جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٢٤ تشرين الثاني ٢٠١٢
كيفما دار العرب
هل ينفع كلامٌ من نوع: كان الله في عون الشعب الفلسطيني؟ في الحقيقة، لم يعد يصلح غيره. عدم المؤاخذة. الله، والشعب الفلسطيني نفسه _ ووحده _ ومنذ أربعينات القرن الماضي، وهو يتحمّل ناهشي لحمه من «الأشقّاء» العرب، فضلاً عن صالبيه من الصهاينة والغرب والشرق. وآخر وجبة طُبخَت من لحم الفلسطينيّين كانت في غزّة، غزّة المُفقّرة المخنوقة، لمصلحة المعسكر النتانياهي في الانتخابات المقبلة. وطبعاً سارعت «القوى» العربيّة والإسلاميّة إلى الانخراط في الصَّلْب، تحت ستار الجهاد الصراخي وسحب السفير والشكوى لمجلس الأمن والهرولة إلى غزّة، إلى آخره، ممّا لا آخر له من تمثيليّات لم تتجرّأ أيّ منها على نقض اتفاق كمب ديفيد أو التهديد _ على الأقلّ التهديد _ بإعلان الحرب العربيّة الشاملة على إسرائيل.
الحصيلة: زهاء العشرين قتيلاً في إسرائيل وأكثر من 160 قتيلاً في غزّة، وفوق الألف جريح وتدمير ما تبقّى من بُنى تحتيّة والفتك بالحياة النفسيّة والعصبيّة (العرب لم يأخذوا علماً بعد بوجود مثل هذا «الشيء») لعشرات ألوف الأشخاص في القطاع المستمرّ تمزيقه. نظرةٌ واحدة إلى عيون المسؤولين الإسرائيليّين تنبئنا بأننا في رأيهم حشرات، ولا نلومَنَّ إلّا أنفسنا ما دمنا في نظر حكّامنا وزعمائنا وأثريائنا أيضاً حشرات، وفي حالات الأكثريّة الساحقة نحن أيضاً في نظر أنفسنا حشرات. ألا يُحسَب قتلانا يوميّاً في سوريا وحدها بالمئات وكأنّهم حالةُ الطقس؟
***
كيفما دار العرب يستوعبهم أعداؤهم. ويديرونهم دون أن يشعروا. لا سوء فهم ولا سوء تفاهم، بل محض مدير ومُدار. وفوق هذا انغشاشٌ عربيّ بالذات، بدهاء الداهية الذي يلعب على حبال التوازن الدولي ويظنّ نفسه أذكى من المتلاعبين به. أذكى من شاربي مائه وسارقي نفطه والمقاتلين بِبَشَره والمقايضين ثرواته بأسلحتهم البالية.
«سوق»ُ تفاهمٍ بين ضحيّة مزمنة مدمنة وجلّادٍ لا غنى عنه…
وتنتهي الحروب ويموت مَن مات ويعيش مَن سيموت في جولةٍ أخرى.
***
الأحياء هنا أحياءٌ بالصدفة. القتل واجبٌ قوميّ وخدمةٌ عالميّة، إنْ لم يكن بالرصاص فبحوادث السير. أربع نساء نجونَ من المذابح السوريّة، وبعد أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة على وصولهنّ إلى لبنان، داستهنّ على أوتوستراد الناعمة ثلاث دفعاتٍ من السيّارات المستعجلة. إلى أين تركضون أيّها السادة؟ استعجالٌ للتّمتّع بماذا؟ بالمقاهي التي يخنقها الإفلاس بعد دخان الأراكيل؟ أم ببيوتكم الأكثر إملالاً من المقابر؟
***
الحروب والفواجع العامّة تُخجّلك بهمّك الشخصيّ، فتَفْطس أكثر ممّا أنت فطسان. ولا تكاد تلتقط أنفاسك بعد «الهدنة» حتّى تنفجر مصيبة قوميّة فادحة.
… ذات رسالةٍ خالدة.
***
أفهمُ نضالَ الشعب الفلسطيني، وأكاد لا أفهم سواه. ولكن، كيف يذهب شباب إسرائيل للقتال من أجل انتخابات حاكم مثل نتنياهو، ومشروعٍ مصطنعٍ كالمشروع الإسرائيلي؟
هل صحيحٌ أنّ عمر البشريّة ملايين السنين؟
وضروريّ كلّما أقبل جيلٌ «جديد» أن يعيدنا معه ملايين السنين إلى الوراء ليتعلّم، ثم يعقبه جيلٌ لم يتعلّم ويريد أن يتعلّم على حساب الذين شبعوا تعلُّماً؟
ما هذه البشريّة الغشيمة التي لا تضجر من تكرار تكراراتها؟
***
كان التلفزيون أمس يعيد عرض فيلم أميركي بعنوان «أهل المرّيخ يهاجمون الأرض».
لو فعلوا، سيبرهنون أنّ هناك في المجرّة الشمسيّة مَن هم أغبى من أهل الأرض.
* كونوا غرباءنا
غَرِّبوا ولا تُشرّقوا.
لا تحكوا لغتنا، لا تلبسوا مثلنا، لا تأكلوا ما نأكل.
هذا النداء، الموجَّه إلى السينمائيّين والتلفزيونيّين والمسرحيّين، إلى النجوم، إلى «الآخر»، ليس دعابة. إنّه استرحام.
نهرب إلى السينما، إلى الآخر، لنغترب. لنكتشف المختلف. وها نحن لم نعد نقدر أن نتجنّب في الأفلام منذ سنين عرب المغارب في السينما الفرنسيّة وعرب لبنان وسوريا ومصر والخليج في أفلام هوليوود… وأمّا الشخص الآخر، المرأة المختلفة، فمسألةُ وقت للصحوة من الحلم!
ماذا فعلنا لنستحقّ هذه القسوة؟
رحمة السينما هي في نقلنا من واقعنا. السينما سحر. شذوذٌ واحدٌ عن القاعدة اسمه عمر الشريف، لأنّه مُغرّب إذا شرّق ومُشرّقٌ إذا غرّب. الآخرون أبناء حارتنا ولو غرّدوا بالياباني. والقريب إلى هذا الحدّ غير مُقْنع، حيطُه واطٍ مهما كان دوره عالياً.
الإنسان باحثٌ عن مجهول. المعلومُ طالقٌ بالثلاثة. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يكره جنسه، فكيف لا يكره المرايا التي تعيد له صور أنسبائه وأبناء بلدته وبنات عمّه؟ قد يهوى صورته في المرآة، لكنّه يمقت المرايا التي تعكس صور الذين يشبهونه.
جميع الفنون شرطها واحد: التغريب. والأفضليّة هي للتغريب الساحر لا الساخر، لميكل آنج ورافائيل لا لبيكاسو. شكسبير لا برنارد شو. هوغو وبودلير ورمبو، لا فولتير ولا موليير. الكمنجة لا الدربكّة. الناي لا الصفير. البهاء لا كزكزة العجز.
***
جزء من النفس يرتاح إلى العادات، وجزء يصبو إلى الجديد. الشمال لا يشتاق إلى الشمال، بل إلى الجنوب. توعكت السينما الغربيّة حين جاءت بمستَعْمَري الغرب السابقين وركّبتهم على شاشاتها.
لا تعجبني بنت بلدي سلمى حايك ولا زميلها في هوليوود ابن شلهوب. هذان طبيعي أن يستهويا الغريب، ونحن طبيعي أن يستهوينا الغريب. لا يشدّني أحدٌ من نجوم السينما الفرنسيّة الجزائريّين أو السنغاليّين. لا تعجبني السينما الصينيّة حيث لا تعرف أحداً من أحد، ولا أويّد الديموقراطيّة في الفنّ. السينما تهريب. تجلس أمام الشاشة لتدخل إلى السماء، لا لتحكي مع الجيران.
***
أطفال إلى المعتقلات
ذات صباح، رحتُ أتمشّى على الأرصفة المحيطة بمدرسة راهبات اللعازارية المحاذية لبيتي في الأشرفية.
كان الحيُّ هادئاً، تجتازه من وقتٍ إلى وقت لبنانيّات أو إثيوبيّات مصطحبات كلابهنّ. بعض هذه الكلاب صغيرة كدجاجة وأقل سُمنة. بعضها أشبه بزجاجة عطر لا بحيوان.
فجأةً، بدأت السيّارات تأتي بالأطفال إلى المدرسة. وكخزّان أولاد تَدَفّق، أطفالٌ محمولون حملاً كالنعاج إلى المعتقل.
صبيٌ لا يعدو الأربعة أعوام، يصطحبه أبوه، بدا لي كومةَ ريشٍ وبونبون. ماذا جنى هذا الملاك القاصر ليُساق كالمحكوم في السابعة صباحاً إلى صفّ سيلهو فيه مع ولدٍ آخر، أو يغفو معوّضاً عمّا حُرِم إيّاه كلّ يوم في سبيل «العلم»؟ وهذه الصغيرة التي لا تقوى سلطة والديها على إيقاف نوبات تثاؤبها حتى ليكاد ينخلع فكّها؟ ماذا سيدخل رأسها وهي تغالب النوم؟
منظرٌ يسلخُ القلب. أولادنا أشبه بمعتقلي الغولاغ الستاليني. ينتزعونهم من النوم في الفجر، ويحمّمونهم وهم يرتجفون برداً، ويروّقونهم وهم بعد نيام، ويُلبسونهم كما يُلبس الحرّاسُ المحكومَ ثياب المشنقة.
أدعو، باسم قيم الشفقة والرحمة والعدل والمنطق والإنسانيّة، إلى إلغاء هذا النظام المدرسي التعليمي المتوحّش وإبداله بألطف من نظام العمل، بنظامٍ أبسط هو فتح المدارس في العاشرة صباحاً، لا في الثامنة، وبدء التعليم من السنّ السادسة أو السابعة لتمكين الأولاد في سني عمرهم الخمس أو الستّ الأولى من أن يكونوا أولاداً، يكتشفوا بدايات أنفسهم قبل أن يبدأ تعليبهم وعسكرتهم، ويعرفون فضاءَ اللّا حشو، اللّا حفظ، اللّا أوامر. فضاءٌ هو ملْك الطفولة. ومن الإجرام حرمانها إيّاه باسم واجب المدرسة.
هؤلاء الأطفال المساقون إلى معسكرات الغولاغ سيخسرون فسحةً مقدّسةً من نموّهم، كما سيخسرون أغلى ما يخسره الولد: وهو الالتصاق بحنان والديه وعدم الشبع من سماعهما واكتشافهما والغَرْف من دفئهما. إنّهما مدرسته الحقيقيّة، الأولى والأخيرة، والمدرسة الأخرى هي منفاه.
عندما يكبر ويقسو قلبه، ليبقَ في المدرسةِ والمعهد والجامعة ما طاب له البقاء. ولكنْ ليشبع منه أمّه وأبوه قبل أن يغادر براءته، وليشبع هو من أبويه قبل أن يصبحا عبئاً عليه.
وتظلّ المدرسة المُثلى تلك التي ينهل فيها الولد الحبّ والمعرفة ممّن يحبّه ويعرفه. ومَن سيحبّه وسيعرفه أكثر من أبيه وأمّه؟
لو كانت لي الإمكانات في صباي لأتيتُ لابنتي وابني بمعلمين إلى البيت يعلّمونهما بعض الأسس والمبادئ الجوهريّة وبعض المواد الأدبيّة والحساب ولغتين أو ثلاثاً، في الأوقات التي «تريح» الطرفين، وبمنهجٍ يترك للولدين الباب مفتوحاً أمام اختيار ما يريدان متابعته والتخصّص فيه وما لا يريدان.
إلى أن يأتي وقتٌ يصبح فيه لكلّ كائنٍ هدفه المعرفي، كما أنّ لكلّ كائنٍ جيناته.
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ١٠ تشرين الثاني ٢٠١٢
أنسي الحاج -بيروت
مَن يخبرنا ماذا يجري؟ هل يقاطعنا سيّاح الخليج لإسقاط حكومة «حزب الله» والإتيان بحكومة حريريّة؟ وهل ناشد الحريريّون حكّام الخليج تفليس لبنان؟ وكيف يدخل مئة دواء إلى لبنان بدون رقابة وبتزوير الوثائق؟ ولماذا يندّد الجنرال عون بمقاطعي الجلسات النيابيّة ويعتبر الأمر تعطيلاً لمصالح الشعب ولم يندّد بإغلاق الرئيس بري للمجلس النيابي طوال سنتين؟
الناس خائفة من الأسوأ. الانتقال ممّا تحت الفقر إلى المجاعة. صار الشباب لا يطمح إلى وظائف مهمّة في الخارج بل إلى مجرّد خدمٍ في المطاعم. لماذا يكون في طرابلس بضعة مليارديريّة على رأسهم رئيس الحكومة ولا يسترزق الطرابلسي إلّا ببضع مئات من الدولارات تُدْفع له كي يقوّص على طرابلسي آخر؟ ولماذا يزدهر في بيروت وغيرها من المناطق مليونيريّة ومليارديريّة حراميّة والمعوزون والفقراء واقفون على الأرصفة يتفرّجون على سعادتهم؟ هل نحن شعبٌ من المخصيّين؟ شحّاذون من أجل كراسي فاشلين؟ ولماذا يزعق السيّد فادي عبّود على التلفون من لندن ضدّ الهيئات الاقتصاديّة التي لم يقل ممثّلوها إلّا جزءاً من الواقع؟ لو كان السيّد عبّود وزير السياحة غير الموجودة، نائباً في المعارضة، هل كان سيغضب لو وضعته الهيئات الاقتصاديّة أمام صورة الواقع أم كان سيغتنم الفرصة للانقضاض على الحكومة؟ ومَن يُسأل إنْ لم تُسأل الحكومة؟
لقد عرّانا الخليجيّون. مُنعوا من المجيء فبان الهيكل العظمي اللبناني في تابوته. مجتمعٌ قائم على «الضيوف». على «كَرَم الزوّار». ما شاء الله. العبقريّة اللبنانيّة كلّها رهن الأراكيل والمطاعم والمعاملتين.
شعبٌ لا يثور على حكّامه في ظروفٍ كهذه مقطوعٌ الأمل من ثورته على الإطلاق. إلّا للتقاتل الطائفي والمذهبي. «الثوريّون» الوحيدون هم المهرّبون.
الادّعاء أنّ الأزمة المحليّة نتيجة للأزمة العالمية سقطت حجّته. موسم الاصطياف (ولا نتكلّم عن موسم السياحة لأنّه شبه زائل) وحده يعوّم قطاع الفنادق والمطاعم والملاهي وفروعاً عديدة من الخدمات لسنة كاملة. سلْ أيّ سائق تاكسي ينبئك بالخبر. إسقاط موسم الاصطياف مسؤولة عنه الحكومة والمعارضة، لا حرب سوريا ولا الأزمة العالميّة. مسؤولة عنه الطبقة الحاكمة بفرعيها الجالس والواقف. هؤلاء الذين يدخلون إلى السياسة والسلطة فقراء ويخرجون مليونيريّة. بمعاشاتهم؟
أفلس اللبنانيّون الأوادم بينما يتمخطر النوّاب والوزراء والمعارضون والأزلام بمختلف أصناف السيّارات المفيّمة والمصفّحة بمواكب مرافقيها القبضايات. شعبٌ مسكين. بريءٌ يظنّ نفسه مقصّراً. يشتغل الأب والأم والابن والبنت ليدفعوا إيجار البيت ويؤمّنوا الوجبات الضروريّة. أمّا الطبابة والاستشفاء فعلى الله. والمحظوظ مَن له أبناء أو أنسباء في المهاجر يبعثون إليه بما يقيه التسوّل.
صار لدينا شعبٌ كامل من محرومي العمل والمصروفين من الخدمة. والآتي أعظم. بلدٌ قاتم لشعبٍ ضاحك. شعبٌ ضاحك رغم حكّامه. رغم وقاحة مسؤوليه.
لا لزوم لأن يخبرنا أحد ماذا يجري. المرجو فقط، ما دام العلاج غائباً، أن يسكت السياسيّون ويخجل المسؤولون وأن يلوذوا بالصمت ويستتروا في داراتهم وقصورهم.
… وأن يبتزّ السياسيّون بعضهم بعضاً بعيداً عن أسماعنا وخصوصاً عن أنظارنا. أمّا ابتزازهم للشعب وسرقتهم إيّاه فليستمرّا ما دام الشعب قادراً على هذا الموت.
***
«لا مذنب هناك أبداً. أقول: أبداً. ولأشهدَنَّ على ذلك»، يصرخ شكسبير على لسان الملك لير.
فيجيبه دوستيوفسكي: «لكنْ ألا تلاحظون، أيّها السادة، أنّي أتوب وأطلب منكم المغفرة عمّا لا أعرف أيّة جريمة؟».
بلى هناك مذنبون ومذنبون جدّاً. الملك يبرّئ الجميع حتّى لا تطاوله التهمة. أو لأنّه متخمٌ بالسلطة ممّا يعطيه أريحيةً فائقة ويصيبه بنوبات تسامح.
بلى يا صاحب الجلالة. التفتْ إلى هذه القرنة الصغرى لبنان علّك ترى الكَذَبة والمرائين والفاجرين وبيّاعي الأدوية المزوّرة وقوّادي النهب والسلب والنبّاحين في وجوه الضعفاء إرهاباً لهم حتّى لا يئنّوا أو يصرخوا.
بلى هناك مذنبون. وليس لجرائم لا يعرفونها بل يعرفونها. وأولاها وجودهم.
***
المجتمع المتخبّط في البؤس والغارق في رمال الفساد المتحرّكة، من زعمائه إلى شحّاذيه، مجتمعٌ ممزّق كهذا، إذا سمع عن ناسكٍ في بعيده قد يحسده حسداً على انعزاله السعيد لكنّه بالتأكيد سيشعر أن نسكه هذا وقاحة. كما يشعر المجنون المهستر أنّ العاقل الهادئ انتهازيٌّ خبيث، أو كما ينظر التائه البردان في صحراء جبليّة إلى الثلج المتساقط على رأسه فيراه أسود.
مَن لا يتعامل بفساد مع مجتمعٍ فاسد يبدو للآخرين حاملَ وباءٍ ويبدو لنفسه معتوهاً.
التكيّف مع السوء موهبة؟ لا، بل وراثة.
***
أَقرأ اليوم ما كتب ويكتب بول شاوول وعبّاس بيضون وشوقي بزيع عن بيروت. كيف تنبض في سطورهم كأنّها في مطلع الصبا. أقرأ عشقها يسطع في كتابات ياسين رفاعيّة، وآخرها روايته الجديدة «القمر بجانبه المظلم». حتّى في قسوة أدونيس عليها بإحدى محاضراته، حبٌّ لها أشبه بالحبّ المثاليّ الجريح. أقرأ بيروت في غوايتها للشعراء الشباب، في «استدراجها» للكاتبات الصبايا، فلا أرى تجعيدةً على وجهها ولا انكفاءً لوهجها. مدينةٌ عجيبة. ليس لها أحد، لا سلطة ولا إدارة، وتسكن كالملكة المستهترة، خلايا دماغ أهلها. كأنّ أهلها «يعرفون» أنّها خالدة. كأنّ بشاعاتها الهندسيّة لا تقوى على طمس فتونها.
***
ولكنْ مهلاً، الاستسلام إلى اليأس ممنوع، مهما بلغ بنا الاستياء والغضب… واليأس.
فما يميت ليس المرض بل اليأس. أُدخِل لبنان سراديب التيئيس بصورةٍ منهجيّة منذ مطلع السبعينات من القرن العشرين. حُوِّلَ كلّ شيءٍ إلى يأس، ابتداءً من الغضب الحلال وانتهاءً بالقضيّة العادلة، وعبر كيمياء استخباراتيّة ماكيافيليّة، تجمع الخبث إلى الاستباحة. عُمِل على تفكيك العُرى وتدمير الرموز. وضعت البلاد تحت قبضةِ التذويب ولم يُترك لها دفاع إلّا ما يزيدها انحلالاً، كالطائفيّة والفساد. بعض الأدمغة عُطبت، بعضها انحرف، بعضها انفجر، وبعضها اختنق من المشهد. ولما كادت الدنيا تقفر القفر المطلق بدأنا ندرك قذارة اللعبة التي مورست علينا. وصلنا إلى الشفير، وقعنا، وثمّة خفيةً مَن استلقّانا، بعدما فقدنا مَن فقدنا وما فقدنا.
الجلجلة التي مشيناها صُلبنا في أعلاها ولم نَمُت. خطيئة هذا الشعب عناد الأمل.
وعلى هذا نعتمد.
إنّ ما كان يعود.
البؤس والإفلاس كانا ويعودان.
والتغلّب عليهما كان وسوف يعود.
ما يميت ليس المرض بل اليأس.
هذه المدينة الطافحة بالفساد والظلم والانقسام والانكسار، سبق أن محاها زلزال، وعادت أجمل ممّا كانت وأبشع. وإنْ يكن، البشاعة مع الحيويّة خيرٌ من الجمال مع الموت.
هذا البلد، الذي يسمّيه أسعد أبو خليل «مسخ الوطن»، أطْلَعَ، في مَن أطلع، أسعد أبو خليل يستطيع أن يسمّيه «مسخ الوطن» بعدما كان يسمّيه «الوطن المسخ» وتستطيع جريدة فيه أن تنشر هذا الكلام ويطالعه القرّاء ولا يهدرون دم الكاتب أو يعتقلونه بتهمة إضعاف معنويّات الأمّة. هذا البلد العجيب الذي شتمناه وجرّحناه في الماضي أكثر بكثير ممّا فعل الدكتور أبو خليل ولم نلقَ منه وفيه إلّا المحبّة، هذا البلد الذي يبارك لاعنيه سوف يظلّ يعثر على يدٍ منقذة.
عابــــــرات
جمالُ المرأةِ ليس هو ما يُخيف الرجل، بل إغراؤها. يتمزّق عقله أمام هذا اللغز. مكتوبٌ للأنثى وحدها هذا الامتياز، مكتوبةٌ لها وحدها هذه القدرة (المخلوقة والمصقولة) على إيقاظ غريزة الرجل والتلاعب بها.
أسعد ما يكون الرجل حين يستسلم لهذا الإغراء (أو يتفرّج عليه بلا مبالاة إذا لم تَرُقْهُ المرأة) دون مقاومة، دون هواجس، ودون مسؤوليّة.
***
تغار عليها، أيضاً، بلا وعي منك، لأنّك تودّ التخلّص منها. السبب أنّك لا تملكها كما ترغب، امتلاك الأصل والظلّ، امتلاك ما تظنّه أُمّك.
***
أخشى جنون التوازن أكثر ممّا أخشى جنون الجنون.
الأوّل انفجار المكبوت، ولا يُعْرَف مداه.
الآخر مواصلةٌ لظاهرةٍ مألوفة، المفاجأة الوحيدة فيها هي الهدوء.
***
تستطيع الغرائز أن تمارس وجودها ضمن أصول الذوق والنظافة. كم يبدو إغراء الحسناء أنْفَذ وأفعل عندما تؤدّيه بنعومةٍ ورهافة، وكم يتردّى في القبح ساعة تقرنه بالفجور.
لا نقتلِ الجسد بالقمع، ولكنْ لا نقتلْه أيضاً بجَرْح الإحساس.
***
في ميزان الأخلاق، أُفضّل العطاء على الحبّ.
الحبّ ليس اختياراً، إنّه قَدَر، حيث تلعب الصاعقة دور الوعي.
العطاء اختيارٌ وسليقة معاً.
***
أحصى بعضهم عدد معشوقات دون جوان بألف وثلاث نساء. الظاهرة الدونجوانيّة ليست خطأً ولا صواباً. إنّها بحثٌ لاهث عن ضالّة واحدة من خلال جماهير النساء، وهذه الضالّة توجد جزئيّاً ومؤقّتاً في بعض الحالات، ولعلّ نسبة الوهم في هذا الوجود أكبر من نسبة الواقع. أمّا الحقيقة البسيطة فهي أنّ هذه الضالّة، أي الحبّ الأقصى، أو المرأة المثاليّة، لا وجود لها إلّا في خيال الشعراء.
كُتُب الشعراء هي التي أعادت خَلْق الرجل والمرأة، لأجل شيءٍ من الدفء، وشيءٍ من البُعْد، وشيءٍ من الدموع.
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٣ تشرين الثاني ٢٠١٢
تحتضن حلمك فيتدلّل عليك ويجفو.
دعه ذات مرّة يحتضنك.
***
أرقُّ ما يغتسل به المرء بعد أن يغوص في نداماته، صوتٌ يتداركه قائلاً: «لم تخطئ! لم تخطئ!».
***
لون البحر الأزرق يؤكل.
***
رجلٌ يُحبّكِ حتّى القبول بقتلكِ له والتظاهر بأنّه يجهل أنّكِ تقتلينه، هذا رجلٌ يحبّكِ أكثر ممّا تستحقّين، وهذا هو الحبّ.
***
لا تقارن ما تقرأ بما قرأت بل بما عشتَه.
***
لا بأس أن تكتب لقارئ، لقارئة، لجمهور، هذا طبيعي.
طبيعي أكثر، وأفضل، أن تكتب كأنّك تتكلّم مع نفسك في غرفةٍ خالية تُردّد أو لا تردّد صداك، وليس ذلك ما يهمّك وإنّما قَطْع مَمَرّ الوحدة.
***
كان لصديقةٍ غالية أبٌ لمّا توفيت زوجته ودّعها ثم غَلَّق على نفسه الأبواب ولم يعد يغادر بيته.
ما أنبل هذا النوع النادر من الأشخاص. يضع الواحد منهم حياته في شخصٍ واحد. مثل القجّة. قجّة العمر، كما تقول الصديقة.
يعيش مع ذكرى مَن فَقَد كراهبٍ في دير يتكرّس لربّه.
رأيتُ والد صديقتي مرّة واحدة. كان يقف كالطيف وراء الجميع. لا يراه مَن أمامه ولا يراه مَن وراءه. كان مثل الصمت. حادثته لأسمع صوته فلم أسمع غير ابتسامةٍ حَيِيّة وهمسةٍ خجولة. كان يعتذر، ربّما، لأنّ امرأةَ حياته ذهبتْ وبقي هو.
وأظنّه كان خائفاً. كان خائفاً من الناس بعدما بات وحيداً. كانت امرأته سقفه وحيطانه ونوافذه. كانت صوته. أخذت معها لمّا راحت باقي العمر وتركت للزوج أن يختار نوع بقائه.
اختار الاستمرار تحت سقفها وبين حيطانها وأمام نوافذها.
وكان هذا الدفء القاسي ما زرعه الرجل في أبنائه، وما زرعته كبرى البنات في سائر العائلة، وما تركته الأمّ ذخيرة للدفاع.
وكان إرثها ضخماً. كان سلاحاً في يد الضعيف وزهرةً في يد الأقوى.
***
ممّا يؤلم في الكتابة أن يكون صاحبها مخلصاً وصادقاً وأن يعجز عن نقل مشاعره إلى القارئ. كان الياس أبو شبكة يلحّ على الصدق والإخلاص ويعتبر أنّهما أسمى ما في الكتابة عموماً والشعر خصوصاً. شعارٌ رفعه الرومنتيكيّون ضدّ الصناعة الباردة والكلاسيكيّة الصارمة الخالية من سخونةِ تدفّقات الذات. وبالطبع ناقض الرومنتيكيّون ذاتهم، كما يفعل جميع الدُعاة، وتَفنّنوا، وبلغت بهم الصناعة، على الأخصّ مع فكتور هوغو، مبالغ الذُرى، ولولاها لما صمدت مؤلّفاتهم. الصدق والإخلاص أضعف الإيمان. التحدّي هو هزّ القارئ لا اهتزاز الكاتب.
حقيقةٌ لئيمة لكنّها حقيقة.
الصناعة، بل التصنّع مقبول شرط إيصاله عاطفة إلى القارئ. (ينجح في ذلك أحياناً سعيد عقل وأمين نخله، ولا ينجح بتاتاً مقلّدوهما).
***
أوركسترا ضخمة لعزف سمفونيا بلا ميلوديا تبقى في البال: حشدٌ عسكريّ ضخم بلا معركة.
***
دعاؤكَ من أجل شخصٍ تحبّه يحميه دون أن تعرفا. حتّى لو كنت أنت هنا وهو في آخر الأرض، يفعل فعل السحر.
لا تُضع الوقت، صلِّ لأجل مَن تحبّ. الحبّ يجهل الحدود والمسافات. مِن صدركَ إلى الاستجابة.
***
حين كانت النار تلتهم جهاز التبريد وينتشر الدخان في البيت كنتُ واقفاً أتأمّل النار. كانت تتفجّر كصُعَداء. كروحِ كائنٍ نفد صبره فراح يلعن. كان منظراً أخّاذاً، أَنساني أنّي بدأتُ أختنق بالدخان ولن ألبث أن أحترق مع ما يحترق، ولولا الجار لما هرع رجال الإطفاء والدفاع المدني.
لم تكن نار الحديد بل نار دموع تحترق.
جمالُ النار. الجمال قد يقتل قبل أن يُنْقِذ، لكنّ الجار، أي الحافة، كان هناك.
***
هناك، لا شكّ، معجزات. وإن طاولها الشكّ تصبح أجمل. منها: براعةُ اليافع في العزف على البيانو، وملامسة يفاعه الأسئلة الكبرى، ونهمه إلى البحث، وجمعُهُ عَبَث الغلام إلى دفء عمقِ كهلٍ يرفض أن يتخلّى عن مداعبة الضحك.
أيّها الحفيد، تحمل اسم أبيك شراعاً واسم جدّك لأبيك سفينة. وتعتبرك أختك نايا قدوة. وأنت لها. وبوصلة نايا _ وحجمها حجم وردة _ بمفعول ساحرة إغريقيّة.
أكتُب للراشدين كي يحتضنوا فيّ الطفل وللأطفال كي يحاكموني.
أكتبُ لكَ وأنت تهمّ بمغادرةِ الطفولة، أكتبُ لأدعو لكَ بأن تغادرها لماماً وتستبقيها جدّاً، متظاهراً، كي لا تُرهقها، بأنّك ذلك الكبير.
***
«لو فقط تتظاهرين بأنّكِ تحبينني. ما عليكِ إلّا أن تقولي: «أحبّك». القلب سيَتْبَع. القلب دوماً يَتْبَع: إنّه كالكلاب.
(بول جان تولي _ 1867 _ 1920)
***
يجب أن يكون في النثر التواضع المعبَّر عنه بجهودِ الوزن والقافية في الشعر المنظوم. فهما فعلاً تواضع وتضحية كبيرة.
بصرف النظر عن المضمون والمعنى.
تواضعٌ على النثر أن يجده، وعلى كلّ ناثر، شعريّاً كان أم قصصيّاً أم فلسفيّاً ومقاليّاً ومؤرّخاً أم في أيّ بابٍ كان، على كلّ ناثر أن يجد الوداعة ليكتب والتواضع الذي يخلع به عن نفسه أمام القارئ كلّ ادّعاءٍ وعنجهيّة.
القوّة الأدبيّة هي، كالنظرة، شعلةُ الداخل. شعلةٌ يغسل ماؤها أقدام الأطفال.
***
في جملة الأخطاء الشائعة أنّ الفنّ يستلهم الحياة. الحقيقة أنّ الحياة تستلهم الفنّ.
***
لا أعرف أأحبّ أم أكره منظر وَلَدٍ صغير يمسك بيد جدّه وهما يتمشّيان على الرصيف. الشمس الشارقة ومغيبها. لا أعرف مَن يؤثّر أكثر: الطفل وبراءته أم العجوز المتدهور. وَلَدٌ سوف يكون وشيخٌ كان.
ومثلهما الأماكن. كانت دمشق عروس العرب وسوريا وطن الطيبة. كانت باريس باريس في القرن التاسع عشر وفي العشرين قبل أن تغزوها المطاعم الأميركيّة واللغة الانكليزيّة. كانت القاهرة عاصمة الشرق قبل أن تنفجر ديموغرافيّاً.
ومثلهما ومثلها الأزمنة. الشباب يرعى الحاضر. الكهولة ترعى الجسور. الشيخوخة ترعاها الطفولة.
ولدٌ صغير يمسك بيد جدّه صورةُ سخريةِ الحياة ومجدها.
***
للجسد ذاكرة سطحيّة، على عكس الذاكرة الذهنيّة أو الفكريّة أو حتّى، في بعض الأحيان، الذاكرة النفسيّة _ الروحيّة. يتذكّر الجسد ليلةً جنسيّة (ولماذا «ليلة»!؟) كما يتذكّر المرء كتلةً أو برقاً، صعقةً أو صدمة، بلا تفاصيل، وكشيءٍ مضى. ذاكرة الجسد تُنهي، تطوي الصفحة.
الذاكرة الذهنيّة _ الفكريّة _ النفسيّة _ الروحيّة تُفنّد، تستغرق، تتلذّذ بالطريدة بعد قنصها وافتراسها أكثر ممّا تتلذّذ أثناء أكلها.
وما يحتلّنا هكذا، إنّما نعيد اختراعه.
***
يقول لك الشرّير: «تخلّص من شعور الذنب!». ويقول لك رجل الطيبة: «أنت لا ذَنب لكَ بل طفولة، زنابق المذبح تُشبه جبينك!».
ماذا تقول أنت؟
أقول أنّي أوركيديا، أزول ثم أعود. أزول مع الهواء وأعود مع الشمس، ريثما في بعد ظهرٍ ما تحملني المياه بلا تراب كما حملتْ أوفيليا من أعلى الشمال إلى دجلة والفرات.
كانت زيارتي هنا موجزة لأسبابٍ قاهرة، لكنّي هنالك أزور كلّ شيء، وأطمئنّ إلى سلامة العناصر التي تحميني من بشريّتي.
ليس في عينيّ اليوم شيءٌ من عالمي.
لقد أفرغتُ كياني لأملأه بخلائق المجهول.
سئمتُ الآلهة. أريد أن أعايش كائنات بلا أسماء.
ولن أسمّيها كما فعل آدم فاستعبدَتها أسماؤها.
سأطلب منها هي أن تسمّيني، وأن تقرّر مصيري، وتقرّر مصير البشر.
أفرغتُ كياني لا للشمس بل للأشياء الحميمة التي تحتويها، ولا للقمر بل لدموعه، ولا للأرض بل لمَن يطير فيها ولا تُحدث أجنحته ضجيج الزحف بل تجعل عاصفة التغريب تَهبّ.
أحلم بأن أعير جثماني للكائنات التي لم نألفها. لغير المدجَّنة ولغير ما نأكل. لكائناتٍ تخشانا أو تهرب منّا، كالأيائل والأرانب والحمام والسمّن. وأن نتصاحب ونسكن معاً. وأحكي لغتها. وأتعلّم منها صبرها على الإنسان وأحاول أن أخلّصها.
لم يعد أمامنا ثورات جديدة إلّا مع الكائنات التي لا نعرف.
أكتوبر 29, 2012
الناقدُ يرى الآخرين ولا يعرف نفسه. رأى سانت بوف، ناقد القرن التاسع عشر الفرنسي، نقاطَ الضعف الموجودةِ وتلك المتوهَّمة في فكتور هوغو ولم يرَ سقطاته هو كناقد وكشاعر. ولم يكترث لبودلير رغم توسّلات الأخير إليه أن يكتب عنه. وحين أخيراً كتب ليته ما كتب.
صحيحٌ في العربيّة أيضاً: خالدة سعيد، ناقدة أدبنا الحديث، وجدتْ فينا أكثر ممّا فينا ولم تجد في ذاتها وأدب ذاتها الأهميّة المستحقّة. ولو فعلت لظهرت شاعرة كبيرة. كأنه حَتْم أن يخطئ الناقد قَدَره. وأحياناً تراه يرفض أن يعطي نفسه حقّها. امّحاء. تكريسُ الذات للآخر. مثل خالدة. لم أعرف أحداً هكذا.
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ١٣ تشرين الأول ٢٠١٢
ليس هناك أديانٌ تحصر دعواها في السلام، بل مسالمون يتخيّلون الأديان على صورة مثاليّاتهم، وبعضهم أفْضَلُ من أديانه.
***
الانحياز إلى المعجزة لأنّها، أيضاً، دليلٌ على وجود مَن هو أكرم.
***
من أقوى مشاهد الإغراء امرأةٌ منيعة، متعذّرة، «بعيدة»، وفي الوقت ذاته عيناها تستصرخان مِن وراء القبضان مَن يحرّرها من حرزها الحريز.
***
في بعض المواقف ينطوي الاعتصام بالتسامح والمحبّة على شيءٍ من «التمثيل» يولّدُ ردّةَ فعلٍ ساديّة.
تُعزّز هذا الشعور أفلام السينما المتداولة عن «آلام المسيح» وانعكاسها على قرّاء الأناجيل من أبناء عصر السينما.
كم كان موقف المحبّة (أو التسامح، الفداء، إلخ) يكون أفعل لو جرّدهُ الشارحون والرسّامون والمخرجون من إطار المَسْكَنَة. يستطيع القادر أن يعفو بدون مبالغة في الانكسار، والقويُّ أن يُحبّ بدون بكاء، والبطل أو القدّيس أو الإله أن يَفْدي بدون استعراضٍ يكرّس مازوشيّة المازوشي ويضاعف ساديّة السادي.
***
حين تدرأ الكبرياء عن الحسود تهمةَ الحقارة تصبح نوعاً من العذر، كما عند قايين. ولكنْ لنتخيّل حسودين محتقنين بنرجسيّتهم، وفوقها وتحتها وبين بين ضِعَةٌ تُنافس ذاتَها.
***
«لو كنتُ الله، لما تحمّلتُ وصوليّي السماء». (جورج دوهاميل)
***
الناقدُ يرى الآخرين ولا يعرف نفسه. رأى سانت بوف، ناقد القرن التاسع عشر الفرنسي، نقاطَ الضعف الموجودةِ وتلك المتوهَّمة في فكتور هوغو ولم يرَ سقطاته هو كناقد وكشاعر. ولم يكترث لبودلير رغم توسّلات الأخير إليه أن يكتب عنه. وحين أخيراً كتب ليته ما كتب.
صحيحٌ في العربيّة أيضاً: خالدة سعيد، ناقدة أدبنا الحديث، وجدتْ فينا أكثر ممّا فينا ولم تجد في ذاتها وأدب ذاتها الأهميّة المستحقّة. ولو فعلت لظهرت شاعرة كبيرة. كأنه حَتْم أن يخطئ الناقد قَدَره. وأحياناً تراه يرفض أن يعطي نفسه حقّها. امّحاء. تكريسُ الذات للآخر. مثل خالدة. لم أعرف أحداً هكذا.
***
لن يُكتبَ للإنسان العيش بلا شيخوخة أو موت ما دامت أرواح الأموات تتّخذ من الأحياء مواقف الانتظار أو الضغينة.
***
«أنا» قد تُحَبُّ: النرجسيّة الساذجة عند امرئ القيس، المجلودة عند بودلير، الهائلة المضرَّجة عند المتنبّي، والأنا المجهولة لبُناة الهياكل ومؤلّفي الأساطير والأغاني المعفاة من التوقيع.
***
أحياناً يتحقّق قَدَر المرء على يد أخصامه.
يقومون عنه بالمهمّةِ وهم يحسبون أنّهم يحقّقون غايتهم وفي الواقع يحقّقون غايته.
عَرَفها أم لم يعرفها.
الإنسانُ هكذا مصنوع: أعمى بوجهه مبصرٌ بظهره.
الشعوب والجماعاتُ أسوأ: قد تُبْصر بِنَفَرٍ من أفرادها وتبقى هي عمياء.
لحظةٌ واحدة تبصر فيها الجماعات: عندما يحقّق لها مجهولٌ قَدَرها.
مجهولُ حتميّة التاريخ، مجهولُ العناية الإلهيّة، مجهولُ التقاء المصالح، أو مؤامرة.
الفرد أوفر حظّاً: قد يتحقّق قدره على يد أخصامه ولا يأتيهم ذلك بمغنم، ولعلّه لن يكون في حقيقة الأمر سوى تحقيق لرغبةٍ كامنةٍ في ثنايا لاشعوره، فكانوا هم الأداة لتحقيقها.
الأمور مصنوعةٌ هكذا.
***
هل في الإنسان شيءٌ «غير إنسانيّ»؟
وهل لهذا السؤال معنى؟ وما معناه؟
لا أعرف. يبدو لي، في غَلَيان مشاعري أمام الظلم، أنّ الظلم، مثلاً، جزءٌ من كائنٍ غير إنساني.
تابع لزلزال، لبركان، لوحش، لعتمة.
وغير الظلم؟
الحَسَد.
مع أنّه رفيقُ الابن الأوّل.
كأنّه إبليس كان يتحيّن الحجّة لينقلب على الله.
بل هو كذلك، ولو تَقَنَّع بالتمرّد.
التمرّد حقّ إنسانيّ عندما يكون على حالةٍ لا تُطاق، على جَوْر، ولا يعود إنسانيّاً عندما ينبع من حسد.
التمرّد، خارج رَفْض القهر العبثي أو الجائر، ليس قيمة أخلاقيّة.
***
لنستسلم إلى الروائع، أدباً وفكراً وموسيقى وغناء وتصويراً ونحتاً ومسرحاً وسينما.
لنعش مع خلائق المبدعين، هي وحدها أطواقُ نجاة. وإذا شحّت الروائع فلنعد إلى الماضي، إلى قديمٍ سَحَرَنا، ولندمنه! ولنجترّه!…
ردّ على «عمر»
قارئٌ (قارئ كاتب على ما يبدو، وهناك شبه في الأسلوب والروح بأحد الزملاء المرموقين) سمّى نفسه «عمر» يقول على موقع «الأخبار» الإلكتروني إنّي «عدتُ إلى قبيلتي وطائفتي». يثور لعبارتي الأسبوع الفائت أنّ ياسر عرفات بدأ بقتل فلسطين عندما احتلّ لبنان. وتجاوبت معه قارئة عزيزة بأسىً صادق أحزنني وأحرجني.
الاحتلال، لغويّاً واصطلاحيّاً، هو سيطرةُ قوّةٍ من القوى على بلدٍ أو جزء من بلد ليس بلدها، بصرف النظر عن الروابط التاريخيّة والعرقيّة واللغويّة والعاطفيّة. عندما نقول إنّ عرفات احتلّ لبنان لا نقوم بأكثر من ترداد عبارته يوم صرّح لإحدى وسائل الإعلام بأنّه سيحكم فلسطين بنجاح «كما نجحتُ في حكم لبنان».
حكمه للبنان لم يكن استعارة أسبوعين ثلاثة للانقضاض منه على إسرائيل، بل كان سيطرةً على لبنان كبديلٍ ممكن من فلسطين. ونتيجتها معروفة وهي اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان وتدمير منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
لستُ أنا مَن له قبيلةٌ وطائفة لأعود إليهما. ولأنّه ليس لي قبيلة ولا طائفة أقول ما يغيظ أهل القبائل والطوائف والأحزاب والمنظّمات والذين بينهم كثيرون ارتزقوا من صندوق عرفات، ذلك الصندوق الذي أمعن في «ثقافة» الرشى للصحف والأحزاب و«الشخصيّات» والمرتزقة والمنافقين الذين لم تعنِ لهم القضيّة الفلسطينيّة (ولا أيّ قضيّة) غير كسب جمهورها أو قبض «إكراميّاتها».
تكلّمتُ عن لبنان وعرفات من منطلق تأريخيّ تقريري وصفيّ، أمّا ردّ السيّد «عمر» فهو مقالٌ مستقلّ عن كلامي أكثر ممّا هو ردّ. يبدو لي كتنفيسِ احتقان لأسباب أخرى. وهو، للأسف وللعار، ردٌّ يُطيّف بل يُمَذهب قضيّة ما كانت يوماً إلّا قوميّة وإنسانيّة.
كنتُ من أوائل مؤيّدي المقاومة الفلسطينيّة، من عهد ما كانت لا تزال «تحت الأرض». وبلغت بي الحماسة أن دعوتُ ذات يوم الدول العربيّة كلّها إلى اقتباس روح هذه المقاومة ودعوت المقاومة إلى تسهيل مهمّة تلك الدول في اقتباس نهجها. لم تكن مقاومة إسلاميّة ولا مسيحيّة، وأردناها في حماستنا أكثر من فلسطينيّة، أردناها عربيّة. ولا أزال مع المقاومة، وكلّما تزايدت تجزئتها ازددتُ إيماناً بأنّها كما أنتجت شرفاءها المؤسّسين لم تُعدم ولن تعدم أمثالاً لهم في الحاضر والمستقبل. وإيماني بالمقاومة ليس يافطة، وقد لا يشبه الكثير من مواقفي وتصرّفاتي، كما أنّ أعمالاً وأقوالاً مقاوميّة كثيرة لا تشبه مبادئي ولا أخلاقي. أنا ملتزم في هذا وفي سواه صدقي وضميري، ومن منطلق علمانيّتي، وبدعمٍ صلبٍ مجّاني ونزيه من مسيحيّتي التي لا طائفة لها ولا مذهب.
كلُّ مَن فكّر أو عمل للاستعاضة ببلدٍ عربيّ آخر عن فلسطين قد خان فلسطين. خانها بفكره وخانها بسلوكه. وأنت، يا سيّد «عمر»، تخونها بمزايدتك وبتخوينك للآخرين.
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٦ تشرين الأول ٢٠١٢
*حرب عالميّة ثالثة؟
إذا استكمل الإسلاميّون وصولهم إلى السلطة في جميع الدول العربيّة فسيكون أمامهم احتمالان: الاعتراف بإسرائيل أو إعلان الحرب عليها. في الحالة الأولى تحتلّ إسرائيل العالم العربي سلميّاً وفي الثانية تحتلّه عسكريّاً بعد إنهاء تدميره وقتل أكبر عدد ممكن من سكّانه. وبالطبع ستكون أميركا شريكاً، فلا فرق بين أميركا وإسرائيل. وسيتباكى الأوروبيّون كما تباكى بعضهم على العراق. وتعلن روسيا انحناءها عبر استيائها المتغاضب وتغرق الصين في نومها الأسطوري إلى أن يحين دورها. وسيكون كلام أحمدي نجاد عن محو إسرائيل عذرها لـ«الدفاع» عن نفسها.
نقرأ يوميّاً «وعوداً» كهذه. افتحْ أيّ موقع إلكتروني. آخر ما ابتهجنا به تصريح للأستاذ هنري كيسينجر مُسلّم لبنان إلى سوريا وإسرائيل ومسلّم فيتنام الجنوبيّة إلى الشماليّة ومسلّم تايوان إلى بيجينغ. بيلاطس البنطي بدون غسل يدين. مُضلّل نيكسون والمتبرّئ منه. الصهيوني العريق بلا أيّ تجعيدة. قال في تصريحه إنّ حرب أميركا وإسرائيل على إيران والعرب حتميّة و«سوف تقتل إسرائيل أكبر عددٍ ممكن من العرب وتحتلّ نصف الشرق الأوسط».
تعطّشٌ خالد إلى الدم العربي. ولم يعد يكفيهم سَكبه بأيدٍ عربيّة أوّلاً كما يحصل الآن في سوريا وأحياناً في العراق و«قلبيّاً» في فلسطين. وإنْ لم يُقْتَل فلسطينيّون كلّ يوم ففلسطين نفسها قُتلت. بدأ يقتلها عرفات عندما «احتلّ» لبنان وواصل قَتْلها خلفاؤه وأخصامهم لسعادة إسرائيل وانشراحها. لم تبقَ خيانة لم يرتكبها العرب بحقّ أنفسهم. خانوا زوجاتهم وخانوا عشيقاتهم وخانوا أوطانهم. وقريباً يخونون تعاليم أديانهم وتأنيبَ ضميرهم ويخون ملحدوهم ما تبقّى لهم من عقل.
لم نعرف أنّه سيأتي يوم نترحّم فيه بهذا القَدْر على جمال عبد الناصر.
لم يعد يكفي أميركا وإسرائيل تكفّل العرب بأمر تراجعهم وتفتّتهم. يريدون أن «يساعدوا». أن يساعدوا «مباشرة». أن يمارسوا هوايتهم الملحميّة: الإبادة.
***
*ومع هذا
الذي يكتب يكسر الصمت.
الذي يكسر الصمت يسلّم سلاحه.
الذي يُسلّم سلاحه يغدو عارياً.
عودة إلى الصمت.
عودة إلى كسره.
يكتب حتّى لا يفقد صوابه.
وأين صوابه؟
في ردم هوّة تبتلع الرَدْم.
يعرف أنّه لن يربح، ومع هذا يَمضي.
وهو وحيدٌ عندما يكتب، وأنتَ وحيدٌ عندما تقرأ.
لكنّكَ تَقْبل به شريكاً وهو يَقْبل بكَ قاضياً.
معاهدةٌ سريّة بين وحيدين يملآن الأرض،
بين قارئٍ يحتاج إلى حبّه ليقرأ، وكاتب مذنب لأنّه كسر الصمت، الصمت الأبلغ من القَدَر، وسوف يظلّ مجبراً على كسره واستحقاق هذا الذنب.
***
*لعنة الانتباه
قبل أن يجلس إلى الصفحة البيضاء يكون المؤلّف الموسيقي قد امتلأ. لم يبقَ سوى التنقيط، التوزيع، الضبط. يده ستفعل ذلك.
الألحان تتصاعد، الجوقة تصدح، المغني يغرّد، المدى ينفصل إلى المطلق، يغرق السامعون في السحر، وهذه المجموعة من الأصوات والأنغام والآلات، عجباً! لا تُصدر ضجّة بل تُسكت الضجيج، تهدّئ الأعصاب، تجمّد الدنيا لتصغي إلى الأصوات الوحيدة التي تدخل أعمق من الصمت، ما وراء اللغة، فوق السماء، موجدةً في المصغي، بعد انتهاء الحفلة، طبقةً من السكوت الممسوس، إذا رميتَ همسةً أعدتَ السماء إلى الأرض، ووضعتَ المنخطف في حقدٍ عليك.
وهذا ما تفعله بنا الحياة كلّ ساعة، لأنّها ترفض أن يَسبقها الأحياء.
***
* بيتهوفن
عذراً، لنعش لحظة في جوّ شخصٍ عظيم.
حوالينا تاريخ يصنعه لنا أعداؤنا بدمنا. القتلى أرقام. ولا أحد في مستوى ما يحدث. لا أحد إلّا حفنة من فرسان الوعي، وهم يتزايدون في العالم العربي رغم التجييش المخيف للغرائز. فرسان معقودة عليهم آمال توعية وإنقاذ وقيادة لم يُعقد بمثل ضخامة مسؤوليّتها يوماً أملٌ مماثل.
لنعش قليلاً في جوّ شخصٍ عظيم.
لنهرب إلى ماضٍ يُشعّ علينا بشمس الماضي الخمريّة الشقراء.
لنقم بهذا الجهد المخالف لأهوال حاضرنا.
السابقون لاحقون.
كان ذلك مكتوباً على جباههم.
سابقون بمعنى سبقونا في الماضي ويسبقوننا في الحاضر وسوف يظلّون أمامنا كالأيدي الممدودة للخلاص.
***
بيتهوفن. لودفيغ فان بيتهوفن. عذراً من القارئ. كاتب هذه السطور لاجئ دائم، وحيث يجد المعونة يستعطيها. وجدتها مرّة أخرى قبل أيّام في موسيقى بيتهوفن. أجدها دائماً في أغانينا وصوت فيروز وألحان الأخوين رحباني، لكنّي خلال أيّام كنت بحاجةٍ إلى ما هو أشدّ صراخاً، ربّما ليعفيني كما أُعفيَ هو من السمع.
عذراً، هذه الكلمات صدىً لما عيّشني فيه جوّ شخصٍ عظيم.
***
اللحن الهاجس الملحاح، قصيدةٌ واحدة متنوّعة النغم. عليلٌ مشرئبّ كإلهٍ مستوحد، يهجم إذ يتراجع، ينكسر وهو يهجم. بلبلٌ وقبيلةٌ متوحّشة، فضاءٌ على رحبه يختنق من قلّة هوائه فينفجر شموساً وأنهاراً. اختناقٌ يوسّع الفضاء، انحباسٌ يُكبّر الحريّة، عزلةٌ تزهر حياةً، صَمَمٌ بَطَل: العبقريّة الجريحة تنزف صحّةً وعافية وإخاءً هائلاً، ومحبّةً تفيض على كلّ صلاة. أَنْزَلَ الموسيقى إلى القلوب كما يُنزَل القربان المقدّس. موزار قَبْلَه أنزلها كالروح وبيتهوفن أنزلها كالجسد، ولكنّها أرواحُ الآلهة، ولكنّه جسد الإله، والآخرون، قبلهما وبعدهما، رُسُلٌ وأنبياء. قد يكون باخ إلهُ الآلهة، وإنّما إلهُ الآلهة نافسَه آلهةٌ أصغر منه وأروع، أكثر رحمةً وجمالاً.
حين انغلق بيتهوفن تفتّح عطاؤه وكأنّه كان رهناً بعاهته. كان «يحتاج» إلى الصعاب ليغالبها ويتغلّب عليها ويشعر بقوّته. مصارعٌ كئيب ومتكبّر ونشوان، استعاض عن حبّ النساء بعبادة الطبيعة، ويوم كان لا يزال يَسْمع، خلّدها بالسمفونيا السادسة «لا باستورال». وكما افتقد العشق النسائي افتقد ذوي الأنفة والأخلاق، فاستعاض عنهم بتمجيد المتمرّدين أمثال كوريولون وأغمون وبروميثيوس، ولولا قليل لمضى في تمجيد نابوليون كبطل للثورة الفرنسيّة، غير أنّه صُدم به يوم نصّب نفسه أمبراطوراً، فمزّق الإهداء الذي خصّه به على الصفحة الأولى من السمفونيا الثالثة، «سمفونيا البطولة»، وقال عنه باحتقار: «هكذا سقط القناع وبان الرجل مجرّد إنسانٍ عادي. سوف يدوس هذا الشخص جميع حقوق الإنسان! لن يأبه لغير طموحه وسوف يضع نفسه فوق العالم، كما فعل قبله جميع الطغاة».
هذا الوحيد الأصمّ عاش في الواقع مع صُوَر خياله وتموّجات حياته الداخليّة. تألّم جدّاً للحظوة الفائقة التي نالها روسّيني لدى أهل فيينّا، وانقهر قهراً لصعود نجم ملحّني الفالس وعلى رأسهم جوهان شتراوس، فيما كان بيتهوفن يغوص في الفقر والبؤس والمشكلات العائليّة. ومع ذلك واصل خَلْقه، ومعه واصل مدّ الجسور بين موسيقى «الباروك» وطلائع الرومنتيكيّة، وصولاً إلى فاغنر، فاغنر الذي، لدى سماعه السمفونيا التاسعة، هذا النشيد العظيم للفرح، هَتَف: «إنّي أؤمن بالله، وبموزار، وبيتهوفن!».
لكنّ بيتهوفن لم يرث عن موزار سهولته في التأليف. كان يعيد التنقيح عشر مرّات بل عشرين، والنسخ الموثّقة من مؤلّفاته لا تُقرأ فرط ما شَطَبَ وصَحّح وأعاد وغَيّر. كان موزار هواء الموسيقى. كان أَجنحتها المخلوقة خلْقةً. في ساعات كان يبدع تحفاً. دون تصويب نوطة، دون إعادة. ولحّنَ كأنّه لم يلحّن إلّا سعيداً. مع أنّ حياته كانت في معظمها مأساة. أُعطيَ الرشاقة هبةً من السماء. الرشاقة والعفويّة والسليقة. لم يُعطَ لأحدٍ في التاريخ الأثيريّة التي أُعطيت لموزار، والبسمة الفتّانة التي انطبعت على وجه موسيقاه، كأنّها مَرَح الدهور.
بيتهوفن، على العكس، خاض التأليف كمعركة حياةٍ أو موت. كان بينه وبين الألم حلفٌ جهنّمي: أعطيك فتعطيني. وكلا بيتهوفن والألم خضعا لسوء تفاهم هلاكيّ، وخلّاقٍ بقدر ما هو هلاكيّ: الألم يفترس الصقر، والصقر تحت نهش الألم يمعن تحليقاً. إنّ السمفونيا الخامسة هي هذا: زدْني ضرباً أَزدْكَ عطاء! كأنه يطرق على بوّابة قبر ليقيم المُسجىّ من نومه. وبالفعل يقيمه. وتغدو الموسيقى عروساً في موكبها. وينسحب جو الخامسة المتوتّر لندخل في جوّ حبور التاسعة، سمفونيا الفرح الكبرى.
***
عام 1814 كان تاريخٌ آخر. عزفٌ على البيانو يحييه بيتهوفن في فيينا، مُسَتّراً على صممه. بعد ذلك بثماني سنوات أراد، رغم استفحال الصمم، أن يقود بنفسه الأوركسترا في تمرينها الأخير، قبل الحفل للجمهور، على أوبّرا «فيديليو». كان كمَن يحاول إقناع الجمهور بأنّه انتصر على عاهته وتعافى. وقاد الأوركسترا. وظلّ يقودها، يقود المغنّين والعازفين، رغم أنّ الأوبّرا انتهت. لقد انقطع كلّ اتصالٍ بينهم وبين المايسترو. راحوا يحدّقون إليه مذهولين بهذا المعلّم الذي واصل القيادة وسط بحرٍ من الصمت، كبحّارٍ مجنون يقود سفينة وهميّة في بحرٍ وهميّ. وجاءه من صديقٍ في القاعة كلمة على ورقة: «أرجوك، أرجوك، أستحلفك بالله، لا تُتابع. في المنزل أشرح لكَ السبب».
ولاذ بيتهوفن بالفرار كتلميذٍ رسب في امتحانه.
***
للحقيقة، المؤلّفون هم هذا المعلّم الذي يظلّ يؤلّف ويقود بعد أن ينتهي الآخرون من أداء أدوارهم. المؤلّف، للحقيقة، هو هذا التلميذ الراسب رغم عظمته. المؤلّف لا يتوقّف عن التأليف. صاحياً أم نائماً. حيّاً وميّتاً. لا يرسب إلّا في عيون الراسبين، للحقيقة. الجمهور الوهميّ هو جمهوره الفعلي. هو أخوه وأمّه وأبوه ورحمته. هو ذاته. هو رأسه. هو الرحم التي وَلَدته والرحم التي سيعود إليها.
أحسَّ بيتهوفن ذلك النهار بالعار.
لقد أشعره محيطه بالخجل من نفسه. بأنّه مهرّجٌ خَرِفٌ أحمق.
عملاقُ السمفونيّات سقط في الفحص الاجتماعي. مع أنّه فحص الرفاق والزملاء.
اكتشف بيتهوفن أن لا رفاق ولا زملاء. المؤلّف وحيدٌ في العاصفة. وكلّ لحظةٍ من حياته عاصفة. «لقد أنجزتُ عملي» قال وهو يستقبل سكرات الموت. بعدها بيومين، مساء 26 آذار 1827، وسط عاصفةٍ ثلجيّة أخذت بضرب فيينا، انطفأ بيتهوفن. أسلم روحه إلى مَن قد يحتملها. وفي اللحظة ذاتها، مزّق البرقُ السماء وأعقبه رعدٌ شديد.
لم يكن عند سريره أحد. غريبٌ من الغرباء أغمض له عينيه.
لا رفاق ولا زملاء. وحدها الرفيقة الزميلة العاصفة.
جريدة الأخبار اللبنانية
٢٩ أيلول 2012
العمل الفني لـ Lucio Olivieri
نجهل حقيقة مواقف معشوقات الشعراء. ماذا كانت تفكّر أو تقول عبلة لعنترة، أو ليلى لقيس، أو بثينة لجميل. هل كانت خولة شقيقة سيف الدولة سعيدة بحبّ المتنبّي لها؟ هل «أحسّت» بهذا الحبّ؟ هل أَحبَّها أبو الطيّب حقّاً؟
نرى غربة مستعصية بين لغتَي الجنسين، جسديّاً وذهنيّاً. نعود إلى الشعراء والأدباء والفنّانين والفلاسفة وربّما وعلى الأرجح إلى العلماء، نجد، من خلال الوثائق التي هي القصص والأفلام وكتب السيرة، أنّ الفرق في التخاطب بين الجنسين ناجم عن «نوعيّة» الحبّ لدى كلّ منهما، وعن التباين في مفهوم العلاقة.
يفهم كلّ واحدٍ جانباً من الآخر ولا يفهم جوانب، ويحبّ ملمحاً ولا يحبّ ملامح. أكثر مَن يرتاح هم الأشخاص «الطبيعيّون»، لا المأخوذون ولا العباقرة، لا الصوفيّون ولا «المتطلّعون». غير الطبيعيّين، مهما تكن درجةُ التناغم بينهم وبين شركائهم، سيظلّون وحيدين أو جلّادين أو ضحايا، وفي كلّ حالٍ غرباء.
***
نظرةُ الرجل المعجَب تحمل اشتهاءه. نظرةُ المرأةِ المشتهية تحملها بأسرها.
***
الشهوانيّةُ تأخذ حقوقها، العاطفيّة تؤخذ. الأولى إذا خسرت في ما بعد، عزاؤها أنّها كسبت في ما قبل، وأحياناً، إذا بَرَعت، يدمنها العاشق.
المرأة مظلومة في كلّ حال، لكنّ أبواب الشهوانيّة كثيرة، وعندما تُظْلَم فبعد أن تكون قد انتقمت سلفاً.
***
«كلّ دا كان ليه لمّا شفت عينيه؟» تسأل أغنية محمد عبد الوهاب. لعلّ واحداً من الأسباب أنّه رأى فيهما ما حُفظ حتّى الآن له وحده دون سواه.
***
تهدي النظرات خبايا الكائن وخفاياه وأسراره إلى الناظر. تهبان إيّاه روح صاحبتهما وجسدها والشوق الذي لا تعرف أين سيلقي بها… هل تحبّه؟ هل تعني هذه النظرات الثابتة الحارقة أنّها تستغيث؟ هل يتلقّى الناظر الرسالة كما أرادتها ذات العينين؟
في هذه اللحظات كلّ هديّة الذات. وستظلّ العينان، عينا تلك اللحظات، تحدّقان إلى الناظر من أعماق غرائزه وذاكرته، وكلّما واجهته نظرات إحداهنّ، وإلى نهاية العمر.
***
النظرات قربان الأحلام، وهي نفسها الضمير وجهاً وقفا.
***
العواطف الجيّاشة التي يظهرها الرجل للمرأة خلال احتدام رغبته، صادقة أثناءها. قلناها ونكرّرها: الجنس يأتي معه بحبّه. وحبّه نوعٌ من الحبّ، لا شكّ. المشكلة هي في الخلط بين الأنواع. بين الحوافز والمراحل. قليلة _ موجودة ولكنْ قليلة _ حالاتُ الثبات على إظهار العواطف قبل وبعد، وبلا تفاوت. أحياناً تنحبس العواطف بعد تحقيق الرغبة مرحلة تقصر أو تطول، وأحياناً أخرى، إذا كان الحافز محض شَبَقٍ عابر، تكون العواطف التمهيديّة غيمة صيف، ولا بدّ للمرأة، أيّاً تكن غصّتها، من اعتبار الأمر نزوة، لا جدوى من محاسبة الرجل عليها ولا من تقريع نفسها.
والأكثر عدلاً في هذا الإطار أن يكون الاثنان متساويين في الشَبَق وفي روح المغامرة العابرة.
***
أتظنّ أنّك تمتلك قوّة الحبّ أم ضعفه؟
***
أقوى ما في النظرة هو ما تقوله لنفسها وليس لك.
***
رأيتُ نهايتي عندما شَيَّعَتْني نظرة الآخر بتهذيبٍ مبتسم.
«ما من خطّة لجلّاد إلّا أوحتها له نظرة الضحيّة». (بيار باولو بازوليني)
***
نظركِ المفترِس يرى كلّ شيء في الشفّاف والشفّاف مُغْلَق على نفسه.
***
ليت جميع المشبَعين يصيرون مكبوتين ليحظوا بمثل لَفْح عينيكِ!
***
في عهد المرئيّات تُفِّهَ النظر. صارت العين، على قول أحدهم، كالفم، تلتهم كلّ ما تُلَقَّم.
إلّا عين الطفل.
ولو أُتخِم.
الحسناءُ هي الأنثى بعينَي طفلٍ جائع.
***
اعتدتُ الحياة وسوف أعتاد الموت ولم أنجح في اعتياد الحبّ.
***
لو استطعتِ أن تصنعي العالم على هواكِ فماذا تفعلين؟
أجعلكَ على الدوام مسحوراً بما أوحيه لا بما أفعله.
***
جحيمُ امرأةٍ هاربة نعيمٌ لمَن يلاقيها.
***
الماء للمرأة كالمرأة للمرآة: غلافها الثاني.
***
ما أعظم القدرة التي تكسر نرجسيّة الرجل وتوقعه في حبائل امرأة! خمس دقائق من غربته عن نرجسيّته تفقده رشده، تعميه. لم يكن يتوقّع أن يجد شيئاً يُحَبّ أكثر من نفسه. هرطقة وهرطقة مرغوبة! كيف هذا!؟ كيف حصل!؟
كان يعشق نفسه جسداً وروحاً. مَن هي هذه المختلسة المحتلّة؟ روحه كانت غرامه بنفسه، وإذا به تصبح غرامه بامرأة؟
بعد قليل سيحاسبها على هذا. سيدفّعها استرجاع عبادته لنفسه أقوى ممّا كانت وينقل لها هي أزمة الذات.
الرجل لا يفقد نرجسيّته بل يحوّلها من مجونٍ طائش أو تسلّطٍ أناني إلى اندحارٍ يعرضه كما لو كان مادة لاستدرار الشفقة أو الدلال. ينتقل من المستبدّ إلى المسكين المظلوم. يظلّ كيفما فعل هو المحور.
المرأة، مهما بالغت في تضخيم نرجسيّتها، لا تستمتع بها إنْ لم يكن لها شريك. هكذا تسقط اللعبة عند أوّل حلقة من الصدامات التي ستنشب. المرأة ترضى بشريك في النرجسيّة لكنّ الرجل لا يستطيع. لا مكان على هذا العرش لمالكين.
***
نتخيّلُ عرزالاً على سطح بيتٍ في القرية، لماذا لا نتخيّله ممكناً في السماء؟ بل في مدينة؟
نتخيّل السراح الحرّ في الطبيعة الخضراء، على شطّ البحر، في الغابة، بكأس خمر، بولعٍ جنسيّ، لماذا لا نتخيّله أيضاً في السماء؟
تمييزٌ لم تصنعه السماء بل نحن.
لا شيء يعطينا الإذن بهذا الحظر، لا دين ولا شريعة. وهو تَباخُلٌ من الإنسان واعتيادٌ لعدم النظر إلى فوق.
***
لم أعرف أعمق من رقّة المرأة. أشبه بأعماق المعبد: فيء البخور وطمأنينة كتمان الأسرار. لا فظاظة ولا صفاقة إلّا في المسترجلة.
ما تفقده المرأة لحساب حقوقها الجوهريّة يربحه الإنسان فيها وتربحه الأنثى. ما تفقده في حومةِ السباق على الخشونة ومضاهاة الرجل في الاستهتار بنظافته وشكله وخطابه، تخسره فيها الأنثى ويخسره الإنسان.
لعمق الرجل صدى التهديد. لم أعرف أعمق من رقّة المرأة.
لا رقّة في عمق الرجال كرقّة عمق المرأة إلّا بين القدّيسين، أو أولئك الذين كانت أرواحهم تتمنّى أن يُخْلَقوا بغير جنس.
***
نأخذ على العاشقَين أنانيتهما، اكتفاءهما بحبّهما. لا يشعران بمآسي المجتمع: لا حرب ولا وباء، لا فقر ولا أزمة.
صحيح، ولكنْ ما سبب هذا الشطح عن الواقع؟ وما غايته؟
السبب معروف: للحبّ عالمه ودنياه، وفي هذين ينتفي الزمن ومعه وقائعه ولغته.
أمّا غاية الانخطاف فهي التعويض عمّا سيليها من ارتطام بالأرض.
عيشوا أيّها العشّاق مَطْلَع السحر حتى الثمالة. لا تبقوا شيئاً في الكأس. بعد الصحوة، أقصى ما قد تحظون به من تضميدٍ للجرح هو لقاءٌ جديد. عودةٌ إلى المرّة الأولى. ثم عودة ثم عودة. لا تَسَلوا عن حاسدي اكتفائكم بذاتكم. لكُم أجنحة وتطيرون، كيف يمكن أن يفرح بكم السجناء؟
سبتمبر 22, 2012
معظم ما يقال هو ما لا نفهمه. ما نفهمه لا نحتاج لقوله. ما نفهمه لا يستحقّ العناء.
ما لا نفهمه أفضل لأنّ المغلق في حرزٍ حريز داخل الحَرَم المهيب. ما لا نفهمه هو هو ما نستطيع العيش لأجله.
لا نفهم الحبّ، لذلك نحبّ ونعيش لنحبّ. لا نفهم الجمال، لذلك نصمد بفضله. لا نفهم الغامض، لذلك نحلم.
رأيتكِ كما لم أرَ أحداً من قبل.
لذلك لا أزال أعمى.
السبت ٢٢ أيلول ٢٠١٢
جريدة الأخبار اللبنانية
بدأنا نصل إلى نقطة الخطر. خشينا دوماً من أيّ شيء لأنّ أيّ شيء قادر علينا، فكيف إذا كان المفتن يمتلك سلاح إضرام جميع أنواع النيران في كلّ لحظة وفي أيّ بقعة من العالم؟
اقترح سمير جعجع إقامة دعاوى ضد منتجي فيلم «براءة المسلمين» وهي فكرة وجيهة واقترح عقد مؤتمر ديني مختلط في بكركي لتدبيج بيان. فكرةٌ مفيدة داخليّاً على صعيد التهدئة لكنّها عديمةُ التأثير في الغرب لأنّ الغرب سيقول هؤلاء هم المسيحيّون العرب يمالئون المسلمين خوفاً من تحوّل المسيحيّين إلى كبش محرقة وهؤلاء هم المسلمون يسايرون مواطنيهم المسيحيّين حتّى لا يكسروا خاطرهم.
ووجهاتُ نظرٍ عديدة أخرى لأكثر من شخصيّة، أهمّها تهديد السيّد حسن نصر الله لأميركا «بمضاعفاتٍ خطيرةٍ جدّاً جدّاً جدّاً» إذا عُرض فيلم «براءة المسلمين» كاملاً في الصالات.
الراغبون في الصدام يعرفون مدى حساسيّة الإسلام. يُلْعَب مع المسيحيّين ولا يُلْعَب مع المسلمين. العرب ضعفاء لكنّ الإسلام قويّ. تؤخذ من العرب فلسطين دون عناء يُذْكَر ولا يسكت المسلمون على إهانة دينهم. إذاً، العزف على الوتر الديني، وقد تكرّر في أميركا وقبلها في أوروبا حيث يكاد يصبح يوميّاً، وآخره رسوم «شارلي ابدو»، هذا العزف ليس مجانيّاً ولا هو تصرّف موتورين وإنّما تطبيقٌ لمنهج، ومعرفةٌ «مطمئنّة» إلى ردود الفعل.
***
الحلّ لتفادي نشوب حربٍ كونيّة إعداميّة هو تعايش الثقافات لا إفناءُ بعضها لبعضها الآخر. بصرف النظر عمّا نعتبره تخلّفاً أو تقدّماً. التعايش هو ما يُخصب ويُفتّح. ماذا يعني أن يتحوّل الكوكب الأرضي كلّه إلى غابةٍ واحدة بنوعِ شجرٍ واحد؟ أهذا هو حلم آدم الجديد؟ أم هو مشروع روما الجديدة؟
إنّ ما حصل ويحصل من انكماشٍ إسلامويّ وتصلّب في ردّ الفعل إنّما يحقّق أهداف المشروع الأميركي _ الصهيوني ولا يعارضه. الانفتاح مع الأصالة هو مفتاح النجاة من التلاشي، والتلاشي حتميّة محقّقة في الحالين: حال الذوبان في الأوقيانوس وحال الانغلاق والغوص الانتحاري في كوابيس التعصّب. التحدّي أمام الإسلام (وغداً أمام الصين والهند واليابان إلخ…) هو القدرة على البقاء إسلاماً دون استدراج الغرب إلى محاربته. واستدراجُ الغرب يبدأ بالأصوليّة وتفادي الوقوع في الفخّ يكون بالأصالة المنفتحة المشرقة الراغبة في معرفة الآخر والمتطلّعة بشغف إلى عالمه والمضيافة بشغف كذلك لفضول الآخر وتطلّعه إلى اكتشافها.
لقد دخل الإسلام في الجغرافيا المعاصرة بأسرها وبدأ يصبح مكوّناتٍ أساسيّة في العديد من المجتمعات الغربيّة. وآن له أن يدخل في التاريخ الحديث بشجاعةِ الواثقِ من نفسه، المتمتّع بالحقوق ذاتها للأديان الأخرى وبواجباتها.
***
الكراهيّة الدينيّة سريعة الاشتعال، وليس هناك أشدّ دماراً منها. كانت مهمازاً للمجازر ولا تزال وإنْ بمسمّياتٍ سياسيّة. وأكثر هذه الأديان تبشّر بالتسامح والمحبّة. قد يتسامح فيها الأفراد ويتحابّون وما إنْ يلتئموا جماعاتٍ حتّى تستيقظ فيهم شهوة إلغاء الآخر.
***
يقول صموئيل هنتينغتون في كتابه «صدام الحضارات» إنّ «جميع الذين يبحثون عن هوية وعن وحدة إثنيّة يحتاجون إلى أعداء». ربّما. ولكن لماذا لا نقول إنّهم يحتاجون إلى أصدقاء يعينونهم في هذا التفتيش المشروع والنابع من فزع الطفولة في الشعوب وفي الأفراد؟ لماذا يُتَّهَم الضعيف المتمسّك بجذوره ولا يُتَّهَم القويّ الراغب في محو ذاكرة الأضعف وتذويبه في أوقيانوسه؟
يقول «صدام الحضارات» أيضاً إنّ الإسلام أفاد ابتداءً من سبعينات القرن الماضي من ارتفاع أسعار النفط لمحاولة قلب المعادلة السابقة، أي الغرب المسيطر على الشرق، إلى المسلمين المهيمنين على الغرب، ليس إظهاراً لقدرةِ المسلمين، «بل ازدراءً بالمسيحيّة». ويمضي هنتينغتون في استشهاده بجون كيلي فيقول: «إذا وضعنا أفعال الدول المنتجة للنفط في سياقها التاريخي والديني والعرقي والثقافي، تصبح بكلّ بساطة مجرّد محاولةٍ لوضع الغرب المسيحي تحت نير الشرق المسلم».
يظلّ مثل هذا الكلام فولكلوراً سياسيّاً إلى أن يبدأ هنتينغتون باستعراض الخطر الديموغرافي، فيقول إنّه، في حين أنّ تصاعد نجم الشرق الأقصى غذّاه ازدهار اقتصادي باهر، فإنّ انبعاثَ الإسلام قد غذّاه تزايدٌ صاعقٌ لعدد السكّان. ويسمّي بالتحديد بلاد البلقان وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى. وإذ يقف تزايد السكّان لدى غير المسلمين عند حدود 1.85 في المئة، فإنّه يرتفع في المجتمعات الإسلاميّة إلى 2 في المئة وأحياناً 3 في المئة. ويستخلص: «بالإجمال كان المسلمون عام 1980 يمثّلون 18 في المئة من سكّان العالم، وعام 2000 سيصبحون بالتأكيد 20 في المئة. أمّا سنة 2025 فسيرتفع عددهم إلى 30 في المئة». (صدر الكتاب عام 1996).
نفهم من الكتاب كذلك أنّ المسلمين يشترون الغرب أماكن وضمائر بأموالهم وقريباً يصبحون ثلث البشر ولا يعودون بحاجةٍ إلّا إلى حوافز العصبيّة والثأر فضلاً عن غريزة الغزو لدحر الغرب في عقر داره.
لم يخبرنا هذا الكتاب ولا أحد كيف سيستغني الإسلام المنتصر بالمال والإرهاب عن الأدمغة. هل سيباشر صناعة الأسلحة التي يبيعها إيّاه الغرب ابتزازاً ودون أيّ حاجةٍ لها؟ هل يبدأ المسلمون سادة العالم الجدد باختراع التكنولوجيّات الما بعد الحداثة؟ وكيف سيلجمون الغرب العلماني والغرب الملحد والغرب الحرّ عن مواصلة ممارسة عاداته وتقاليده؟ أم أنّ صلاح الدين الأيّوبي الجديد، سواء كان حجازيّاً أم فارسيّاً، سيشكّ سيفه فوق دماغ العالم ويثبّته بقوّة عضلاته فضلاً عن أكياس ذهبه؟
في تقديرنا المحدود أنّ مثل هذا الكتاب وهذه النظريّات لا تحذّر من سقوط الحضارة الغربيّة، وقد سقطت جوانب عديدة منها، بقدر ما مهّدت وتمهّد لحروبِ إحكام السيطرة الرأسماليّة الغربيّة على العالم، بدءاً من أفغانستان والعراق والآن سوريا وغداً سائر الدول العربيّة. وهذا قطعاً، للمناسبة، ليس الغرب المسيحيّ وإنّما غرب المخطّطين الاستراتيجيّين الصهاينة من كلّ الأديان، بما فيها الإسلام.
غير أنّ التفكيك في مصدره وأهدافه عبقريّة واحدة هي التي توحي وتدير وتُشغّل الآخرين.
من تفكيك الأنظمة إلى تفكيك الذرّة إلى تفكيك العقل الباطن إلى تفكيك الفنّ إلى تفكيك اللغة إلى تفكيك الشعوب.
وخلْفَ هذا التفكيك يقف في الواجهة غولٌ يسكرُ بسطوته وتقف خلف الستائر أصوليّةٌ غير قابلةٍ للتفكيك، أصوليّةٌ تعمل على الغرائز ولم تُخْذَل في التاريخ مرّة إلّا استثمرت هزيمتها وحوّلتها إلى انتصار.
***
*فدائيّون
أقرأ ياسين الحاج صالح في «ملحق النهار» وأقول: لن يجعلونا كلّنا نيأس. ها هوذا رجل شبع سجناً ويعيش تحت الخطر ولا يزال يسدّد اللكمات. ها هوذا رجل يقول لا لا، نعم نعم.
ومثله عشرات في سوريا ذاتها. في العراق ومصر واليمن والبحرين والسعوديّة وتونس ولبنان. رجالاً ونساءً.
يرى المرء نفسه صغيراً أمام مَن يصمد على موقفه في الأهوال. لعلّ السرّ هو في أكثر من الانتصار على الخوف: لعلّه في شغفِ الخطر، حيث تغدو المخاطرةُ البرهان الحسّيّ الوحيد على وجود معنىً للحياة.
***
* هاوية في السماء
مَن يحكم الآخر الجذور أم الأعماق؟
لا أعرف.
الجذور تنشب جوارحها في باطن الأرض، الشجرةُ تنتصب في وجه القمم وعلى شفير المنحدرات.
مَن يحكم الآخر المُكافح أم مادّة الكفاح؟ الإنسان أم الشهوة؟ الطائر أم الريح؟
لنجاوب في استبعاد فكرة التحكّم. الأعماق مخيفة، الجذور تؤنسها. الشجر يسافر واقفاً. الإنسان يتحكّم في شهوته والشهوة تتحكّم في الإنسان. الطائرُ يلعب ويرتزق والريح هاوية في السماء.
صفحة أخيرة
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ١٥ أيلول ٢٠١٢
فيلم «براءة المسلمين» حلقة جديدة في مسلسل له بداياتٌ عريقةٌ في التاريخ الديني وليس له نهاية. الكراهية الصهيونيّة للإسلام ونبيّه سبقتها ولحقتها كراهيةٌ لا مثيل لها للمسيحيّة ومسيحها ورسله وأسرته وكنيسته وشعوب المسيحيّة وفي طليعتها الكاثوليك. يكفي استعراض أفلام هوليوود، وهي المستعمرة اليهوديّة الكبرى في العالم والأكثر استعماراً للعقول والأفعل تأثيراً في القناعات، لنتبيّن ذلك.
لا نقولها مزايدةً على المحتجّين والهائجين ضد الفيلم، وهو في الحقيقة تفاهة وحقارة لا تستحقّان الذكر، بل نقولها لنضيف انّ رد الفعل على مثل هذه الاستفزازات يجب أن يسيطر عليه الوعي لا الغوغاء. هل يعتقد المستاؤون الليبيّون الذين قتلوا السفير الأميركي أنّهم دافعوا عن الإسلام وخدموا نبيّه؟ هل يعتقد انتحاريو 11 أيلول في نيويورك أنّهم أعلوا رايةَ الإسلام والعروبة؟ هل يعتقد غزاة الأشرفيّة احتجاجاً على الرسوم الدانماركيّة الساخرة أنّهم صانوا كرامة الإسلام؟ هل يعتقد أيّ انتحاريّ يقتل مدنيّين أنّه يسهم في ترغيب الناس بالإسلام؟
ردود الفعل الهائجة هي ما تأمل به الصهيونيّة. والمسلمون يرتكبون تجديفاً بحقّ الإسلام ورسوله كلّما تصرّفوا بما يوحي أنّ الإسلام ورسوله من الضعف بحيث لا يحتملان تهكّم الأعداء.
***
الإسلام أشدّ ما يكون اليوم حاجةً إلى تظهير رشده وسماحه. وبعيداً عن الشريط السخيف السالف الذكر، نرى في القمعيّات التي تشهدها الميادين العربيّة هنا وهناك ما يُحزن. نحن من جهتنا نؤمن بإيمانِ كلّ مَن يؤمن. بالمعنى الديني وبالمعنى الفكري والفنّي والسياسي والإلحادي والعاطفي والعائلي والعشائري. المقدَّس هو أن نحترم تقديس المرء لما يقدّسه. بمعنى آخر، المقدّس هو الحريّة. وأصعب ما في الحريّة أنْ نقبل بها عند الآخر. وقد أتقن الغرب ذلك. ويجب أن يتقنه المسلمون ولو على مضض.
***
عظّمت الثورة الفرنسيّة مفهوم الله وأكسبته معانيَ كونيّة. كتب ديدرو عبارته الشهيرة: «وسّعوا الله!». تحاول تيّارات داخل الثورات العربيّة أن تصنع الله على صورة جهلها وتعصّبها. هوّة مخيفةٌ بين التوسيع الفرنسي والتقزيم العربي وبعض الآسيوي. إسلاميّون في مصر وتونس وغداً في العراق وسوريا ولبنان يعتدون على فنّانين وفنّانات باسم النهي عن المُنْكر. كتب أحد المعلّقين متألّماً كيف كانت بغداد قبل عقود فقط عاصمةً من عواصم الفنون والعروض المسرحيّة والسينمائيّة والغنائيّة فضلاً عن مهرجانات المربد وغيرها، وكيف صنعت دمشق صعودها المسرحي والسينمائي والأدبي بما أدهش الجميع، وكيف سحرتْ بيروتُ العالم قبل خمسين سنة وكيف أمست تخشى أن ترفع صوتها. بدأ السلفيّون يستبدّون بنا قبل أن يتسلّموا السلطة. ثوراتٌ علمانيّة سلميّة وإنتاجاتٌ دينيّة مسلّحة. انتفاضاتٌ ضدّ السفّاحين تنجب إرعاباً للمسفوحين.
كان الشاعر العراقي الاستثنائي عبد القادر الجنابي يحذّر من تعريب أيّ شيءٍ غربيّ قائلاً: «سيفسدونه!». يقصد أنّ العرب استوردوا الشيوعيّة فأجهضوها واستوردوا الرومنسيّة فَرَمَّلوها واستوردوا الأفكار القوميّة فعملوا منها أجهزة استخبارات.
اليوم هناك خطرٌ جديّ بتحويل «الربيع العربي» إلى مسلخ عاديّ ويوميّ للشعوب وإلى كونتينورات للكيانات بعد تشقيفها إلى عشرين ديناً وطائفة ومذهباً وطريقة وعشيرة، وتأليب الجميع على الجميع.
لا نتحسّر على قرونٍ غابرة بل على بضعةِ أشهرٍ سبقت وكانت غمّازة وراء الباب. لسنا غيرنا بل ما زلنا نحن. هل كنّا أوروبيّين وأميركيّين ونمنا فقمنا مطاوعة؟ هل استطعنا أن نبلف الأمم منذ مئة سنة يوم صنعنا سينما بدائيّة لطيفة تُتَبادَلُ فيها القبل ويُرى جزء يسير من عريٍ مثير وسط أجواء «الدنيا سكارة وكاس» و«اسْقِنِيها بأبي أنت وأمّي» و«رباعيّات عمر الخيام» وغيرها الكثير من أجمل ما لُحِّنَ وأُنشد في القاهرة؟ هل كنّا فنّاصين؟ أين هم أبناء أولئك الروّاد، أحفادهم، تلاميذهم، جمهورهم؟ أين المسرح التونسي؟ وأين السوري، السوري الخلّاق المذهل؟
والجمهور هل يُعْقَل أن يتحوّل من متحمّس لفتحيّة أحمد ومتعصّب لأمّ كلثوم وأسمهان وليلى مراد وشادية وسيّد درويش والقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب ومحمد فوزي وعبد المطّلب وبليغ حمدي وكمال الطويل وغيرهم عشرات من أرباب النغم والغناء والرقص والعزف والتمثيل، هل يمكن هذا الجمهور أن يصبح أصمّ وأعمى وأرعن بين ليلةٍ وضحاها؟ هل يمكن مصر أن تتدهور إلى مصرين: مصر النجوم المكفَّرة ومصر النجوم «المؤمنة»؟
وسّعوا الله أيّها الذين يخطّطون للعيش في هذه البلاد. تضييق الله سيهشّل الناس من نواحيكم فتخلو الساحة للتذابح بعضكم بين بعض كما والله تنبئ الحاليّات والمخبآت.
وإذا صدفةً علمتم أنّكم في هذه المعركة أو تلك وفي هذه الحرب أو تلك كنتم مجرّد أدوات لتخريب بلادكم وإبادة شعبكم، هل تنتحرون؟ وماذا يفيد الإسلام إذا انتحر مفجّرو برجَي التجارة أسفاً… بعد التفجير؟
***
نودّ لو يخبرنا أحد من أصحاب السعادة مديري المجتمعات ورجال العصابات وأشباح الاستخبارات، أو من ألطف لطفاء الماسونيّين ورجال الدين الغامضين والذين لهم علاقات مع جمعيّات التنوير الظلاميّة أو الظلام التنويريّة ومع الألوميناتي وحرّاس الهيكل وأمناء سرّ المنشآت العنكبوتيّة «الروحيّة» وحاخامات اليهود، والمليارديريّة كارلوس سليم وبيل غيتس ووارن بافيت وبرنار أرنو، إلى ما لا نعرف من دوائر التلاعب بمصادر الرزق والطاقة والدواء، وأبطال كرة الدم ومواسم الإبادة، نودّ لو يخبرنا أصحاب الجلالة هؤلاء هل بينهم مَن سيستطيع أن يوازن سلطانه التلاعبي بقدرته على لجم جنون التاريخ؟ لأنّه جنون التاريخ هذا الذي قيل إنّه نهاية التاريخ، والذي يقال الآن إنّه ثوراتُ الشعوب، بعدما قيل بالأمس إنّه حتميّة التاريخ، وسوف يقال بعد قليل إنّه سقوط التاريخ!
جنون التاريخ هو ما تعيشه البشريّة هذه اللحظة، من القطب إلى القطب، ومن أقوى إنسان إلى أضعفه.
وإذا لم يكبح هذا الجنون جنونٌ أشدّ، جنونٌ خَيِّرٌ وأشدّ، فلن يبقى أحد ليبكي على أحد.
*رحل وهو يظنّ
رحل صديقي وهو يظنّ أنّي شتمتُه.
كنتُ أشتم قريباً له أرهقني بأكاذيبه.
لكنّ الذات المتضخّمة لا تستوعب أن يُوجَّه كلامٌ خارج المألوف، إيجاباً أو سلباً، إلّا لها. فهي «ذاتٌ مرجعيّة».
لم يدُرْ في خَلَده أن الكلام يمكن أن يكون عن سواه وأنّه هو مُحكَّمٌ لا محكوم.
لكنّ سوء التفاهم سيّد الأحكام في سيرتي التي لم تؤلّف مفاصلَها إلّا حلقات لئيمة ودائماً أذكى من فريستها.
*لا تقلب الصفحة
شبَّ في بيتي حريق فاضطررتُ أيّاماً للمبيت في منزل ابنتي ندى في بلدة رومية، المتن. شكراً أيّها الحريق، بفضلك اكتشفتُ أنّ شيئاً من لبناني القديم لا يزال موجوداً. غاباتٌ وأحراج وناس طيّبون. تجتاز الأوتوستراد السريع أو الطرق المألوفة كالمكلّس والمنصوريّة أو الفنار انطلاقاً من بيروت الصلعاء أو أيّ مدينةٍ أخرى جرداء بَلْقاء، محبَطاً كالموارنة الحاليّين محروماً كالشيعة السابقين مقهوراً كالسنّة الميتّمين حائراً كالدروز المطوَّقين، يائساً بفضل أدغال الباطون وقباحةِ مَدَنيّة المخدّرات والمسالخ وقطّاع الطرق والنوّاب والوزراء الفاسدين روحاً وجسداً وشكلاً ومضموناً، وفجأةً تصعد من الأوتوستراد أو تهبط من عين سعادة… إلى جنّة!
لا تقلب الصفحة، لن أحدّثك عن الطبيعة. لا وصف ولا دموع. فقط شكراً أيّها الحريق. كان لبنان الأخضر قد تحوّل في المدن كبراها وصغراها إلى أضحوكة، وها هي بلدةٌ متواضعةٌ تُغنّي وحدها قدّ الدنيا. تغنّي بكنوزِ أخضرها وضحكاتِ قرميدها وجماهير عصافيرها وأسماء أحيائها الطالعةِ من أعدال الجدود.
وأكيد مثلها كثير في جبالنا، ونحن المدفونين تحت نفيّات المدن المتوحّشة نجهل ما نخسر. نجهل الهواء الهواء والسماء السماء والشجر الشجر والثمر الثمر والله والإنسان.
شكراً أيّها الحريق المنقذ.
من رسائل بولس
«إذا كان الإنسان الظاهر فينا يَخْرَب، فالإنسانُ الباطنُ يتجدّد يوماً بعد يوم».
***
«فمَن يكون ضعيفاً ولا أكون ضعيفاً؟ ومَن تزلّ به القدم ولا أحترق أنا؟».
***
«لا تغربنَّ الشمس على غضبكم».
***
«لا تكونوا أطفالاً في الرأي، بل تَشَبَّهوا بالأطفال في الشرّ، وكونوا راشدين في الرأي».
***
«إنّ الزمانَ يتقاصر. فمنذ الآن ليكن الذين لهم امرأة كأنّهم لا امرأة لهم، والذين يبكون كأنّهم لا يبكون، والذين يفرحون كأنّهم لا يفرحون، والذين يشترون كأنّهم لا يملكون، والذين يستفيدون من هذا العالم كأنّهم لا يستفيدون حقّاً، لأنّ صورة هذا العالم في زوال».
أنسي الحاج سياسة
تكون الأخلاق أو لا تكون في كنه الإنسان. هي جَبْلتُه وصيرورته. لا أخلاق في الطبيعة بل توازن، وجودٌ خارج الإرادة البشريّة، ساعة ضخمة وراءها ساعاتيّ مجهول. الأخلاق صناعةٌ بشريّة، تجويد لجوهر ملازم، تجويدٌ ذروته ما ندعوه الضمير، وذروة الضمير ما ندعوه الله.
الأخلاق دمٌ في الدم، روحٌ في الروح، وقد يعطي الدم ذاتَه فداء، وقد يفترس نفسه يأساً، وقد تنفخ الروحُ الحياة في دنيا، وقد ترهقها ريشة فتزول.
لا أخلاق في السياسة بل أسلوب. الأخلاقيّون في السياسة مقهورون أو مقتولون. والأخلاق لا تكفي للانتقال من دكتاتوريّة الأنا إلى عوالم الآخر.
لا بدّ من الحبّ.
السبت ٨ أيلول ٢٠١٢
جريدة الأخبار اللبنانيّة
ليس من حقّكَ أن تؤمّلها بأكثر من طاقتك.
إعجابك يبهرك، يولعك، فتقول ما يجعلها تنام على أحلامٍ مستحيلة، وتتصرّف، تحت نار رغبتك، كأنّك الفارس الذي سيعوّضها ويرفعها فوق السحاب.
ها هي تحلم بلا حدود، تُصدّق مهما تدلّلتْ متظاهرةً بعدم التصديق. والعاشقُ صادقُ العاطفة، لكنّه كذّاب لأنّه في الأغلب سوف يعجز عن المطابقة بين الوعد والتنفيذ.
لو استطاعت المرأةُ أن تستعذب الوعود دون أن تصدّقها لما تجهّمت العلاقة، لما تسمّم الجوّ في ما بعد بالعتاب والأسى. العاشقُ ينسج لها رؤى أشواقه، وهي تراها حياةً ستعيشها في الواقع.
لا تستطيع المرأة أن تعطي أكثر ممّا تعطيه. إنّها تفي بوعودها. ما تعجز عنه هو على الأرجح تصعيداتٌ ابتكرتها تصوّرات العاشق. سراباتٌ هي غير مسؤولة عنها. السحر يبعث بتوهّجاته وفق الأجهزة العصبيّة التي تتلقّاها. لا يُقاضى السحر في محاكم الاستحقاق. من حقّنا أن ننقم على أقدارنا لا على ضحايا الأقدار.
الطفلة التي تكون في الفتاة الصغيرة تبقى في الصبيّة وفي المرأة. في هذا رباطٌ أكيد بين المرأة والشاعر: كلاهما يكبر على طفولة. لا تَعِد طفلاً وتخلف بوعدك. ستكسر له حلماً لن يتوقّف نزفه وسيحفر في مكانه تجعيدةَ قلقٍ حيال جميع الوعود.
***
تحتاج المساكنةُ إلى تمثيلٍ يشبه حاجةَ الجسد إلى كساء.
***
ليت المعشوقة تأخذ من كلام الحبّ رحيقه وتنسى الباقي. شَهْدُ التوقِ، ولا تحاسب على الأطباق. لكنّ ذلك صعب. أرض الميعاد بالنسبة إلى المرأة تقع في الغالب على حدود الكلام. وراءه لا أمامه. جهاز دفاعها عن هذه الخيبة يكمن في القناعة. وفي أملٍ بإطلالةِ إعجاباتٍ جديدة.
***
تبكيتُ الإخلال بالوعد خنجرٌ يحزّ في روحك وشبحٌ يصعق عينيك كلّما خلا رأسكَ ممّا يلهيه.
***
الشوق، إن لم تتجاوز به الحُمّى حدود الشرود، فؤادٌ ساكن. يغلي، يغلي، ولا يفور. يحفر ويغور، ولا يفور.
الشوق حاجةٌ، إشباعُها فيضُها على السكون. والفيضُ، أي الوصال، قد يزيد الشوق، وقد ينقصه، وقد يمحوه.
الشوقُ يقيم في النقص، في التقصير، في الجبن، في شبهِ عَدَم. الوصول شجاعة. الوصال يراوح بين ثلاثة: الاعتياد، الشغف المتصاعد، الانتحار.
شعراءُ الحبّ المجنون يقيمون في النقص، مُشْبَعين ومحرومين.
***
معاينةُ اللهِ تُعمي، أي تُطفئ. الحرمانُ من مشاهدته يؤجّج الجوع إليه.
كذلك في الحبّ. قد نحبّ ذاتنا في الحبيب، غير أنّنا نحبّ أكثرَ منها ذاته، ذاته الضبابيّة، الناصعة الضبابيّة، الغامضة الحارقة، ذاته الحاملة أحلامنا، القابلة مستحيل أمانينا.
ذاته الغائبة غياباً نلقي عليه بآلامِ الشوقِ تباعاً، كأنفاسٍ كلّما قاربت الرمق الأخير تجدَّدَ شهيقها من زفيرها.
***
الحياةُ موتٌ بطيء، الشغفُ يتحدّاها ويتحدّاه.
يجب أن نحاذر تقليد الحبّ المجنون. يكون أو لا يكون.
اركنْ إلى الذاكرة لتتأكّد أنّك عرفته، لا إلى المخيّلة أو الثقافة.
الحبّ المجنون، أجمل حبّ، يهودي تائه يبحث عن موته.
***
لا تنظر وراء العبارة وأنت تقولها. تقدَّم. ستحلو الفراغات لمَن يملأها.
***
«مَن أنتِ؟ لا أدري وما ضَرَّني
جهلي، وجهلي اللذّة الباقيةْ
أطيَب ما في الشعرِ أغنيةٌ
تبقى بلا وزنٍ ولا قافيةْ»
صلاح لبكي
***
إنْ لم تُصِب من أوّل مرّة فلا داعي للتكرار.
إنْ لم يفهم من المرّات الأولى فعاودي الكرّة إلى أن يندم على ما فات.
***
اختَرْ، إنْ كنتَ من هواة الألم، حبيباً يتضاعف حجم الغياب فيه كلّما ازدادَ حضوراً.
***
يراوحُ بُعْدُ الغيابِ لدى المعشوق بين ما لا تفهمه في شخصيّته وبين ما لا وجودَ له في هذه الشخصيّة وإنّما في نظرتك إليه. النتيجة واحدة. المهمّ أنْ تستلقي على الغيمة وتظلّ تجهل أنّك ستقع.
***
بعضهم ما إنْ يعبّر عن حبّه حتّى يرتاح منه…
***
نستطيع العيش بلا ذاكرة فهل نستطيع العيش بلا نسيان؟ «نجّني يا ربّ من نسيان النسيان!» يقول الشاعر. النسيان هو الحجر الفلسفي، الينبوع الذي في الاغتسال به تتقشّر الروح.
والفيلسوف يجيب الشاعر: «بل حذارِ نسيان التذكّر، لأنّ الذاكرة هي فكرك وروحك، وبدونها أنت نبات».
الأوّل يهجس بالطمأنينة والآخر بالأخلاق. الشاعر يلوذ من نفسه بالمجهول، بأجنحة المخدّر، على رَحْب المُسْكر أو السَفَر، في مضيق الانطواء، وسائر المروقات على الذات أو الاضطجاع فوقها بأمل تغييبها، والفيلسوف يحاول حماية القيم والمبادئ من الضياع في زوبعة الأنا.
أين يقف مَن هو لا هذا ولا ذاك؟
في المنطقة المنزوعة السلاح بين هَلَع الشاعر ومبدئيّة الفيلسوف.
… وفي صَهْرِهما معاً، حيث الإنسان قبْل آدم وحوّاء.
***
يقول آباء الكنيسة، من بولس إلى يوحنا الذهبيِّ الفم إلى توما الإكويني، بوجوب خضوع المرأة للرجل، وبأنّها لم تُخْلق في البدء بل آدم، وإذاً فهي لم تكن واجبة الوجود.
يريدون أنّ الخليقة صناعةٌ محض ذَكَريّة، فالله، في اللغة والتصوّر وكتب الدين، مذكّر، وقد اجتزأ الأنثى ضلعاً من الذَكَر لمؤانسته في الوحشة. أي إنّ آدم ولد يتيم الأمّ. ولد راشداً بلا طفولة. أمّا حوّاء فلم تحظَ بشرفِ جَبْلها من تراب واكتُفيَ لها بقطعةٍ من آدم. هي طبعاً رموز، لكنّ الرمزَ أصدقُ إنباءً من الكتب: كلّه وكلّها احتكارٌ ذَكَريّ للسلطة.
لا تثوري يا سيدتي. لا تقتبسي شيئاً من عادات الرجل. يكفي أنْ تكوني على أجنحة مواهبكِ.
يستحيل تخيُّل الكون معزولاً عن احتضان الحنان له.
***
حيث يكون قلبك يكون كنزك.
***
حبّ يوقع في هاوية وآخرُ يَرْفع من هاوية. تعرف أيّهما هو، عند وحي الشروق وفي حصاد المغيب.
***
لماذا نَنْشد التخلّص من حبائلنا؟
شيءٌ آخر سيحلّ محلّها، وقد لا يكون أرحم.
لن نتمكّن من العيش بدون حبائل، بدون قَهْر، بدون مغالبة.
بدونها نقع. لن نعود نتلمّس شيئاً وراء الشيء، وسنفتقد اللعب. سيفقد صوتنا رونق الصباح، وصمتُنا معنى الكبرياء. وسيخسر الحبّ ارتعاشةَ المعجزة.
عابــــــرات
جئتِ كنتُ حزيناً قلتُ نعم
ابتداءً منكِ قلتُ للعالم نعم.
بول إيلوار
***
ليس الجمال إلّا الوعد بالسعادة.
ستندال
***
أَنْ يُحَبَّ المرءُ دون أن يُغوي، لواحدٌ من أجمل أقدارِ الإنسان.
أندريه مالرو
***
الحبّ هو الهوى الوحيد الذي لا يحتمل ماضياً ولا مستقبلاً.
أنوري دو بلزاك
***
ما فائدة الكلام!… ما نفع الكتابة؟ ما لم يكن المصغي هو الحبّ، ما لم يكن الحبّ هو الذي سيَقرأ؟
شانتال شوّاف
***
مستقبل الرجل هو المرأة.
إنّها لون روحه.
آراغون
***
دعني أحبّك
دعني أُعميك.
جويس منصور
***
حرمان الحبّ هو أفدح أنواع الفقر.
الأمّ تيريزا
***
في الحبّ هناك دوماً واحدٌ يتألّم وآخر يَضْجَر.
بلزاك
***
أن تكون عاشقاً هو أن تَخْلق ديانةً إلهُها ليس معصوماً عن الخطأ.
جورج لويس بورخيس
سبتمبر 6, 2012
النداء الذي يناجينا في المحبوب ليس صوته ولا خطاب عينيه. لا ولا سحر جسده. إنّه صوتنا نحن، صوت استغاثتنا به.
نستغيث فنتوهّم أنّه هو مَن ينادينا. لأنّ الصوت هو في الحقيقة صوتانا نحن الاثنين: واحدٌ ينادي من الأعماق وآخر يجاوب من الأعماق. واحدٌ ينادي والآخر أيضاً ينادي.
يناديان مَلَاك النجاة.
النجاة ممَّ؟
من التخلّي.
تخلّي ماذا، تخلّي مَن؟
تخلّي مَن يحرسنا.
الحبّ أقوى من الحياة.
سبتمبر 6, 2012
في المرأةِ مساحةٌ رحبة طريّة، مساحة داخليّة متمادية، حافلة بالمفاجآت، مساحة لا وجود لمثلها لدى الرجل.
مائيّة الأحضان السريّة، رطوبة الأعماق وبشاشتها – هذا «الاستعداد» الكياني المخلوق، لا وجود له لدى الرجل.
لديه استعداد الصداقة، لكنّه من طينةٍ أخرى.
أرضُ الرجلِ جرداء.
أرض المرأة خضراء.
سبتمبر 6, 2012
تعرض الصالات فيلماً أميركيّاً اسمه «ذي اكسبندلز _ 2» يجمع كلّ قبضايات السينما. مناسبة لنبدي ملاحظة: بعض هؤلاء الممثّلين، مثل شوارزينغر وفان دام وتشوك نوريس، «تخرج» وجوههم من الشاشة. تندلق، لا تمتزج. لا لزوم للتنويه بتفاهة أفلام العضلات والضجيج هذه، فلها أهدافها السياسيّة بالإضافة إلى التجاريّة، وهي خلق مجتمعاتٍ معتوهة تدمن ما يزيدها عتهاً. نتوقّف فقط عند ما يمكن تسميته استشهاد الشاشة. الشاشة، التي لها في ماضيها وفي حاضرها بدائعُ تداني أحياناً أجمل لحظات الشعر، تجتاحها منذ سنين بهائميّة دمويّة لحميّة لا تليق بغير الخنازير. إذا شاهدتَها بقرقعات ضجيجها ورصاصها وتصادم سيّاراتها ينفجر دماغك، وإذا شاهدتَها مجرّدة من هذا الضجيج لا يبقى لها شيء.
الكاميرا تعشق وجوهاً وتلفظ أخرى. ريتشارد غير وجورج كلوني وكيت بلانشيت وناتالي بورتمان تعشق الكاميرا وجوههم وتعشقهم عيون المتفرّجين. يذوبون في العيون كالسكّر في الماء. معشوقُ الكاميرا مدلّل الآلهة. يتجاوز كونه صورة أو حركة ليغدو حلماً مختاراً.
الشاشةُ تتململ من مرهقها وتخدم الذائب فيها.
كثيرون هم الممثّلون الذين يصبحون نجوماً دون أن تعانقهم الشاشة. مل غيبسون، مثلاً، أو كيفن كوستنر، يبقى الوجه منهما يُفصح عن أنّه يمثّل.
الشاشةُ، مثل بعض النساء (والرجال) تعشق مَن ينساها.
حوار بين: أنسي الحاج، ناديا تويني، يوسف الخال
سبتمبر 3, 2012
حوار دار عام 1969 بالعربية بين أنسي الحاج وناديا تويني ويوسف الخال
.أ = أنسي الحاج. ن = ناديا تويني. ي = يوسف الخال
I
أ ـ ما هو الهمّ؟
.ن ـ غَرْس الصحراء في كل قلب
أ ـ ما هي الصحراء؟
.ي ـ قلبٌ بلا همّ
أ ـ ما هي الصحراء؟
.ن ـ أرض صالحة لزرع الكلمات
أ ـ ما هي الكلمات؟
.ن ـ نبات الموسيقى
أ ـ ما هي الموسيقى؟
.ي ـ صوم وصلاة
أ ـ الصوم نعرفه. والصلاة؟
.ن ـ الصلاة هي الحب
أ ـ ما هو الحبُّ؟
.ن ـ هو العجز
أ ـ ما هو الشعر؟
.أ ـ هو أنا الأعزل أمامه
أ ـ ما هو السلاح؟
.ن ـ هو ما ينقصك دائمًا حين تحتاجه
أ ـ ما هو الجنس؟
.ن ـ هو الجنس الآخر
أ ـ ما هو الجنس؟
.ي ـ هو الإناء الفارغ
أ ـ ما هو الجنس؟
.أ ـ هو تلك اليد، وراء الصوت
أ ـ ما هو العقل؟
.ي ـ قَدَم على رمال الفضاء
أ ـ ما هو الوعي؟
.ن ـ هو اليأس
أ ـ ما هو اليأس؟
.ي ـ منتهى الأمل
أ ـ ما هو الأمل؟
.أ ـ سجن الأحلام
أ ـ ما هو الحلم؟
.ن ـ صوت ابيض لامرأة بيضاء في صحراء بيضاء تحت سماء بيضاء
أ ـ ما هو الحوار؟
.ي ـ الاعتراف
أ ـ ما هو الاعتراف؟
.ي ـ السر
أ ـ ما هي النار؟
.ن ـ صوت اصطدام اليد باليد
أ ـ ما هي اليد؟
.أ ـ العزلة
أ ـ ما هو الصباح؟
.ن ـ كيف تريد أن أعرف
أ ـ ما هو الصباح؟
.أ ـ هو اليوم الأول
II
أ ـ لماذا تغلقين أبوابك في الليل؟
.ن ـ لأني أخاف الأحلام
أ ـ لماذا لا تفتحينها في النهار؟
.ن ـ خوفًا من الشمس
أ ـ لماذا تدور رصاصةٌ في قلبك؟
.ي ـ صدفة
أ ـ لماذا تحمل الغليون بين شفتيك محلّ السيف في غمدك؟
.ي ـ لأنّ السيف لا يُطلع دخانًا
أ ـ لماذا أخاف؟
.ن ـ لأنّ الأرض تدور
أ ـ لماذا الأرض تدور؟
.ن ـ لأنّها فَقَدتْ صوابها
أ ـ لماذا يذهبون إلى هناك؟
.ن ـ لأنّه لا خيار لهم
أ ـ لماذا يصدّقونكِ؟
.ن ـ لأنّهم أهلي
أ ـ لماذا لا يصدّقونكِ؟
.ن ـ لأنّهم أهلي
أ ـ لماذا لا يتم اللقاء إلاّ تحت قَرع الأجراس؟
.أ ـ لأنّ حبيبتي أهدتني كنيسة
أ ـ لماذا لا يتم اللقاء إلا تحت قرع الأجراس؟
.ي ـ لأنّي لا أحمل سريري
«ويـــــن صرْنـــــا!؟»
جريدة الأخبار
السبت ١ أيلول 2012
جلسة مع روجيه عسّاف أعادت إلى الرئتين هواء السماء القديمة. يتألّم هذا الفنّان الكبير، المعطاء المثقل بالديون، من التدهور العام: «وين صرنا!؟ شو عم يحصل!؟ هيدا نحن!؟». يضيف: «في حدا بيعرف اليوم مَن هو عاصي الرحباني!؟». طبعاً معه حقّ. تراث بأمّه وأبيه من القرن التاسع عشر إلى اليوم صار نسياً منسيّاً. دولةٌ أُميّة ومجتمعٌ جاهل. شكا لي شاب ثلاثيني قبل شهر: «فراغ بفراغ. شو منملك بهاالبلد؟ لا فكر لا أدب لا فنّ. تاريخنا فاضي».
عددتُ له بعض الأسماء: «أحمد فارس الشدياق، بطرس البستاني، اليازجيّان، يعقوب صرّوف، أديب إسحق، جبران _ نعيمه _ أبو ماضي _ الملّاط _ الأخطل الصغير _ بولس سلامة _ فؤاد أفرام البستاني _ أبو شبكة _ يوسف غصوب _ صلاح لبكي _ مارون عبّود _ سعيد عقل _ ميشال طراد _ توفيق يوسف عوّاد _ خليل تقيّ الدين _ لطفي حيدر _ سليم حيدر _ رشدي معلوف _ طلال حيدر _ جورج شحاده _ فؤاد أبو زيد _ فؤاد غبريال نفاع _ سعيد تقيّ الدين _ فؤاد سليمان _ أنطون سعادة _ عبد الله العلايلي _ شارل قرم _ ميشال شيحا _ عمر فاخوري _ رئيف خوري _ فؤاد كنعان _ يوسف حبشي الأشقر _ سهيل إدريس _ شوقي أبي شقرا _ عبّاس بيضون _ محمد العبد الله _ بول شاوول _ حسن داود _ شوقي بزيع _ حسن عبد الله _ فؤاد رفقه _ محمد علي شمس الدين _ عبده وازن _ أحمد بيضون _ فيليب حتّي _ كمال الصليبي _ ميّ زيادة _ ليلى بعلبكي _ ليلى عسيران _ هدى بركات _ ناديا تويني _ هدى النعماني _ نور سلمان _ سعاد الحكيم _ هدى أديب _ حنان الشيخ _ علويّة صبح _ وسواهم ممّن لا يحضرون الآن للذاكرة، ألا يعنون لك شيئاً؟».
اجاب: «سمعتُ ببعضهم، طبعاً، لكنّي لم أقرأ لهم. أين نجد كتبهم؟».
شرحت له أنّه لن يجد كتبهم. إلّا ما صدر حديثاً للأحياء منهم، فليسارع قبل أن تُسحب من المكتبات.
المجتمع جاهل لأنّ الدولة أُميّة. تحت النير الستاليني كان الشعب يستطيع الاستمتاع بروائع الباليه والأوبّرا والموسيقى استمتاعاً مجانيّاً لأعظم الفرق الفنيّة. الطاغية سفّاح لكنَّ النظام الشيوعيّ وفّر البُنى الأساسيّة للتثقيف الفنّي، ولو موجَّهاً. ولم يعتّم على التراث السابق له إلّا في حالاتٍ صارخة التعارض مع مبادئ النظام.
فرنسا، عَبْر مؤسّساتها الأكاديميّة ودور نشرها وصحافتها ومحطّاتها الإذاعيّة وقنواتها التلفزيونيّة واليوم عبر الانترنت، ساهرة على تراثها الأدبي والفنّي والفكري سهراً نموذجيّاً، تعيد نبش ما لم يُنْبَش بعد من حذافير التفاصيل في آثار هذا الشاعر وذاك القاصّ وذلك الفيلسوف أو المصوّر، ولم تدع أديباً من أدبائها إلّا خلّدته عبر جمع كلّ آثاره ونقدها وتنويرها تأريخيّاً بالشاردة والواردة.
الأمثلة كثيرة على احتضان الأمم لتاريخها وتراثها، لا سيما تلك التي تدرك أنّ أدمغتها ليسوا ملكاً حصرياً لها وأنّ آثارهم شعّت أو تَشعّ أو قد تَشعّ على العالم أجمع.
لا ملامةَ على الشعب الجاهل إنّما على مسؤوليه. كيف يُعيّش وزراء وحكّام تراثَ بلادهم وهم لا يعرفونه؟ كيف يحمون «الذاكرة المعنويّة» وهم بلا ثقافة ولا ذاكرة؟
قَدَر لبنان الفكري والأدبي والفنّي ليس أن يتواصل مع تراثه وحده بل أن يصون ويجمع التراث الفكري والأدبي والفنّي العربي كلّه منذ فجره إلى الآن.
لقد تخلّت بيروت عن هذا الدور مذ رُكِّعَ اللبنانيّون أمام وحش المال وغول التفاهة.
مال الحاجتين: الارتزاق لمعظمهم وقد نزلوا تحت خطّ الفقر، والبَطَر لـ«ناجحيهم» وقد أزالوا من أمامهم حواجز الأخلاق.
تبقى التفاهة. لهذه أسباب عديدة، أوّلها الالتحاق بمناخ الانحدار العام في العالم، حيث لم تستطع القلّة الخلّاقة الجديّة أن تلجم السقوط الذي تمسك بزمامه وتغذّيه وتتغذّى منه الكثرة الساحقة من أصحاب المال وأباطرة الصناعة والمسيطرين على آليّات الترويج.
هذا أوّلها. ولها سببٌ ثانٍ مستتر نسمّيه سرّ العصور. للأزمنة أحوالها. الكبار _ هؤلاء الذين تحجُبُ قاماتهم عاديّةَ الحياة وضحالة العادات _ الكبار تتحمّلهم الأزمنة مكرهة، وحين تَقْدر تدبّر لهم موتاً باكراً، وحين تعجز تكيد لآثارهم، وحين تعجز تُغرقهم بجبال الأقزام من المقلّدين أو الحاسدين أو عمّال طمس الذاكرة.
هناك بالتأكيد أسبابٌ أخرى، نفضّل عليها الأقرب إلينا: أُميّة الدولة والحكومات.
***
*صدْق الشاشة
تعرض الصالات فيلماً أميركيّاً اسمه «ذي اكسبندلز _ 2» يجمع كلّ قبضايات السينما. مناسبة لنبدي ملاحظة: بعض هؤلاء الممثّلين، مثل شوارزينغر وفان دام وتشوك نوريس، «تخرج» وجوههم من الشاشة. تندلق، لا تمتزج. لا لزوم للتنويه بتفاهة أفلام العضلات والضجيج هذه، فلها أهدافها السياسيّة بالإضافة إلى التجاريّة، وهي خلق مجتمعاتٍ معتوهة تدمن ما يزيدها عتهاً. نتوقّف فقط عند ما يمكن تسميته استشهاد الشاشة. الشاشة، التي لها في ماضيها وفي حاضرها بدائعُ تداني أحياناً أجمل لحظات الشعر، تجتاحها منذ سنين بهائميّة دمويّة لحميّة لا تليق بغير الخنازير. إذا شاهدتَها بقرقعات ضجيجها ورصاصها وتصادم سيّاراتها ينفجر دماغك، وإذا شاهدتَها مجرّدة من هذا الضجيج لا يبقى لها شيء.
الكاميرا تعشق وجوهاً وتلفظ أخرى. ريتشارد غير وجورج كلوني وكيت بلانشيت وناتالي بورتمان تعشق الكاميرا وجوههم وتعشقهم عيون المتفرّجين. يذوبون في العيون كالسكّر في الماء. معشوقُ الكاميرا مدلّل الآلهة. يتجاوز كونه صورة أو حركة ليغدو حلماً مختاراً.
الشاشةُ تتململ من مرهقها وتخدم الذائب فيها.
كثيرون هم الممثّلون الذين يصبحون نجوماً دون أن تعانقهم الشاشة. مل غيبسون، مثلاً، أو كيفن كوستنر، يبقى الوجه منهما يُفصح عن أنّه يمثّل.
الشاشةُ، مثل بعض النساء (والرجال) تعشق مَن ينساها.
***
* أغبى من الخبث
جَمَعَني الغضب بنفسي فألفيته أغبى من الخبث.
الغضب لا يستأهل الغاضب.
البرق الصامت أجمل من برقٍ ورعد.
إذا كنّا نكره الجماهير فليس لأنّها أَعدادٌ عمياء بل لأنّها تَجْعَر.
***
* عامّة، خاصّة
مؤلّفاتٌ فنيّة، أغنيات، كتابات، وُجّهت في الأساس إلى العامّة وما لبثت أن أصبحت زاد الخاصّة.
يحصل ذلك خصوصاً إبّانَ انحدارِ التأليف وضياع المواهب المؤدّية وسقوط التقييم.
أغاني عبد الوهاب الأولى نَسَجت على منوال الموّال العتيق إرضاءً للعامّة وسرعان ما أصبحت فاكهة الخاصّة في متاحفهم.
أغانيه الحديثة تَوجَّهَت بتنويعِ آلاتها الغربيّة إلى الطبقات «الراقية» فأشاح معظمهم عنها واعتنقتها العامّة.
فيروز والأخوان رحباني بدأوا للجميع ولكنْ بالأكثر للشعب. تبنّتهم الطبقة النخبويّة والمثقّفة قبل أن يعتمدهم الشعب. إلّا صوت فيروز، فقد أدرك الكلّ تفرّده منذ البداية، واعتمده الإجماع اللبناني _ السوري _ الفلسطيني والعربي حتّى في مصر أمّ كلثوم.
مشكلة المؤلّف عويصة. يذهب هنا ينتظرونه هناك. أمّا المغنّي الفذّ فهو العروس ومهما أُلْبِسَتْ فستظلّ العروس.
***
*عقاب النرجسيّ
يَصْدم عند النرجسيّ أنّه، ما لم يتخلّص من فائض نرجسيّته على الأقلّ، أو يقزّمها بالنقد الذاتي أو أيّ وعيٍ آخر، يَصْدم أنّه، وبعد أن يمضي حياته مُحصَّناً بعبادته لنفسه وداعساً على الأجساد، غالباً ما ينتهي نهايةً بائسة أو مُذلّة. نهايةً تجلب له العطف وعليه الشفقة يوم يُمسيان عقاباً إضافيّاً له.
***
* ثلاثيّة
الحبّ هو الضعف الذي يُنجب قوّة ثم القوّة التي تولّد الألم فالألم الذي يُطهّر مَكْمنه.
***
* لا قبلها ولا بعدها
أمرٌ واحد مؤكّد في الانتفاضات على الطغيان هو شرعيّة التمرّد. هذه الصرخة هي أفضل ما في العمليّة، لا قبلها ولا بعدها.
* باقةُ ورد
أحياناً، كهذا الوقت، ترفض الكتابة الاحتفاظ بشيءٍ من الواقع. لسنا نهرب، فقط، بل نعلن موتنا عن التاريخ. تاريخٌ لا تأثير لنا عليه، يسير سيره مثل مخلوقٍ مستقلّ عن الكائنات، تاريخٌ مغلق على أدواته وأبطاله. نستغرب كيف يسمح لأمثالنا من الأحياء بالبقاء أحياء.
نرسل تحيّاتنا إلى الضحايا كما يرسل البعيد باقةَ الورد من بلدٍ إلى صديق سيموت في بلدٍ آخر.
***
* الهرّة
تُبَلْسم الوحدةُ ذاتَها كما تُحمّم الهرّة نفسها بلسانها. المعاشرةُ تُلهي الوحدة فترةً قبل أن تُعمّق لها جُبّ الوحدة. الوحدةُ بنْت ذاتها. لم تكن يوماً فجراً لذاتها بل منذ البداية هي غَسَقْ.
الوحدةُ أَرَقٌ في اليقظةِ مدهونٌ بالليلْ، واضطرابٌ في النوم مأهولٌ بمن حَضَر.
اغسطس 30, 2012
الحبّ، كجميع الأحلام، يدوم ما دامت حمايته. يقال إنّ الزواج (أو المساكنة) هو الخطر الأكبر على الحبّ. الخطر على الحبّ هو انطفاءُ شعلته. وقد تنطفئ لأنّ زيت القنديل نفد. هذا قد يستعصي على المعالجة. ولكنْ إذا كانت المساكنة بتفاصيلها الواقعيّة هي التي تُشاغب على الشوق وتُقلّص مسافاته فقد لا يكون لنفاد الزيت إنّما لكسلٍ في خيال الثنائيّ وتقاعسٍ عن التجديد والتأجيج: تجديدُ الأشكالِ والأساليب وتأجيجُ ما يتغلّب على الضجر.
يجب أن نعثر على الحبّ، إذا أردنا إنقاذه من الجفاف، في كلّ جيبٍ من جيوبه، وهي كثيرة، وأطيبها السريّ.
الحبّ أقوى العواطف شرطَ أنْ نُحسن التعامل مع نقاط ضعفه.
ليس للحبّ عمر. يبدأ قبل الحياة بقليل ويعيش إلى الأبد بعد انتهائها.
جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ٢٥ آب ٢٠١٢
تَجَنّبْ مَن تشعر حيالها بالتساوي.
كنْ إمّا أباً وإمّا ابناً.
التساوي رفقة عاديّة.
***
لحظة الوقوع في الحبّ: أمواجُ الحانكَ الداخليّة تَحملك كريشةٍ وتُعْميكَ كغريق. تنقلكَ من شخصٍ إلى شعاع ومن شعاعٍ إلى هَلَع.
ومنذ الثانيةِ الأولى يهلُّ عليك المصير كأنّه ذكريات! تُرى، أين كان هذا المستقبل التذكاريّ مختبئاً؟ وهذا الماضي الفوري؟ هل يبدأ الماضي باسترداد زمنٍ لم يحصل!؟
الحبّ ليس مستقبلاً. هو مستقبلٌ آخر. المستقبل لا يأتي إلّا عندما يصير حاضراً أي جنينَ ماضٍ. الحبّ جنون الأزمنة وقد وَثَب عليكَ من صدرك، منذ لم تكن، وثب عليكَ بألاعيبه وسِلال كنوزه على شكل وجهٍ كنتَ أعماه وما كنتَ منذوراً لسواه.
ولم تعرف سواه.
***
السماءُ في متناولِ اليد واليدُ مُغرّزةٌ في حافة الكوكب.
المُطْلَق على المائدة، وإنْ مددتَ يدكَ تقع…
***
ألا تكونينَ سوى إلهام؟
ولمَ لا؟
أَنْ تكوني إلهاماً تتويجٌ لكونكِ امرأة.
***
تَمْتِمْ تعاويذك… اوحِ لنفسك حتّى تصدّق… انخطف مع ذراعيكَ السابحتين في الفضاء… سوف يتحقّق هذا الحلم! ويستمرّ! ويعود!
***
أنتِ بيضاء أيّتها السمراء.
أنتِ شقراء أيّتها البيضاء.
أنتِ سمراء أيّتها القمحيّة.
أنتِ ألوانُ طفولة.
***
غريبٌ حديثهم عن نداوةِ عينَي العاشقة من فرطِ فرحها بالحبيب وحنانها! أنا ممّن رأوا مع النداوة جمراً.
***
عندما يتخيّل كلٌّ من الجنسين الجنس الآخر أكمل ممّا هو، يظلمه. لكنّه في هذا الظلم مُحقّ:
ليس على الإنسان أن يتنازل عن حلمه، بل على الخَلْق أن يُعاد.
***
المثابرةُ على رؤيةِ الآخر أجملُ ممّا هو تُصيّره أجمل.
***
ظلمتُ الرجل في صفحةٍ سابقة عن الحبّ حين قلتُ إنّه يبتغي من المرأةِ قضاء السهرةِ معها بينما هي تستيقظ في الصباح لأجله.
هناك بالتأكيد استثناءات تنقض هذه الصورة. بين الفنّانين اللبنانيّين كان الملحّن الموهوب عفيف رضوان متيّماً بزوجته ومضنىً، وكان ساهر حبّه وشهيده. عبد الوهاب طالما أرّقتهُ نساؤه، وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ… بين الشعراء أبو شبكة وصلاح لبكي. وفي الشعر العامّي شاعرٌ مُجيد هو غابي إسكندر حدّاد اشتهر بقصائده وعلى لسانه اسم ندى، وكم عذّبه حبّه لها إلى أن أفناه شابّاً. قبله لوّع الحبّ شاعر «جلنار» ميشال طراد. لا يعني هذا أنّ غيرهم لم يعشق ولم يتعذّب، إنما هي مجرّد تذكارات.
بين الأدباء الأحياء الصديق ياسين رفاعيّة، العاشق الرومانسي وأديب الحنين. الثنائي أمل جرّاح وياسين رفاعيّة عزّ نظيره بين الأدباء وغير الأدباء. عانت أمل الحسناء طويلاً من مرض قلبها واحتضنها قلب ياسين بلا كلل وبتفانٍ أسطوريّ. كتب ياسين بمختلف الأنواع ولم يتجوهر إلّا في مدار الحبّ. وهذه آخر رواياته «مَن يتذكّر تاي؟» («دار الخيال») تحكي كيف لم يتوقّف ينبوع العشق ولا نهر الوحشة عن التدفّق لدى هذا الطفل الكبير الذي لا يزال كلّما أحبَّ وَهَب ذاته قرباناً لحبّه.
قلّةٌ بين الأدباء المعاصرين مَن تولّهوا بمثل هذا السخاء.
***
لن تعرفيه إذا التقيتِه. الحبّ يباركه قمر الجهل وتمحوه شمسُ المعرفة.
***
سيعرفكِ حالما تلتقينه: أنتِ الضياءُ بين جفنه وعينه والاسم الذي كان على طرف قلبه.
***
ـ أهو أنتَ حقّاً؟
ـ أتمنّى لا.
ـ مَن هو إذاً؟
ـ هو ما لا تَسَعه عيناه.
***
هل يُستكثر على العاشق انخطافُ الحبّ وهو السانحة الوحيدة التي تغدو فيها روحه جسداً وجسده روحاً؟
***
يسخر طه حسين في «حديث الأربعاء» من قيس بن الملوَّح فيحملك على القهقهة: «لستُ أعرف عاشقاً أُغمي عليه كما أغمي على قيس بن الملوّح. ولستُ أعرف عاشقاً شهق وزفر كما شهق قيس وكما زفر. كان يكفي أن تتحدّث إليه ليلى بحديثٍ يشعره أنّها تحبّه ليسقط على وجهه مغشيّاً عليه (…) كان يقضي حياته كلّها أو أكثرها ساقطاً على وجهه مغشيّاً عليه، أو قُلْ إنّه كان يقضي حياته كلّها إمّا ساقطاً على وجهه وإمّا هائماً على وجهه، فهو لم يعرف أو لم يكد يعرف الحياة الهادئة العاقلة». ويخلص إلى اعتباره مريضاً، وأنّ قصّته «أشدّ القصص سخفاً (…) وأخلاها من المغزى النافع أو المعنى المفيد».
علماً أنّ التأريخ لم يُثبّت حقيقة وجود شخصيّة قيس بن الملوّح كما ثبّت وجود قيس الآخر، بن ذريح، وجميل بثينة، وقد شكّ الأدباء في نسبةِ شعر المجنون إليه ونسبوه إلى نُسّاجِ حكايته.
معروفٌ نفورُ طه حسين من الخرافات والأساطير وتنديده بالمغالاة والمغالين وحيث «لا مغزى نافع ولا معنى مفيد». وإذا كانت عقلانيّته قد فتحت مرّاتٍ عديدة أبواب البحث الحرّ عن الحقائق كما في كتابه التاريخي «في الشعر الجاهلي» وساعدت قراءه في «حديث الأربعاء» على تذوّقِ الشعر العربيّ في أحقابه كافّة وكان بذلك أحد روّاد إعادة النظر في التراث للتصالح وإيّاه، فإنّه بالتأكيد لم يفهم البُعد السحري في الشعر ولا أهَّلَتْهُ طبيعته الفولتيريّة الهازئة للتعامل مع الشعر والشاعريّة إلّا في نطاقِ الوعي الجراحي. وقد ولّدت هذه البوزيتيفيّة النقديّة أجيالاً من الأساتذة والمؤلّفين نسجوا على منوالها، ولكنْ أعْوَزَتْهُم عبقريّة طه حسين وجرأته كما أعوزهم ما يُعوز المقلّدين وهو «صوت» تفتيح الأبواب.
إذاً، تجنّى طه حسين العاقل على قيس بن الملوّح المجنون. لكنّ المخيّلة البشريّة تُصدّق الشعراء ولا تحبّ جرّاحيهم. وما يضيرك يا سيدي أنْ يقضي شاعرٌ أو أيّ رجلٍ عاديّ حياته هائماً على وجهه عشقاً بدلَ أن يقضيها منافساً جاره على لقمةِ العيش أو متعالياً على الأضعف منه أو زوجاً يعلو شخيره كلّما استلقى على فراشه بعد العشاء؟
***
الأسبوع الماضي أفردت مجلّة «الاكسبرس» الفرنسيّة ملفّها الرئيسيّ لموضوعٍ عنوانه «هل يعيشُ حبٌّ مدى العمر؟».
الحبّ، كجميع الأحلام، يدوم ما دامت حمايته. يقال إنّ الزواج (أو المساكنة) هو الخطر الأكبر على الحبّ. الخطر على الحبّ هو انطفاءُ شعلته. وقد تنطفئ لأنّ زيت القنديل نفد. هذا قد يستعصي على المعالجة. ولكنْ إذا كانت المساكنة بتفاصيلها الواقعيّة هي التي تُشاغب على الشوق وتُقلّص مسافاته فقد لا يكون لنفاد الزيت إنّما لكسلٍ في خيال الثنائيّ وتقاعسٍ عن التجديد والتأجيج: تجديدُ الأشكالِ والأساليب وتأجيجُ ما يتغلّب على الضجر.
يجب أن نعثر على الحبّ، إذا أردنا إنقاذه من الجفاف، في كلّ جيبٍ من جيوبه، وهي كثيرة، وأطيبها السريّ.
الحبّ أقوى العواطف شرطَ أنْ نُحسن التعامل مع نقاط ضعفه.
ليس للحبّ عمر. يبدأ قبل الحياة بقليل ويعيش إلى الأبد بعد انتهائها.
***
لا تتخلَّ عن صورةِ المرأة التي صَنَعها خيالك إلّا لامرأةٍ تعيدُ صنعَ خيالٍ لكَ أشدّ فتكاً بك.
***
الشرّ هو كلّ ما يوقظ من الرعشةِ المقدَّسة.
***
يَعْمُرُ القلب بفرحِ الحياة. تمشي مرفرفاً على الرصيف. نشوانَ بلا شيءٍ هو كلّ شيء: الوجود الطَلْق.
تدخل إلى مقهى. تجلس ويبدأ نظركَ يتنقّل من غصنٍ إلى غصن. فجأةً يقعُ على وجهٍ بريءٍ وأخّاذ.
الإعجاب…
هكذا يبدأ السجن.
المركب الصغير
أنا أرى الآن.
أرى المركب الصغير يدخل النفق النهريّ. أراه يدخل ظلمةً شفّافة أُبصرُ بدايتها ونهايتها.
أنا أشعر الآن.
أشعرُ ببرودةٍ خضراء تّنَدّي الوجوه في المركب الصغير.
أشعر بتياراتٍ تهدهده وذهب صغير يؤنسه.
أنا أرى الآن فاصلةً بين نقطتين، طراوةً بين حدّين.
أرى بطريقاً ومركباً وساحرةً بشعرها الطويل تسكن النَفَقَ الصغير.
أنا أرى الآن نفقاً أعرف أين يبزغ وأين يغلبه الضباب.
زينب مرعي
عن جريدة الأخبار اللبنانية
السبت ١٨ آب ٢٠١
يا للصدفة! اكتشف المحلّلون، مع قضيّة ميشال سماحة، وجهاً جديداً من تحكّم الاستخبارات في مصائرنا. مع أن العديد من هؤلاء المحلّلين هم أنفسهم إمّا مخبرون لدى أجهزة الاستخبارات أو يطمحون إلى ذلك. لكنّ هذا موضوع آخر.
الحقيقة أنّ التحكّم الاستخباراتي المشار إليه قديم جداً. وكان الأمويّون عهد معاوية يسمّون رجال الاستخبار «العيون والآذان». ومنذ وُجدَت سلطة وسلاطين وُجد العسس. وحديثاً في لبنان عندما كان يُغتال صحافيّ أو رجل سياسيّ كان المسيحيّون يتّهمون المسلمين والمسلمون المسيحيّين والقاتل دائماً جهاز استخبارات، ويظّل «غامض» التسمية وخارج المحاسبة. على سبيل المثال نسيب المتني صاحب جريدة «التلغراف» وفؤاد حدّاد نجم جريدة «العمل» وكامل مرّوة صاحب «الحياة». والأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي يقال إنّ رئيس الاستخبارات السوريّة عبد الحميد السرّاج ذوّبه بالأسيد.
إلى آخره.
ما يسمّونه ثورة 1958 كان تدبيراً استخباراتيّاً سوريّاً ــ ناصريّاً على خلفيّة الصراع بين حلف بغداد وجمال عبد الناصر. ما يسمّونه الحرب اللبنانيّة بدءاً من عام 1975 كان حياكة استخباراتيّة أميركيّة إسرائيليّة سوريّة بتمويلٍ ليبيّ عراقيّ سعوديّ. الذي سمّاها «حرب الآخرين على أرض لبنان» كان يعرف مدى عجز العقل اللبناني عن حفر مقبرة جماعيّة هائلة كهذه وعجزه عن سوق الفلسطينيّين واللبنانيّين إليها بمثل تلك النخوة الانتحاريّة.
ميشال سماحة، وهو مثقّف وإعلامي وذو خبرة سياسيّة منذ نشأته في مصلحة الطلاب في حزب الكتائب عهد بدايات بشير الجميّل حتّى عمله مع الياس حبيقة انتهاءً باندماجه في النظام السوري، ميشال سماحة ضحيّة صراع أجهزة بقدر ما هو ضحيّة نفسه.
لا ندري بالضبط متى اهتدى سماحة إلى صراطه السوريّ ولكنّنا نعتقد أنْ لا ريب في صدقه. إنّه من الصنف الشغوف المتحمّس. لماذا إلى الحدّ الجنوني المتّهم به، علماً أنّ التهمة لم تصدر بعد في قرار ظني؟
أسذج شخص يعرف أنّ التورّط مع الأجهزة، مهما كان صعيد التورّط، مخيف العواقب. والأجهزة السوريّة شهيرة ببطشها ودهائها. وأسذج شخص يعرف أن شعرةً لم تسقط من رأس أحد في لبنان طوال عقود إلّا بإذن الأب الذي في دمشق. والأب الذي كان في دمشق لم تفته شاردة ولا واردة من أمور اللبنانيّين بفضل نشاط استخباراته. وأسذج شخصٍ يعرف أنّ أسرع مَن يدفع ثمن التورّط مع الأجهزة ودول الأجهزة هو المتحمّس المندفع الشغوف.
فكيف وقع ميشال سماحة؟
البعض، لشدّة «إيمانه» بدهاء النظام السوري، يقول إنّ سماحة لم يقع ولم يوقَع به وإنّها كلّها لعبة على اللبنانيّين سيخرج منها سماحة بطلاً.
نحن ميّالون إلى الاعتقاد أنّه تمّ الإيقاع بالرجل. بمثل اندفاعه وحماسته لا يوقع به مخبر فقط بل تُوقع به نفسه.
لا يُلْعَب مع الأجهزة. هذه لها محترفوها. وأولّ شرطٍ لاستمرار نجاتهم هو أن يكونوا «فوق أعصابهم». لا يُلْعَب مع الأجهزة. الأجهزة تَحْكُم مَن يحكمنا ومَن يحكم مَن يحكمنا. الأجهزة تدير العالم.
***
تُرى، لو كان نظام الأسد ما زال على قوّته هل كان أُوقف ميشال سماحة؟
من عادة ابن الشعب القول إنّ «الدولة بتعرف كلّ شي وقت اللّي بدّا». تفسيره أنّها حين لا تُقْدِم فلأنّها إمّا موضوعة عليها اليد وإمّا متواطئة. هل لم تعد اليد موضوعة على الدولة؟ هل هو، كما سمّاه الياس خوري في مقالته بصحيفة «القدس العربي»، ربع الساعة الأخير، عندما يستيقظ النيام؟
ما شهده بحر الأسبوع من شروق شمس العشائر يوحي أنّ الدولة أمعنت في الغرق.
هل هي العشائر فقط أم أيضاً اصبع من اصابع الاستخبارات؟
المؤكّد أنّ المخطوفين ليسوا وحدهم مخطوفين وأنّ الدواليب ليست وحدها ما يحترق في لبنان.
* كُتُب
***
*كتابان لهنري زغيب واحدٌ عن سعيد عقل وآخر عن جبران خليل جبران. الأخير يضاف إلى خيرةِ ما وُضِعَ من دراسات عن جبران، توثيقيّاً وانطباعيّاً. الأوّل يختلج فيه عصب صاحب «رندلى» بمفاهيمه الفذّة ونظريّاته الكاسرة، مثل قوله إنّه شاعرُ افتعال، وانّ كلّ ما كتبه افتعال. جرأةٌ هائلة، وإنْ تكن صفةُ الافتعال هنا خصماً لنظريّة الإلهام والتجربة والعاطفة. كان الياس أبو شبكة رمزاً لهذه النظريّة الرومنتيكيّة. وهاجم سعيد عقل مراراً على «افتعاله» وفاليريّته، ولم يُجِبْهُ سعيد عقل مباشرةً ولا مرّة. عاقبه بالصمت. لكنّه هنا يجيبه مداورة، وبعنف. وقد نحار مع مَن نقف… مع الاثنين في واحد، ربّما، معطوفَين على ما ينقص كلّاً منهما.
* عن «دار الجديد» صدر «قراءة في رواية يوم الدين» للباحث السوري إبراهيم محمود. و«يوم الدين» رواية لرشا الأمير (2002) صدر منها حتّى الآن ست طبعات. يقول: «عندما يكون شاعرٌ كبير في مقام المتنبّي هو المحور المنافس للسارد والمتداخل معه، لا بدّ أنْ يأخذنا تصوّر الكاتبة إلى كلّ ما هو مثير وحتّى عجائبيّ عمّا يحدث الآن، كما يجد له نظائر في الماضي».
* وعن الدار نفسها صدرت الطبعة الثانية من «ديوان الحلّاج» الذي أعدّه وقدّم له عبده وازن بدراسةٍ أحاط فيها بمختلف وجوه الحسين بن منصور عاشق الله حتّى الموت وعاشق العذاب حتّى الله. واستند وازن في جمع ديوان الحلّاج إلى إنجازين سابقين، واحدٌ للمستشرق لويس ماسينيون وآخر لكامل مصطفى الشيبي.
جهد يُشكر عليه صاحب «حديقة الحواس» وصاحب اليد البيضاء نقديّاً على الأدب المعاصر، ولا سيّما اللبناني منه. ومَن أفضل من الشاعر ناقداً، بل باحثاً ومكتشفاً؟ يدور عبده وازن حول الحلّاج دورةً جامعة، حافلة بالمراجع ووهّاجة بالانطباع الذاتي. وازن واحدٌ من قلائل، في طليعتهم شوقي أبي شقرا وعبّاس بيضون وحسن داود وبول شاوول وعقل العويط وأحمد بزّون وربيع جابر، لم يُفقدهم العمل الصحافي أو التدريسي الطاقة على التأليف الأدبي. كتاب كـ«ديوان الحلّاج» يستغرق جهد عمر، ولم يتراجع عنه المؤلّف. في عبده وازن طفلٌ وأستاذ.
*كوليت صليبا زميلة صديقة من عهد «النهار العربي والدولي». دخلت علينا ذات يوم ومعها نفحة من هواء بتغرين النقي. نفحة ما زالت نفحتها بعدما مضى على زواجها وهجرتها إلى أميركا أكثر من خمسة عشر عاماً. «نساء عربيّات في أميركا» عنوان الكتاب الذي أصدرته أخيراً (مئة صفحة من القطع الكبير) في ماساشوستس وفيه تسلّط الضوء على وقائع من حياة النساء العربيّات في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مقابلات مع ثلاثين سيّدة عربيّة من مختلف الأقطار العربيّة وفي مختلف الولايات الأميركيّة، والموضوع الرئيسي في الكتاب وفي المقابلات هو الدور الذي تضطلع به العربيّة في الحفاظ على تقاليد بلادها الأمّ والوفاء للجذور، ويتبيّن للمؤلّفة أنّ هذه المسؤوليّة تقع في المقام الرئيسي على المرأة، وكأمّ في الدرجة الأولى.
نادراً ما لمسنا لمس اليد مثل هذا التشبّث بالجذور. هواء بتغرين الصافي، يومَ يكاد الذوبان في الغربة أنْ يصبح القاعدة.
*«أنا، هي والآخريات» رواية لجنى فوّاز الحسن (الدار العربيّة للعلوم ناشرون») تروي فيها البطلة كيف «تغيّرت مع مرور الزمن (…) وقد ارتجلت وجودي دائماً من أماكن غير متوقّعة».
نبصر واقع الارتجال في ما بعد. مع أنّ الحياة، مع أنّ العلاقات، مع أنّ ما نسمّيه القَدَر هي سلسلة ارتجالات. لولا هذه الارتجالات لانطوت العلاقة بإتمامها في المرّة الأولى. المرّات التالية ليست تكراراً بل ارتجالات وكلّ ارتجال يُنسي ما قبله فتبدو العلاقة جديدة جذّابة مع أنّها تكون، من وراء عيوننا، قد بدأت تدنو من حافّة السقوط، من يقظة وعي التكرار والرتابة. «لطالما وقفتُ على مسافةٍ من حياتي وتركتها تحدث. لعبتُ دورَ المتفرّج فيها». تشخّص الكاتبة نفسها وحالاتها بواقعيّة حادّة مدهشة، بقسوةٍ تريد ذاتها عادلة، رابطةَ الجأش. وتحلّل شخصيّات مَن حولها وطبائعهم ببرودِ الجرّاح ولكنّه هنا جرّاح جريح. ساخرة بمرارة متقشّفة، إيجازيّة دون إغفال، صادقة في اعترافاتها الحميمة صدقاً يوجب الاحترام لما ينطوي عليه من شجاعة، ولأنّه يحاذر الإثارة ومع هذا لا يخلو منها ولكن في سياقٍ هامس كشخصٍ يخاطب نفسه في سجن انفرادي.
«كيف تحوّلتُ من تلك المثاليّة إلى امرأةٍ خائنة وقذرة؟ لم أعد أذكر (…) كيف وجدتُ نفسي وأين فقدتُها؟ كلّ ذلك لم يعد يعني شيئاً، إذ لا قدرةَ لي على محوه. لا قدرةَ لي على الغياب، ولا مفرّ من الحياة».
ألمٌ يحتفظ بعذابه رغم كَشْفه، مناخ قهرٍ قَدَريّ، مناخُ عَبَث ينزف دم القلب، ينزف ظلم الأيّام، ينزف توقاً مخنوقاً وشبه مستحيل إلى الفرح.
الصدق الخالص من الاستعراضيّة والاستفزاز، صدق في ظلال أنوثةٍ جمعت بين جوهر الخَفَر والحدّ المهيب من الصراحة.
توّجت المؤلّفة روايتها بهذا القول لنيلسون مانديلا أرى من حسن الدلالة أنْ أختم به: «إنّي أتجوّلُ بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجزٌ أَنْ يولد. وليس هناك مكان حتّى الآن أريحُ عليه رأسي».
جريدة الاخبار
******************
تارة شمس وطوراً قمر / أنسي الحاج
تارة شمس وطوراً قمر / أنسي الحاج
(700 عدد القراءات)
أنسي الحاج
لا نعرف مَن هو العبقريّ، لكنّ أنفاسه تلفحنا.
العبقريّ عظيم وقد لا نحبّه، والموهوب يسحرنا فوراً وإلى الأبد مهما كان ثانياً أو سريع العَطَب.
العبقريّة صاعقةُ ليلةٍ ظلماء، الموهبة حمامةٌ بيضاء.
العبقريّة ... الموهبة ...
مَن يرسم الحدود بينهما؟
مَن يعرف الفرق بين عطيّة وعطيّة؟
***
كفى بنا استنطاقاً.
لا نكن مستجوبين بل رُعاة.
بل رعايا.
ولنَهِمْ قليلاً في هذا البحر.
***
الموهوب حرّ التصرّف ضدّ موهبته قدر ما الإنسان العادي حُرّ التصرّف بحياته. عندما يفضّل الحصان المجنَّح أن يكون حصاناً أرضيّاً فهذه صورة الفنّان الموهوب الذي يقصقص موهبته. عندما تقرّر الحسناء أن تتبشّع. عندما يهجر المطرب ألحان مؤّلف يلألئ له صوته ليغنّي من ألحانه هو، وهو أفشل الملحّنين. عندما يُخيَّر حاكم بين المشير الحكيم والانتهازي المرائي فيفضّل الثاني لأنّه يريحه على الأوّل لأنّه يَشْجر بينه وبين نفسه.
الانتحار الوحيد المسموح للموهبة هو الاجتهاد حتّى التفاني والتفاني فوق ما يحمل البشر. وعي الوديعة المقدَّسة بلاوعي المُطْلَق لا بوعي الذكاء الضحل.
للعبقريّة أن تنهل من طفولتها، وعلى الموهبة الرشاد.
لا العبقريّة تُقَلَّد ولا الموهبة. الفرق أنّ موهبةً بعينها، كالعزف أو التمثيل، تتوزّع على كُثُر وطبعاً كلّ نموذج بخصائصه، بينما العباقرة، ميكل آنج، شكسبير، باخ، موزار، بيتهوفن، بودلير، كلّ منهم ظاهرة لا «زميل» لها في «المهنة». كان عبّود عبد العال نجماً في عزف الكمان، وفريد الأطرش في العود، ووليد عقل ووليد حوراني في البيانو، ولكنْ سَبَقَهُم مَن جلّى أكثر منهم وجايلهم مَن زاملهم ونافسهم ونافسوه وسيعقبهم مَن قد يتخطّاهم. مهما تكن الموهبة باهرة وفريدة تظلّ بنت الطبيعة، ممزوجة بأشعّة الآلهة. أمّا العبقريّة فهي قوّة على الطبيعة ولو كانت قوّة منها.
يتّفق للعبقريّة أن تقترن بالموهبة، فيكون ذلك هو الشكل الأمثل لهما معاً، والبعض، مثل فكتور هوغو، يُلاعب النبوغَين فيتواهبان، وقد يُغبّش أحدهما على الآخر، كأن يغالي هوغو في التراقص الوزني مبتدعاً، مستعرضاً تَمَكُّنه. ومهما تماهَرَ الموهوب والخلّاق تتشفّع لهما نعمتهما فلا يُعيَّران بالبهلوانيّة ولا بالشكلانيّة، ولكن قد تبدو على البعض منهما أمارات ثَريّ الحرب. «يزيدها»، كما في التكرارات الآرابيسكيّة عند قدامى المطربين.
وليس أبأس ممَّن يَستوهب، فالموهبة خِلْقةً ولا تُغْتصب. العبقريّة أيضاً، لكنّها مفرطة خيراً أو شرّاً، لا تعرف هوادة ولا اعتدالاً. إنّها ذات جنونَين: الجنون «الطبيعي»، والآخر الذي يتجاوز الحدود.
صحيح أنّ الموهبة أداء، لكنّ الموهبة الخارقة أداءٌ خارق، وقد تعيد خلق المؤدّى لا بل قد تعطيه الحياة من أصلها وتُجنّحه فتكون أمّه إنْ كان الخالق أباه، وأحياناً تبدو أمّه وأباه.
وكم من الإبداعات، في الغناء والتمثيل خصوصاً، ما كانت لتصمد لولا مؤدّوها ومؤدّياتها. بدون صوت فيروز تتهاوى عشرات الأغاني الرحبانيّة وتبهت جميع الشخصيّات المسرحيّة التي تقمّصَتْها، وبدون صوت أسمهان ما كانت قصيدة الأخطل الصغير «اسقنيها بأبي أنتَ وأمّي» تخلد على الدهر.
***
في الكتاب الذي صدر أخيراً لخالدة سعيد بعنوان «يوتوبيا المدينة المثقّفة» تتحدّث المؤلّفة، في فصل رائع خاص بفيروز، عمّا تسمّيه «عبقريّة صوت فيروز». ويقع الفصل تحت عنوان «فيروز: الإبداع في الفنّ والمعنى والموقف». هنا تغيب الحدود بين العبقريّة والموهبة ولا يعود ذا جدوى الاحتماء وراء التعريف القائل إن العبقريّة تُبدع والموهبة تؤدّي، فالموهبة يمكن أن تكتفي بالأداء وبالأداء الأمين السليم فتظلّ في حدود المعطى الذي لا كبيرَ فضلٍ له غير ما وُهِب إيّاه وَهْباً ولم يزد عليه غير الصقل والبراعة، كما يمكن، وفي حالات نادرة، أن تؤدّي الجميل بأجمل منه والجديد بألمع منه فتغدو عبقريّة بإزاء عبقريّة. يصحّ هذا تماماً على الأخوين رحباني وفيروز. هنا أوتيتِ التجاربُ بَوْتَقَتَها المثلى، فالريادة بوركت بالأصالة، والجسارة بالعذوبة، وشَبَقُ الخَلْق بخفّة الملائكة. لم يعد الصوت أداة، بل أصبح غاية. المبدع صار مُلْهَماً بمؤدّيته فتحوّل الصوت إلى مطر لأرض الزرع. تلك ظاهرة ربّما لم يحصل مثلها في التاريخ.
***
نتوقّف لحظة أخرى عند كتاب خالدة سعيد لنبدي تقديرنا لتذكّرها العادل والمؤثّر لشخصيّة لم تنل حقّها من التقدير هي سعاد نجّار، البطلة الخَفيّة لنهضة المسرح اللبناني الحديث. وهنا أيضاً، كعادتها، تجد خالدة سعيد الكلمة الفصل حين تكتب مقالتها تحت عنوان «سعاد نجّار: عبقريّة التعاون والرعاية». نعم. هناك للخفاء ظهورات تاريخية وللصمت عبقريّات، أعظمها عبقريّات الحضانة الباطنة.
***
... وهل العبقريّة محدودة كي نَتبيّنها؟ وهل الموهبة إلّا عبقريّة خالصة في مهارةٍ خالصة؟
***
ما يبدو متناقضاً في هذا الكلام هو وحي التخوم الضبابيّة بين الموهبتين، بين النبوغين. كأنهما كلتاهما تارة شمس وطوراً قمر. قانون المفارقة. جَدَليّة الذَّكَر والأنثى.
***
الكلام على عبقريّة لدى المرأة يناقض عبارة لسيمون دو بوفوار في «الجنس الثاني» تقول: «ثمّة نساء ذوات موهبة، إنّما ولا امرأة منهنّ تمتلك ذلك الجنون في الموهبة الذي يسمّونه العبقريّة». لنفترض. يبقى من حقّنا التحفّظ حيال أمرٍ واحد على الأقلّ: إن «ذلك الجنون في الموهبة» قد ينوجد أيضاً في مواهب الموهوبات عندما تتوافر للواحدة منهنّ شروط هورمونيّة معيّنة تزيد العيار على المألوف وتخلط الأوراق، وهو ما صحّ على كاتبة كجورج صاند وعلى شاعرات كالخنساء ومي ونازك الملائكة. أمّا الفنّانات فالعديد منهنّ فائضات الموهبة، وهذه فيروز التي، مهما نَعَّمتْ ورقَّقت وخَشَعَتْ، تسطع سطعاتها الكبرى حين تُشبع صوتها الإشباع المالئ المرتاح، فيبدو مكتمل الأجناس، مُطلاً من فوق بكل أبعاده، بكل أرواحه، موهراً آسراً، ذَكَراً وأنثى، نبويّاً وطفلاً، ناشراً دفء الأمومة ومستدفئاً كرضيع. وهذه أمّ كلثوم، أليست فرعوناً وفرعونة؟ أليست أوركسترا نساء ورجال؟ وتلك منشدات الأوبّرا، ألسنَ أجناساً خلاسيّة؟ الأنوثة ليست قَدَراً ولا الذكورة. القَدَر أذكى من أن يُتَصيَّد بقوالب محنّطة. والصدْفة، هذه اليد الخفيّة التي توزّع العطاء، أكرم من تَوقّعاتنا.
***
لصّ النار كان عبقريّاً.
الآلهة التي سرق الشعلة منها كانت هو.
هو المجسّد لهم رغماً عنهم، رسولاً لهم رغماً عنهم.
المتّحد بهم المنفصل عنهم، فادي البشر.
العبقريّ ما زال يسرق النار، حيث تُرى وحيث لا تُرى.
والنار، منذ ذلك الحين في ليالي الأزمنة، النار تعدَّدت: نارٌ ماءٌ، نارٌ هواءٌ، نارٌ خَدَر، نارٌ حَجَر.
نارٌ دمارٌ ونارٌ مُصالحة.
***
رأيتُ، إفراديّاً أو جماعيّاً، عظماء يتصرّفون كالأولاد، وعباقرة عديمي الثقة بأنفسهم، وموهوبين مكرَّسين يتأرّقون الليالي قبل حفلتهم. لا وجود لعبقريّ واثق أنّه عبقريّ. هو دائماً إلى جانب شيء من نفسه لا على بَيّنةٍ من نفسه. لا وجود لموهوبٍ مسترخٍ في نعيم القمّة. الموهوب، الموهوب الممسوس بهاجس الكمال، بفكرة مثاليّة، جالسٌ دوماً على أعصاب كيانه، في انتظار امتحانه القادم، في انتظار جحيمه. جمهوره يظنّه في قمّة النعيم، على العرش المتلألئ، لكنّ جمهوره لو شاهده في داخل روحه لانفطر قلبه عليه.
هذا القلق المدمِّر هو الاسم الأوّل والأخير للعبقريّ والموهوب. للمختار. هو ما يُميّز المُشْرِق من الـمُشْرَق عليه.
واحرَّ قلباه! جرْحُ العبقريّ ولادتُنا الجديدة، وجلجلة الموهوب سعادتُنا.
الضفتان.
**********************
يوم، يا غيوم
يا صُعداء الحالمين وراء النوافذ
غيوم، يا غيوم
علِّميني فرَحَ الزوال!
* * *
هل يحِبّ الرجل ليبكي أم ليفرح،
وهل يعانق لينتهي أم ليبدأ؟
لا أسألُ لأُجاب، بل لأصرخ في سجون المعرفة.
ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم
ولا أن يظفر بدون جِزْية.
لا أعرف من قسَّم هذه الأقدار، ومع هذا فإن قَدَري أن ألعب ضدّها.
هـلـمّـــي يا ليّنتي وقاسيتي،
يا وجهَ وجوه المرأة الواحدة،
يا خرافةَ هذياني،
يا سلطانةَ الخيال وفريستَه،
يا مسابِقةَ الشعور والعدد،
هلمّي الى الثواني المختلجة نسرق ما ليس لأحد سوانا.
وهْمُكِ أطيبُ من الحياة وسرابُكِ أقوى من الموت.
* * *
إسألني يا الله ماذا تريد أن تعرف؟
أنا أقول لك:
كلُّ اللعنات تغسلها أعجوبة اللقاء!
وجمْرُ عينيكِ يا حبيبتي يُعانق شياطيني.
تُنزلينني الى ما وراء الماء
وتُصعدينني أعلى من الحريّة.
أُغمض عليكِ عمري وقمري فلا تخونني أحلام.
يا نبعَ الغابات الداخليّة
يا نعجةَ ذئبي الكاسرة
مَن يخاف على الحياة وملاكُ الرغبةِ ساهرٌ يَضحك؟
لا يولد كلَّ يوم أحدٌ في العالم
لا يولد غيرُ عيونٍ تفتِنُ العيون!
نظرةٌ واحدة
نظرة
وعيناكِ الحاملتان سلامَ الخطيئة
تمحوان ذاكرة الخوف
وتُسيّجان سهولة الحصول بزوبعة السهولة!
* * *
أيّتها الغلافُ الحليبيُّ للقوَّة
يا ظاهرَ البحر وخَفيّ القمر
يا طُمأنينةَ الغَرَق
يا تعادُلَ حلمي وحركاتكِ وخيبتي وادهاشكِ
يا فوحَ الجذورِ الممسكة بزمام الأرض،
أيّتها الصغيرةُ المحمَّلةُ عبءَ التعويض عن الموت،
عن الحياة وعن الموت،
أيّتها المحجَّبةُ بعُريها،
أيّتها الملتبسةُ مع عطرها
أيّتها الملتبسُ عطرُها مع ضالّتي
أيّتها الملتبسةُ مع ظلّها
أيّتها الملتبسُ ظلَّها مع جسدي
أيّتها الملتبسةُ مع شَعرها
أيّتها الملتبسُ شَعرُها مع أجنحتي
أيّتها الملتبسةُ مع مجونها
أيّتها الملتبسُ مجونُها مع حريّتي
أيّتها الملتبسةُ مع عذوبتها
أيّتها الملتبسةُ عذوبتُها مع شراهتي
أيّتها الملتبسةُ مع صوتها
أيّتها الملتبسُ صوتُها مع نومي
أيّتها الملتبسةُ مع ثوبها
أيّتها الملتبسُ ثوبُها مع حنيني
أيّتها الملتبسةُ مع مرحها
أيّتها الملتبسُ مرحُها مع حَسَدي
أيّتها الملتبسةُ مع فخذيها
أيّتها الملتبسة ُفخذاها مع تجدّدي
أيّتها الملتبسةُ مع صمتها
أيّتها الملتبسُ صمتُها مع انتظاري
أيّتها الملتبسةُ مع صبرها
أيّتها الملتبسُ صبرُها مع بلادي
أيّتها الملتبسةُ مع أشكالها
أيّتها الملتبسةُ أشكالُها مع روحي
أيّتها الملتبسةُ مع نصف عُريها
أيّتها الملتبسُ نصفُ عريها مع أملي
مع أمل دوام الحُمّى،
أيّتها الَتي أُغمضُ عليها إرادتي واستسلامي
لمْ تقولي إننا غريبان
لأنكِ تعرفين كم لنا توائم
في كلّ من يذهب وراء عينيه…
* * *
وأخافكِ!
كيف لرجلٍ أن يعشق مُخيفه؟
من يدفع بالدافىء الى الصقيع وبالمستظلّ الى الهاجرة؟
من يقذف بالصغير الى الخارج ويحرم الرضيع التهامَ أمّه؟
ولِمَ يحلُّ وقتُ السوء ولِمَ يُنهَش الصدر؟
ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم ولا أن يظفر بدون جزية،
فليكن للقَدَر حكمته، ستكون لي حكمتي
وليكن للقَدَر قضاؤه، ستكون لي رحمتي.
لم يخلّصنا يا حبيبتي إلاّ الجنون
شبَكتُكِ ألْهَتني عن الحياة
ولهوُكِ حماني،
قيودُ يديكِ طوّقتْ قلبي بالغناء
وجمرُ عينيكِ عانق شياطيني.
* * *
لنفسي لونُ عيونِ قتلى الذات
المدمَّرين وراءَ بابٍ ما
ابتسامةٍ ما.
خيانةٌ دوماً، خيانةٌ لا تُطاق
أفدحُ من أيِّ فقْد،
خيانةٌ تسلبكَ عمركَ
تسلبكَ أمّكَ وأباك
تسلبكَ أرضكَ وسماءك،
خيانةٌ يا إلهي أكبرُ من حضنكَ،
ولا أحد يستطيع شيئاً!
لا أحد يستطيع شيئاً!
* * *
في وقت من الأوقات لم يكن أحد.
كان الهواءُ يتنفّس من الأغصان
والماء يترك الدنيا وراءه.
كانت الأصوات والأشكال أركاناً للحلم،
ولم يكن أحد.
لم يكن أحد إلاّ وله أجنحة.
وما كان لزومٌ للتخفّي
ولا للحبّ
ولا للقتل.
كان الجميعُ ولم يكن أحد.
أحدٌ لم يكن كاسراً.
كانت الأمُّ فوق الجميع
وكان الولد بأجنحته.
وصاعقاً
أعلن الألمُ المميت أنه هنا،
في الداخل الليّن، ولم يكن يراه أحد.
وانبرى يَبْري
ثم يَهيل التراب على الوجه
على العينين
على الغمامة التميمة.
ولم يبقَ من تلك الكروم
إلاّ ذكرى أستعيدُها أو تستعيدُني،
تارةً أقتُلُ وطوراً أُقتَل
والشرُّ إمّا في ظهري وإما في قلبي!…
* * *
رفعتُ قبضتي في وجه السماء
لعنتُ وجدّفت
ولكنْ قلْ لي كيف أنتهي
من جحيم السماء بين ضلوعي!؟
* * *
لم يُخلّصنا يا حبيبتي إلاّ الجنون
حين طفرنا الى الضياع النضير
والتقينا ظلالنا
فأضاءتنا عتماتُنا
وصارت أحضانُنا موجاً للرياح.
* * *
الشاعر هو المتوحّش ليحمي طفولتنا
الملحّن هو الأصمّ لكي يُسمِع
المصوّر هو الأعمى لكي يُري
الراقص هو المتجمّد لكي نطير.
لا يَحضر إلاّ ما يغيب
ولا يغيب إلاّ ما يُحضِر.
فلأغبْ في شرود المساء
فلتبتلعني هاويةُ عينيّ!…
* * *
أيُّ صلاةٍ تُنجّي؟
كلُّ صلاةٍ تُنَجّي!
والرغبة صلاةُ دمِ الروح
الرغبة وجه الله فوق مجهولَين
ونداءُ المجهولِ أن يُعطى ويـظــلّ مجهولاً.
الرغبةُ نداءُ الفريسة للفريسة
نداءُ الصيّاد للصيّاد
نداءُ الجلاّد للجلاّد
الرغبةُ صلاةُ دمِ الروح
فَرَسُها الفرسُ المجنّحة
وجناحاها
جناحا خلاصٍ في قبضة اليد.
* * *
غيومُ، يا غيوم
رسمتُ فوق الفراغ قوسَ غمامي
قوسَ غمامنا أيّها الحبّ
قوسَ غمام المعجزة اليوميّة.
غيوم، يا غيوم
يا هودجَ الأرواح
جسدي يمشي وراءكِ، يمشي أمامكِ،
يتوارى فيكِ.
غيوم، يا غيوم
باركي الملعونَ السائرَ حتّى النهاية
باركينيِ
علِّميني فَرَحَ الزوال
اليسار الجديد
********
الكاتب : د. فريد أمعضشو: المغرب
المجلة العربية
في الحقيقة، لا يمكننا الحديث عن قصيدة النثر (Poème en prose) في الثقافة العربية دون الوقوف عند تجربة الأديب اللبناني الشاعر أنسي الحاج المتميزة، في كتابة هذا الضرب من التعبير الأدبي، سواء داخل بلده أو في عموم أرجاء الوطن العربي. وهي تجربة شعرية حقيقية، اتسمت بكثير من مظاهر التفرد والعمق والنضج، وإن خرجت عن عروضي الشعر الكلاسيكي والتفعيلي معاً.
يقول جهاد فاضل: «أول ما يجب التأكيد عليه أن تجربة أنسي الحاج الشعرية، وإن لم تكتب على أوزان الخليل وتفعيلاته، تجربة شعرية حقيقية. فأية قراءة نقدية باردة لأعماله كفيلة أن تضع القارئ في مناخ الشعر وحرائقه وأهواله، بل في خضم تجربة روحية جوانية قد لا يكون لها نظير في تاريخ شعراء لبنان إلا عند إلياس أبي شبكة الذي عرف أقاليم النعمة والخطيئة على نحو فاجع كالذي عرفه أنسي الحاج».
وقبل الانتقال إلى تسليط الضياء على هذه التجربة وعلى بعض ما رافقها من نقد رصين مؤسس بيراع الشاعر نفسه، يحسن بنا أن نعرّف، بعجالة، بهذا الأخير بوصفه أحد أعلام قصيدة النثر العربية المبرزين، الذي جعل، كما تؤكد الشاعرة والكاتبة رانة نزال في كتابها الصادر حديثاً عن أنسي وإسهامه الفاعل في إرساء دعائم قصيدة النثر عربياً، هذه القصيدة قضيته الخاصة؛ فأعمل فيها أدواته وتحديه وقاموسه وصوره وتراكيبه، فاتحاً بذلك آفاقاً رحيبة من المغامرة المقترنة لديه بالحرية؛ حرية الانطلاق بالشعر العربي إلى فضاءات دلالية ولغوية جديدة، وعدم الارتهان للنموذج الشعري المبني على بحور الخليل الفراهيدي وقصيدة التفعيلة؛ فأنسي الحاج أديب لبناني مرموق، ولد عام 1937، بدأ نظم الشعر، وكتابة بعض المقالات، عام 1954 حين كان تلميذاً في المرحلة الثانوية، ولم تنشر له قصائد، ولاسيما من الشعر المنثور، إلا مع أواخر 1957؛ وهي السنة التي شهدت تأسيسه، رفقة بعض زملائه؛ من أمثال يوسف الخال وعلي أحمد سعيد (أدونيس)، في مجلة (شعر) في ظل مناخ ثقافي تتبوأ فيه القصيدة الموزونة مكانة سنية في وعي المتلقين العرب، الذين صدموا بهذا النوع الكلامي! ولم يكن يجرؤ رواد هذه القصيدة، آنئذ، على وسم إبداعاتهم، في هذا المضمار، بتلك التسمية المستفزة (الغريبة)، التي تنطوي على تنافر وتناقض واضحين، دفعا، فيما بعد، أحد دارسي قصيدة النثر العربية إلى وصفها بـ(القصيدة الخنثى)! وشكل اطلاع شعراء مجلة (شعر) على كتاب الشاعرة والمنظرة الفرنسية سوزان برنار (Suzanne Bernard) الموسوم بـ(قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) نقطة انطلاق هؤلاء في استعمال مصطلح (قصيدة النثر)، وما شابهه من أسام اصطلاحية، لوصف ما يكتبون من أشعار منثورة. وعلاوة على تأثره بهذا الكتاب، وإفادته منه، فقد تأثر أنسي بشعر وشعراء أوروبيين آخرين؛ كما صرح بذلك في حوار أجري معه، ونشر في صحيفة (الحياة) اللبنانية. فقد أجاب عن سؤال متعلق بالروافد الأدبية التي تأثر بها، وغذت تجربته الشعرية، قائلاً: «أنا متأثر بشعر القرن 19 الفرنسي، وبالشعراء السورياليين وبعض أصدقائهم. معظم الأحيان أراني معجباً بنثرهم أكثر من قصائدهم إلا بول إيلوار، فهو هو في كل ما كتب».
منذ الخمسينيات إلى 1994؛ السنة التي توقف فيها أنسي عن كتابة الشعر ليتحول، أساساً، إلى الكتابة في فنون أدبية أخرى كالمقال الصحافي، أصدر الحاج ست مجموعات شعرية، هي: لن (1960)، الرأس المقطوع (1963)، ماضي الأيام الآتية (1965)، ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟ (1970)، الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع (1975)، الوليمة (1994). ولا يخفى على متصفح شعر هذه المجموعات ما يمتاز به من فرادة وخصوصية؛ إذ يبدو، كما يقول شارل شهوان، وكأنه «يبتعد ليشكل على صورته ومثاله هو بالذات... إنه، بإيجاز، توهج الصمت النابض بحرائقه الفاتنة؛ توهج يتقدم إلينا كمدينة بيضاء هائلة في الحلم». ولعل هذا الأمر هو الداعي الأساس إلى ترجمة أشعار أنسي الحاج إلى عدة لغات، منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والأرمنية. وللرجل نفسه إسهام ملحوظ في الميدان الترجمي؛ إذ إنه نقل إلى لغة العرب عدداً من مسرحيات أعلام الدراما الأوروبية؛ من مثل شكسبير وبريخت ويونيسكو. وله كتاب ضمنه جملة وافرة من مقالاته التي نشرها، قبلاً، في عدة منابر صحافية، يقع في ثلاثة أجزاء، عنونه بتركيبة (كلمات كلمات كلمات)، صدر عام 1978. وله تأليف آخر في التأمل الفلسفي الوجداني بعنوان (خواتم) (3 أجزاء). وتجدر الإشارة إلى أنه قد صدرت لأنسي (الأعمال الكاملة)، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، في ثلاثة مجلدات.
وموازاة مع اهتماماته الأدبية إبداعاً ونقداً وترجمة، اشتغل أنسي الحاج بالصحافة منذ أواسط الخمسينيات؛ فكتب مقالات في أشهر الصحف اللبنانية، وعلى رأسها (النهار) و(الحياة) و(الأخبار)، وتولى مسؤوليات مهمة في بعضها؛ منها رئاسته هيئة تحرير جريدة (النهار) مدة إحدى عشرة سنة (1992 – 2003).
إن أنسي الحاج يعد، بحق، أحد رموز قصيدة النثر العربية وفرسانها ومؤسسيها، ولكنه ليس أول مبدع فيها ولا أول منظر لها في أدبنا. فقد كتب قصيدة النثر، قبله، سليمان عواد وتوفيق صايغ وآخرون غيرهما، ونظر لها، قبله، ناقدون غيره، وأقصد، بالتحديد، أدونيس. إلا أن إبداع أنسي الحاج وتنظيره النقدي في هذا الإطار كانا متميزين؛ ذلك بأنه أول من أصدر مجموعة شعرية تجرأ على وسم نصوصها بـ(قصائد النثر)، وهي مجموعته المعروفة (لن) التي كان ظهورها، في مشهدنا الأدبي، صادماً، محتوى ومبنى، للقارئ الذي ألف، أرداحاً متطاولة من الزمن، نمطاً من الشعر يجعل الوزن والقافية عماديه الأساسيين. يقول أنسي عن تجربته الشعرية في المجموعة المذكورة: «تجربة (لن) كانت صادمة بالمحتوى مثلما كانت بالشكل. الصدمتان متداخلتان. (لن) أول كتاب يسمي نفسه (قصائد نثر)، لكنه ليس أول كتاب من نوعه.. ثمة أدباء عرب عديدون عالجوا الكتابة الشعرية نثراً، لكنهم أطلقوا على نتاجهم مسميات مبهمة؛ كالقطع الوجدانية، أو الشذرات الفلسفية، أو النفحات الشعرية... إلخ، من هؤلاء: أمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ومي زيادة... تجربتي كانت بمثابة تأسيس نوع معلن وشرعي. على صعيد المضمون لا أذكره إلا أذكر دراسة خالدة سعيد عن (لن). هناك مقالات تحتضن كالأم. هذه منها. لولا برهان الزمن لقلت: لولا دراسة خالدة سعيد لما كانت (لن)...». ففي آخر هذا النص، كما هو باد للعيان، اعتراف صريح، من أنسي نفسه، بفضل الناقدة خالدة سعيد على مجموعته المعنية تعريفاً وتحليلاً ونقداً، بل وعلى تجربته الشعرية ككل.
والواقع أنه يصعب –وإن لم نقل: يستحيل– الحديث عن بدايات قصيدة النثر لدى العرب، والتأريخ لها علمياً، دون استحضار متون إبداعية محددة، لعل من أبرزها ديوان (لن)، الذي صدر سنة 1960، ضمن سلسلة منشورات مجلة (شعر)، على نفقة أنسي الخاصة، بما قدره مئة ليرة لبنانية، حاوياً بين دفتيه عدداً من النصوص أولها (هوية)، وآخرها (حرية حرية حرية). وأعادت نشره المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ببيروت، عام 1982. وقد ارتأى أن يسمي هذا الديوان بحرف ناصب يفيد معنى النفي لما ألفاه فيه من إمكانية للتعبير عن موقفه من الواقع الموبوء المعيش آنذاك. يقول رجاء النقاش في هذا المتجه: اختار أنسي الحاج كلمة (لن) عنواناً لكتاب من الشعر المنثور؛ لأنه وجد فيها ما يعبر عن رفضه للواقع، وتمرده عليه.
وإلى جانب نبرة الرفض الطاغية في ديوان (لن) كله –وهو ليس صرخة رفض للرفض، كما يقول خليل رامز سركيس، بقدر ما يعني عمل الرفض في مصير الإنسان– تميزت طريقة كتابة نصوصه بخواص واضحة لغة وتصويراً وأسلوباً وإيقاعاً وبناء. إنها كتابة غير مألوفة في العربية، ذات جماليات أخرى، أسست لشعر جديد في تربة الأدب العربي المعاصر استمد مقوماته الفكرية والفنية من صميم الواقع الماثل أمام المبدع، ومن انفتاحه الواعي على شعر الحداثة الغربي.
وكان قد أنجز بول شاوول دراسة نقدية عميقة عن شعر أنسي الحاج وجماليته ولغته القائمة على أساس تفجير النسق اللغوي المألوف وتثويره ليستوعب تحديات اللحظة الحضارية الراهنة وإشكالاتها، وليستجيب لرهانات الشعر العربي المعاصر المنفتح والمتفاعل مع الأشعار الأخرى.
وفي السياق نفسه، عد عباس بيضون، وهو من كتاب قصيدة النثر كذلك، (لن)، ومعها مجموعة أنسي الثانية، متناً مفارقاً ومتميزاً في اللغة العربية، نسجت نصوصه بطريقة كتابية مضادة للغة السائدة المعهودة، وصادمة لذائقة المتلقي ولأفق انتظاره، مما يجعل أمر تناولها بمقاييس الأدب المألوفة غير ممكن، بل غير مجد أصلاً!
إن ديوان (لن) أثر إبداعي حافظ على راهنيته، ولم يظل أسير لحظته الزمنية، ولم يخضع لمنطق التقادم، بل إن كرور الأيام، وتوالي العقود، لم يكونا ليزيداه إلا تألقاً وسحراً. ومرد ذلك كله إلى تميزه شكلا ومضموناً، وإلى ملامسته أسئلة تعلو على الزمان والمكان معاً لتعانق الكوني والمشترك، ولتعبر عن موقف الإنسان مما حوله. قال عبده وازن عن هذا الديوان، عام 1995: «بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدور كتاب (لن) أقرأه كما لو أنني أقرأه للمرة الأولى. كأن الأعوام التي مرت عليه لم تزده إلا تألقاً وحدة وسحراً، بل كأن الشاعر (المراهق) آنذاك لم يكتب كتابه الأول إلا ليقرأ فيما بعد، ليظل يقرأ جيلاً بعد جيل.. ومن يقرأ الآن (لن) لا يصدق كيف أن ابن الثانية والعشرين استطاع أن يخوض تجربة جحيمية مماثلة، وأن يكون واحداً من (المصابين) الذين خلقوا عالم الشعر العربي الجديد».
ولم تقتصر الشهرة على نصوص (لن) الشعرية المنثورة، بل اشتهرت أيضاً، بالقدر نفسه أو أكثر، تلك المقدمة النقدية التي كتبها أنسي الحاج لهذا الديوان، والتي –على قصرها– حفلت بعدد من القضايا الأدبية والنقدية. إن هذه المقدمة بمثابة (بيان) أعلن ميلاد قصيدة النثر العربية رسمياً، وأعطى –بالتالي– شارة انطلاق لحظة الحداثة الثانية في شعرنا المعاصر، بعد لحظة الحداثة الأولى مع جيل نازك والسياب وأمثالهما من عمالقة القصيدة الحرة في أواسط القرن الماضي. ويلزمنا، نحن القراء، حين العمد إلى قراءة تلك المقدمة، مراعاة السياق العام الذي أفرزها بكل تحدياته ومتطلباته، حتى نستطيع إدراك أسرار الطريقة التي صيغت وفقها. وقد أومأ أنسي نفسه إلى ذلك حين قال: «لو وضعت مقدمة (لن) اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ!».
ويحلو لبعضهم مقارنة هذه المقدمة المؤسسة للحداثة الثانية (قصيدة النثر) بمقدمة نازك الملائكة لديوانها (شظايا ورماد) (1949)، بوصفها أسست للحظة الحداثة الأولى في شعرنا المعاصر (قصيدة التفعيلة)، طبعاً مع وجود فوارق بين المقدمتين – الحداثتين. يقول ماهر شرف الدين، في مقال نشره في العدد 24 من مجلة (الغاوون) (شباط 2010): «في الحقيقة، فإن المقارنة بين المقدمتين تقنعنا، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن المقارنة الصحيحة يجب أن تقوم بين حداثتين (التفعيلة وقصيدة النثر)، لا بين شاعرين (الملائكة والحاج). والفارق هنا ليس مصطنعاً بالطبع. فالحداثة الأولى (التفعيلة) قدمت نفسها كامتداد طبيعي وسلس للتراث، لا بل إن نازك الملائكة جهدت لتجد جذوراً ضاربة لها في هذا التراث (شعر البند). بينما جاءت قصيدة النثر استفزازية، غير هيابة، وغير مكترثة بمسألة الجذور كلها، بل إنها قدمت –تقريباً– كإنتاج طبيعي لترجمة الشعر الغربي وشعرائه الكبار.
وما قالته الملائكة بـ(لا) قاله أنسي بـ(لن).. قاله بالمؤكد، لكن الضبابي.. بالحاسم، لكن غير الواضح.. بالجازم، لكن المفتوح.
ومثل هذه الخلاصة يمكن معاينتها، في أجلى صورها، من خلال المقارنة بين مقدمتي (لن) و(شظايا ورماد). فقد كانت مقدمة الملائكة مقدمة تقديم الأجوبة، بينما كانت مقدمة الحاج مقدمة طرح الأسئلة. كان هم نازك الملائكة طمأنة الناس والشعراء، في حين كان هم أنسي الحاج إقلاقهم واستفزازهم وقض مضاجعهم.
وفي هذا الفارق بين مقدمة الأجوبة ومقدمة الأسئلة، يبرز الفارق بين الحداثتين: بين حداثة استيعابية وحداثة استفزازية، بين حداثة تطمين وحداثة تقليق، بين حداثة مسيجة وحداثة مفتوحة».
إن أنسي الحاج يعد، إذاً، من أقطاب قصيدة النثر في الوطن العربي إبداعاً وتنظيراً، ومن رجالاتها الأعلام الذين لا يمكن لدارس هذه القصيدة إغفالهم أو غض الطرف عنهم لدى إرادة الحديث عن هذه الأخيرة. فمنذ الخمسينيات إلى أواسط التسعينيات، راكم أنسي إبداعات في الشعر المنثور لا يعدم أي منها النضج والاكتمال الفني، وأبرز هذا المخلوق الأدبي الحداثي في أبهى الصور وأرقاها، ملحاً على صلاته الوثقى بالواقع بكل تلاوينه وتمظهراته وأبعاده، حتى اغتدت قصيدة النثر معه (أطروحة العالم الطالع)؛ على حد عبارة منيف موسى. وغير خاف على أحد من قراء هذه الإبداعات مدى تميزها، مما كان سائداً في الساحة الشعرية العربية يومئذ، رؤية ولغة وصياغة فنية، وحجم تجديدها لقصيدة الوزن وثورتها عليها من جميع الجوانب. إنها، بإيجاز، تعكس تجربة إبداعية مشاكسة ومغايرة غير معهودة لدى أبناء العربية. بقول عابد إسماعيل عن أنسي راصداً أهم مظاهر تجديده للقصيدة العربية مضموناً وشكلاً: «إنه يطور رؤيا شعرية جديدة، تتجاوز نسق القافية والتفعيلة والوزن، وتنويعاتها الأسلوبية والفكرية، مقتحماً متاهات النثر ومباغتاته الخفية. يكتب الشاعر محوره المتواصل كمبشر مؤسس للحداثة الشعرية العربية، إلى جانب أدونيس ويوسف الخال اللذين أسس معهما مجلة (شعر) عام 1957، هارباً من التنميط والقولبة، وناسفاً المسافة بين الوزن والإيقاع، الشعر والقصيدة، الجسد واللغة؛ فيندفع بقوة اللعنة الكامنة في اللغة الخرساء ليعلن أن (الملعون يضيق بعالم نقي)، ذلك أن القصيدة ينبغي أن تتكلم خارج أعراف الطهارة، وخارج قواعد اللسان الجاهز؛ لأنها تتطلب الاغتسال الدائم من الماضي، والتحديق في عين العدم، ومكابدة المفارقة القصوى التي سماها الشاعر الإنجليزي كيتس، عام 1817، في وصفه لشعرية شكسبير، (الاستطاعة السلبية) (Negative capability)؛ وتعني معايشة الشاعر للشكوك والحيرة والأسرار، من دون أن يزعج نفسه بالوصول إلى الحقيقة، مكتفياً بالتحديق في مرايا الهاوية».
ومنذ جيل أنسي المؤسس إلى اليوم، حققت قصيدة النثر لدينا مكاسب ملحوظة كماً وكيفاً، وسارت في مسارات عدة، وفتحت لنفسها آفاقاً كثيرة، واستقطبت قطاعاً عريضاً من المبدعين، ولاسيما الشباب منهم ذكوراً وإناثاً، وبلغت بتجديد القصيدة العربية حدوداً بعيدة على مستويي الرؤيا وآليات التعبير الفني. وقد وصف أنسي ما تحقق لقصيدة النثر العربية، في أحد الحوارات المجراة معه مؤخراً، رداً على سؤال وجه إليه نصه: (هل حققت قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي ما أردتم لها أن تحقق على صعيد اللغة والتعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟)، فأجاب بالقول: «لا أحب التعميم. الشعر هو الشعراء.. هو الشاعر. بعضهم فتح أبواباً وآفاقاً مدهشة. بعضهم نصيبه أقل. وهناك أجيال جديدة أضافت إيقاعاتها ولا تزال في طور التشكل. أما هموم الإنسان، المعاصر وغير المعاصر، فهي من بديهيات التكوين الشعري، ولا حاجة لإعلانها في مشروع. جل ما يطمح إليه في هذا المجال هو أن يجد الشاعر اللغة التي تماشي إيقاعات وجدانه، وتعانق تجاربه ورؤاه وعواطفه وأحلامه. إن أهم ما حققته الكتابة الحديثة، وبينها قصائد النثر، هو أنها تجرأت على أن تتقمص ذاتها». ولئن كان الإقبال على هذه الكتابة الجديدة مؤشراً إيجابياً ينم عن تقبل هذا النتاج الأدبي الحداثي، إلا أنه، أحياناً، يصير موضع تحفظ وتحوط حين يقتحم غماره من لا يتحكم في إوالياته، ولم يستوعب بعد عمقه وجوهره؛ فيسقط ما يخطه قلمه من كتابة، في هذا الإطار، في مهاوي الركاكة والابتذال، بعيداً عن الشعرية. والذي يأسف له أنسي أن كثيراً مما ينتج اليوم، على أنه قصائد نثر، ليس من هذه الأخيرة في شيء! مما جعله يدعو المبدعين الشعراء إلى الرجوع إلى كتابة قصائد الوزن ما داموا غير متحكمين بعد في تقنيات كتابتها، وغير فاهمين، بما يكفي، روحها وخواصها الدقيقة. وقد جاءت دعوته هذه، بصريح العبارة، في مقاله، المنشور حديثاً، تحت عنوان (دعوة إلى الهرطقة)؛ حيث دعا الشباب إلى معاودة كتابة الشعر الموزون ما دامت قصائد النثر التي تكتسح المشهد الإبداعي العربي، اليوم، قمة في الرداءة والضحالة والإسفاف والفوضى والتخبط. وعزا ذلك، في المحل الأول، إلى غياب النقد العليم الصادق. يضاف إليه، طبعاً، عدم اطلاع أولئك الشبان، مسبقاً، على النقد النظري المكتوب حول قصيدة النثر، وعدم اختمار تجاربهم واكتمال استعدادهم لخوض غمار هذا الفن الشائك، وما يتيحه الإعلام المعاصر وثمار التكنولوجيا الحديثة من إمكانات غير مسبوقة في مجال النشر على أوسع نطاق.
وبهذا كله، يتضح لنا عظم إسهام أنسي الحاج في ميدان الشعر المنثور العربي إبداعاً ونقداً؛ مما أهله لأن يكون، بجدارة، واحداً من رموز هذا الشعر الذين جددوا القصيدة العربية وعصرنوها واجترحوا منها قصيدة حداثية مغايرة ومشاكسة ومنفلتة و(مفتوحة عابرة للأنواع)؛ كما ذكر الناقد عز الدين المناصرة في كتابة (إشكاليات قصيدة النثر) (2002).
المصدر: شذرات عربية
*****
ربيع قصيدة النثر... كلام «غامض» على أنسي الحاج
هذا الذي أكتبه الآن، سيكون غامضاً، غموض أنسي الحاج، وغموضي، وغموضنا جميعاً. الشاعر هو أول شخص يحاول أن يتحرر من تمثيل دوره. وتمثيل الدور يعني أن تعمل دائماً بحسب الأصول المرعية. وفي كل جوانب حياتنا نقدر ألا نشذ، ولكن في الشعر، وربما في الحب، إذا لم تعرف متعة الخروج على المألوف لن تعرفهما أبداً، بخاصة في الشعر. إنه المثل الأعلى على سقوط الأصول، فكل عمل آخر يستوجب دوراً. إتقان هذا العمل يعادل أن تمثل هذا الدور بأقصى قدرة، بأقصى طاقة. في الشعر سوف يسقط الشاعر في بئره الجافّة إذا فكر بالدور الذي يجب أن يمثله، ولو بإتقان، وعندما يمثل الشاعر دوراً، تكون القصائد أمامه على الطاولة. يكون صياداً فقط، بدل أن يكون صياداً وفريسة في آن واحد. ولأنه تعوَّد، وكذلك تعوَّد الناس أنها، أي القصائد، يجب أن تختلط بجسده، يجب أن يعجنها ببخار أنفاسه وعرق جسمه، وغالباً، ونتيجة لذلك، تكون القصائد زنخة، لا عقلانية. وسخة لكن أنوف الناس لا تشم رائحة القصائد، ولذا يقبلون عليها، كأنها زهرة يجب أن تقتطف، ثم يجب أن يُحتفظ بها. تبدو القصيدة إذن، وكأنها انغماس كامل في الحياة، عندما لا يوجد عدو ظاهر لها، عدو تنشغل به، عدو اسمه الموت.
والشاعر الذي يشبه الشاعر، الشاعر الذي يشبه أنسي الحاج، هو ذلك الشخص الذي يمكن أن نسمعه يحدث نفسه: أنا الرجل المملوء بالقصائد، أنا الرجل الذي سوف تخرج القصائد كلها من جسدي، أريد أن أمشي، أريد أن أفرغ جسدي مما يملأه، ربما ساعتها أستطيع أن أطير. ولكن الغريب أن القصائد عندما تخرج، تخرج ناقصة، تاركة ذيولها التي تنمو مجدداً. حتى الآن لم أستطع أن أستمتع بجسد فارغ. حتى الآن لم أستطع أن أطير. ولما يصمت أنسي، تطاردنا الأمثال والأقوال، أنسي هو الأنقى بيننا، هذا ما ورد في رسالة أدونيس إلى خالدة. كان أنسي في أثناء ذلك هو الشاعر الإنسان الهدام بامتياز، الراديكالي بامتياز، السريالي بامتياز أيضاً. بدأ من كتابه «لن» باحثاً عن بئره العميقة، وعن حريته وعن الوجازة، وعن التوهج، وعن المجانية. بدأ أيضاً باحثاً عن الكثافة، كثافة الصياد والفريسة، في ثقافة تحتفل دائماً، بالصياد فقط، ثقافة ذكورها ذكور، وإناثها ذكور. انظر إلى آخر نجومها الشعريين، استمر أنسي حتى ثمل وبلغ بسكرته «الرأس المقطوع» كتابه الثاني، وبعدها بلغ ذروته في الماضي، ماضيه هو، أو «ماضي الأيام الآتية». رأى أنسي ضرورة أن يخون، ونظر إلى التقليد الشعري المعرِّي، وخانه، باعتبار أن هذه الخيانة عمل طبيعي، فعلاقة شاعر أيامنا بأسلافه الجاهليين الأمويين العباسيين النهضويين هي علاقة إخلاص لا تصح إلا إذا انقلبت وأصبحت علاقة خيانة.
رأى أنسي أن الشعراء حوله، إما سدنة في معبد اللغة، وإما مستهلكون لها كأداة توصيل واتصال، ولم يشأ أن يصير سادناً - فريسة، كما لم يشأ أن يعيش مستهلكاً - صياداً، وفكر في الخروج عن اللغة، ومن اللغة، وعلى اللغة، فكر في الدخول إليها، فكر في اختراع لغة داخل لغته، وليس اختراع أبجدية خارج أبجديته، وليس تدمير لغة، محض اختراع، اللا مألوف في المألوف، أو مألوف اللا مألوف، تجانس اللا تجانس. وفي محاولته تلك خرج على القوالب، وفرح، أطاح الزوائد وفرح، تعامل مع الكلمة المبتذلة، وسمى الأشياء بأسمائها، واخترق المحرم، وفكر أن يثأثئ ويفأفئ، فكر أن يهذي، وأعطى عقله الصاحي مهلة، وجرب إمكانات لا وعيه، إمكانات الغموض فيه. كان ماؤه يخرج من بئره العميقة، وليس من بئر العالم المحيط به، وظل هكذا يمشي من سرطان نفسه إلى سرطان اللغة. كان يمشي ويستأصل، كان يمشي على حبل من النزق، على حبل من الرغبة في القطيعة، وفي دواوينه الثلاثة، لم ينس قط قولة ماكس جاكوب، كي تكون شاعراً حديثاً، يجب أن تكون شاعراً كبيراً جداً، وكبيراً جداً تعني أن تصل بالصياد والفريسة معاً إلى آخر آفاقهما. ولم ينس أن كتابة الشعر فعل مجاني، دون فائدة، دون نفع، دون دون، سوى محاولة التغلب على الاختناق، وظل يكتب الشعر كأنه مغلوب على أمره، ولم يهتم - في الظاهر - بما نطلق عليه البناء والمعمار، لم يهتم - في الظاهر - بالصبغة، كان اهتمامه الأكبر بقبول الخسارة. أدرك أنسي طوال دواوينه الثلاثة أن هندسة القصيدة فعل معاد. وكان جنون أنسي يقوم على أساس من التعاطف القليل مع العالم الخارجي، إذا شئت قل من عدم التعاطف.
لكن أنسي الشاب الذي كان بلا أسلاف عرب، والذي أراد أن يكون أخلافه خصومه، كانت راديكاليته سبباً في عزلته، فالثقافة العربية تحب نصف الراديكالي، وتهيئ له المسرح، وتوزع صورته كبيان افتتاحي. فعلت هذا مع السياب وجعلته أميراً على قصيدة التفعيلة في زمن ريادته. وفعلت هذا مع محمود درويش وجعلته أميراً تالياً في الزمن التالي. وأيضاً فعلت هذا مع الماغوط، وجعلته الأمير على قصيدة النثر. الماغوط الذي لم يصطدم اصطدام أنسي مع القول الشعري، والذي لم يقم مثله بتحريف التجريب وتجريفه، وتحويله إلى تخريب حيوي مقدس أو مدنس، الماغوط الذي امتلأت الأرض العربية بأطفاله امتلأت بسلالته، الأصح بسلالاته، أغلبها مشوه. الماغوط الذي تناسب غضبه مع حجم الغضب الذي تقبله ثقافته، فصار غضبه بمقاس التابوت الذي أعدته هذه الثقافة لأعلامها. التابوت الذي يصعد كعنوان لحياة الماغوط الطيب. بعد ماضي الأيام الآتية، أحس أنسي بالتعب، فكان أصغر الشعراء الشيوخ، وكتب «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، وكتب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، وكتب «الوليمة»، و «الوليمة»، و «الوليمة»، وفيها جميعاً تأكدت سنوات عمره بخطابه الرسولي العارف، والمنتظر للمخلص، تأكدت سنوات عمره باعتماد النفس الغنائي، لم يكن موجوداً من قبل، باعتماد التكرارات لصناعة هذا النفس، لم تكن موجودة من قبل بالبحث عن المشترك العام، عن الوعاء العام، سواء في المسيح، أو في الشعور بالخيبة، أو في الحب العاطل من الأنا العميقة، أو في الترنيم. أصبحت الأنا آسيانة أكثر. هل كان أنسي يائساً، هل شعر من جراء فرادته وفرديته بالوحشة، هل أراد أن يمشي في قطيع، هل وجد أن القطيع يتميز أكثر بعباراته المكتملة الواضحة، بكثرة تشبيهاته، وقلة هذيانه، بأيروسيته الخجول، حتى إذا تبجح، بانكفائه على بئر يجري ماؤها في جسد امرأة، خرج أنسي إلى العالم الخارجي، بعده لم تكن تصلح له، فظل جميلاً، ذلك الجمال المحتمل المتوقع، بعد أن كان يفاجأ بجمال وحشي، ومع ذلك فهو جمال على احتماله وتوقعه ممسوس يفوق جمالهم. شعر أنسي الأول، كان يحتاج إلى نخبة واسعة تقوم بحمايته، ولم توجد ولن توجد.
كانت النخبة مثل غيمة تزيحها دائماً الشمس الوقحة، شمس الجماعة، الشمس الوقحة بزعمها أنها صانعة النور. الأدهى أنها، أي النخبة، تضاءلت وانكمشت مساحتها فوق أرضنا، وفوق كل أرض رفعوا فوقها رايات التنوير. والتنوير العالمثالثي هو استبداد معكوس. انهار أنسي نفسه، انشغل بالدفاع، بمقاومة أن يصبح شيخاً، أنسي الذي ولد بعد حرب أهلية، وعاش حربه المبكرة مع سنوات عمره في ظل حرب أهلية ثانية. وفي ما بين الحربين ظهرت مغامرة أنسي كرحلة أولها الذهاب نحو الذات، وآخرها محاولة الخروج من الذات، لولا الصمغ العالق، أولها السريالية، وآخرها الرسولية، المبشرة بسقوط الصمغ. كان مثل حيوان أسطوري مخيف، يلتهم داخله وداخله لا ينفد، ولما تعب حاول أن يكنس براز العالم الذي يحيطه. ومع ذلك لا يمكن أن تزعم وأنت مطمئن تماماً، أن كتابة أنسي كانت في غياب أية رقابة يمارسها العقل، لا يمكن أن تزعم تماماً، أنها كانت خارج كل اهتمام جمالي، الأرجح أنها خارج كل اهتمام أخلاقي بدرجة واسعة، هذا هو ما جعل شعر أنسي يدخل السريالية من نافذة ويخرج عليها من نافذة أخرى. آه، يقول تروتسكي في ما يخص الفن، نحن كلنا فوضويون، كلنا فوضويون، من منا يرث كراهية ستالين، ولا يرث محبة تروتسكي. لعله أنسي.
خطوات الزمن الفارقة بين أندريه بروتون وأنسي استطاعت أن تجعل صورة تروتسكي تشحب بعض الشيء. استطاعت أن تصنعها تحت شجرة للبكاء والنوم، ولكنها لم تستطع أن تضع الشعر في متناول الجميع بدلاً من احتكار النخبة، وكذا لم تستطع أن تضع الشعر في متناول النخبة بدلاً من احتكار الجميع. هل ستحاول مثلي أن تتخيل صفوف البوتيكات أو السوبر ماركات في شارع الحمرا، أن تتخيل دار النهار أو المكتبة العصرية، أن تتخيل زوجتك أو أباك، أن تتخيل لبنان كله. لبنان المركنتيلي المشوه أحياناً، الناصع أحياناً. إذا حاولت مثلي، ستحب أن تقرأ أنسي، ستحب أن تكتب عنه، ستحب أن تتذكر أنه لما بدأ أنسي بأبحاث طويلة عن الموسيقى، كتبها وهو في البكالوريا، ونشرها في مجلة «الأديب» لصاحبها ألبير أديب. ولما كتب قصصاً نشرها في مجلة «الحكمة» التي كان يرأس تحريرها فؤاد كنعان صاحب الكتب الفارقة: «قرف»، «كأن لم يكن»، «على أنهار بابل»، «أولاً وآخراً وبين بين»، «مديرية كان وأخواتها»، والذي في مصر لا يعرفه أخيارنا، ولم يسمع باسمه أشرارنا. مصر ذات التبلات التي ذبلت أو تكاد تذبل وهي مغلقة على ذاتها.
تنبأ السيد فؤاد حداد، وهو غير الشاعر فؤاد حداد، تنبأ للكاتب العصبي أنسي الحاج بخير سيجنيه ذات يوم. كان هذيان أنسي ملجوماً وغير ملجوم، وكانت قصيدته عند البعض تشبه الحكاية، تشبه نشيد الإنشاد، هو يسميه نشيد الأناشيد، كانت قصيدته لا تتساهل ولا تقدم تنازلات أمام رغبات القراء، تتعمد اللامبالاة، وتحرث القلق والعبث، وتفيض بالحيل، حتى إن الخلاص كان حيلة. يرصد السريالي الآخر، المجنون الآخر، الألثغ كطفل، البريء كطفل. يرصد شوقي أبو شقرا زميله الذي شاركه مرة في كتابة قصائد «أين كنت يا سيدي في الحرب». يرصد شوقي لغة «لن» المليئة بالمرض والهذيان، والفكاهة القاحلة، واللذائذ المبعثرة والذكريات الجريئة. قصيدة أنسي تعلمت من نفسها ألا تعرف الميوعة. الميوعة التي أخطر آفات قصيدة النثر. فالذات عند أنسي ليست مائعة، على رغم أنها بئر بلا قرار، والعالم ليس مائعاً على رغم غموضه. رفض قصيدة أنسي للميوعة يتعزز برفض آخر لبدوية أو رعوية ظهرت عند آخرين، ورفض ثالث لتنسك صوفي مهما كان الشعور بالإثم حارقاً وصرفاً. بدأ أنسى في أكل الخبز الجاف، مثل أكله لثمرة اليقين المطلق، لثمرة الفرح. وكان وهو يقضم يحس وكأنه يصل إلى نبضة الكائن. نبضة الكائن في العضلة ذاتها، في الطريق ذاتها، طريق المخلص، الذي يسمح للإنسان فقط أن يحيي مأساة العالم، وسيسمح له أيضاً بإمكان الحياة وخلق الشعر، وكأن أنسي، وهو يخرج من نفسه ويدخل العالم، يدخل كواقعي، ولكن كواقعي من قماشة الواقعية الصوفية، كأنه يقدم فكراً - واقعاً في عجينته الأولى، في حالته الخام.
هل استطاع شعر أنسي في أطواره المختلفة أن يتعرف المرأة ذاتها، أم وضعها داخل إطاره، تحت آلته، بحيث تشبه كل شيء، تشمل كل شيء، تحيط بكل شيء، وتكون بؤرة كل شيء، وما لا تستطيعه أبداً هو أن تكون ذاتها؟ محيت المرأة ليتأكد الحب، خسارة فادحة، وربح فادح. أراد أن يوزع جسم المرأة على العالم، فلما لم يستطع ذلك، رغب في أن يفجره لتتكون من الشظايا، تلك المرأة الكون، تلك المرأة العالم، مع العلم أن مرجعية أنسي تستند إلى قوى هدم العالم، إلى اللاوعي الواعي بشعوذته وأحلامه، ولا منطقيته، وعلى النقيض من رفيقه الماغوط، الذي حملت عبارته كل الجينات الدالة على أصل، على ثقافة أنتجها هذا الأصل، على هوية، كان أنسي ينتصر بغياب مرجعيته على سلطة الهوية واستبدادها، وكان شعره بالتالي يقترب من حافة الهاوية، يقترب من أن يكون بغير أصل، يقترب من الشعر، من هذا الشعر. تخيلت مرة، وقد أوشك كتابه الأول أن يبلغ من العمر نصف القرن، تخيلت أنني أقابل أنسي وأحاوره، ولكنه أجاب على كل أسئلتي بإجابة واحدة، سألته: كيف ترى حرية البالغين، لماذا تنتشر في كل الأرض جثث قصيدة النثر، لماذا انحنى رأسك وأنت تنظر إلى أيامنا، وأنت تعبرها، وأنت تنظر خلفك، كانت إجابة أنسي الوحيدة هكذا، يزوم ويغمغم ويصمت، يزوم ويغمغم ويصمت.
عبدالمنعم رمضان *
المصدر : دار الحياة
***********
08/02/2014 10:10:04 ص
لا تكتب عن أنسي الحاج ، فهذا الشاعريبدو قاسياً حزيناً مثل نبي طرده أبناء وطنه فلجأ إلي برية بعيدة ليصرخ فيها وحيدا ، يلبس حول حقويه جلد ماعز، يأكل جراداً وعسلاً ويكتفي بالصلاة للكلمات المجردة، الكلمات الأولي، شعرت للمرة الأولي بقسوة اللغة ،أو قل اللغة العارية التي تجردت من كل غايتها التي نعرفها ولجأت إلي غايات جديدة ،طليعية تصطدم كل من اقترب منها، فشعرت بالخوف وأنا أقرأ( لن) لأنسي الحاج، أنا الذي قرأ شعراً يبدو جميلاً غارقاً في البلاغة، إذ قرأت قبل أنسي الحاج قصائد نثر ترتدي ملابس الشعر ، قصائد تضع علي رأسها قبعة البلاغة وتنتعل المجاز والموسيقي، فكثيرون كتبوا ومازالوا يكتبون قصيدة النثر بمنطق الشعر التقليدي، بمنطق الأسلاف لغةً وبناءً ولكنه آمن بالنثر الخالص،الطبيعي فمنحه شعراً خالصاً وخاصاً، منحه أسراره وفتح له أبوابه المستعصية ، فهو يؤمن أن أدوات النثر تعمل لغايات شعرية ليس إلا ، فهو لا يستعير من تراث الشعر شيئاً يتوكأ عليه في قصيدة النثر، لكنه يخلق من النثر شعراً ، هو يعرف أكثر من كل الشعراء أن النثر وحده فيه كل مقومات الشعر.
...............
وكما أن الأشياء حين تصعد إلي خشبة المسرح تتجرد من غايتها في الحياة وتصبح أشياء المسرح، فالكرسي الذي نجلس عليه حين يصعد إلي خشبة المسرح يُصبح كرسي المسرح، ربما كرسي قيصر أو الملك لير أو كرسي يوجين يونسكو، أو كرسي الزمن ،هكذا كل أدوات النثر حين تدخل قصيدة أنسي الحاج تصبح أدوات الشعر تعمل لغايات شعرية ، وهذا ما أدهشني ومن قبل جعلني أشعر بقسوة شعر أنسي الحاج حين قرأته لأول مرة ، لأنه ذهب إلي الشعر من طريق جديد ، ذهب من الباب الضيق إلي ملكوت الشعر .
أنسي الحاج عكس كل الشعراء دخل إلي القصيدة مسلحاً بأدوات النثر وليس بأدوات الشعر التي نعرفها ، دخل وهو يثق تمام الثقة في النثر أن يمنحه شعراً خالصاً دون دعم أو مساعدة من أدوات الشعر التي نعرفها ، ربما حاوره طويلاً وسأله لا تخذلني يا صديقي ، فأنا أؤمن بك .
.............
في يناير عام 1965 كتب أنسي الحاج تحت عنوان هذه هي الحياة : أنا من الذين يعتقدون بالدخيلاء، واللاوعي، والمغناطيس، والعقل الباطن، والحلم، والخيال، والمدهش، والعجيب،والسحر والهذيان،والصدفة، وما فوق الواقعي، وكل ما هو مشبوه فوق الواقع، ولي اهتمامات بالجوانب المثيرة من الانحرافات العصبية والعقلية والنفسية . واعتبر منطقة النفس البشرية أعمق وأكثر تفوقاً من أن يحيط بها أو يحصرها طب نفسي يظن في يده المفاتيح لأبواب هذه المنطقة والعلاج لأمراضها.
ربما تكون هذه الكلمات جزءا يسيرا من بطاقة هوية أنسي الحاج الذي قال إنه يرفض شرطة الجمال وحشرات التزييف الشعري والفني والعقائدي !لأنه يعرف الكلمات في جوهرها لا في مظرهها الزائف! تخيلته يسأل الكلمات وربما العابرين، الاسلاف والمعاصرين.. هل يخرج من النثر قصيدة؟ أنسي الحاج أجاب بمفرده والآخرون أجابوا أيضاً، هو أجاب وانحاز إلي النثر وقال: قصيدة النثر عالم بلا مقابل ، فقصيدة النثر كي تكون قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية أو محملّة بالشعر تتوافرفيها شروط ثلاثة ،الإيجاز والتوهج والمجانية وظل هكذا في كل أعماله، عاش أنسي الحاج يسأل الكلمات العارية مثل سفسطائي إغريقي يستيقظ من نومه ليسأل السماء عن أصلها والعالم عن المحرك الأول،و في خريف 1960 كانت مقدمة - لن - مانيفستو قصيدة النثر وفيها كان يسأل النثر عن الشعر، وجاءت الإجابة حافلة بالقلق في - الراس المقطوع، ماضي الأيام الآتية، الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع - وبعد ثلاثين عاماً في مقدمة - خواتم - راح يكفر الكلمات نثراً وشعراً ، فلم تعد الكلمات تبلور الحقائق وتبدعها، يقول : لقد أصبحت الكلمات تنقل إلينا بلاغتها، في أي لغة كانت، لكنها لاتقيم بينها وبيننا تواصل الحب. القربان انفصل عن رمزه . هل ماتت الكلمة؟ وكان يسأل عن نفسه لا عن الكلمة ، كان يسأل عن موته بعد أن توقف عن الكتابة( لكوني عدت واستأنفت الكتابة وكأني عدت واستأنفت الحياة بعد موتي)
..........
في شعر أنسي الحاج الكلمات التي كانت في البدء ، الكلمات العارية كحواء وآدم قبل طردهما من السماء ، كلمات لا تشعر بالخجل من عريها تستطيع أن تواجه العالم دون أقنعة وتقف في القصائد مرفوعة الرأس بلا زينة ، فهو حليف الكلمات قبل أن يكسوها الأسلاف بملابس المجاز والاستعارة وكل عباءات البلاغة ! وظني أن هذا ما جعلني أشعر بالقسوة وأنا أقرأ شعره للمرة الأولي كان لابد أن تتخلص ذائقتي من تاريخ طويل من الأقنعة . فالكلمات عنده تتخلص حتي معانيها التي نعرفها ، فالشعر كلام الصمت ( مامن فرق بين الشعر والحب إلا الأول كلام الصمت والآخر فعله) والكلمات عند الآخرين صاخبة ترتدي سراويل ومعاطف و أحذية وتضع كل أنواع المساحيق ! لهذا أقرأ شعر أنسي الحاج في صمت ، ولا أناقش الآخرين حوله ، لا أتحدث مع أحد عن شعره ، وكأنه طقس سري ممتع ، أتامله ، أفكر في هذه السطور وفي قسوة المعني ، أهمس لنفسي بكلام أنساه بعد لحظات وأقول لي : لاتكتب عن أنسي الحاج، ولا تتحدث عنه ، احفظه كمحبة لا تسقط أبداً .
اخبار الأدب- 8-2-2014
********
بيروت - هناء نحله
الشاعر والكاتب اللبناني المعروف أنسي الحاج قدّم للشعر والكتابة، سنوات طويلة، وضجيج أكبر، لا يشابه «السكوت»، الذي يشتكي منه ويخافه كما الليل.. وهنا يستعرض لنا جوانب من تأثيرات الأشياء والكتابة عليه..
فيما يلهثُ كثيرٌ من المثقفين والشُعراء وراء المنابر والأضواء والضجيج، اخترتَ أنتَ الابتعاد والعزلة. هل كان ذلك خياراً أم قدراً؟
- لا أعلم إنْ كان خيارًا أو قدرًا، حتمًا ليس خيارًا. لأنّ الخيار يصير منهجًا وطريقًا دائمًا. لديّ تناقضٌ في هذا الأمر، من ناحية أنا مبتعد، ومن ناحيةٍ أخرى، مرتمٍ في خضمّ الأشياء، لديّ الاثنان معًا، وهذا الأمرُ ظاهرٌ بشكلٍ مباشرٍ لِكوني شاعرًا وصحافيًّا، وهذان الأمران متناقضان.
لا أحبّ المنابر. اختبرتُ المنبر محاضرًا وخطيبًا وملقيًا للشِعر، وأعتبر أنّني فشلتُ به، وفي الحالات الثلاث لم أجد نفسي ما كُنتُهُ. في الستينيّات، أيْ بعد صدور ديوان «لن»، كان لديّ وجود في نشأة الحركة الطلابيّة وحاضرتُ في كل الجامعات تقريبًا.
ما سبب هذا التناقض؟
- الذاتيّة والفرديّة غالبتان عندي، وربّما لأنّه لا توجدُ أبوابُ ارتزاقٍ للأديب عمومًا؛ للشاعرِ والناقدِ والروائي والقاص. التعليمُ والصحافةُ هما الأقرب إلى مصادرِ الرزق. وأنا مجبرٌ على عيش الحياةِ التي يعيشها كلّ الناس.
إلى هذا الحد أنتَ شخصٌ ذاتي؟
- الصخبُ يؤلمني «فيزيقا». لا أستطيعُ تحمُّل الصُراخ والضجيج والزعيق، ما يُسبِّب لي رُعبًا داخليًّا لِما فيه من بشاعة.
الاختلاط بالجمهور
أي أنّك تكره الاختلاط بالجمهور؟
- لا أحبُّ كلمة «جماهير»، وأفضّلُ كلمةَ «شعب» كرمزٍ لا كأعداد؛ فكلمة «جماهير» فيها شيء مرعب: كالقطعان تُساق، وفيها الظاهر والخارجي بصورِهِ الأكثر غرائزية، ليس بالمعنى الجميل للكلمة، بل بمعنى الغوغاء. أخاف منهم، وأحسّ أنّ بإمكانهم دعسَ الأخضر واليابس، وتَسوقهم الأشياءُ الخارجية التي تفتقرُ إلى رقابةِ العقلِ وحنانِ العاطفة. وإنْ جُرِّدَ الإنسانُ من العقل والعاطفة فلا أعلم حينها ماذا يبقى منه! يبقى منه شيء مرشّح للندم عليه.
ممَّ هذا الرعب؟
- لا أعلم. مسكونًا كنتُ. لأنّ الخوف لم يفارقني. وليس من باب المصادفة أنني قررّتُ أن أكتب في «لن» أنّني أخاف لأنّها العنوان الأوّل.
شغف الحرية
ولكنّ الكلمة الأخيرة كانت الحريّة..؟
- الكلمة الأخيرة هي الحريّة لأنني أتعلّم ربّما أنني إذا فتحتُ الشبّاك يأتي منه الهواء!
من لديهِ كلّ هذا الشغف بالحريّة ويعتبرها مقدّسة، لا بدّ وأن يتملّكّه هذا الخوف..؟
- ممكن، ولكن خوفي من الأساس غُذّي بأمورٍ عدّة. كان مخلوقًا عندي، ولم يكن يخدّرني سوى الصوت. كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري، وفي بيتنا القديم كان عندنا راديو صغير وله شاشة. كان والدي لويس الحاج، بحكمِ عملهِ كصحافي في جريدة «النهار» ومجلة «المكشوف»، يستمع إلى الراديو بهدفِ نقلِ الأخبار التي كانت تبثّها حينها الـ BBC على ما أظن. البثُّ في تلك المرحلة الزمنية لم يكن متواصلاً، وعندما ينتهي البث يحلّ صوت الأثير (الوشيش وشششش). كنتُ أضع أذنيَ على الشاشة وأستمع إلى ذاك الأثير، معتقدًا أنّ هناك عالمًا آخرَ. كان صوت الأثير يُخدّرني. أفتقدُ الموسيقى ولا تعالجني سوى الموسيقى.
تتمنّى لو درست الموسيقى بدلاً من الكتابة؟
- كان عليّ تعلّم الموسيقى وليس الكتابة. وهذا جرحٌ لدي ونقصٌ، وكثيرًا ما أندمُ، وكنتُ أتمنّى لو وُجِّهْتُ نحو دراسةِ الموسيقى في المراحل التعليميّة؛ فنحنُ لا نتعلّم في المدارس سوى العلوم.
الليل والنهار
أنسي الحاج ينام على حافة الصباح، ما سبب هذا التخالف بين الليل والنهار؟ أهو إراديّ أم أنّك تهرب من مواجهة شيءٍ ما؟
- هو الهروب. فلقد أمضيتُ حياتي هاربًا، لا من شيء واحد بل من أشياء. وبالنسبة إلى الليل والنهار، هناك مقولة شهيرة، ربّما تصحّ في وضعي: «إذا غضب الله على قومٍ جعل ليلهم نهارًا ونهارهم ليلاً». وأعتقد أنّ هذا مرتبط أيضًا بقصّة المسكون، لأنّني أخاف كثيرًا من الليل، ولا أملك ثقة به.
ولكّنك القائلُ: كلُّ اشتراكٍ في الضجيج خارجي هو تبكيت لطاقة الكتابة..؟
- التبكيت لطاقة الكتابة ليس سببًا أساسيًا، ربّما هو نتيجة أو وجهٌ من وجوهها.
أليس هذا نوع من الوهم؟
- هذا كلُّه وهمٌ بالنتيجة، لأنّ الإنسان قد يُصاب بالمكروه ليلاً أو نهارًا. الليل موت. أخاف العتمة. أنتظر ضوء النهار لأنام، لأنني أحسُّ بالحماية. أحسّ أنّ الإنسان أكثر إحاطة في النهار، حتّى لو نام وهو غير دارٍ بما يحصل من حوله: فهناك صوت النحل الذي يعمل بجهدٍ ونشاط، وهناك الشمس والحيويّة. يطمئنّ بالي أنّ الحياة قد عادت.
أليس في ذلك جحودًا لليل؟
- الليل عدوّي الأساسي، هو البئر التي يتجنب المرء الوقوع فيها وهو يقف على فوهّتها. والجانب الوحيد الجميل في الليل بالنسبة إليّ هو الهدوء الذي يؤمّنه بشكل كامل ومثاليّ جدًّا ومؤاتٍ للكتابة والتفكير والقراءة. لا يمكنني العيش من دون قراءة، ولا يمكن أن يمرّ وقت فراغ لا أقرأ فيه. والقراءة ساعدتني أيضًا على الهرب. أنا «هريّب»، جبانٌ مستمرٌ بشكل دائم.
ماذا كانت هواجسك حين كتبت «لن»؟
- عندما أعودُ إلى المرحلة التي كتبتُ فيها «لن» نهايةَ الخمسينيات، كانَ هاجسي الأساسي أن أقول أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من الحقيقة التي عشتها وغصت فيها. لم أُردِ التزيين، أردتُ شعرَ التجربة الحيّة الحقيقية التي أعيشها. لم أُردِ التوصيف ولا صناعة الجمال، فكانت الكتابةُ كيانية. فحتى اليوم ما زالت هناك أمورٌ مُغلقةٌ في «لن»، وقصدتُ إغلاقها، وأعرفُ تمامًا لِمَ أغلقتها؛ فهي مرعبة جدًّا، إذ وضعتُ الكوابيس كلّها وبعض التنبؤات... إلخ، بقالبٍ غامضٍ عن عمدٍ، لا لأنّني لا أعرف كيف أقوله. غيرُ ذلك تصبحُ الكتابةُ الأدبيّةُ بلاغًا.
ولكن كتاباتك في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة ترتكّز على الجمال..؟
- هذه هي المفارقةُ التي رافقتْ حياتي طَوال الوقت، أنّه، في السنوات الأخيرة، عندما بدأتُ الكتابةَ في جريدة «الأخبار»، صار التركيز عندي بالعكس تمامًا، أي صرتُ أركّز على الجمال. في الأساس كان دوائي هو الجمال، أو كما ذكرت «الهرب»؛ الهرب من البشاعة ومن الرعب ومن الزمن.
الهرب من البشاعة. أيّ بشاعة؟
- كنتُ أفتشُ عن الجمال ولم أجده في طفولتي، إذ توفّيت والدتي في سنّ مبكّرة في وقتٍ أشدّ ما يكون فيه الولدُ في حاجةٍ إلى والدته... وفي تلك الفترة كنّا خارجين من الحرب العالمية الثانية، وأذكر أصوات الطائرات عندما أتى الطيران البريطاني وحليفه الفرنسي «الديغولي» يقصف ثكنات الجيش الفرنسي الموالي لـ«فيشي». كنّا في بيروت، وكنت أتفرّج من الشبّاك وهم يرمون مناشير لكسبِ تأييد الشعب اللبناني. وأذكرُ من تلك الفترة أيضًا بائعَ صحفٍ، كان يبيع جريدة «التلغراف» مناديًا «قنبلة ذريّة على هيروشيما». كنتُ حينها في السابعة من عمري.
إذًا، كنتُ أفتشُ عن شيء ما لم أجده على الإطلاق. ثمّ دخلت إلى المدرسة، وكنتُ لا أحبّها ولا أحبّ الاستيقاظ باكرًا. بالمناسبة، يجب أن يلغوا هذا النظام التعليمي ونصفَ المنهج؛ أراه سجنًا قاسيًا للأولاد، ولتكنْ ساعاتُ الحضور إلى المدرسة بعد الظهر، وليدَعوا الأولاد يناموا كما يحلو لهم خلال النهار.
الصحافة الإلكترونية
يقودنا ذلك إلى الصحافة المكتوبة، كيف ترى مستقبل الصحافة في لبنان، تحديدًا الورقيّة منها، بعد اندلاع الثورة الرقميّة؟
- لنعتمد النموذج الغربي السبّاق دائمًا. هناك، الصحافة الإلكترونية زادت من نسبة قرّاء الصحافة الورقيّة. صار الجيل يحب القراءة، لأنّ الإنترنت أعطى القارئ مذاق المطالعة. ولكن، سبحان الله، القراءة على الورق تعطيك إحساسًا بالتملُّك، وخصوصًا الكتاب؛ ففي اقتنائه إحساس بأنه صار جزءًا منك، كذلك الأمر بالنسبة للمجلة أو الجريدة. وقد أثبتت الدراسات أنّ نسبة بيع الكتب في أميركا وأوروبا، فرنسا تحديدًا، ازدادت بفضل الإنترنت بشكل قوي.
كيف تمّ انتقالك من جريدة النهار بعد سنوات طوال إلى جريدة الأخبار؟
- الأخبار «مروحة» جيّدة. والفضل الأساسي يعود إلى الفنّان زياد الرحباني، الذي عرض عليّ الكتابة في جريدة «الأخبار» وكنت حينها جالسًا في البيت من دون عمل، إذ قلت لزياد إنني بصراحة مللت العمل الصحافي بعد 47 عامًا، ولقد اكتفيت. فعرض زياد أن ألتقي بإبراهيم الأمين وجوزف سماحة، ولم يكن هناك أي معرفة شخصيّة معهما قبلاً، واجتمعنا في مقهى وكانا غاية في الود واللطف والاستيعاب. وقال لي جوزف: «أنت بالتأكيد لم يعد لديك جَلَدْ ولكن كنْ معنا بأي صفة تختارها». في الحقيقة لم تكن عندي نيّة الكتابة، ولكن عندما احتضونني بهذا الشكل الرائع، قلتُ في نفسي ما الذي سأقوم به غير أن أكون مستشارًا مقابل راتبي؟ (لأنّ عمل المستشار ليس بعملٍ، بل هو صفة شرفيّة أكثر مما هي حقيقيّة). لذلك قرّرتُ الكتابة، وكانت مفاجأة لهما ولي. وأعترف أنني خلال ترؤسي جريدة النهار، كان غسّان تويني يحفزني على الكتابة ولكنّني كنت أتهرّب دائمًا، أو أوقّع بأسماء مستعارة.
ما الذي تغيّر بين «النهار» و«الأخبار»؟
- كلّ أسلوبي تغيّر في مقالات الأخبار. أنا شخص آخر ربّما تكملة لـ«خواتم 1 و2 و3» التي نُشرت في مجلة «الناقد» وهناك مشروعٌ آخر مكمّل. في صحيفة «الأخبار» أكتب لقارئ لا أعرفه ولا يعرفني وربّما لم يسمعْ بي من قبل، أتوّجه إلى شرائحٍ أخرى وأعمارٍ جديدة، وميولٍ سياسيةٍ مختلفة عنّي تمامًا، بعكسِ قارئ «النهار» الذي نشأت معه وأعرفه ويعرفني و«صرنا من أهل البيت»، ولم يحتج لاكتشافي ولا لاكتشافه.
لماذا عدلت عن فكرة تدوين مذكراتك؟
- لأنّ تجاربي مع هذه الشخصيات تاريخيّة مثل عائلة الرحباني، والسيّدة فيروز، بيوسف الخال وأدونيس، براغدة سعيد، بشوقي أبي شقرا، جبران خليل جبران، الياس أبو شبكة، منصور الرحباني، جوزف سماحة، سعيد عقل، ولديها تجاربها في الفن والموسيقى والأدب. وأعتبرُ تجاربنا سويًّا كالسرّ المقدّس لا أستطيع التحدّث عنه، وهو مشرِّفٌ وعظيم، وإنْ كتبتُه سأحسّ أنني استغله.
اليمامة
******
ما أكرهه في العلاقة مع المرأة هو أن اشبه سائر الرجال
• المرأة صحوتي في حلمي وقد تحقق ولم يزل حلما
• المرأة مع الديموم والرجل مع العبور، وحلمي اقامة توازن بين الموقفين
• أريد من المرأة عندما تتبوء سلطة أن تتصرف كأمرأة وليس كرجل.
• شفقتي على نفسي هي شفقة الناظر الى خطاياه
• حياتي عبارة عن سلسلة فشل مع المرأه
• اشد انواع الاذى هي حين يتعاطى الناس معك من خلال صورة خاطئة عنك
• كتابي "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" ليس نشيدا طوباويا.. انه كتاب التجربة.
• العزلة جزء لايتجزأ من "ميكانزم" الكتابة.. من دونها لايستطيع المرء الكتابة
• كل اشتراك في الضجيج الخارجي، هو تبديد لطاقة الكتابة.
لم أجد شاعرا مفطورا على الحب بابداع مثل الشاعر انسي الحاج. فالمسألة الحبية لديه كيانية في العمق.. وجودا قائما بشروطه الاكثر تجديدا وامتلاء.
واذا كان الحب في الاطار اليومي يتعرض لخطر ان يصير مملا ومن دون بريق ، فان انسي الحاج يعرف كيف ينسحب في الوقت المناسب ، مؤلفا مصيره من جديد ، بعيدا عن خطر الرتابة والروتين. انه ضد ان يتحول الحب الى عادة تفقد وجهها المتألق ، وحيرتها الجوهرية ، ونزعتها الى الاندفاع والحيوية والتواصل الذكي.
فالحب هو الأمر الوحيد الذي يميل بالانسان الى مواجهة الزمن بثقة وتجاوز ، لانه "حالة متجددة في استمرار.. حالة مثل الحياة لا تعرف النهاية.. وهو في كل مرة ولادة جديدة.. الاستمرار في الحب هو غياب عن الزمن".
والأهم في الحب الا نفقه حالته ، او نفرق في تفسيرها ، بل نعيشها كما هي مصبوبة بنارها وشعاع انتباهها، لانها بالفعل تتيح نمو طاقات مفاجئة وغامضة.
أنسي الحاج سيد من سعى ويسعى الى تحقيق الوفاق المختلف مع الحب ، المرأة والحياة ، مقدمه في هذا الحوار الاستثنائي:
~ أنسي الحاج.. هل انت امرأة تشبهك؟
_او هي رجل يشبهني.
~ ما معنى هذه الثنائية هنا؟
_انها الانتقال من الاقل الى الاكثر.
~ ماذا تحب في الحب:؟
_لوعة رغبة العاشق في القبض عند المعشوق على شي ء لا وجود له.
~أليست المرأة هي صناعة وهمنا فيها؟
_الى حد كبير.
~ والوصول اليها؟
_محاولة لاكتشاف الفعل وقدرته على صناعة الوهم من جديد.
~ انت "امرأة تشبهك" او "هي رجل يشبهك" اعتراف فيه طعم فرويدي واضح ، فأمير علم النفس يقول بالحروف: "كل رجل فيه انوثة وكل امرأة فيها رجولة". بهذا المعنى ، كيف تعيش هذا الخليط فيك؟
_ كلاهما متحد بعضا في بعض تلقائيا. ثم أنا في هذا الموضوع كما في غيره أنقسم شخصين ، على الرغم من اشتمال كل واحد منهما على عنصر الثنائية: واحدا واعيا ، والأخر لا واعي. بترجمة أخرى ثمة الشاعر ، وثمة المتكلم ، المحلل ، وكلاهما يوسط الآخر في حالاته.
~ الحب يطارد استحالة ضرورية اذن.. يا أنسي ، الا يغير الزمن في وعيك للحب؟
_ كلما تقدمت في السن ، فضلت الاشياء الاكثر لاوعيا، لانها الأكثر حكمة.
~ يقال ان الزمن شيء ثمين للاستمرار في الحب ، وانه فوق ذلك غذاء العلاقة الحبية النامية؟
_الزمن هو للحرق. لا علاقة بين الحب والزمن ، غير علاقة الحرب ، الحب انفلات من الزمن الذي يروح يطارده ليبشعه ، ليربطه بالواقع. الاستمرار في الحب هو غياب عن الزمن.
~منذ البدء الى النهاية ، يبدو اننا لا نستوعب الحب ابدا؟
_هذا صحيح الى حد كبير. فالحب خاصية السحر في العمق.
~ الحب حليف القلق حتى حينما يتطلع الى الطمأنينة.. أليس كذلك؟
~طبعا لا استقرار للحب الا في الغياب.
~ ولماذا هذا البريق المقلقل يا أنسي؟ هل الحب عند الآخرين من غير الشعراء يصل الى حدود هذه السلبية؟
_قد يصل وقد لا يصل. لا ادري في الحقيقة. حتى بين الشعراء ، الحب ليس في مستوى واحد ، او مستوى مشابه.
~ أيهما أهم لديك: الحب ام الحرية؟
_الحرية أريح.
~ انك تذكر احيانا عبارة "الحب السينمائي"؟
_صار بامكاننا القول بشي ء اسمه: "الحب السينمائي" ، اي الحب على الطريقة الامريكية ، والذي اعتبره أسخف مفهوم للحب. الحب عندهم هو نوع من الزواج الهابط ، سواء أعان ثمة زواج أم لم يكن.
~ بأي معنى بعد؟
_بالمعنى الاجتماعي البحت ، فثمة تقنين سلعي للحب. الحب عندهم رياضة وليس شففا.. بالنسبة الى معظم الافلام الامريكية ، الحب صحبة وصداقة بالمعنى "الرياضي" ، المرح ، السطحي. وانا ارفض هذه الصفات التي ظاهرها "صحي" وحقيقتها قتالة للرغبة والذات الداخلية.
~ ماذا تقول في الحركات النسائية؟
_انا كنت ولم ازل حذرا من الحركات النسائية المطلبية ، لانها تجعل من المرأة حزبا سياسيا واجتماعيا مواجها للأحزاب الاخري ، و"تؤلينها" على غرار ما "ألينها" الرجل عبر الاجيال. أنا مع المرأة ككائن جمالي ، حتى لا اقول حسي او عاطفي ، ولا أقبل بالتخلي عن اهذه النظرة للمرأة. انها قطب الحلم والرغبة ، هي المدار الذي أحلق فيه ، واذا انتفت المرأة ان تكون قطبا او مدارا ، فماذا ستكون أفضل من ذلك؟ وماذا سيحل محل هذه النظرة اليها؟. كائنا ما كان البديل من هذه النظرة ، فسيكون شرا للبشر والحضارة.
ثمة من جهة أخرى وضع تأريخي خاطىء او ظالم للمرأة ، وعليها التخلص منه. والمسؤول عن ظلمها بشكل اساسي هو الرجل ، لكن الرجل لم يظلمها عندما اعتبرها محط احلامه ورغباته وبالعكس ، انها وعده ، فلماذا يريد بعض الحركات النسائية تحطيم هذا الوعد بحجة انه يحول المرأة "غرضا حسيا"؟. ان اكثر ما يخيفني في المنطق النسوي المذكور هي هذه الهرولة الى تحويل المرأة رجلا ، او بالاحرى رميها في وحول السلطة التي يتمرغ فيها الرجل ظانا انها كل المجد ، والتي يحلم بعض النساء ببلوغها ظانات انها هي التي تعيد اليهن الحقوق المسلوبة.
ان الحقوق التي سلبت من المرأة كثيرة وخطيرة ، أهمها الحرية ، ولكنني لا أريد ان تربح المرأة الحرية ، وتخسر نفسها ، تخسر شروط أنوثتها وما يؤلف تأثيراتها السحرية قد تتوق المرأة الى الخلاص من عب ء هذه الانوثة وتلك التأثيرات ، ولكن يجب ان يظل فيها من الحدس ، وان يظل بيننا من الأحداث ، ما يتكفل بتنبيهها الى خطر المغادرة من مناطق سلطانها الاكيد ، مهما بدا لها رتيبا في بعض الأحيان او متعبا ، او مقيدا لها وهي في أوج غليان تحررها. انه سلطانها الأكيد. وهو- هذا السحر القابل للدمار اذا اصرت على تدميره - ما يجب ان تحتفظ به مهما اكتسبت من حريات (ولابد من ان تكتسب الكثير منها حتى تتعادل والرجل) ولا تفرط بشيء منه بل بالعكس تنميه وتوسع أفاقه على دروب الجذب والفتنة والالتباس واللعب بكل النيران والعتمات.
~ يقال إن المرأة ذات طبيعة كيدية.. بماذا تعلق؟
_الكيد سلاح من اسلحة الضعفاء والمرأة عندما تستضعف قد تلجأ اليه. تماما مثل الرجل عندما يستضعف. انا ضد هذه النعوت الآتية من أجواء الآداب الكلاسيكية. فساعة المرأة لئيمة ودساسة ، وساعة هي محتالة وشيطان ، لماذا؟ أليسة هذه صفات انسانية عامة يشترك فيها الرجل؟
~ الفلاسفة نقموا اكثر من الادبا، الكلاسيكيين على المرأة: "توما الاكويني" ، "اغوسطنيوس" ، "شونبهاور" ، "المانويون" ، وحتى "هيفل" في الحقبة المعاصرة وان بدرجة اخف.. _بعيدا من النقمة "العقائدية" ترتدي النقمة على المرأة قناع البغض او الاحتقار ، ولكن مضمونها الباطني يكون احيانا هو الحب. هذه النقمة هي خيبة الامل ، اليقظة المرة من الحلم مثلي الاكبر على ذلك هو "بودلير".. الم يقل احد ضد المرأة أعنف مما قال ، ومع هذا يظل "بودلير" نفسه صاحب هذه الكلمة الرائعة: "المرأة هي الكائن الذي يرمي اكبر ظل ، او اكبر نور في احلامنا”.
وكما ان للانخطاف بالمرأة ما يبره ، كذلك للنقمة عليها ما يبرها ، بقدر ما نعلق عليها من آمال ، تكون الصدمة انني اقبل شعور المرارة او القهر تجاهها ، وافهم ان يكرهها الرجل ، وان يسعى الى استعمالها مجرد اداة لملذاته. ولكني ما لا اقبله هو ان يظن الرجل نفسه متفوقا عليها ، فيحتقرها ويستهزيء بضعفها. ان ثمة نظرة فلسفية ساخرة ، متهكمة ، صفراء الى المرأة ان كانت تكشف عن شي ء ، فعن جهل تام بنفس المرأة وطاقتها معا ، فضلا عن مفهوم لمعنى الحياة أرفضه بحذافيره. قد نجد بعض جذور هذه النظرة في الفلسفة الاغريقية ، وجانب من الفكر الاوروبي اعاد احياء هذا الارث ، مضيفا اليه ، خصوصا في المانيا ، تمجيدا للقيم الذكرية بلغ اوجه التجسيدي مع قيام الحزب -الفحل.. والدولة -الفحل.
أنا ايضا انقم علي المرأة أحيانا ، واكرهها وأبيت لها الشروع احيانا. ومآخذي عليها كثيرة ، وهي في ازدياد ، وبعضها سآخذ تشعرني بغربة حيالها.ولكن كل هذا من ضمن نظام فكري وحياتي يعتبر المرأة ركنه الاساسي ، لا من ضمن نظام تجريدي وعنصري ينبذها او يدور خارجها.
~بعد خبرتك الحياتية الطويلة ، ما الجوانب التي اكتشفت ان المرأة تحبها فيك كشاعر؟
_لا أحب ان اجيب عن هذا النوع من الاسئلة.
~ هل تلعب مع المرأة لعبة ممارسة انك “قوي” و"حاسم “ في موقفك منها؟
_في هذا الموضوع ، يكون الانسان لعبة ولاعبا معا. احيانا يكون مجرد لعبة ، ولعلها المتعة الكبرى.
بخصوص "القوي" و"الحاسم “ ومع اني لا أحب الدخول في تفاصيل من هذا النوع ، اعتبر الحديث فيها ابتذالا وتجويفا. أذكر فقط ، ان أغلب الادوار التي لعبت ، كانت ادوار الضعف والسلبية ، لا القوة ولا الحسم ، ان اكثر ما اكرهه وارفضه في العلاقة مع المرأة ، هو ان اشبه سائر الرجال ، ذوي القبضات الحديدية والحضور الارهابي. ان أفضل علاقاتي كانت علاقات التواطؤ ، لا علاقات السيطرة ، وهذا ما اتمناه لسواي.
~ عن أي شي ء تبحث بالاضافة الى الجمال:؟
_عن ادامة الرغبة حية والنشوة متأججة ، وعن الصدق.
~ وعن اي شيء ايضا؟
_عن نقطة ، عن مكان لا أعود أجد فيه نفسي مغتربا عن المرأة في أمور المخيلة الايروتيكية.
~ وهل الى هذا الحد غربتك؟
-قلت لك ، انا ايضا لي مآخذ على المرأة ، ومآخذ جدية. فهي في "الايروتيسم “ غالبا ما تشد بها واقعيتها بعيدا من تخيلاتي ، ورغبتها الحسية اكثر عملية مما يجب ، وأقل جنونا مما أريد. المرأة في هذا الميدان ذات نزعة مؤسساتية "بورجوازية “ اذا شئت ، الرجل اكثر ثورية ، اكثر انعتاقا من الزمن. هي مع الديمومة ، وهو مع العبور. وحلمي هو اقامة توازن بين الموقفين ، ربما لكي اكون صادقا ، يكون أقرب الى موقف الرجل منه الى موقف المرأة.
~ يبدو أنك فاشل بعلاقتك بالمرأة؟
_حياتي عبارة عن سلسلة فشل مع المرأة انها سلسلة نهايات متصلة ببدايات. ولولا ذلك ، لكنت اكتفيت ربما بعلاقة واحدة طوال حياتي.
~ أفهم انك لا تمارس "الشهريارية"؟
_في داخل كل رجل شهريار ما.
~ الى أي مصدر تعزو مشاكل الحب؟
~انها كثيرة ولطل انغلاق المحب والاستئثار بالمحبوب هو أولها. فعندما يرزح المحب تحت مغالاة نزعة الغيرة والتملك ، تنفتح ابواب الجحيم.
~ أمام من تمارس مسؤولية الحب؟
~ أمام "سلطة “ الحرية.
~ لماذا لعبة الحب وكفاحه تتضمنان دائما عنصرا مسرحيا؟
_كل صراع يفترض مسرحا. والمهزلة الانسانية بطلة نفسها على مسرح نفسها.
~ أنسي ، يقال إننا في عصر تذكير الانثى وتخليها عن طبيعتها الاصلية.. انها تنعتق وتسترجل.. ما تعليك؟
_لا أحب للمرأة ان تضيع وتسترتجل في حمى السباق نحو السلطة. فالرجولة ليست حلا للمرأة. الآن وبعدما اكتشف الرجل ان رجولته كارثة ، وبعدما بدأ يستقيل. منها. اندفعت المرأة نحوها. ان حالها هنا تشبه حال ذاك الذاهب الى الحرب ، فيما الآخر عائد منها.
~ اتعتقد فعلا اننا نعيش عصر الاستقالة من الرجولة؟
_في الغرب نعم.. الرجل يستقيل من "الرجولة". بالمعنى الاستبدادي ، الديكتاتوري ، لكلمة رجولة.
~ والى أين؟
_ آمل نحو توازن جديد بين الجنسين.
ما يتبلور هنا ، هو اكتشاف المرأة لذاتها الحسية والعاطفية والعقلية اكثر فاكثر ، واكتشاف الرجل لذاته المماثلة اكثر فاكثر وبالتالي معرفة كل منهما لطاقاته وحدوده. وانا واثق ان المرأة ستخرج من هذا الاكتشاف منذهلة بقدراتها التي كبتها الحذف والقمع ، وسيكون الرجل اكثر الذاهلين.
~في المجتمعات البدائية كانت المرأة هي التي تتولى حماية المجتمع.. تذهب الى الصيد والحرب.. الخ.. ثم جاءت التراكمات الحضارية لتوطد شيئا فشيئا سلطة الرجل؟
_المرأة المحاربة ليست في طموحي ابدا. وحال المرأة في المجتمعات القديمة ، كانت ولاشك اسوأ بكثير من حالها اليوم: مجتمع ارهاب ، حروب وسلطة فاذا كانت المرأة تطمح الى استعادة مثل هذه الاجواء ، فان الامر سينقلب الى كارثة ، وعلى الدنيا السلام ، المرأة ينبغي ان تظل رمزا لشهوة الحياة لا لشهوة الموت.
الرجل بنى حضارة الموت ، حضارة القتل ، حضارة الحرب ، حضارة الغزو والنهب والاضطهاد. واذا كان من طموح المرأة مجاراة الرجل في ذلك ، فالأفضل اذ ذاك ان تبقى هذه الفواجع محصورة بالرجل. انني حين ازكي المرأة على الرجل ، فلأنها في نظري تمثل السلام محل العنف ، واللين محل القسوة ، والمتعة محل الواجب ، والجمال محل الفعالية ، والسحر محل السلطة.
~ لنفترض ان المرأة تسلمت سلطات ادارة العالم..
_أنا أدعو الى ان تحكم المرأة العالم بدل الرجل. ولكن المرأة هنا كما أفهمها بصفاتها الايجابية التي أكدنا عليها، لا بتلك الصفات المستنهضة لحالات الرجولة البشعة.
فجولدا مائير مثلا ،بماذا تختلف عن دايفيد بن جوريون؟ ومارجريت تاتشر بماذا تختلف عن تشرشل؟
أريد من المرأة عندما تتبوأ سلطة ان تتصرف كامرأة وليس كرجل. الا ترى انها احيانا تزايد عليه انطلاقا من عقدة التفوق عليه؟
~ هل العقل هو واحد بطاقاته عند المرأة المتفوقة ، والرجل المتفوق؟
_معروف ان المرأة تستطيع تحمل الألم اكثر من الرجل. تصور كم المرأة أقوى وألطف في وقت واحد. تملك كل هذه القوة ولا تمارس عدوانا. اكثر من ذلك ، انها تحتمل غطرسة الرجلب عذوبة هذا بعض ما تعبر عنه قصيدتي "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع". فالكتاب ليس نشيدا ذاتيا طوباويا ، كما قد يتصور البعض. انه كتاب التجربة. ولنعترف: نحن اكثر من متسلطين على النساء ، متسلطون ونظن انفسنا أننا محور الكون ، وأن من واجب النساء ان يعجبن بنا. يكفيهن اقتدارا انهن يتحملن نرجسيتنا.
المرأة أقوى من الرجل بالمعنى الجميل لكلمة قوة: قوة النفس والروح والعطاء والاستيعاب والاصغاء والتفهم والجذب.
~ ايقاع الحب الأول الذي صادفته في حياتك ، هل هو أجمل بكثير من ايقاعك الحالي مع امرأة جديدة؟
_الحب الأول كان اكثر اختلاجا وتوجسا ، ولكنه كان أقل محبة.
~ المرأة التي صدتك ، هل حقدت عليها:
_لم أعرف في حياتي الا علاقات متبادلة ، ولا اؤمن بالحب من طرف واحد.
~ الديك المقدرة الدائمة على الاشفاق على نفسك!
_نعم وشفقتي هنا هي شفقة الناظر الى خطاياه
~ هل تبالغ في عشقك؟
_ وما معناه بلا مبالغة؟
~ ولكن قد يتحول العشق الى عادة تفقد ألقها ونزعتها الى ألابداع؟
_ العشق حالة متجددة في استمرار ، حالة مثل الحياة لا تعرف النهاية ، وهو في كل مرة ولادة جديدة.
~ ولكن النفس العاشقة قد تنفجر تحت ثقل العصر واضطراباته؟
_اذ ذاك يكون الخلل في العاشق نفسه ، وليس في العشق.. العاشق الحقيقي فيه ما هو اكثر من الانسان.
~ الشاعر يتعرض لأذى يومي.. يحس أحيانا ان الناس هم غبار يومي؟
_أشد أنواع الأذى ، هو حين يتعاطى الناس معك من خلال صورة خاطئة عنك. هذا أبشع أنواع الاذى ، ويليه التعامل مع صورتك الحقيقية بطريقة ظالمة.
~ هل الكتابة عزلة تحمينا؟
_العزلة جزء لا يتجزأ من "ميكانيزم" الكتابة ، من دونها لا تستطيع الكتابة وكل اشتراك في الضجيج الخارجي هو تبديد لطاقة الكتابة.
~ المرأة حظ العالم ،. أليس كذلك؟
_انها غيبوبتي عن العالم ، وصحوتي في حلمي وقد تحقق ولم يزل حلما..
مجلّة نزوى العمانية
******************
مايو 31, 2012
|فيديل سبيتي|
لا يملك أنسي الحاج بياناً شعرياً يكتبه اليوم على غرار بيان «لن» الشهير، بل يقول في جواب على سؤالنا: «لو وضعت مقدمة «لن» اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ».
ربما يكون على حق في موقفه هذا بعدما قطعت قصيدة النثر أشواطاً وأجيالاً منذ أطلق هو ورفاقه مجلة «شعر» في آخر الخمسينات، ومنذ بات بيان «لن» مَعْلَماً من معالم هذه القصيدة، ولكن في بداياتها وليس في حالتها الرّاهنة، إذ تخلصت قصيدة النثر من «عقدة ذنبها»، ولم تعد تحتاج إلى من ينظّر لها ليبرّر وجودها أو ليحميها من سطوة التراث وسلطان الموروث. لكنّ تحرّر القصيدة الحديثة وانطلاقها في فضاءات الثقافة العربية أتاحا لها أن تُكتب في كل مكان من العالم العربي، وبات اسم الشاعر يُطلق على صاحب مجموعة شعرية «حديثة»، لكن لا يعني أنه يمكن التحرّر من سطوة جيل الرّواد، أي أنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط وشوقي أبو شقرا وتوفيق الصائغ… وآخرين لا يقلون عنهم أهمية.
حين قرّرت مقابلة أنسي الحاج، لم أظن أنه سيوافق بسهولة، هو المُقلّ من إطلالاته الإعلامية، لكنّ موافقته وضعتني في موقف فيه كثير من الرّهبة؛ رهبة هي موقع أنسي من قصيدة النثر اللبنانية والعربية، وما قد يقوله الآن عن تجربته المُمتدّة أكثر من نصف قرن. لنقل إنها رهبة ما يفصل جيلَيْنا من زمن شعريّ ومن أجيال شعرية، فنحن هنا في لبنان اعتدنا تقسيم الأجيال على الشكل الآتي: جيل الرواد- جيل ما بعد الرواد- جيل السبعينات- جيل الحرب- جيل ما بعد الحرب- جيل الشباب (أي الذين ينشرون منذ مطلع القرن الحادي والعشرين). وإذا كان عليّ كي أصل إلى أنسي الحاج أن أعود بمركبة الزمن إلى الجيل الأول، قاطعاً كل تلك المسافة بين الأجيال الفاصلة بيننا، فكان عليّ أيضاً أن أبدو عارفاً بهذا الزمن المديد، وأنا لا أعرفه كله، وكان عليّ أن أبدو حافظاً عن ظهر قلب دور الرواد تجاه القصيدة الحديثة، وهذا ما لا أفقهه كلّه أيضاً. معرفتي المتواضعة بالزمن التأريخيّ أضافت إلى رهبة اللقاء رهبة التثاقف، لذا قرّرت أن أتوجّه إلى أنسي الحاج بأسئلة مقتضبة وسريعة ومباشرة، بلا كثير «تفلسف» أو تنظير:
- تجربتك الشعريّة تمتدّ من آخر الخمسينات حتى اليوم. تجربة مغايرة ومشاكسة أطلقت لغة شعريّة جديدة. لو أراد أنسي الحاج أن يجري حساباً مع هذه التجربة في إخفاقاتها ونجاحاتها وما حققته حتى الآن، فماذا يمكن أن يقول؟ هل يجب إجراء تلك المراجعة؟
الحاج: “لا، من وجهة نظري، يجب عدم إجرائها. ينتابني الفزع أمام هذا النوع من الأسئلة.”
- لماذا؟
الحاج: “لم أكتب لأجري حساباً، بل لآخذ حقي في التنفّس. لا يحاسَب المرء على أنفاسه.”
نحن الرواد كنا نضم بعض الانتحاريين. الانتحاري شخص يبعث سلوكه على الرهبة. يرسم حول ذاته دوائر صخب نفسيّ ورعبّ
- لكنه هنا حساب بمعنى التقييم.
الحاج: “تقييمي لنفسي لن يؤخذ به. أنت تقيّم الآخر كما يقيّمك هو. هذا هو جمال المسافة وهذا هو ظلمها.”
- ولكن هل تندم أنت شخصياً على مرحلة ما؟ على كتاب؟ على كتابة ما؟ ألا تفضّل عندما تلتفت إلى الوراء نتاجاً لك على آخر؟ لقد سلكَتْ تجربتُك الشعرية دروباً مختلفة وتعددت فيها الأساليب وتغيرت المناخات، من الرفض إلى القبول، وغير ذلك من المدّ والجزر…
الحاج: “صحيح، مثل الشرنقة والفراشة، إذا أردت.”
- الشرنقة «لن» و«الرأس المقطوع» هو الفراشة و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»؟
الحاج: “إذا أردت. وأحياناً في الشرنقة فراشة لاعبة من الداخل.”
- لنعد إلى البدايات. لماذا تحوّل شعراء «الريادة» إلى نجوم في الستينات؟ ما هي المقاييس التي جعلت بعض الرواد نجوماً وبعضهم منسيين؟
الحاج: “نتج الدويّ من اصطدام الجديد بالقديم، قديم الكتابة وقديم المفاهيم وقديم المواقف. وسيلة النقل كانت الصحافة. لو اقتصر النشر على المجلات المتخصصة لما انتبه أحد.”
- والنجومية؟
الحاج: “هذه أيضاً أحد مولداتها الصحافة. لكنّ السبب في العمق هو التصدي بعنف للتابو.”
شعراء انتحاريون
- تابو من أي نوع؟
الحاج: “في الظاهر تابو أدبي ولغوي وسياسي، وفي الجوهر تابو في المطلق. في الحقيقة هناك مجموعة أسباب لما تسميه نجومية، في طليعتها ما قد نميل إلى نسيانه غالباً، وهو أننا نحن، الرواد كما تسمينا، كنا نضم بعض الانتحاريين. الانتحاري شخص يبعث سلوكه على الرهبة. يرسم حول ذاته دوائر صخب نفسيّ ورعبّ. إنه مزعج ومثير للفضول، خصوصاً حين يمتشق على الدوام نرجسيته ويطلق لها العنان. أنا كنت هكذا، سواي أيضاً. الذين تواضعوا وخفضوا أصواتهم تعتبرهم أنت منسيين، يأتي وقت يعاد فيه الاعتبار إلى المتواضعين.”
- هل حققت قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي ما أردتم لها أن تحقق على صعيد اللغة والتعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟
الحاج: “لا أحبّ التعميم. الشعر هو الشعراء، هو الشاعر. بعضهم فتح أبواباً وآفاقاً مدهشة. بعضهم نصيبه أقلّ. وهناك أجيال جديدة أضافت إيقاعاتها ولا تزال في طور التشكّل. أما هموم الإنسان، المعاصر وغير المعاصر، فهي من بديهيات التكوين الشعري ولا حاجة لإعلانها في مشروع. جلّ ما يُطمح إليه في هذا المجال هو أن يجد الشاعر اللغة التي تماشي إيقاعات وجدانه وتعانق تجاربه ورؤاه وعواطفه وأحلامه. إن أهم ما حققته الكتابة الحديثة، وبينها قصائد النثر، هو أنها تجرأت على أن تتقمّص ذاتها.”
- في رأيك هل تستطيع مجلة شعرية في هذه الآونة أن تصنع ما صنعته مجلة «شعر» في الستينات على صعيد الثقافة العربية؟
الحاج: “الفنون لا تتوقف. الأدب، وهو من الفنون، لا يعرف نهاية. طبعاً تستطيع مجلة جديدة أن تحقق أشياء مهمة، فعندما يكون لدى المرء ما يقوله لا يمكن الا أن يجد من يصغي إليه.”
- ما هي الظروف التي سنحت لمجلة «شعر» ولن تسنح لمجلة أخرى حتى الآن؟ أقصد لماذا يبدو أن لا أفق لمجلة شعرية تطمح إلى تغيير ما؟
الحاج: “الظروف التي تكوّنت مجلة «شعر» في ظلّها قامت على التقاء أشخاص مناسبين بلحظة تاريخية مناسبة. المطلوب ليس «تغييراً ما»، بل أن يكون الكاتب نفسه. هناك أشياء في الفن لا تتغيّر، مثل القضايا الكبرى التي تواجه الضمير، وهناك أشياء تتغّير تبعاً لتطور الأزمنة. لقاء الخالد بالمتغيّر هو، غالباً، ما يحتّم المفترقات، والمفترقات هنا بمعنى الإضافات أو فتح الآفاق، لا بمعنى الإلغاء. الفنون الجيدة أو العظيمة لا يلغي بعضها بعضاً، بل يُضاف بعضها إلى بعض. يسقط منها ما يسقط، ولكن بفعل هزاله لا بسبب ولادة أصوات جديدة.”
- هل يمكن القول إن قصيدة النثر دخلت في نسيج الثقافة العربية واللبنانية؟ هل هي جزء من التراث الأدبي والشعري العام؟
الحاج: “يبدو لي ذلك، لكنّ الأمر برمتّه تخالطه التباسات خطيرة، منها، على سبيل المثال، الاعتقاد بأنّ أيّ شيء موزّع في سطور قليلة الألفاظ هو قصيدة نثر، أو أنّ أيّ قصيدة نثر هي شعر. هذه التفاصيل تحتاج إلى نقد صارم. ما تسميه «نسيج الثقافة العربية» و«التراث الأدبي والشعري العام» ليس مهماً على الإطلاق، بل يمكن الادعاء أنّ المهم هو العكس تماماً، أي الإتيان بجديد يخرج على الموروث ويسطع. الخروج على الموروث هو الخلق. الجديد الخلاّق لا بد من أن ينضم عاجلاً أو آجلاً إلى البنيان الفني أو الأدبي العام، ويجب أن يكون البنيان الفني والأدبي العام هذا أسرة عظيمة حتى يشكل الانضمام إليه اعتزازاً للقادم الجديد. في وضعنا الراهن، وفي وضعنا السّابق أيضاً، يمكن اعتبار التراث العام موضع إعجاب في البعض منه وموضع نقد ومراجعة في بعضه الآخر. لا تزال المنائر هنا، أو الكواكب، معزولة.”
- ما هي العلاقة بين أنسي الشخص وأنسي الشاعر، متى يبدأ الأول وينتهي الآخر؟
الحاج: “مهما فكرت في هذا السؤال فلن أعثر على جواب يقنعني.”
مقدمة «لن»
- هل ما زال أنسي الشخصَ نفسه الذي كتب بيان «لن» في الثانية والعشرين من عمره؟ ما الذي تبدّل بعد كل تلك السنوات؟
الحاج: “لو وضعت مقدمة «لن» اليوم لكنت سأكون أكثر ليونة، وكان هذا سيكون خطأ.”
- هل هناك بيان آخر تريد كتابته؟
الحاج: “لا.”
- يقول أدونيس: «أنسي هو الأنقى بيننا». من يقصد بـ «بيننا»؟ هل توافقه الرأي؟ ما معنى الأنقى؟
الحاج: “أظن أنه كان يشير إلى جماعة مجلة «شعر». الأنقى معناها واضح، وأنا لا أستحق هذه التبرئة.”
المهم هو الإتيان بجديد يخرج على الموروث ويسطع. الخروج على الموروث هو الخلق
- غالباً ما يردد النقاد بأن أنسي متأثر بالشعراء الأوروبيين، الفرنسيين منهم تحديداً. هل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً، فبمن تأثّر أنسي فعلاً؟ ومن هو شاعرك المفضّل؟
الحاج: “أنا متأثر بشعر القرن التاسع عشر الفرنسي وبالشعراء السورياليين وبعض أصدقائهم. معظم الأحيان أراني معجباً بنثرهم أكثر من قصائدهم، إلا بول إيلوار، فهو هو في كل ما كتب.”
- لماذا تظهر المرأة في شاكلتين متناقضتين في ما تكتبه، مرة شهوانية ومرة مقدسة، مرة محسوسة وملموسة ومرة أثيرية؟
الحاج: “ربما تقصد مشتهاة أكثر مما تقصد شهوانية، وليست أثيرية بل خيالية. المرأة مرآة أحلامي.”
- من هي هذه المرأة؟
الحاج: “هي مصيدتي وأمي.”
- وأيضاً؟
الحاج: “هي الطفلة التي أعشقها في الناضجة والعابثة، والبيضاء التي يستهويني ظلامها.”
- وأيضاً؟
الحاج: “هي من أحار بين جسدها وعطرها، شعرها ووجودها، عينيها وعقلها.”
- وأيضاً؟
الحاج: “هي خيالها من وراء النافذة. هي مخاطرتي وسلامي، ثرثرتي وانطوائي، من أنخدع به ومن ينخدع بي، القالب الصاهر بين الجوهرين: الرغبة والحنان.”
- هل وجدتَها؟
الحاج: “وجدتُها دائماً وأضعتُها دائماً.”
(عن “الحياة”)
*****
لم يكن أنسي الحاج في مقدمة ديوانه (لن) مجرد شاعر متمرد وجه صرخة شعرية في غير أوانها، لقد سلح تلك المقدمة بمفاهيم ومواقف فيها تنظيم وانسجام ومنطق حجاجي لم تضعه العبارات الهجومية والتهجمية التي تولدت من حماس شاعر مفرط في الاحتفاء بشعر جديد، وقد لا نبالغ في الحكم إذا قلنا ان تلك المقدمة ظلت متقدمة على كثير من سجالات الخطاب النقدي حول قصيدة النثر فيما بعد، ناهيك بأن كثير من المواقف التي ظهرت بعد المقدمة، ظلت متأثرة بها.
وإذا كان المنجز الشعري لأنسي الحاج يمثل تجربة مسيجة بخصوصيتها التي لم تحافظ على طليعتيها بعد ظهور منجزات نصية مغايرة فأن (المقدمة) بخلاف ذلك تضمنت وعيا مبكرا بإشكالات مازالت مستمرة.
قد يكون بعض الاقتراحات والحلول التي اقترحها أنسي الحاج، فقد جدواه، وغير منسجم حتى مع نصوصه في (لن )، لكن ذلك لا يمنع من القول بأن جل الإشكالات في حد ذاتها، مازال قائما، يكفي أن نثير أسئلة أثارها الحاج، كهذه:
- موقع قصيدة النثر بين الشعر والنثر.
- أي شعر وأي نثر؟
- ما هي قصيدة النثر؟
- قصيدة النثر والأنواع المجاورة.
- أي متلق للشعر ولقصيدة النثر بالتحديد؟
- أي دور لشاعر قصيدة النثر؟
إنها إشكالات وقضايا متعالقة ببعضها، وسنعمل على اعادة تنظيمها من خلال محاور نفك ضمنها المفاهيم التي اشتغلت في المقدمة، وهي مفاهيم يمكن ربطها بإشكال مركزي يتعلق بالخلخلة التي تعرض لها النسق الأنواعي السائد وقتذاك بفعل ظهور الحداثه الشعرية بأقطابها الثلاثة، الوعي النقدي الجديد وقصيدة الشعر الحر (قصيدة التفعيلة ) وقصيدة النثر.
ولأن أي واقعة أدبية، جديدة كانت أم قديمة، تمثل حدثا يتضمن ضمن أولوياته مقاصد تواصلية، نرى من اللازم أن نأخذ بعين الاعتبار أطراف تلك الواقعة وخاصة منها ما انتبهت اليه (المقدمة ) في تعاقب لا يفيد أي ترتيب سببي، فنبدأ بالمتلقي وسياقه، ثم الشاعر، فالنص.
1- المتلقي:
لقد كان أنسي الحاج واعيا بأن المرحلة التي ظهر فيها الخطاب النقدي حول قصيدة النثر، لم تكن مهيأة لذلك، فاقتنع بأن الماء الراكد لا تحركه حصاة، ولو حركته فلن تفلح في تحويل المويجات الى أمواج عاتية تفلق صخر التلقي السائد المترسب على بعضه لقرون عديدة.
التلقي السائد في نظر الحاج، هو تلقي المحافظين والمقلدين الراكدين، تلقي الأدوات الجاهزة البالية التي يتقدمها حصر الشعر في موسيقى الوزن والقافية. إنه تلقي التعصب والاستهزاء والرجعية والسطحية وأدلجة الخطاب الأدبي بأغلفة مثل (حاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية )(1) وتكوين (سد) أمام محاولات الاختراق. ويتمثل السد في معاداة النهضة والتحرر الفكري وإثارة التعصب والرجعة والخمول مع ممارسة الإرهاب والتجهيل وإغلاق كل المنافذ على الأصوات الجديدة الرافضة.
هذه هي الصورة التي قدمها أنسي الحاج للتلقي السائد سنة 1960 فأنى لقصيدة النثر أن تفلق الصخرة السماء لذلك التلقي لقد تبنى الحاج معادلة الأغلبية والأقلية، فذهب إلى أن التلقي الجمعي السائد وهو تلقي الأغلبية ليس منسجما تجاه منازع التجديد والافتراق، وأن البنية المهيمنة عليه تنطوي على بنية أخرى مجادلة ومنازعة للاولى في تقدير الواقعة الجمالية الناشئة والموجهة بفهم مغاير للتاريخ الفني ومنتجاته التعبيرية. فراهن الحاج على أن تكون البنية - الأقلية موطن المفزع الجديد المحمل بمسؤولية تاريخية، هي إزاحة وإقصاء البنية - الأغلبية المهيمنة والمتوارثة والمعادية. يقول الحاج: (هناك إنسان عربي غالب يرفض النهضة والتحرر النفسي والفكري من الاهتراء والعفن، وإنسان عربي أقلية،يرفض الرجعة والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطه غريبا، مقاتلا، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية ( النخبة ) والرعاع على السواد.(2)
داخل هذا التنازع الثقافي بين بنيتين في التلقي، يتساءل أنسي الحاج: (هل يمكن لمحاولة أدبية أن تتنفس؟) فيجيب بالسلب، لكنه يستدرك بالإشارة إلى أن هذه المحاولة، إن لم تختنق فستجن، ليتحول (جنون ) الشعر الجديد في خطاب أنسي الحاج إلى منفذ للتمرد والمواجهة (الحربية ) الساخنة لإسماع الصوت.
الجنون في الخطاب (الأنسي) إبداع ومقاومة، إبداع لأنه يأتي ضدا لكل ما تعارفت عليه الأغلبية وركنت اليه وسلمت به، ومقاومة، لأنه رفض للحوت اختناقا، وللكبت والاستسلام، كما أنه سلاح للعنة والنبوة وابتكار وسائل مختلفة لمواجهة الأخر، ولا بأس - في الخطاب الأنسي- أن تكون قصيدة النثر ملعونة وشاعرها ملعونا مادام الجنون هوية لها ولصاحبها.
التلقي مقولة أساسية في الجهاز المفاهيمي لأنسي الحاج، وهذا الوعي المبكر بهذا المحفل ينحل في الربط بين الظاهرة وسياقها الثقافي، بسبب ذلك، لم يأت وعي الشاعر ضيقا ومنحصرا في الخطاب الإبداعي لقصيدة النثر من حيث هي نص مغلق، بل ربطه بالعوامل والشروط التي تحيط به وتفعل سلبا وإيجابا في خنقه أو توسيع فضاء انتشاره وتداوله، وقد انتبه أنسي الحاج إلى تعدد مرجعيات ذلك السياق، ما بين مرجعيات الماضي متمثلة في التراث، ومرجعيات الحاضر متمثلة في العوامل الدينية والمذهبية والفكرية والاجتماعية والسياسية والفنية.. إنه سياق يمثل في عمومه (جبهة ) متحالفة مشتركة في الأهداف نفسها، من حيث رفض مبدأي الحرية والتقدم، ولما كانت قصيدة النثر متشبعة بهذين المبدأين، كان من الطبيعي، أن تكون هي المستهدفة الأولى من طرف وسائل الضبط والدفاع الذاتي للتلقي الجمعي السائد.
يظهر محفل التلقي في الوعي الأنسي بدءا من الصفحة الأولى من ( المقدمة ) حيث جعله مكونا ضروريا للتمايز بين الشعري والنثري، رابطا بالتالي بين خاصية النص الأنواعية وخاصية التلقي، ذاهبا إلى أن في مقدمة ما يميز الخطابين، هو نوع العلاقة التي يربطها كل واحد منهما بالمتلقي أو بـ(الأخر) كما سماه، ثم ينتقل الحاج بعد ذلك للحديث عن المتلقي من حيث هو (قارئ)، في عدة سياقات من المقدمة إذ يقدم القارئ، إما بوصفه المتلقي التقليدي (القارئ الرجعي) أو بوصفه المتلقي الطيعي المضاد للأول:
أ - التلقي السائد:
يضيف أنسي الحاج إلى مدونته الاصطلاحية الخاصة بالتلقي مصطلح (ذوق )، مقرا بأن (الأذواق) مازالت غير مستعدة لتقبل القصيدة الجديدة لأنها لم تتهيأ تهيؤها الطبيعي.(3)، بيد أن أنسي الحاج ينتبه إلى الاستثناء أو التلقي- الأقلية. وهو تقبل المتلقي الأخر، النوعي الجديد، الممثل عنده، معيار الحكم على ملاءمة الشعر للقراءة أو عدم ملاءمتها لها، فالمتلقي الجديد لم يعد في رأيه، يستجيب للأفق الذي كان يمليه عليه الشعر بمواصفاته التقليدية وفي مقدمتها الموسيقى، إن المتلقي هو الفيصل في هذه المعادلة. هو معيار الحكم على أحقية ومشروعية نمط تعبيري في البقاء أو في الفناء. والمتلقي الجديد أصبح في نظره مختلفا عن سابقه الذي كان يتلاءم مع أفق الشعر السالف، إنه متلق جديد (لاحساس جديد) أو لنقل بتعبيرنا الشائع، إنه متلق جديد لـ( حساسية جديدة ) غير حساسية الايقاع الوزني. يقول الحاج: "قارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه ". (4) لكن (قارئ
اليوم ) في قولة أنسي الحاج هو( قارئ اليوم ) الوحيد، هناك ايضا، قارئ اليوم - الأغلبية الذي لا يرى في موسيقى الشعر سوى ما زلزل طبلة الأذن.
ب - التلقي مائز بين الشعري والنثري:
للشعري والنثري عند الحاج مقومات مائزة، بعضها ينحل في النظام الداخلي وبعضها في طبيعة الاستخدام اللغوي، وينحل بعضها بالذات في العلاقة بالمتلقي، وقد شغل الحاج للإفصاح عن هذه العلاقة، مدونة من المفردات مثل: إخبار، برهان، تأثير، مخاطبة، الأخر، إقناع، وعظ،حجة،قارئ، إيحاء.. كل هذه المفردات تمثل عمليات تنطلق من النص نحو متلقيه، إنها بمعنى أخر، محافل لكمون التلقي في بنية النص، في شكل (جسر) يعبر منه كل طرف من الطرفين نحو قارئه، فجسر النثر قائم على الإقناع والإخبار والتوجيه، أما جسر الشعر فقائم على الإيحاء واستبطان النفس والتعالي على راهنية الزمن مع السعي لتحرير القارئ وامتلاكه في
الوقت نفسه، تحريره من رسوبيات التلقي السائد، وامتلاكه وجدانيا بدفعه للتفاعل النفسي العميق والمتوتر مع النص الشعري القادم نحوه عبر جسره الخاص.(5)
يتوجه أنسي الحاج بالخطاب لقارئ(المقدمة ) ليقنعه بالتمييز في الوقع الجمالي بين تلقي الشعر وتلقي النثر الموقع، في هذه النقطة، لا يركز الحاج على ( الجسر) العابر من النص نحو القارئ، بل على ما يحدث عند القارئ بعد مرور النص اليه.
يرى أنسي الحاج أن القراءة السطرية التجزيئية لقصيدة النثر كما في نصوص سان جون بيرس وهنري ميشو وأنتوان أرتو، لا تحدث في التلقي أحاسيس كالسحر أو الطرب، إنما تنشأ تلك الاحاسيس بالضرورة في التلقي،حين يكون تلقيا كليا يعامل النص بوصفه وحدة متكاملة تتسم بالتماسك والكثافة والقصر، وسيرتب الحاج على هذا النوع من التلقي، مقومات يعدها ضرورية للنص الشعري الجديد في بنيته ونصيته، نقصد بالتحديد، المقولات البرنارية (نسبة إلى بر نار)، مقولات الوحدة والتماسك والقصر.
وبقدر ما تنحل هذه المقولات في المرجعيات اللغوية والنصية، تنحل أيضا في مقومات الأفق الجديد الذي يعده الحاج مناسبا لتداول قصيدة النثر، لكن تلك المقولات هي فضلا عن ذلك، من مظاهر فاعلية المبدع، خالق النص المغاير والمسهم في خلق وتكوين أفق التوقع والتداول المستحدث، لهذا السبب مثل الشاعر عند الحاج طرفا ضروريا لسيرورة التلقي الجديد، ذلك أن قصيدة النثر في خطابه،حدث ضمن نظام تواصلي تتداخل أطرافه فاعلة منفردة ومجتمعة في السيرورة التواصلية، فإذا كان السياق الخارجي للتلقي يتمثل في جملة الشروط الفاعلة في تداول القصيدة، فان الشاعر فاعل بدوره في هذه العملية، باعتباره منتج القصيدة من جهة، وفاعلا في سياقها الخارجي من جهة أخرى.
2- الشاعر:
يختم أنسي الحاج مقدمته بفقرة يصف فيها شاعر قصيدة النثر بكونه شاعرا ملعونا، ولا يكتفي الحاج بهذه الصفة، بل يرفقها بصفات تفصيلية تؤكد لعنة ذلك الشاعر، فهو ملعون في الجسد والوجدان معا، ولعنته نوع من الإصابة والمرض الممتد للأخرين. (الجميع يعبرون على ظهر ملعون ) كما يقول، أما مصدر اللعنة فات من الشاعر ومن متلقيه معا، الشاعر ملعون بسبب (كفاحه ) لإشاعة الحرية بكل الوسائل بما فيها تلك التي لا تتطابق مع القيم المسلم بها عند الأخر (المستهدف)، والأخر ملعون لمعاكسته الشاعر ومحاربته له.
شاعر قصيدة النثر ليس ملعونا فحسب، فهو شاعر مجنون أيضا، بسبب اختلال موازين القوى بينه وبين الأخر، وكما أن اللعنة حافز له إبداع وسائل للمواجهة القصوى، فكذلك الجنون، إذ الصفتان تشتركان في إكساب صاحبهما منطقا مغايرا للمنطق السائد من حيث طبية الخطاب الإقناعي ووسائل الدفاع والمواجهة.وبموازاة هاتين الصفتين، يضيف الحاج لصورة الشاعر، صفات أخرى مفارفة للعنة والجنون أو متشاكلة معهما، منها كون الشاعر حرا، بمعنى عدم الخضوع لإكراهات النسق القيمي الفني السائد، وحتى لو أفضت الحرية بطالبها للجنون واللعنة، فلن يكون في ذلك إيقاف لها، ستصبح في هذه الحالة، مرحلة جديدة تقوي آليات إضافية لطلب مزيد من الحرية.
الشاعر هو أيضا النبي والعراف، إنهما صفتان مفارقتان للعنة والجنون، لكن في شاعر قصيدة النثر تلتقي المفارقات، فشاعرها نبي وعراف، ملعون ومجنون، فهو نبي وعراف لكونه أكثر من غيره معرفة بحقيقة الواقع الأدبي، ورائيه في عمقه بدل سطحيته، ومتوقع باله ومصيره، ولأنه كذلك، في واقع يتسم بالجهل والتحجر، فلن تختلف النظرة اليه عن النظرة السلبية للأنبياء الحقيقيين الذين وصفوا بالجنون واللعنة لمخالفتهم المعتقدات المسلم بها.
يضيف أنسي الحاج للشاعر صفة أخرى أكثر مفارقة، هي نعته بالإله، بذلك يعطيه سلطة غيبية متعالية ترفع مقامه بين المتلقين الذين عليهم في هذه الحالة، الخضوع للشاعر، لانحطاط وعيهم وحاجتهم لبصير وعليم بالأحوال الفنية.
تجتمع في صورة الشاعر الأنسي إذن عدة صفات تشتغل بواسطة المفارقة، لكنها تتأزر في وسم هذا الشاعر بالتفرد والخصوصية بين باقي الشعراء ممن يجارون الأنماط المتجاوزة ويضعون أمام حريتهم حدودا وخطوطا لا يتعدونها.
إن صورة الشاعر الأنسي ليست صورة للشاعر الرومانسي الحالم المثالي الذي يشرف من أبراج عالية على عالما الداخلي وعلى الطبيعة والمجتمع، وليست صورة للشاعر الواقعي الذي لا يرى فيما حوله سوى قيم المجتمع السلبية والايجابية، إنها صورة الشاعر الفوضوي غير العدمي، أي الشاعر الذي لا هدف له سوى الحرية في مطلقها، على أن تكون حرية ذات جبهات، حرية القصيدة وحرية الشعر وحرية العقل وحرية الشاعر وحرية المتلقي وحرية المجتمع وحرية الفن... الخ.
ولأن الشاعر ينشد الحرية، ولأن الحرية فعل تعد لأخر يفترض فيه التصدي والمواجهة، ولأن موازين القوى مختلة بين الطرفين، فإن أنسي الحاج يرفع درجة الشاعر في المعادلة التواصلية ليجعل (الشاعر يأتي قبل ). فليس القارئ هو الموجه للشاعر وفارض قيمه عليه، بل الشاعر هو الموجه الأول والمباشر لتجربته والأدري بمخاضها. إنه مسؤول (كل المسؤولية عن عطاشه )، لكن هذه المسؤولية تتطلب وعيا جديدا متحررا (يحسن ) مواجهة المتلقي- الأغلبية، ويحسن فتح أبواب الكتابة الجديدة على أغوارها اللامتناهية، يقول أنسي الحاج: (وإذ يجتاز الشاعر عقبة العالم الميت، يفر من الأقناط غير أن أبواب الشعر الصافي، عالمه الجديد الذي عاد اليه، لا تنفتح أمامه ما لم يحسن مخاطبتها، أو هي، إذا انفتحت، لابد للشاعر أن يضيع في الداخل ما لم يكن يعرف عالمه وبلورته (6).
نلاحظ في هذه القولة إلحاحا على استحضار مرجع التجربة الداخلية للشاعر، ويبدو ذلك ردا غير مباشر على رافضي قصيدة النثر بدعوى نثريتها المفارفة للشعر، وفي كون الأخير نابعا من عمق التجربة والذات، وقد يكون هذا الرد هو الذي حمل الحاج على تقديم تعريف لقصيدة النثر، مبني على ثلاث مرجعيات، اثنتان منها متصلتان بمرجعية الذات، يقول عن هذه القصيدة: (إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان) (7).
وهو تعريف لا يختزل مفهوم جماعة مجلة (شعر ) لقصيدة النثر فحسب، بل للشعر الحديث عامة، مما يفيد أن الحاج حاول أن يجد لقصيدة النثر مكانها العادي والطبيعي ضمن المفهوم الجديد للشعر وللحداثة الشعرية في تلك الفترة.
إن التماهي بين قصيدة النثر وبين الشاعر، يصل عند الحاج لدرجة من التوحد يعادل فيها الشاعر بالقصيدة ومن خلالها بالعالم، يقول: (القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر، القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر بشعره إلى خلقه ).(8) وهذا الحكم يفيد أن إحسان الشاعر في مخاطبة أبواب الشعر، يتوقف على تمييزه بين الشعر في عمومه، وبين القصيدة في خصوصيتها، مما يحول موضوع (مسؤولية عطائه ) إلى نظام اللغة والبنية اللذين يحول الشاعر بواسطتهما الشعر إلى قصيدة.
لكن كيف يحسن الشاعر هذه المهمة وينجح في هذه المسؤولية؟ ها هنا يستحضر الحاج الإكراهات الخارجية ونظيرتها المترسبة في طرائق القول الشعري، حيث يمكن للشاعر- وهو يواجهها- أن يقع ضحيتها. لذلك ينبغي على منجز القصيدة الجديدة أن يرجعها (لتجربة الشاعر الداخلية ). ولكونها كذلك، ينبغي على الشاعر أيضا الا يعتد بكل (القوانين ) المفروضة التي من فرط شكليتها، قد (تعطل ) طاقاته في الإبداع: (وأخطر من ذلك كله، العقد والسنن حين تكون جاهزة وذات تراث طويل، أي ذات قوة أقدر على إيقاع الشاعر في حبائلها بما لها من إغراء (إغراء الراحة ) ومن سلطان (سلطان التراث الطويل ). (9)
تفصح هذه الفقرة عن موقف صريح من التراث، فبحجة أنه يمثل (عقبة عالم ميت ) يلفه صاحبه في (أقماط ) ينبغي على الشاعر الأنسي رفضه نظريا وإبداعيا بخلق نص شعري مغاير، لا يستمد توافين مس ى من التجربة الداخلية للذات وهي تواجه لغتها وأعماقها وعالميها، الداخلي والخارجي.
ويجب وضع هذا الموقف (المتطرف ) في سياقه التاريخي الذي كانت فيه قصيدة النثر في طور التأسيس بوصفها منجزا لم تكن جذوره واضحة في التراث، وفضلا عن ذلك مثل التراث سيفا مشهرا من طرف التراثيين في وجه تلك القصيدة.
ولعل أنسي الحاج لم ينتبه، وهو في حماس هجومه، إلى أن قصيدة النثر يمكن أن تتسع لاستيعاب التراث، كما لم ينتبه إلى انه - حتى رغم تأكيده على ذاتية قوانين هذه القصيدة - استبدل (سلطان التراث الطويل ) العربي،(سلطان التراث الطويل ) لقصيدة النثر الأوروبية، حين عرض قوانينها وتبناها، وإن نعتها بالقوانين غير المطلقة.
موقف رفض التراث في الخطاب المقدماتي الأنسي ليس سوى جزء من جملة مواقف اعتبرها الحاج مهام على عاتق شاعر قصيدة النثر. وكلها مهاو متولدة من وضع النص الجديد ضمن نسق ثقافي جمعي غير مساعد وغير مهيأ لتقبل اضافات تحدث قطائع نظرية وإبداعية مع مرتكزات ذلك النسق في سكونه وتقوقعه.
وبديهي القول إن الشاعر الأنسي بعد الرفض، هو التغيير، والتغيير الأنسي ليس تغييرا يراهن على المدى الطويل ويشتغل على موضوعه في تأن. بخلاف ذلك، هذا التغيير سريع وفجائي، زاحف وصدامي. (الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد). هذا هو التغيير في لغة أنسي الحاج، الهدم والتدمير والتخريب، واجبات ومسؤوليات الشاعر الجديد إذا أراد زحزحة (الألف عام ) المتراكمة من (العبودية ): (أول الواجبات التدمير، الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لابد، حتى يستريح المتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس ).( 10) هل كان أنسي الحاج غير مهتم بقوانين التطور الأدبي، وهل غالى في تقدير المرحلة وطبيعة موازين القوى بين كتل المتلقين؟ قد وقفنا عند إقراره بكون متلقي قصيدة النثر (المتلقي الايجابي)، هو المتلق- الأقلية. وفي ضوء الدعوات الأنسية (الهدامة )، يمكننا القول بأن الحاج راهن على أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. لذلك دعا شاعره للدخول في حالة استنفار هجومية قصوى، مستندا في دعوته إلى وعيه بكون التطور قانونا حتميا للظواهر والأشياء، وأن ثباتها على وضع بعينه، ضرب من التحجر والجمود، أما تبرير المحافظة والاستقرار، فضرب من التعصب والعنصرية والمذهبية الضيقة. لابد إذن من إشاعة بذور التطور في الوعي والتلقي السائدين وتفنيد الحجج والمزا عم التي يستندان اليها لتمرير خطابهما وتثبيته، والمعيار في حتمية التطور هو تغيير إحساس الإنسان، وحاجاته، فبتغيير الإحساسات والحاجات، تنشأ حتمية التغير في الأفكار والمفاهيم أيضا، يقول أنسي الحاج: (لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقا أو يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان، لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة وإما على
انقاضها).(11)
موضوعات هذا التصور عند صاحب (لن ) تشمل الذهنيات والمواقف من العالم وماهية الشعر في لغته ونظامه وإيقاعه، فقد ألح على المستوى الايقاعي بالذات، لارتكاز التلقي السائد على فهم معين له، لذلك أوكل الحاج لشاعره مهمة نسف الفهم التقليدي للموسيقى الشعرية مستعينا في ذلك بـ(قانونه) في التطور الحتمي.
يقول في هذا الموضوع، رابطا بين النص والشعر والقارئ: (موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم إنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها، وكان في عالم يناسبها وتناسبه، لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد، حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها أهم ما يزلزل القارئ).(12)
ولكي ينهض الشاعر الأنسي بهذا الدور في إبداع نص مغاير، ولكي يحسن مخاطبة ما يسميه بأبواب الشعر مع فتحها، ينبغي له أن يحدد طبيعة الأرض التي ستحتوي فعل التغيير، نقصد قصيدة النثر في موقعها بين الشعر والنثر وفي ذاتها أيضا.
3- الشعر والنثر:
صاغ أنسي الحاج سؤاله الإشكالي كالتالي: (هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟) وكان ذلك السؤال هو أول جملة في المقدمة، ويمكن القول بأنه مولد الأفكار التي وردت بعده، فبعد متوالية من الأفكار والصفحات يعود أنسي الحاج ليطرح السؤال نفسه، إحساسا منه بأن ما عرضه بعد الطرح الأول للسؤال لم يحسم في الإجابة، فبه الطرح الثاني فقط، يطلق الحاج اجابته الصريحة: (أجل ).
هل كان سؤال أنسي الحاج مغلوطا؟ إنه كذلك في تقديرنا الأن، لأن الإشكال الأكثر انتاجية ليس في السؤال بـ(هل ) بل بـ(كيف )، (كيف نخرج من النثر قصيدة؟)، إن السؤال الثاني وان كان في تقديرنا أيضا لا يقل (مغلوطية ) إلا أنه أكثر توافقا مع الطموح لخلق قصيدة نثر، فهو سؤال الكيفية والخصوصية والتفرد، بيد أن أنسي الحاج كان متعجلا للقيام برد فعل سريع مضاد لإجابة مضادة: (لا يمكن أن نخرج من النثر قصيدة ).
في صيغتي السؤال، تطل القاعدة واحدة، هي النثر، وذلك يفيد أن المبدأ القائم خلفهما هو الاعتقاد بأن النثر هو قاعدة الشعر، ومع ما في الصيغتين من انزياح عن الإشكال الحقيقي، فإن السؤال في صيغته الأنسية أو في صيغته التي عدلناها، ظل الإشكال الأول المؤرق لخطاب قصيدة النثر العربية، بما في ذلك خطاب التسعينات، إذ ظل السؤال هو: هل بالإمكان إخراج قصيدة النثر من النثر وكيف؟ أي أن قصيدة النثر بقيت مشدودة للنثر تحت تأثير سلطان النعت الأنواعي والتسمية، أما السؤال الحقيقي في رأينا، فلا يتمثل في أن نخلق قصيدة نثر قاعدتها هي النثر، بل قصيدة نثر قاعدتها هي الشعر. وبذلك نسوغ السؤال الإشكالي الحقيقي كما يلي: (كيف نخلق من الشعر قصيدة نثر وكيف نخلق الشعر من قصيدة النثر) ولن نبرر- تبعا لذلك - حضور أدوات النثر في الشعر كما ذهب الى ذلك أنسي الحاج، بل نقوم بوصف وتفسير الأليات (الأدوات ) التي حولت قصيدة النثر إلى شعر، أو خلقت الشعر في قصيدة النثر، دون ربطها بمصدر نثري، أخذا بمبدأ أساسي، هو أن الأدبية لها آليات اشتغال لا تخص نوعا بذاته إلا بالقدر الذي يخضعها فيه لقوانينه وتكويناته ومعارييره.
إن سؤال أنسي الحاج، لا يبرر مشروعيته - كما ذكرنا- سوى الشرط التاريخي الذي تولد فيه، إنه إشكال مقرون بظرفية معينة، كان صائبا نسبيا في سياقها وإن فقد صوابه بعد ذلك، ويرتد ذلك الصواب بالذات، إلى أن السؤال المطروح وقتها تمحور حول مدى معقولية وشرعية تحويل النثر إلى شعر، وكانت الإجابة المعدة هي عدم جواز ذلك بحجة أن الشعر شعر والنثر نثر، فكان رد فعل أنسي الحاج تحديا للمنطق والفهم السائدين، ورغم ان السؤال الأنسي ليس هو السؤال الحقيقي، فإن اجابته عنه مازالت مناسبة كلما وضعناها في مقابل امتدادات الفهم التقليدي الذي لا يرى بين الشعر والنثر جسورا للتلاقي والتواصل، لكنها إجابة تفقد جدواها بمجرد القول بعدم ضرورة الوزن والقافية في الشعر، أو القول بوجود جسور للتداخل والتلاقي بين الشعر والنثر، حينئذ يصبح من غير المناسب التساؤل بـ(هل ) و(كيف ) من النثر إلى الشعر؟
فالمناسب هو التساؤل بهاكيف لم من الشعر إلى الشعر؟
في محاولته الأولى للإجابة عن السؤال، لم يشكك أنسي الحاج في مقولة وحجة (الخصم )، إذ تبناها وجعلها قاعدة له، مقدما في ذلك مجموعة من الحجج والبراهين، كلها تأكيد على أن بين الشعر والنثر مسافة جمالية نصية وتعبيرية شاسعة، كما بينهما مسافة جمالية في التلقي مختلفة نوعيا وكيفيا، ولم يكن هذا الإقرار، سوى محاولة منه لإعطاء السؤال مشروعيته، إذ مادام بين الطرفين تباعد شاسع، فإن السؤال ب(هل ) في محله إذن، بل إنه السؤال المتربع على هرم الأسئلة الممكنة في ذلك الموضوع.
أنسي الحاج ينطلق من حجة الخصم لتفنيدها، ويخترقها لتفجيرها، وستظهر استراتيجيته في التحليل والاقناع، في محاولته المثانية للإجابة، ففيها سيطرح مفهوما أخر للنثر. نقصد النثر الذي تقترب فيه المسافات من الشعر، وسيجد أنسي الحاج أن السؤال ب(هل ) يتم استنزافه وتجاوزه لأنه لا يقبل سمى، إجابة واحدة بالسلب أو بالإيجاب، وكان لابد له من أن يجيب عن سؤال ضمني بـ(كيف )حتى لو خرجت تلك الإجابة من (معطف )
(هل ).
فكيف فهم أنسي الحاج النثر الذي هو قاعدة قصيدته للنثر، وكيف فهم الشعر الذي يتحول اليه النثر عبر وسيط قصيدة النثر سنجيب عن هذين السؤالين من خلال جدول بخانتين تضمان جملة الصفات والنعوت الاصطلاحية التي وسم بها الشاعر كل طرف من أطراف معادلته في الشعري والنثري:
النثر
- محلول ومرخي ومتفرق ومبسوط
- طبيعته مرسلة
- أهدافه إخبارية أو برهانية
- ذو هدف زمني
- سرد ووصف.
- يخاطب
- له بالأخر جسور المباشرة والتوسع والاستطراد
- الشرح والدوران والاجتهاد الواعي والإقناع.
- الوعظ والإخبار والحجة والبرهان.
- منفلش ومنفتح ومرسل
-خلاف النظم وما يقال ويكتب خارجه
الشعر
- القصيدة
- القصيدة شيء ضد.
- القصيدة عالم مغلق، مكثف بذاته.
- القصيدة ذآت وحدة كلية في اتأثير.
- القصيدة ليست لها غاية زمنية.
- الشعر توتر.
- القصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير
- الشعر له بالآخر جسور العمق والغور في النفس.
- متعال على القيمة العابرة.
- يمتلك القارئ ويحرره وينطلق به.
- الإشراق.
- الإيحاء.
يتبين من هذا الجدول أن محاجة أنسي الحاج تبنت عدة أنواع من التعريفات والتحديدات نجملها فيما يلي:
أ - حد بالمقايسة: فالنشر والشعر، قياسا الى بعضهما، يتحددان بالاختلاف، كل طرف من الآخر، فالشعر يقصد به ما كتب خارج النثر، وبخلاف ذلك النثر.
ب -حد بوسائل التعبير وطبيعته: أي تبني الحد اللغوي الكلاسيكي: النثر مفرق ومحلول ومبسوط، والشعر مجموع ومنظم ومقتصد.
ج - حد بالسكون والتوتر: النثر سكوني والشعر متوتر.
د - حد بمرجعية الواقع: النثر زمني طرفي، قيمه عابرة، والشعر غير زمني، وغير ظرفي، وقيمه خالدة.
هـ - حد بمرجعية الذات: النثر نتاج الوعي والعقل، والشعر نتاج العمق النفسي.
و - حد بالاهداف والعلاقة بالآخر: النثر إخباري إقناعي برهاني واعظ، والشعر إشراقي إيمائي، النثر يقدم للآخر مادة تتوجه نحو فكره وعقله، والشعر يقدم له مادة تمتلكه.
وإذا كانت هذه الحدود في سطحيتها، تبدو حدودا حقيقية للتمايز بين الشعر والنثر، فإن ما قدمه أنسي الحاج للاقناع بنا، يتضمن في العمق إشكاليات لا يمكن تجاوزها ببساطة العرض الظاهري، لو أبقينا على الفهم نفسه، وحاولنا التشكيك فيه، كأن نختار ما قاله الحاج في الشعر بكونه (امتلاكا للقارئ، وتحريرا له، وانطلاقا به )، فإننا سنرى خلاف ذلك أيضا، حيث يمكن للنثر في استخدامه الأدبي أن يقوم بالأدوار نفسها، في حين، قد يرتد عنها بعض الاستخدامات الشعرية، أما صفات البرهان والحجة والاقناع، فلا يخلو منها الشعر، كما لا يخلو النثر من اقتصاد وتوتر وعمق في الغور النفسي وتعال على القيم العابرة، وإن اختلف عن الشعر في درجة هيمنة تلك المكونات والأهداف.
وليصل الحاج إلى هذه المرحلة، يلجأ بدءا، إلى التمييز بين الشعر والقصيدة، وهو تمييز يتطلب من الدارس قدرا من التسامح في التأويل لكي يحافظ له على موقع ضمن التقابلات التي وضعها الحاج للشعر والنثر. ذلك أنه لم يقدم وسائل إقناع كافية للتمييزبين المصطلحين سوى قوله بأن الشعر مادة للقصيدة، وأن القصيدة لا الشعر هي موضوع الشاعر، وقد قام الحاج بهذا التمييز لكي يبعد بالذات إشكال وجود النثر الموقع أو الشعري. فمن شأن وجود هذا النمط من التعبير، التشويش على المسافة أو الهوة التي أراد الحاج توسيعها بين الشعري والنثري. بسبب ذلك تبنى مصطلح (قصيدة ) للدلالة على الشعر في تبنيه النوعي والشكلي،حيث يكون موضوع السؤال بـ(هل ) هو خروج القصيدة لا الشعر، من النثر، يقول أنسي الحاج: (القصيدة العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنشر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر فعلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه )(13).
فما حل هذه (المعضلة الأدبية )؟ يذهب أنسي الحاج إلى أن قصيدة النثر تخرج بالفعل من النثر، لكن ليس من النثر العادي المعياري بصفاته تلك، إنها تخرج من شعر يولد من ذلك النثر، بمعنى أن قصيدة النثر تتولد عبر مرحلة انتقالية يتزاوج فيها الشعر والنثر الخارجان - فيما يبدو- معا، من قاعدة نثر عادي ومعياري:
وتزكي فرضية هذه التراتبية، كون قصيدة النثر تأتي من النثر لا من الشعر، لأن شعر النثر ليس هو الشعر، ليس هو الشعر الذي يشتغل بلفة الشعر لا بلغة النثر.
وقد انتبه الحاج لذلك حين أقر بأن خروج قصيدة النثر من النثر (النثر في شاعريته )، يبقى على رواسب النثرية فيها: (هل من المعقول أن نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم أدوات النثر؟) يجيب الحاج بأن قصيدة النثر (تلجأ إلى أدوات النثر من سرد ووصف واستطراد).
لكن كيف تكون قصيدة النثر شعرا وهي تحتفظ بأدوات النثر؟ ها هنا يستعين الحاج مرة أخرى بسوزان برنار التي ذهبت إلى أن تلك الأدوات تفقد في قصيدة النثر وظائفها الأصلية متحولة لخدمة غايات شعرية )( 14).
لكن كيف تفقد تلك الأدوات وظائفها النثرية وتبقى في الوقت نفسه نثرية، ثم هل هي وسائل نثرية بالحصر وليست وسائل
شعرية أيضا، ذلك ما قد تضيئه النقطة الموالية.
4- قصيدة النثر:
إن أهم ما يسم مقدمة أنسي الحاج بالتفرد، هو السبق في رصد ظاهرة معينة، وسواء بالنسبة لأنسي الحاج أو لأدونيس أم لجماعة مجلة اشعر لم عامة، فإن الانتباه الى قصيدة النثر، كان في حد ذاته مؤشرا على ( يقظة ) قصوى تحسست مخاضا أخر للتعبير الأدبي حقل الشعر، ويكفي الأن أن نقارن تلك (اليقظة ) بـ(النوم ) النقدي العميق الذي ما عادت فيه الظواهر ظواهر، وإنما انزياحات بعضها يتوارى وبعضها يتراكم دون وعي بذلك من طرف النقد.
لقد كانت قصيدة النثر في طور التأسيس (نقصد بقصيدة النثر في هذا السياق، التحديد الذي قدمته لها حركة (شعر) بل لم يكن - حسب تاريخ المقدمة - قد انقضى على المعرفة (الجدية بقصيدة النثر عامان ).(15) وهي مدة وجيزة مقارنة مع ظاهرة اتهمت بقلب المعادلات التاريخية والقيم السائدة، ولم تكن مدة العامين قادرة أن تجعل ( العطاء الحقيقي) لهذه القصيدة (يأخذ طريقا للناس ). وذلك ما أكده الحاج نفسه، فهل كانت المقدمة ضربا من المبالغة المفرطة التي لا أساس لها؟.
حين نبه أنسي الحاج إلى جدة وحداثة ظهور قصيدة النثر، تفيا توضيحين هما:
أ - ليس كل ما قدم ضمن قصيدة النثر يستحق أن يكون ممثلا نوعيا لها، فبحكم طابعها الإغرائي استسهلها بعض الشعراء. مما حمل الحاج على التحفظ من بعض نماذجهم، ويتحفظا هذا، خرج الحاج من مطلق حكم: (انصر أحاك ظالما أو مظلوما)، الذي تحول إلى شعار لدى بعض الفئات الشعرية خلال العقود الثلاثة الموالية. تحفظ أنسي الحاج مختلف عن تحفظ الشعراء الذين عادوا قصيدة النثر، فتحفظه مقصور على نماذج بعينها، أما تحفظهم فموجه في الأصل لـ(هوية ) تلك القصيدة ولشرعية وجودها، ويتذرع المتحفظون عادة بمبرر قلة الشعراء (الحقيقيين )، لذلك يختزل تاريخ قصيدة النثر عندهم في قصائد معدودة لشعراء معدودين، أما المعادون لتلك القصيدة، فلا يرون لها تاريخا بالطبع.
ب - ليس (انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا) أن نعجل بالدعوة لإقرار حرية قصيدة النثر. الانفلاق والغرور والحمق والموت، في رأي أنسي الحاج، هو أن يسارع المتشككون المتزمتون إلى الحكم على قصيدة النثر بالموت وهي لم تقض من عمرها سوى عامين، لابد من الانتظار حتى يتوافر- في رأيه - المتن الكافي المناسب قبل التسرع في إطلاق الأحكام السلبية.
فهل اجترحت قصيدة النثر اجتراحا قيصريا من سياقها الأدبي
والثقافي؟ لقد رأينا ان المتلقي في عمومه، لم يكن يشجع على أي تجديد بما فيه تجديد قصيدة النثر، ورأينا في مقابل ذلك أن أنسي الحاج كان مقتنعا بأن التاريخ عملية تحول وتغير وتجديد مهما كانت سلطة القوى المضادة للتطور.
وبالنسبة لأنسي الحاج، ولدت قصيدة النثر ضمن التغيرات الملازمة لأي تاريخ، فهي وإن كانت حديثا، لا يتعدى عمرها عامين، فقد وجد لها الحاج جذورا تبرر وجودها وقابليتها للتطور والاستمرار، بيد أنها جذور لا (يضرب لم بها صاحب (المقدمة )، في القدم، فانسجاما مع دعوته لفصل قصيدة النثر فصلا كليا عن التراث، يقصر أنسي الحاج تلك الجذور الأنسية:
أ - ارتفاع مستوى النثر وشيوع النثر الشعري وما جاوره، (في لبنان خاصة ).
ب -تقريب قصيدة التفعيلة للشعر من النثر، لدى الواقعيين خاصة.
ج - ترجمات الشعر الغربي.
د - تغير مواقف الشعراء بتغير العالم.
ولما كانت ثلاثة من هذه الجذور أو الممهدات،ذات شكل تعبيري، يقدم صيفا مختلفة عن قصيدة النثر، أدركنا أن هذه القصيدة، تمثل بالفعل نمطا معقدا ومتميزا من التعبير، فلا هي بنثر ثم تشعيره (الجذر الأول )، ولا بشعر موزون تم نثره موضوعاتيا (الجذر الثاني)، ناهيك بكون النص الشعري المترجم ليس نموذجا تمثيليا لقصيدة النثر. فكيف قدم أنسي الحاج هذه القصيدة إذن؟ ذلك ما سنعرض له من خلال النقط الموالية:
أ - القصيدة والأنواع المجاورة:
أن تكون قصيدة النثر نوعا شعريا متميزا عن باقي الأنواع الشعرية والأدبية، وأن تكون لها هويتها الخاصة بها ذلك ما طمح اليه أنسي الحاج في فهمه الأنواعي لتلك القصيدة.
لقد تمثلت فرضيته في هذا الموضوع، في كون الأنواع تقبل الاستقلال عن بعضها، وأن قصيدة النثر يمكن أن تخضع للفرضية نفسها، فجاء رأيه (الاستقلالي)صريحا في ذلك، يقول: (كل مرادنا اعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل، فكما أن هناك رواية وحكاية وقصيدة وزن تقليدي وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثرا).(16)
إنها فرضية، كان من الصعب البرهنة عليها في بداية الستينات خاصة، حيث لم تكن قصيدة النثر قد قدمت تراكما نصيا مساعدا، ولم يكن ذاك خافيا على أنسي الحاج وهو الذي أكد الجدة الزمنية لهذه القصيدة، ولم يكن، بحكم ذلك، مقتنعا، فيما يبدو، بفرضيته في (الاستقلالية ). لقد تنازع في مواقفه، الفرضية والمنجز النصي، الفرضية بوصفها سلاحا لإثبات شرعية وجود قصيدة النثر ضمن النسق الأنواعي السائد، والمنجز النصي بوصفه ينطوي على كتابة في تلك الفرضية، فقد لاحظ أنسي الحاج أن المصطلح يتسع لاحتواء نصوص غير تمثيلية، بل محشورة أو مقنعة باسم قصيدة النثر مع أنها ليست منها، كما لاحظ أن السبب في هذا الإشكال ليس هو موضع الإجادة فحسب، بل طرق الإبداع والتعبير أيضا، ودفعت الملاحظتان أنسي الحاج للإقرار بأن (ثمة وجوها نسبية ظهرت وتظهر متبدلة وفقا للتطور). غير أن الوجوه النسبية المتعلقة بقصيدة النثر، ظلت خاضعة عنده، لسلطة تعينها النوعي باعتبارها متغيرات ثانوية (ضمن ما توفره قصيدة النثر من حرية شاسعة وامكانات (17).
وبذلك تبقى فرضية الاستقلالية، هي المبدأ الأساسي في تصورات الحاج، ففي مقدمة أولوياتها (تبيين النوع الجديد) وتصفيته وعزله عن كل (ما ليس قصيدة نثر). أما المتغيرات فترجع، حسب حالاتها، كل إلى مكانه، إما ضمن قصيدة النثر أو ضمن أنواع أخرى، ليصبح الحد بالمقايسة، حدا مسهما في تشكيل ماهية تلك القصيدة، حيث تقاس قصيدة النثر في الخطاب الأنسي إلى:
- نثر الشعر.
- شعر النثر.
- الشعر المنثور.
- النثر الشعري.
- النثري الشعري الموقع.
- النثر الموقع.
تمثل هذه الأشكال عنده، (سلف ) قصيدة النثر ومصدرها وهادتها، حيث تتأثر قصيدة النثر بنوعية ودرجة التعامل معها، أخذة بذلك، وضعا أنواعيا داخليا تصبح فيه متفرعة إلى أنواع صغري مثل:
- قصيدة النثر الغنائية ومصدرها النثر الشعري الموقع.
- قصيدة النثر الحكائية.
- قصيدة النثر (العادية ).
لا شك في أن هذه الاشارات جاءت سبقا لأوانها، أولا من حيث كون الدرس الأنواعي لم يكن قد ترسخ في النقد الشعري العربي، وثانيا لكون قصيدة النثر نصا إشكاليا أنواعيا، ولا غرابة أن نجد، إلى غاية التسعينات، استمرار طرح السؤال الأنواعي في قصيدة النثر بوصفه هاجسا نقديا وإبداعيا تخصص له الملتقيات والملفات النقدية والاستجوابات والشهادات.
كما لا يخفى على الناظر في هذه اللغة الاصطلاحية الأنسية،
أنها غير دقيقة وخاصة انه لم يجد ما ينعت به الصنف الثالث من أصنافه سمى، بكون قصائده ( عادية ) ومدلول ( عادية ) عنده، هو كونها غير إيقاعية، لا بسيطة وأقل أهمية، فغياب الإيقاع تم تعويضه بمجموعة من المكونات هي الممثلة أصلا، لماهية قصيدة النثر الأنسية. بمعنى أن قصيدة النثر (العادية ) هي قصيدة النثر غير
(العادية ) أو الاستثنائية أو النموذجية التي سعى أنسي الحاج لترسيخها، إنها قصيدة لا تتحدد عنده بالمقارنة بالأنواع النثرية أو بقصيدة الوزن، بل بنظامها الداخلي وبقوانينها، فهل كانت القصيدة الأنسية قد وصلت بالفعل لمرحلة فرز القوانين، بل هل يمكن إخضاعها للقوانين؟
ب - القانون والمنير:
كما تنازعت في الخطاب النقدي الأنسي فرضيتا استقلال النوع وعدم استقلاله، تنازعت فيه أيضا، فرضيتا وجود قوانين لذلك النوع وعدم وجود ذلك. ومرد التنازع الثاني بالذات، للموقف الأنسي المناهض للثوابت، الثائر على الجوامد، الجامح نحو التمرد والفوضى والهدم والتحرر.
ولما كان موضوع هذا الموقف هو قصيدة النثر، وكان لم البحث في قصيدة النثر هذيانا لم على حد تعبير أنسي الحاج، فإن مهمة وضع القوانين، تصبح مجازفة قد لا يعول على نتائجها، وحين عبر أنسي الحاج عن رفضه للتراث، برر موقفه بكون التراث قد يتحول إلى قوانين غير قابلة للتعديل والإزاحة، توقع الشاعر (في حبائلها ) وتقف ضد التطور والتجديد.
كيف يستقيم إذن، التبشير بنص يخترق القوانين مع وضع القوانين ذاتها، ينتبه أنسي الحاج إلى ذلك فيقول: (لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى، ولا ننعي التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه ).(18)
لكن لا مغر له من ذلك الوقوع مادامت رغبته وهدفه (إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل )، مع ما يقتضيه استحقاقها، من قوانين مؤسسة وضابطة لها، إذ كيف تستقل دون قوانين؟!.
حاول أنسي الحاج الخروج من مأزقه بتسمية قانون قصيدة النثر بـ( القانون الحر ) بحجة أنه قانون غير مهيأ جاهز لتقبل وصهر وتحويل أي قصيدة إلى قصيدة نثر، لكن المسار المنهجي لصياغة القوانين كما اقترحها أنسي الحاج، سليم من حيث المبدأ، ذلك أن القاعدة في صياغة القوانين تكون عادة، إما بالاستقراء أو الاستنباط وقد اختار أنسي الحاج قاعدة الاستقراء الأقرب الى معطيات النصوص، فالقانون هنا لا يوضع قبليا بالسبق، لكن يستخلص من المعطيات النصية التي تكون وحدها، كفيلة بالبرهنة على وجود قوانين أدبية، فإن اضفاء صفة الإلزامية عليها، سيجعل منها قوالب سلطوية منافية لحرية الإبداع، لهذا السبب نبه الحاج إلى أن قوانين قصيدة النثر لن تكون إلزامية، ولا قادرة في حد ذاتها، على ضمان نجاح القصيدة، يقول عن تلك القوانين: (لقد استخلصت من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورأي بعد كل شيء، أنها عناصر لم ملازمة لم لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مخترعة لقصيدة النثر لكي تنجح ).(19)
ومع أن الموقف المعبر عنه في هذه الفقرة موقف سليم في حد ذاته، فإن ما يحتاج المساءلة هو سياق ذلك الموقف ومصدره، وهو ما نسجل حوله ملاحظتين:
أ - ليس أنسي الحاج هو من قام بوضع القوانين المقترحة وصياغتها بناء على المشاهدة والملاحظة واستقراء المادة النصية، لقد أخذ تلك القوانين جاهزة كما وضعتها الباحثة الفرنسية سوزان برنار، وإن كان أنسي الحاج أضاف اليها الإطار العام المحين لها، دون أن يفترض صاحب المقدمة احتمال أن تكون سوزان بر نار قد أخطأت في استخلاص ووضع قوانينها.
ب - إن تلك القوانين، وإن استخلصت بالفعل من نصوص قصائد النثر، فإن التجارب التي استخلصت منها، تجارب غربية، فرنسية بالتحديد، فهي من ثم وليدة تراث معين، ولم تصل إلى ما وصلت اليه إلا بعد مراحل تطور.
لم يتسادل أنسي الحاج هنا أيضا، عما إذا كان يجب أن ننتظر تراكما في المنجز العربي لقصيدة النثر، لكي نستخلص منه (قوانين )، حيث نتبين، وقتها فقط، إن كانت هذه القوانين مماثلة لتلك التي اقترحتها سوزان برنار، أم مختلفة عنها.( 20)
ح - القانون والماهية:
لم يتخلص أنسي الحاج في حديثه عن ماهية قصيدة النثر من مقترحات سوزان برنار في الموضوع، وما كان له هو وأدونيس الخروج عن تلك الدائرة في تلك المرحلة لسببين (قاهرين )، أولهما غياب تراكم نقدي عربي في الموضوع، وثانيهما غياب تراكم إبداعي عربي لتلك القصيدة يهيئ أرضا للملاحظة والاستنتاج.
يقول الحاج: (يحتاج توضيح ماهية قصيدة النثر إلى مجال ليس متوافرا، وإنني أستعير بتلخيص كلي هذا التحديد من أحدث كتاب في الموضوع بعنوان: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا للكاتبة الفرنسية سوزان برنار).( 21) ثم يضيف هامشا لهذه الفقرة يذكر فيه أن أدونيس كان أول من تناول هذا الموضوع بالعربية في مجلة (شعر) بالعدد 14/1960.
وليست قصيدة النثر في تلك الماهية قطعة نثر فنية أو مشعرنة،
بل قصيدة بفضل شروطها الضرورية الثلاثة:
أ - الإيجاز.
ب - التوهج.
ج - المجانية.
ولكي تتحقق لها هذه الشروط في عادتها النثرية، لابد لها من أن تكون موطن صراع بين نزعتين متعارضتين هما: الهدم والفوضى من جهة، والتنظيم من جهة أخرى، وستطل هذه الشروط الماهوية موطن تجاذب بين التجارب الشعرية العربية في قصيدة النثر، وسيتحول بعضها مثل مفزع (الفوضى) إلى شعار لدى بعض شعراء الأجيال الجديدة، لكن وضعها موضع التطبيق لم يكن - فيما يبدو- هدفا مباشرا للشعراء، بدليل أن أنسي الحاج نفسه لم يخضع لها، قد يكون تمثلها نسبيا في شرطيها عن المجانية والفوضى المنظمة، لكنه ظل أبعد عنها من حيث شروط التوهج والإيجاز قياسا إلى الفهم الذي قدمه لهذين الشرطين.
وإذا كانت هذه الماهية في ظاهرها ماهية نصية، فإن خاصيتها هذه، لا تقطع جذورها مع المرجعية الذاتية للتجربة ومع شرطها الخارجي حيث يوجد الشاعر في مقابل العالم، إنها- بتعبير أنسي الحاج - (الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي، موهبة الشاعر، تجربته الداخلية، وموقفه من العالم والإنسان ).(22) ولقد كان على أنسي الحاج أن يقدم هذا التوضيح لكي يحتفظ بخيط ضمني يربط قصيدة النثر بالمفهوم الشائع وقتها للشعر والذي يمكن اختزاله في شروط الموهبة والتجربة الداخلية والموقف.
إنه المفهوم الذي احتضنته قصيدة التفعيلة بصفة خاصة دون أن يتنكر له شعراء مجددون من خارج تلك الحركة، موضع الخلاف بالذات، هو في ربط الماهية من حيث هي مرجعية خارجية وسياقية بالماهية من حيث هي معطى لنوء ونصي، فالمستمد، الثاني للماهية هو الذي يجعل قصيدة النثر تنفصل في (هويتها) الإبداعية ليس عن مبدأ التجديد الشعري عامة فحسب، بل أيضا عن مبدأ التجديد الشعري الخاص بقصيدة التفعيلة.
وكون شروط قصيدة النثر متعلقة بلغة التعبير وليس بماهيته، جعل الشاعر في مواجهة مباشرة مع النص، فموضوعه لم يعد محصورا في تسجيل الصدق العاطفي وتثبيت لحظة المعيش الاجتماعي والسياسي، أصبح موضوعه هو إشكالية التمظهر اللغوي والنصي للتعبير، وخاصة أن قصيدة النثر سعت للتخلي عن ذخيرة الأدوات التعبيرية القديمة، يقول أنسي الحاج في هذا الباب عن قصيدة النثر: (لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والانهماكات الثانوية والسطحية والمضيعة لقوة القصيدة، رفضت ما يحول الشاعر عن شعره، لتضع الشاعر أمام تجربته، مسؤولا وحده كل المسؤولية عن عطائه، فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها، ولا بأي حجة برانية مفروضة عليه، ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر).(23)
ويتمثل القانون الحر في ثلاثية الإيجاز والتوهج والمجانية، المؤطرة بتنازع قوى الفوضوية والتنظيم من جهة، وبمرجع الموهبة والتجربة والموقف من جهة ثانية، وينحل ذلك القانون في تمظهرين تعبيريين موازيين يمثلان نظامه السطحي، وهما اللغة والوحدة، ولكل منهما لوازمه ومصاحباته:
أ - اللغة:
الإلحاح على تجديد اللغة وربطها بمبدأ التطور الحتمي، مثل مطلبا أساسيا في الخطاب الأنسي، فمادام الموقف يتغير، فمن البديهي أن ينشد الإنسان لفة تناسب رغبته في التعبير عن جدة الموقف، والمطلوب في اللغة الأنسية الجديدة أن تكون قادرة بدورها على الاختصار ومطاوعة الشاعر في (وثبه الخلاق ) لفة قابلة للخلق الدائم مادامت القاعدة الأنسية هي أنه (في كل شاعر مخترع لغة ).
ب - الوحدة:
مطلب الوحدة في القصيدة مطلب قديم، لكن راهنه في قصيدة النثر يقترن بباقي شروطها، وبخاصة منها شرطي القصر والتماسك، وهما شرطان يرتدان لصفتي الإيجاز والتوهج، إذ لكي تكون قصيدة النثر موجزة متوهجة لابد لها حسب برنار والحاج من القصر والوحدة والتماسك.
ويتجه هدف هذه الوحدة للتلقي، بإحداث تأثير كلي مخالف لذلك الذي يحدث جزئيا في القصائد الطويلة، قصيدة النثر القصيرة، في المرجع البر ناري المتبنى في الخطاب الأنسي، قادرة وحدها، على إحداث النوهج الفجائي المنبعث في شكل شحنة كلية قوية التأثير في متلقيها، يقول أنسي الحاج في ذلك: (التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين اضلاعها، وتأثيرها يقع ككل، لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ ).(24)
قبل قصيدة النثر، كان موضوع التأثير في المتلقي موكولا في المقام الأول لموسيقى الوزن والقافية، وحتى في السجال الذي نشأ حول قصيدة النثر، أثار فيه خصومها هذا الموضوع، ناعتين إياها بعدم القدرة على التأثير في متلقيها بسبب ما وصفوه فيها من غياب للموسيقى، لذلك نعد ما ذكره أنسي الحاج في موضع التأثير الكلي والموهبة والتجربة، بمثابة رد، بل
تفنيد ضمني للحجج المضادة لتلك القصيدة.
لم يعبأ أنسي الحاج، كما فعل غير واحد من اللاحقين، بفك (عقدة ) الموسيقى في قصيدة النثر بالإقرار مثلا، بوجود (موسيقى الخلية ) خاصة بها، كان أنسي الحاج صريحا في خطابه التهميشي لمقولة الموسيقى والإيقاع في قصيدة النثر، وكان مبدأه في ذلك هو أن الشعر (لا يعرف بالوزن والقافية )، ولم يتردد في نعت موسيقى الوزن والقافية بكونها (موسيقى خارجية ) استهلكت وأصبحت (أدوات جاهزة
وبالية ).
وانسجاما مع هذا الأفق لم يقدم أنسي الحاج في محفل الإيقاع، اقتراحات كتلك التي قدمها في محفلي وحدة القصيدة وتأثيرها، لقد مثل الإيقاع عنده دورا هامشيا لم يرد اعتماده الا عرضيا وضمنيا، ضمن واحد من أنواعه المقترحة لقصيدة النثر، نقصد (قصيدة النثر الغنائية ) التي لها أصل في النثر الموقع، كما ذهب إلى ذلك صاحب (المقدمة ).
وفي مقابل هذا النوع الفرعي، يتراجع الإيقاع في قصيدة النثر (الحكائية ) ليهيمن بدله السرد، أما في الصنف الثالث من أصنافه لقصيدة النثر، صنف قصائد النثر (العادية ) التي (بلا إيقاع ). فيشتغل شعريا بواسطة التأثير الكلي أو ما سماه أنسي الحاج: (الكيان الواحد المغلق ).
د - النهائية والبديل الحقيقي:
أن يكون لقصيدة النثر كيان مغلق، هل يفيد أن لها دورة مغلقة ووضعا نهائيا لا تحول بعده؟ ثم أي دور لقصيدة النثر في دورة التحولات الأدبية التي من طبيعتها التطور والتحرر ومعاداة التحجر على حد ما ذهب إلى ذلك صاحب (المقدمة ) نفسه؟
بالنسبة للسؤال الأول، رأينا أن أنسي الحاج يجاور بين تخصيص قصيدة النثر بقوانين كلية تمنحها وضعا شبه نهائي، وبين تحميلها إمكانيات للانفتاح على متغيرات محتملة، على أن تبقى مشمولة بالنسق المهيمن بالنموذج القبلي.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فإجابة الحاج عنه كانت من أسباب تغذية الصراع النقدي حول قصيدة النثر، وفضلا عن ذلك مازال هذا السؤال يطرح دون حل موضوعي، فحلوله الذاتية تنطبع بوجهات النظر المناوئة أو المناصرة لقصيدة النثر، ذلك أن التساؤل عن موقع قصيدة النثر، هو تساؤل عن البديل الإبداعي وعن المجيب الحقيقي عن الحاجة الجمالية الواهنة للقول الشعري، فما الأقدر على الإجابة عن تلك الحاجة، قصيدة النثر، أم قصيدة الوزن؟
جاء جواب أنسي الحاج لفائدة قصيدة النثر بحجة أن هذه القصيدة معطى حداثي عالمي وليس عربيا فحسب (حيث تمثل أقوى
وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن )، أما بالنسبة للسياق الزمني العربي فيقول الحاج: (قصيدة النثر خليقة هذا الزمان، حليفته ومصيره ).
لكن موضع الشاهد النقدي ليسر في مجرد وضع قصيدة النثر في سياق الإبداع العربي وإيجاد شرعية لها بين باقي أنماط التعبير، كان طموح أنسي الحاج يتعدى هذا الحد، قصيدة النثر عنده هي البديل الحقيقي لكل إبداع شعري، وهي نهاية ما وصل اليه التحرر الإبداعي، إنها تجاوز حتى لقصيدة التفعيلة حديثة العهد بدورها، والتي كانت وقتها وما زالت في مرحلة تأصيل الاختيار وتثبيت الجذور وفرض الذات بوصفها البديل الحقيقي.
ولم يقتنع الحاج بأسلوب المهادنة، وخاصة مهادنة رفاقه من المجددين التفعيليين، لم يكن سوى (جنون ) و(لعنة ) أن يعن الحاج في ذلك الوقت بديل قصيدة النثر بقوله المتحدي: (إنها أرحب ما توصل اليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في أن واحد).(25)
إنه إعلان هدد، ليسر شعر الوزن عامة فحسب، بل بالتحديد، شعر التفعيلة، ولهذا السبب سيقف أغلب شعراء التفعيلة، موقف المتحفظ من قصيدة النثر، ليس في الجيل الستيني فحسب، بل منذ ذلك التاريخ إلى غاية التسعينات أيضا، فقد أعلنت قصيدة النثر عن نفسها منافسة لهم، مهددة لتصميم تجربتهم، في شعاراتها حول التحديث والتجديد بالذات.
والأن، ونحز على عتبة نهاية العقد الرابع من الإبداع الشعري الذي تلا تاريخ المقدمة، وبعد أن بدا جليا أن قصيدة التفعيلة تواجه مشاكل إبداعية حقيقية، باعتراف شعرائها، وبعد أن أصبحت قصيدة النثر بمختلف أصنافها وروافدها، أكثر شيوعا في التعبير الشعري العربي الحديث، هل نقول إذن، إن (نبوءة ) أنسي الحاج وجدت أخيرا وبلا منازع مصداقيتها؟!.
5- بعد المقدمة:
قد تخطئ المقارنة هدفها إذا تغيت المطابقة بين مقدمة أنسي الحاج وشعره، فالمقدمة سابقة لديوانه (لن ) طباعيا لا زمنيا، فهي وإن مثلت الوعي النظري لأنسي الحاج بماهية الشعر وأدواته، فليسر من المفروض أن تمثل مطابقة الوعي للإبداع، إذ توجد دائما مسافة ما بين المعطى النظري والمنجز النصي، وفي هذه المسافة توجد امتدادات وقطائع بين طرفيها، وأهم ما في تلك الإمتدادات في حالتنا هذه، مواجهة الشاعر للغة وأنسي الحاج لم يخضع لصدمة (جدار اللغة )، كما حدث لزميله يوسف الخال، لقد ظل أنسي الحاج (لن) و(الرأس المقطوع )، شاعرا صداميا تجاه جدار اللغة، ممتثلا لمبدئه في كون الشاعر (خالق لغة ). وبعد ربع قرن من ذلك التاريخ، نرى أنسي الحاج يكشف عن مصدره السريالي في مواجهة ذلك الجدار: التمرد، العبثية، الفوضى، مع تأكيد أن تجربة (لن )، (واجهت
الصنمين: صنم اللغة المحنطة وصنم الوزن التقليدي).(26)
وقد كانت خالدة سعيد من أوائل من أكد على خصوصية التجربة اللغوية (لن ) في وقوعها موقع صراع (بين اللغة واللالغة ) تقول: (هذا ما شحن شعر أنسي الحاج بالنزق والتمزق والتوتر، وكان من نتيجة هذا الصراع ما سميته منذ عشر سنوات، يوم صدور (لن ) باللعثمة، هذه (اللعثمة ) التي حجبت شعره السابق هن عامة القراء الذين اعتادوا الفكر المقولب المكبسل المنمق التفسيري، هي نفسها جعلت له في نظر قرائه جاذبية خاصة ).(27)
وفي مسعى قريب مما ذهبت اليه خالدة سعيد يقدم سامي سويدان دراسة تحليلية لديوان (لن ) يتتبع فيها مظاهر تمرد وثورة أنسي الحاج على جدار اللغة.
(28) ومن أبرزها ما يلي:
أ - تحطيم قواعد اللغة العربية في نحوها وصرفها.
ب - مزج العامي بالفصيح.
ج - قلب المألوف وإعادة تأليفه.
د - اشتقاق ألفاظ جديدة على أمس غير معهودة في العربية.
هـ- الإكثار من الصور المكثفة المتوترة.
و - تداخل الأصوات المتكلمة.
وتغدو القصيدة بتضافر هذه الاختيارات الأسلوبية، ضربا من العبثية أو المجانية التي لا يحيل مستواها السطحي سوء على اللعب اللغوي، أو ما سمته خالدة سعيد (ما يشبا الكتابة الأوتوماتيكية أو الهذيان لتيار الكلمات ذات التوالد الذاتي).(29)
بيد أن الدراسة المتأنية للنص تكشف من نسقية تماسكه، فخلف تلك العبثية تكمن دلالات أساسية ترفد بشعريتها تجربة أنسي الحاج، وقد وقف سامي سويدان عند هذه الخاصية من خلال نماذج بذاتها، حيث أكد مثلا تشغيل الحاج لمهيمنات موضوعاتية، في مقدمتها الدين والجنس والوطن، ومن أمثلتها النصية، ما سجله سويدان بخصوص قصيدة (هوية ) التي خلص بعد تحليل (عبثيتها) السطحية إلى القول: (وتظهر هذه الأخيرة وكأنها لا تسمح فقه بقرا،ات متعددة، بل إنها أيضا تستدعيها، وإذا بالنص يفضي إلى أبعاد دينية وما ورائية تتناول إشكالية الإيمان في مواجهة الوجود والعدم والعلاقة التي تنضح عز ذك بين الإنسان والله أو عزرائيل.. كما يفضي إلى أبعاد اجتماعية تطرح إشكالية التمرد والانتفاض على يباب السائد، وجميعها تتمازج في أصداء متداخلة تعلن وحدة القصيدة الكلية ).( 30)
ولم يكن أمام أنسي الحاج من سبيل مس ى خلق لفة جديدة عارية من منطق العلاقات البرهانية الظاهرة، وبخاصة أنه يرفض الخضوع للقيم السائدة في محتويات التعبير، وكيف يحافظ للغة بجدارها في نص مثل قصيدته (شارولوت ) مثلا حيث يقرن بين القصيدة والجنس السري؟ يقول سويدان عن هذه القصيدة بالذات: (وإذا كانت قصيدة (شارولوت ) هذه تتعرض لموضوع جنسي حميم نادرا جدا- كيلا نقول أبدا- ما تطرق اليه شاعر عربي قبل أنسي الحاج، فإنها تشكل في موضوعها بحد ذاتها، مروقا في الشعر ).(31)
ونقدم مثالا آخر من لم لن ) هو قصيدته (مجيد النقاب ) التي يقول في مقطعها الأول:
(جادت الصورة؟ لماذا تتأخر كلا لم تجيء لم تجيء؟ وكيف أتجنب النظر؟ من ينقذني من آلام الرحلة أ أين؟ وراء في الوراء في وراء وراء الصوت، الليفة، اللب، الصلب، هل أتخلى؟ متأخر، أرفع الجلسة، أؤجل،لم الصوت، الليفة، اللب، الصلب، هل أتخلى؟ متأخر، أرفع الجلسة، أؤجل،لم أكلف، لم أنا، فليدفعوا. فلأطمح للصورة (32)
اللغة في هذا المقطع غير محتكمة لأي مواصفات متعارف عليها، إنها أشبه بهذيان مجنون غير قادر حتى على إكمال جملة، ناهيك بربطها بباقي الجمل، تصبح اللفة موضوعا للهدم من طرف ذات تختلط عندها المواضعات المحيطة به تقوى على تحديد موقعها ضمنها، فيتحول خطابها إلى ضرب من اللغة المجانية العبثية التي لا تهدف لقول شيء، لغة تنقال ولا تقول.
بيد أنه في هذه المجانية الظاهرية، نستطيع أن نلتقط خيوطا لتماسك وغائية ضمنية، وخاصة حين نقارن بين وضعين فعليين:
أ - مجيء النقاب.
ب - مجيء الصورة.
بهذا التوازن تتحول الصورة إلى حجاب وتفقد اضاءتها وإشراقها يصبح الطموح محملا بإشكال نفيها وهدمها:
بين هذين الفعلين، أي بين الانتظار والترقب، تتوالد اللفة المتداعية للمقطع في متوالية من الأسئلة المعبرة عن القلق والتردد وعدم الاستقرار، إنها لفة بركانية تنقذف مفرداتها كشظايا الحمم دون قيد وضبط وهذا ما قاله أنسي الحاج نفسه بعد ربع قرن من ذلك التاريخ: (ما فعلته كان انفجار براكين تكونت في مست الأيام وانفجرت في صمت الكتابة ).(33)
وإذا كانت (المقدمة ) هي الإطار الذي رسم الخطوط الكبرى لانفجارات اللغة (البركانية لم، وإذا كانت القصائد تمثلت اللغة نسبيا، فإنها لم تكن بالتالي نسخة مطابقة لها، وأنسي الحاج ذاته انتبه لذلك بقوله: (المواصفات التي حددتها في المقدمة، سارعت أنا نفسي وخرجت عليها في قصائد الكتاب نفسه ).(34)
وقد كان من الصعب على أنسي الحاج أن يحقق شعريته على أنقاض هدمها، وفي مقدمتها المادة التراثية والمنطق التواصلي للغة، ولم يكن من الضروري تقنين قصيدة النثر في نموذج بعينه، وبخاصة أنه نموذج تم إمداده قبل أن تنجزه الممارسة النصية، وربما كان أدونيس أكثر عمقا من هذه الزاوية، حين وضع قصيدة النثر ضمن إطار الكتابة الجديدة عامة
دون تمجيدها وترسيمها بشروط بالغة التقنين والحصر، ذلك أن قصيدة النثر، في زمنيتها ولا زمنيتها، في إيجازها وطولها، تتسع تعبيريا للاشتغال بطاقات أخرى كامنة في اللغة والتراث مثلا.
وكان أنسي الحاج قد انزاح في لفته الشعرية عن تجربة (لن ) و(الرأس المقطوع ) في ديوانه (ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟ فضلا ئ أن الديوانين الأولين، لا يخلوان من بذور الغنائية التي رسخها ديوانه (ماذا صنعت بالذهب...).
كما أن أنسي الحاج سيكتب نصا طويلا بعنوان (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع لم يستثمر فيه مادة تراثية مسيحية لغة وإحالات، غارفا من الجماليات الرومانسية والغنائية، فاتحا للذاتي الحميم مجالا أوسع للتعبير.
وقد أشارت خالدة سعيد إلى هذا الخرق الذي مارسه أنسي الحاج على ذخيرته الشعرية الشخصية. ولتصل الباحثة إلى هذه النتيجة، قامت برفد تجربة (لن ) و(الرأس المقطوع ) و(ماضي الأيام الأتية ) بمعطيات استمدتها من التحليل النفسي، حيث لاحظت أن الديوانين يفصحان عن صراع بين غريزتي الموت والحياة، من حيث لجوء أنسي الحاج إلى الجنسي والأيروسي بواسطة تعبير اندفاعي استنباطي مقاوم للصمت والسكون.
أما في ديوان (ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟) فلاحظت أن تخلي أنسي الحاج عن لغة دواوينه السابقه، مثل نوعا من (الاغتراب ) لدرجة أن شعرية الديران أصبحت غير مقنعة في رأيها، لذلك حصرتها في كونها مجرد (لحظة استراحة تنتقم من صمت السنين ). أما اللغة التمثيلية النمو نجية عند أنسي الحاج من وجهة نظر الباحثه، فهي لغة دواوينه الأولى، وفي ذلك تقول مستحضرة مثال الديوان الرابع: (أول ما يلفت قارئ أنسي الحاج في هذه المجموعة، غنائيتها ونزعة الإفصاح فيها. بها يخاطب الشاعر المرأة في مكاشفة واثقة وإن كانت عنيفة تقل فيها البارات المخنوقة باللوعة وتغلب عليها الطلاقة، بل العذوبة، هنا يبرز سؤال: هل يضيع ذلك الشعر؟ الجواب طي ذك نسبي ولا أريد أن أخضع شعر أنسي الحاج لمقياس غير المقياس الذي رسخه شعره فيما سبق من مجموعاته، وانطلاقا من هذا المقياس، أقول إنه يضيع شعر أنسي الحاج خاصة، كما انه يبدو اغترابا من مداره، إن شاعرية أنسي الحاج قائمة أصلا على درجة من التوتر معينة، وعلى موقف أساسي من عملية الكلام وبالتالي من عملية الشعر، إنه من الذين قرنوا الشعر بالجنون واللعنة ).(35)
لم تنصت خالدة سعيد لتجربة أنسي الحاج في متغيرها، لقد وقعت في أسر أفق انتظار أقامه أنسي الحاج في (المقدمة لم وتمثله جزئيا في دواوين لاحقة بها، كما أن تأثير مجلة (شعر لم يبدو واضحا في توجيه التلقي النقدي لخالدة سعيد وهي تواجه تجربة ديوان لم يتعمد الجهر بتمرده اللغوي،
لذلك تولد ممن المقارنة بين اللاحق والسابق سبب سلبي تمثل في حجب (درجة من التوتر معينة ) و(موقف أساسي من عملية الكلام ) ليسر في الدواوين - المقياس، بل هذا الديوان أيضا.
لكن خالدة سعيد لم تكن في الواقع مقتنعة بأن شعر أنسي الحاج قدم إضافة حقيقية مستجيبة لمفهومها للشعر ولشروطه، ذلك أنها لا ترى حتى في الدواوين الثلاثة الأولى التي عدتها مقياسا، تجربة مكتملة، إنها في رأيها (بداية، مشروع، مد قاطع، يحرم القارئ نشوة المضي في الشوط حتى النهاية ).(36) وقبل عشر سنوات من تاريخ هذا الحكم، كان لخالدة سعيد حكم مماثل، حيث كتبت وقتها لأدونيس تقول: (سيكون لأنسي شأن يا أدونيس إنه صوت غريب )(37) وكان حكمها هذا دليلا على أنها رأت في (لن ) مجرد بداية مبشرة وواعدة بما سيأتي.
لم يكن أدونيس نفسه بعيدا عن هذه الدائرة التقويمية، ففي رسالته التي كتبها لأنسي الحاج سنة 1961 فقرتان لا تخلوان من دلالة، يقول في الأولى: (في مجموعتك صراخ يفتح باب الرعب، (يسرطن العافية ). صحيح أن الصراخ قلما يكون وسيلة للشعر، لكنه هذه اللحظة من تاريخنا، قدر نفسي يحكمنا، ومن يوقظ النيام المخدرين قد لا يكفيه الصراخ وحده ). أما
في الفقرة الثانية فيقول: (معك يصير شعرنا حركة طلقة، فعلا حرا، تناقضا مدهشا، أعني يقترب شعرنا معك، أن يكون شعرا). (38)
ويستفاد من الفقرتين، أن أدونيس وإن قبل بالمنطلقات التحررية والهجومية لانسي الحاج، وشجعه عليها، فان تقييمه لأدائه الشعره، لم ير فيه سوى أثر لحظي عابر، أي انه حصر أهميته في الاثارة والتنبيه، بواسطة الصراخ بالتحديد. فمقدمته وشعره صراخ، بما في الصراخ من انفعال وتمرد ومواجهة، لكن ذلك ليس كافيا في رأي أدونيس، لا لايقاظ النيام، ولا لجعل الشعر شعرا.
لكن ما قدمه أنسي الحاج لم يكن صراخا بهذا الفهم الأدونيسي، لقد كان تفكيرا بصوت مرتفع، تفكيرا عكسه الموقف المقدماتي المعزز بتمرده وحججه، وتفكيرا بالشعر المعزز بالتجريب وهوس المختلف والمغاير الشعري. ولا أدل على ذلك من تنوع الإضافات الشعرية التي قدمها أنسي الحاج في مجمل أعماله الشعرية، وإذا كان أنسي الحاج لم يحظ في الدراسات النقدية بمكانة مماثلة لتلك التي حظي بها أدونيس، فلسبب رئيسي، هو أن الدراسات النقدية العربية لم تجد طريقا بعد، ليس لقصيدة أنسي الحاج فحسب، بل لقصيدة النثر عامة.
الهوامش:
(1) أنسي الحاج ديوان (لن )- المقدمة.ط3. دار الجديد. بيروت 1994ص 13.
(2) المرجع السابق ص (13- 14).
(3) المرجع نفسه ص 18.
(4) نفسه ص 12.
(5) نفسه ص ( 9- 11).
(6) نفسه ص 22.
(7) نفسه ص 21.
(8) نفسه ص 10.
(9) نفسه ص 22.
(10) نفسه ص 15.
(11) نفسه ص11ويقول الحاج أيضا: (القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة، ومثلها جميع المواضعات المتعلقة بالانسان، الشاعر ذو موقف من العالم، والشاعر، في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد) ص 21.
(12) مقدمة (لن ) ص 12.
(13) المرجع السابق ص 10.
( 14) المرجع نفسه ص 17، ولآجل المقارنة بسوزان برنار، ينظر كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، دار المأمون بغداد، أو الطبعة الثانية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر 1997.
(15) مقدمة (لن ) ص 12.
(16) المرجع السابق ص 20.
(17) المرجع نفسه ص 20.
(18) نفسه ص 20.
(19) نفسه ص 21.
(20) يحصر سامي مهدي في كتابه (أفق الحداثة وحداثة النمط ) المواضع التي استقى منها أنسي الحاج مرجعيته لقصيدة النثر في صفحات معدودة من كتاب سوزان بر نار، فيحددها في صفحتي ( 14و15) من المقدمة. وصفحتي (763و765) من الاستنتاجات، ويمكن أن نضيف صفحات أخرى من فصلها الخاص بجمالية قصيدة النثر الذي حللت فيه بصفة خاصة قطبية الفوضى والتنظيم، ومفهوم مصطلح قصيدة وعلاقة قصيدة النثر بالنثر.
(21) مقدمة (لن ) ص 18.
(22) المرجع السابق ص 21.
(23) المرجع نفسه ص 21.
(24) نفسه ص 16.
(25) نفسه ص 20.
(26) أنسي الحاج (حوار معه )جريدة القدس العربي اللندنية - 29 مارس 1995.
(27) خالدة سعيد: الهوية المتحركة، مجلة مواقف، العدد 17/18)- 1971ص 131.
(28) سامي سويدان: بحث في لغة شعرية (لن ): مجلة الفكر العربي المعاصر لبنان العدد 25/1983،ص131.
(29) خالدة سعيد، مرجح مذكور ص 132.
(30) سامي سويدان، مرجح مذكور ص 134.
(31) المرجح السابق ص 136.
(32) ديوان (لن) ص55.
(33) جريدة القدس العربي اللندنية - عدد مذكور.
(34) المرجع السابق.
(35) مجلة مواقف عدد مذكور ص 133.
(36) المرجع السابق ص 132.
(37) ضمن كتاب أدونيس زمن الشعر ط. دار العودة، بيروت 1983، ص 225.
(38) أدونيس: زمن الشعر ص (226، 221)
مجلة (نزوى)