذا السرطان المهيمن هو في إحدى صوره البارزة ألم نفسي، ذكرى رهيبة ارتبطت بمخيلته: إنه رمز الآلة العمياء التي تجتاح من نحب: ألم تمت والدته بالسرطان؟ ومن ناحية أخرى فإنها «ذكرى الأيام الآتية» إذا صح التعبير: «ستطبق عليك العلامات. سوف تنسل نسلة نسلة حتى يبرز لحمك العاري ثم ينهار لحمك العاري «ويسفر عن عظامك ثم تلقى عظامك في الليل»(27) هذا التتبع لصورة السرطان دليل على ما يعاني الشاعر من «الموت في النفس»، فمخيلته هنا تحوّلت إلى ذاكرة متربّصة بالتفاصيل تنقل صورة الموت في أنجع تفاصيلها، لأن السرطان موت محتّم. إنه قدر بل يشعر وكأنه قدره لأنه سيرته: إنه ورائي؛ إنه «الثأر العائد»(28) «إنه الرمز الأكثر ملاءمة للتعبير عن القدر الأعمى اللامنطقي»(31)، والذي يجتاح الكائنات من دون رحمة: «بيني وبينك طفلتي المسلية وامرأتي، فليشف منجلك حصاداي! لكنك صلب كالربا، فاحش أخرس»(32).

هذه القساوة اللاإنسانية، وهذا الرعب القاتل يصوّر من خلال السرطان عجز الإنسان: فإذا يمكن أن يفعل الشاعر أمام قدره؟ أمام الموت؟ السرطان رمز العجز الأبدي. رمز انهيار الإنسان أمام قوى تفترسه من داخله. أمام دمه الفاسد؟ هل تراه يتوجه نحو العلم؟ يخرج إلى العقل ليقضي على القدر الغاشم؟ الإنسان «اكتشف مجاهل الصحاري والادغال، بلغ الأصقاع المتجمدة (لكنه لم يكتشف علاج للسرطان) هكذا تردد بعد كل نصر علمي «أنزل في القمر صاروخاً (لكنه لم يكتشف علاج للسرطان). أرسل إنساناً يطوف بين الكواكب (لكنه لم يكتشف علاج للسرطان). فتح فتح العلم القلب، أوقفه وأعاده إلى الحياة (لكنه لم يكتشف علاجاً للسرطان). فتّت العلم الذرّة استخدم أشعة الشمس حقّق المعجزات، لكن عبقريته وانتصاره وقفاً دائماً على حدود السرطان، هذا التحدي الكبير، هذا المجهول، هذا القدر المحتم، هذا الموت الرهيب العنيد. سرطان؟ إذن لا مفرّ»(33).

أمام عجز العلم يطلق الشاعر صيحة يائسة: صيحة سخرية وليس صيحة أمل كما تقول خالدة سعيد:
«تعال أصيح. تعال أصيح. إنني أهتف: النصر للعلم!
«سوف يتكسر العقرب، وأتذكر هذا كي أنجب بلا يأس»(34).
فالهتاف هنا سخرية مرّة وتكسر العقرب نفي لتكسره. يأس مطبق أخذ شكل السخرية. فالشاعر يعرف سلفاً أن لا علاج، وهو في دعوته للهتاف يبطّن ضكة سوداء تنزف ألماً وقنوطاً ولجوءه للسخرية قد يكون تخفيفاً للفجيعة وقناعاً لها. فهو يقول في «رحلة تفقد»:
«يا ملكتي كم عيونهم نقبت وانهاروا أمامها وعضّوا! تناسلوا
متواعدين على الغلبة وسقطوا بلا عيون لا نسل ولا فجر»(35).

لكن إذا كان السرطان رمز الموت المحتّم الذي لا يدفع، ورمز الانهيار والخضوع فهو ليس عاماً، ليس قدر الجميع.
الموت عام وقدر الجميع، وكونه عاماً وجماعياً أحياناً يسدل عليه بعض العزاء»(36) لكن السرطان قدر الملعونين.
«الملعونين في جسده وروحه»(37) المصاب بالسرطان يبقى وحيداً لأن السرطان فردي، هو يخاطب خليّة السرطان الأصلية:
«داخلة أنت فينا لا كوباء أيتها العروة الأصلية». لا كوباء.
فالأوبئة حالة جماعية وهي تنتقل. السرطان يبقى منعزلاً.
وهو أصلح للتعبير عن وحدة الإنسان، عن وحدة الشاعر ذاته»(38).

وهنا لا بد من ملاحظة مهمة وهي أن استعمال الشاعر صيغة الجمع بدلاً من المفرد «داخلة فينا...» تعميم للمأساة. وبهذا بعض العزاء والواقع أن حتى مثل هذا التعميم لا يهدئ الشاعر ولا يقتلعه من وحدته المرعبة: «سوف يأتي زمن الأصدقاء لكن الانتظار انتحر»(39)، وقد يكون بهذا التعميم اللامجدي يحاول جاهداً أن يكون كالآخرين: أن يمحو اللعنة أو على الأقل أن يخفيها عن ذاته، إنما من دون جدوى وهذه الوحدة نفسها، التي حاول أحياناً الخروج منها وفشل، تجعله من خلال إحساسه بالموت وبالسرطان القدر وبالدم الأسود أن يتقرى الآخر بعين سادية، بعين سوداء مدمرة ماحية لاغية الآخر؟ ويبتعد عنه كي ينعيه: ينفي الآخر لأنه يحس بأنه سعيد، بأنه يختلف عنه، فهو يختفي ويحدق من بعيد:

«تسلقت شجرة، نظرت إلى القرية التي رأتنا...»(40)
«قرية حملتي الأزلية نظرت إليها فرأيت الأهالي سعداء.
قرّرت عقرها بمخيلتي»(41).
وفي قصيدة «حالة حصار» تبتدئ النزعة الهجومية، السادية:
«رأيت مخرزاً يحفر بطن حامل وخنزيراً تراوده فراشة»(42)
«رأيت طفلاً يخصى»(43)
أو: «أفكر في المراشي يا حبيبتي أفكر في القتل»(44).
هذا الشعور باللعنة، بالوحدة، مغلّف بالشعور بالموت؟ وهذا الشعور بالموت أصبح أكثر من مجرد شعور بل صار هاجساً:
«في كل مرحلة من مراحلي هاجس: في «لن» هاجس بالموت. وهذا الهاجس ليس شبحاً أو فكرة مجردة. إن العذاب والألم»(45): إنها التجربة اليومية: وإذا ما قلنا أن هذا الهاجس بالموت أوقع الشاعر في فخ الوحدة وبالتالي في الإحساس بالسادية، فيمكن القول أن هذا الشعور نفسه أيقظ حس العدالة فيه وكان عاملاً إيجابياً أحياناً في محاولة كسر طوق الوحدة والتوجه نحو الآخر:
«صرعتها تلك المحبات يجب ألا تكون العاقبة دما،
إبحثوا عن طريقة، إن هذا الفخ أقوى من قلوبنا.
طريقة ناشفة اخترعوا لنا عفافاً بلا دم»(46).
ومن ناحية أخرى حاول يائساً أن يستنجد بهذا الآخر المعافى، باكياً، واقعاً:
«يجب أن أبكي. كيف نسيت أن الدموع تعكر المرايا؟»(47) «إحملوني، كلا! ستفعلون... إليك أتوجه، إحمليني إلى الفسحة التي تطوي نفسها وتنشرها، هودجية وسريعة، بلا نهاية ولا انفعال... ولا انفعال...»(48).
و: «نحن الإثنين تحملينني بحنو وفرح»(49)
و: «لقد علمت أنك طليعة الكل الذي سوف يخرجني»(50)
ولكن: «ليس هنا واحد»(51). محكوم عليه بالموت والآخر بعيد.
في هذا العالم كل يتحوّل إلى وحدته. يموت في وحدته. يتلقى كل شيء وحده أي كل يتحوّل إلى قدره:
«إنهم يحيونني تحت وطأة الغدر، لكنهم لا يعلمون.
إنهم يبتسمون ويعزفون حواجبهم على تعاستي»(52).

وتأخذ العودة إلى الذات المنشطرة أمام هذا العالم المكسور شكل الهاجس: يسيطر الكابوس على الشاعر. كابوس الرعب يتمدد عليه ويهز أعماقه. هاجس الموت، من خلال الكوابيس التي تصيب الشاعر تلازم «لن» في صور شتى ومفردات شتى؟

[ الكابوس

ومن خلال هذا الكابوس، الموت وكل ما حاول انه يرمز اليه الشاعر يجرنا إلى التحديث المباشر. في تعبيره، من خلال الكابوس والحلم يختلف عن كل أدب مرفه ومريع، سواء عند الرومانطيقيين الذين يرضون حاجتنا للهروب أو عند الواقعيين الذين لا يقدمون من العالم الا الصورة التي اعتدناها؛

في هذا المعنى، يمكن ان نقول انه اقرب إلى السرياليين وهو في سرياليته هذه اكثر واقعية من الواقعيين المباشر الناقل الذي بخدم المادة وبالتالي يطمس الانسان امامها ويطمس وجه الواقع الحقيقي. فقيمة الكابوس: ـ وهنا الموت ـ في ان يكشف عن الحقائق المستقرة المتخفية ويخلع عنها ستور المناهج أو الجماليات التي نضعها ـ عن وعي أو غير وعي ـ بيننا وبين الحقيقة. ومن جهة أخرى هناك حقائق سفلية راعبة لا يمكن التعبير عنها بغير هذه الوسيلة؛ فأنسي الحاج، من خلال كابوسه، يتداخل بعمق في جوهر الحقيقة. يتواجد معها ويعايشها ليفجرها، ولولا هذه القيمة لكان كل ما يكتبه هذاراً لفظياً.

من هنا أن اهميته ليست في ما يخلف من تأثير أدبي أو جمالي، ولكن في كونه يقودنا إلى اختراق عتبة السر. إلى ولوج منطقة الظلام الدامسة؛ ولعل القول ذاته ينطبق على كل الشعراء والأدباء المنتمين إلى هذه العائلة؟ ويطرح السؤال ذاته: أي قيمة كانت لكوابيس كافكا، أو لاقاصيص ادغار الن بو واشعار لوتريامون أو حتى لاشراقيات رمبو وبعدهم أكثر ما كتب بريتون وارتو وميشو، وكل من جعل من اللغة وسيلة لاقتحام تلك المناطق المعتمة من النفس، لو لم تكن تلك الرؤى السوداء او تلك الكوابيس دلالات كشافة على حقائق النفس العميقة!

وإذا ينبغي ان ننطلق في مرافقة كابوس الموت الذي يظهر في صور شتى لا تقف عند واحدة، وهنا تكمن قيمة انسي الحاج في هذا المجال بالنسبة إلى الشعر العربي؛ الشعر العربي طوال العصور كان عدا بعض الالتفاتات وصفيا مباشراً ـ أما أنسي الحاج فأعطاه ابعاداً نفسية معقدة اي انه تعدى الكلمة إلى ما وراء الكلمة، إلى ميتافيزيقيتها، وتعدى الصورة ايضا إلى ميتافيزيقيتها، وهكذا بالنسبة إلى القصيدة، ككل، وإلى الديوان ككل ايضاً.

كيف يتمثل هاجس الموت هذا؟
يتمثل من خلال كثرة ترداد كلمة الموت في الديوان وهذا الترداد دليل على الهاجس الملحاح المصر الذي يطرق أبواب الشاعر؛
فمنذ أول قصيدة،
«هنا الموت» (53) و «أحكم بثقة وموت مشرع» (54) إلى «آدم يا موت» (55) «قلت الموت علم الثأر» (56) «هجر شياطينك مت « (57) «قل لي ما يزعجك أموتي أو حياتي؟» (58) «كل ما أذكر انني في الخندق التهم جسدي فيموت» (59» «عوض ان تصمت مت» (60).
وينهي ديوانه بهذه الكلمة ـ الهاجس:
«.. موتنا الموت الأجدر، الأول مات» (61) «لن!!! اخترعنا موتنا، يرجع موتك أنت. صنعنا موتنا وطريقه، ولو ناله» (62).
ويبرز من خلال الرموز والصور الكثيرة التي تعبر عنه، والتي تختلف بين الرمز المفرد والصورة الواحدة إلى الرؤى المحمومة التي تمتد لتكتنف قصيدة بكاملها.
وإذا عرفنا ان الكابوس تفجر من ذات الشاعر وملأ العالم لوجدنا ان هذا الكابوس يكاد يتخلل كل الاشياء والكائنات: هاجس الموت كاد ان يجعل كل شيء رمزاً له:
فالسرطان رمز الموت.

والسقف كابوس الموت:

«من تحت سقفك اعضد انهياري» (63) «السقف ينحل في قلبي والارض لا مكان» (64) والصخر «الصخر لا يضغط» (65) والعقرب «سوف يتكسر العقرب» (66) «والشبع الأجرد» (67) والمنجل: «فليشف منجلك حصاداي» (68) والباب: «الباب: هنا الموت» (69) وان كان تحت الغزو ينهار انهار الباب من ورائه «وحمل إلى الخارج» (70» والسوسة: «والسوية عريانة» (71) «سوسة او عقرب (72) ولعل اهم ما يواكب الشاعر في كوابيسه هو الدم» رمز الموت المحتم «دم حديث...» (73) «معروكة بدم هاطل» (74) «وصلت امواج الدم الأسود إلى الحواجب» (75) «رشدت، ولدت للدم» (76) «يجب الا تكون العقابة جما...» (77) اخترعوا لنا عفافا بلا دم (78).

فهرست

[1 ـ انسي الحاج ديوان «لن» ـ دار مجلة شعر 1960 الطبعة الأولى المقدمة ص:15
[ 2 ـ من قصيدة «هوية»، ص: 17
[ 3 ـ أنسي الحاج مقابلة مدونة معه.
[ 4 ـ انسي الحاج مقابلة اجراها مئير الكلش ولم تنشر كاملة.
[ 5 ـ من قصيدة «هوية»، ص: 19
[4 ـ انسي الحاج مقابلة....
[ 5 ـ من قصيدة «هوية» ص: 21
[ 6 ـ انسي الحاج مقابلة...
[ 7 ـ من قصيدة «هوية» ص: 21
[ 8 ـ من قصيدة «عفاف يباس» ص: 41
[ 9 ـ من قصيدة «على ظفرك إلى ضعفي» ص: 60
[ 10 ـ من قصيدة سفر التكوين والهجر: ص: 18
[ 11 ـ من قصيدة «خطة» ص: 28
[ 12 ـ من قصيدة «فقاعة الاصل» ص: 56
[ 13 ـ من قصيدة «فقاعة الاصل» ص: 32
[ 14 ـ خالدة سعيد مجلة شعر، عدد 18 ص 152 ربيع 1961
[ 15 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 152
[ 16 ـ من قصيدة «عفاف يباس» ص: 41
[ 17 ـ 18 خالدة سعيد المرجع السابق ص: 153
[ 19 ـ من قصيدة «عفاف يباس» ص: 41
[20 ـ هاني مئدس مجلة الشعر المصرية، العدد الثاني اغسطس 1964 ص: 70

[21 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 152
[22 ـ انسي الحاج مقدمة «لن» ص: 15
[23 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 23
[24 ـ 25 من قصيدة طرحلة تفقد» ص: 29 ـ 30
[ 26 ـ من قصيدة ص: 103
[ 27 ـ من قصيدة «فقاعة الاصل» ص: 55
[ 28 ـ 29 ـ 30 من قصيدة «هوية» ص: 18
[ 31 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 152
[ 32 ـ من قصيدة «هوية» ص: 18
[ 33 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 153
[34 ـ من قصيدة «هوية» ص: 18
[ 35 ـ من قصيدة طرحلة تفقد» ص: 30
[ 36 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 154
[ 37 ـ انسي الحاج «لن» المقدمة ص: 15
[ 38 ـ خالدة سعيد المرجع السابق ص: 104
[39 ـ من قصيدة «هوية» ص: 19
[ 40 ـ 41 من قصيدة (الثار) ص: 34
[ 42 ـ 43 من قصيدة «حالة حصار» ص: 35
[ 44 ـ من قصيدة «حوار» ص: 33
[ 45 ـ من مقابلة مع الشاعر
[ 46 ـ من «عفاف يباس» ص: 42
[ 47 ـ من قصيدة «هوية» ص: 20
[ 48 ـ 49 من قصيدة «نحو لا ادري» ص: 50
[ 50 من قصيدة «فقاعة الاصل» ص: 57
[ 51 ـ من قصيدة «مجيء النقاب» ص: 47
[ 52 ـ من قصيدة «صياح يقف ويركض» ص: 65
[ 53 ـ 54 من قصيدة «هوية» ص: 23
[ 55 ـ من قصيدة «رحلة تفقد» ص: 31
[ 66 ـ 57 ـ 58 من قصيدة «حالة حصار» ص: 35

[ 59 ـ من قصيدة «عفاف يباس» ص: 41
[ 60 ـ من قصيدة «للدف» ص: 46
[ 61 ـ من قصيدة ص: 99
[ 62 ـ من قصيدة ص: 104
[ 63 ـ من قصيدة «اسلوب» ص: 42
[64 ـ 65 ـ 66 ـ 67 ـ 68 ـ 69 ـ من قصيدة «هوية» ص: 23
[70 ـ من قصيدة «الغزو» ص: 25
[ 71 ـ 72 من قصيدة «رحلة تفقد» ص: 29 ـ 30
[ 73 ـ من «هوية» ص: 18
[ 74 ـ 75 ـ 76 ـ من قصيدة «رحلة تفقد» ص: 30 ـ 31
[78-77 ـ من قصيدة «عفاف يباس» ص:42.

المستقبل- 20 شباط 2014 - العدد 4954 - صفحة 20