الذين عبروا ضفاف اللغة إلى اللغة الأعمق /الشعر ،الذين كتبوا وغردوا وقرأوا وسيم الأدب الجزائري مالك حداد ،كتبوه وغردوه وقرأوه بحبّ شاهق،هم وحدهم من يؤثثون ذكراه بالأناشيد و بالتحنان و بالأغاني ،هم وحدهم من ينثرون باقات الورد والود احتفاء به وبذكراه النبيلة وبأدبه الرفيع العالي البهاء.
هنا ورود محبة ممتدة في سماء النور احتفاء وتكريما للوسيم مالك حداد الكبير في الحبّ /الكبير في الوجع، الحزين في اللغة / الغريب في اللغة .
في ذكرى رحيل مالك حداد تفتح النصر نافذة زرقاء على هذا الكاتب الذي عبرها ذات يوم، وقد فضلنا هذا العام أن نرى كيف تنظر أجيال جديدة من الكتاب العرب إلى هذا الشاعر والروائي الجزائري، واللافت هنا أن الكثير من المستجوبين استعادوا مقولة المنفى القديمة للتدليل ربما على منافيهم الجديدة في لغتهم الأم وفي أوطان تعدهم للحقائب وللرحيل . لا تكفي اللغة الأم كي يكون الكاتب مطمئنا لا تكفي الأوطان لا تكفي السماوات الزرقاء ولا تكفي المدن والأمهات، للكتابة وطنها الخاص وسماواتها ومنافيها الدائمة /الكتابة منفى أو لا تكون.
هنا التفاتة خالصة من جريدة النصر تجاه ابنها الكبير وكاتبها الأكبر.
*****
** سهيلة بورزق / شاعرة جزائرية مقيمة في واشنطن
( رسالة خاصة إلى " مالك حداد " الدهشة الأدبية الخالدة )
هناك حيث لا تزال الشوارع المشرعة على البوح تسأل ، كيف يمكن للغة أن تتنامى بعد غيابك الصعب ؟ كيف يمكن لحضورك المعطّر بنقاوة تاريخك أن يختال فينا من دون استعباد فلطالما عشقت الحرية في اللغة والمجاز الفكري العابر لروح الصدق ، هل كان علينا أن نحتمي بمفردات سلطتك قبل أن ننتحر في جواب الجمل ؟ كنت قلقا حد الصمت وثائرا حد الألم ، وكنا نعبرك بتفاصيلنا فيك فأنت الكلّ كنتَ والكلّ كان فيك يقينا مضمخا بالحكايا والانتظار.
هناك في المدينة نفسها، في الشوارع نفسها ، وفي الأمكنة الفقيرة ربّما التي مدتك بعنوانها ليتحوّل رقمها فيك منفى ، هي الأمكنة كذلك تترك وشمها في الروح ولا تخون كباقي المطارات التي خانتك ولم تغرس لك فسيلة للذكرى.
" مالك حداد " أنت، وفي ذكرى وفاتك الثاني من شهر جوان 1978
سقط ميلادك الخامس من شهر جويلية 1927 في سجل الوفايات وانسحبت من الحياة في صمتك البوذي الرهيب.
الفرنسية منفاك من أول العمر وهي اختارتك لتركن فيك ولتعجز لغتك الأم على ضمك إلى صفحاتها الخضراء ، كنت يتيم اللغة وهذا ما بعثر فيك الجمل وتحولت من كاتب بغير لغتك إلى كاتب صمت ، عاقبت جوعك الأدبي بالصمت ونسيت أنك أرقى من دوافع الذات والكبرياء.
كنت جزائري الهوية واللغة الفرنسية منفاك أو كما قلت في روايتك " رصيف الأزهار لا يجيب ": "...لم يسمح لهم بتعلم لغة بلادهم..."، هذا هو أنت كومة مشاعر متدفقة الوطنية إلى درجة أنّ الجهلاء زجوا بك في غياهب النسيان بمجرد إعلانك جزائريتك وعروبتك وأنّ الإستعمار كان أقوى في تمكنه من نفيك في لغته وأرضه .أذكر أنّك كتبت الكثير عن وهج الحياة ،و لم تكن عاديا في تنكرك داخل شخصيات رواياتك أو عناوين قصائدك ، كنت مختلفا تزحف بنا إلى عالم كلّه كمال ، لقد بات علينا أن نسكنك في عناوين كتبك ،وننمو فيك فكرة أقوى من حصار الذاكرة تقول الذي عجزت أنت عن التعبير به وعنه وله وفيه وقبله وبعده ،هي الحكاية التي لا تتقن غير البوح في وضح غيابك المضيء بالعميق من حضورك فينا.
هي قسنطينة البدء،المدينة التي لا يحلو لها النوم إلا في حضنك وهي توشوش لك قصائد الحبّ والغناء ، هي العاشقة الأولى لميلادك ولأول صرخة جزائرية لك ، هل تظنها كانت بالعربي أم بالفرنسي ؟ أنا واثقة أنّها كانت بالعربي لكنّهم أجبروها على الإنتحار كي يولد فيها الحبر الفرنسي الذي أدمى سنوات عمرك كتابة ثم أسقطك بعد أن تذكرت الملامح الأولى فيك ، بعد أن استيقظت الصرخة الأولى من جديد فيك ، وبعد أن اكتشفت أن الزّمن خانك في غير موضع ومن دون حق رد.
كتبت " الانطباع الأخير " 1958 رواية في حجم عنفوانك ، ثم كتبت " سأهبك غزالة "1959 رواية ثانية غارقة في جمالك ،ثم جاءت رواية "التلميذ والدرس" 1960 و بعدها روايتك الأخيرة " رصيف الأزهار لا يجيب " 1961التي حكت عنك برمزية الكاتب الذي لا يطلق العنان لمباشرية الحكي فكانت صورة عنك وعن أيام حياتك ورفضك للكثير من القيم التي تعادي طينتك وفلسفتك في الحياة.
لم تكن منتهي الصلاحية كما خيّل للأعداء ، كنت صلبا وبطلا وأنت تدوّي التاريخ بميلادك الجديد" لقد ولدت في الثامن من ماي 1945أيحتاج هذا التاريخ إلى تعريف".
لم يكن التاريخ بحاجة إلى بطاقة هوية ، ولم تكن أنت يا " مالك " بحاجة إلى أن ينصرك أحد ، كان الوطن جنة في روحك و الإستدمار غصة في روحك أيضا ، لكنّك بقيت تحاول النّصر إلى أن إحترق حبرك الفرنسي وتوقف تماما كما أصبت أنت بجلطة صمت أبدية لم تقل بعدها كلمة واحدة نكاية في العمر.
أنت الكاتب الجزائري الأروع رغم فرنسيتك ، وأنت الإنسان الشاعر العميق في جماله ومكانته رغم خيانة الأبجدية لك.
في ديوانك الشعري " أنصتي وأنا أناديك " قلت :" إنّني مرآتك/ما أجمل السفاح/ أما قبحي فهو القبح الدقيق المضبوط/ قبح الحقيقة التي يوجع القول بها(إلى اللص) / صرخة تتردد كلّما غرق الشاعر في قلب الهامة وفي قلب الكلمات/أنا ...أنا فالكلمات التي أكتبها حسابات وأرقام/ لقد قتل ذلك العدد من الجزائريين".
وفي مقطع ثاني قلت :" أنصتي وأنا أناديك / تذكري عندما كنت أجرّ جثتي في المنفى/عندما كانت عيناي تريانك دون أن تلتقيا بعينيك/ وإذا كنت أفتح صحيفتي قبل أن/ أفتض خطاباتي إذ لم أعد أقدر مدى رقة الورود/ إذ كنت أتغنى من بعيد بالأغنية التي يسمعونها/إذ لم يكن قلبي هناك حينما يتغنى قلبك بي/أنصتي وأنا أناديك / وتذكري أنني قد لقيت معهم موتي/ " .
أتسمعها يا " مالك " ألم يسبق لي أن قلت لك أنّك رحمة في وجودك ، فكيف يقولون عنك مت وأنت تنبض بالصباحات الندية التي تفوح شمسها بحرارة الحب ، أنا لا أتقن كتابتك إلا هكذا لأنّني لم أتعلم منك غير الورد والشعر والجمال.
قسنطينة مدينتك وهي مدينتي أيضا وغدا لنا فيها لقاء فنم لا تجزع ، هناك الكثير من الحكي في انتظارك وانتظاري كحقيقة طائشة ترسم بالونات الفرح على سعة غيابك وترسم باقة شوق لك وللوطن.
** عبد الكريم العامري/ شاعر وكاتب وإعلامي عراقي
( سأهبك غزالة / متوالية المماحي )
العالم العربي، عالم ولود، لم يخل من المبدعين في أي زمن كان.. وقراءة بسيطة للواقع الثقافي والأدبي العربي يحيلنا إلى عدد كبير من الأسماء التي تركت بصماتها واضحة في المشهد الثقافي وفي مختلف البلدان العربية، من مشرقها إلى مغربها.. حتى امتد تأثيرهم في الأدب الإنساني بصورة عامة..و اللغة هي الحاضنة للمنجز الإبداعي للكاتب، والعربية هي من اللغات التي فيها من البلاغة ما لم تجدها في لغة أخرى.. ولكن هناك من قدم منجزه بلغات أخرى.. ويأتي مالك حداد في مقدمة الأسماء التي اتخذت اللغة الفرنسية محطة للتعبير .. هذا المبدع الكبير أنتقي منه جملة قرأتها ذات يوم وهي تعبير عما يعانيه الأديب العربي من الهجرة والمنفى، ليس بمفهومه المكاني إنما بمفهومه المجازي.. فهو يقول: (اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط... وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية ...إن الفرنسية لمنفاي ..!).. فما بين الحاجز والعجز تقف مسافات من التوق للتعبير عما يشعر به بلغته الأم ليضطر بعد ذلك للجوء إلى اللغة المكتسبة الأخرى والتي وصفها بالمنفى..
مشكلة اللغة ليست بالسهلة خاصة وأن الكاتب ينظر للأشياء بعين بيئته لا بعين دخيلة أخرى..وعليه لا يمكن أن ينظر للأشياء إلا بعينه التي شكل من خلالها عالمه وحشّد حواسه..وهو يقولها بصراحة تامة (أنا عاجز عن أن أعبر بالعربية..)والعجز هذا ليس عجزاً مادياً وحسب إنما تأتيرات الهجرة وانقطاعه المادي عن أرضه وعالمه شكل سبباً للعجز الذي يصرّح به حداد..لكنه بالمقابل عرّف العالم من خلال اللغة المكتسبة (الفرنسية) بما تختزنه الذاكرة العربية من أحلام وهواجس وآمال..
قرأت لمالك حداد بعض الكتابات هنا وهناك وهي أغلبها نتاجات مترجمة عن الفرنسية ترجمها مترجمون عرب، ورغم أن حصار السنوات الماضية على العراق قد شكل حاجزاً كبيراً لإتصالنا بأدب المغرب العربي إلا أننا كنا نتتبع نتاج حداد المترجم ولو بشكل متذبذب.. وفي روايته"سأهبك غزالة"(1959) والتي ترجمها التونسي صالح القرمادي عام 1966 نتعرف على بعض خطوط حداد الفلسفية في النظر للزمكان، فهو يؤنسن الأشياء من خلال خلقه لشخصية الكاتب/المؤلف: (وما الفرق بين الشباك والعينين يا ترى؟ أجل إن الفرق موجود على كل حال. فالمرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج ويفتح عينيه لينظر إلى الباطن. وما النظر إلا تسلقك الجدار الفاصل بينك وبين الحرية. ولذلك نجد في الدنيا النظر القصير كما وجدنا فيها السلم القصير.) إنها متوالية الداخل والخارج ضمن الفضاء الذي يخلق حالة توازن بين المكانين (الخارج/ الباطن) وبين الشيئين (الشباك/ العين) ومن ثم استنطاق نتيجة المعادلة في النظر القصير/ السلم القصير.. وهي أيضاً تشير إلى الرغبة في الهروب من المكان الواحد حيث الأفق المفتوح ذاتاً كان أو فضاءاً!
كل شيء إلى زوال، هذا ما يريد أن يقوله لنا حداد عبر مؤلفه.. فالممحاة والسلال هي أدوات وأمكنة للنفي، وهي إشارات للفناء: (وضع المؤلف مخطوطه على طاولة عليها ممحاة فحاذى المخطوط الممحاة وكان بجانب الطاولة سلة للمهملات. إن الموجود باق. فالمماحي وسلال المهملات تترقب في خبث إتلاف المؤلف عمله بنفسه.).. هو يرسم صوره بيد ماهرة.. (مخطوط /ممحاة /طاولة /سلة مهملات) المخطوط مهدد بالفناء إن لم يكن بالممحاة فبسلة المهملات وكلتاهما أداتان للفناء..لكن الممحاة أقل خطراً على المخطوط ذلك لأنها قد تغير شيئاً ولا تتلفه بشكل تام بينما سلة المهملات لا يمكن إلا أن تكون أداة موت تام! هكذا ينظر حداد لمسألة الخلق والفناء.. و(إن اعتزاز المنتحرين كامن في احترامهم المماحي وسلال المهملات في سذاجة أكثر مما هو كامن في حاجتهم إلى إثبات أنفسهم بإعدامهم.).
في رواية (سأهبك غزالة) يضعنا الكاتب مالك حداد أمام معضلتنا اليومية في ممارسة ذات الشيء بتكرار ممل، فالأيام هي واحدة، تشبه تلك السلالم التي لن تؤدي..و كل يوم يحيلك لآخر، كل ذلك يشير إليه من خلال شخصية المؤلف في الرواية (نظر المؤلف إلى يومية قديمة عليها تاريخ السنة الماضية. فخطر بباله أن في السنة عددا كبيرا من الأيام. فياله من سلم! ثم هو يتكرر وسيتكرر من جديد. لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية. فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط.).يبقى
الكاتب الجزائري مالك حداد وفياً لجزائريته وعروبته وهو الذي يتساءل: "خبّروني عن الصحراء التي لها الأغاني نسجت/ حبّروني عن الغزالة التي إغتالها الإنسان؟/ خبّروني عن الزهرة التي من دون بستان..؟/ خبّروني عن وجل الأسود في المنفى؟/ خبّروني قبل كل هذا : كيف حال الجزائر ؟".
** عبد الستار نور علي / شاعر وكاتب عراقي مقيم في السويد
(مالك حداد والإبداع من أجل الأرض)
" أخبروني عن الغزالة التي اغتالها الإنسان !/أخبروني عن الزهرة التي من دون بستان !/أخبروني عن وجل الأسود في المنفى !/أخبروني قبل كل هذا:كيف حال
الجزائر ؟" (مالك حداد ).
هكذا أطل وعينا ونحن في بواكير الانفتاح على حقل الإبداع الجزائري في مبتدأ تشكل الوعي الثقافي والأدبي والسياسي لدينا في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن المنصرم ، ومن خلال الحشد النفسي الثوري الوطني التي كانت الثورة الجزائرية تعبئنا بها وبكل معاني البطولة والتضحية والإستشهاد والمقاومة الشرسة في مواجهة الاحتلال والاستعمار وكل آلات الاضطهاد والتدمير والاستيطان وفنون القتل والتعذيب.
هكذا تردد فينا صدى العلاقة الوشيجة المتأصلة بين الأرض والإنسان. و إنغراز عشق الأرض في عمق روح المبدع ليحلق عالياً نصوصاً بحجم تلك العلاقة.
مالك حداد أحد الأسماء التي استقرت في ذاكرة التلقي وحاضنة الوعي منذ تلك الأيام البعيدة، حين ساقتنا الثورة الجزائرية بكل عنفوانها النضالي وصداها المؤثر في الذات وهي تقارع كل أشكال الظلم الإنساني والاضطهاد الكوني واحتلال الغير لمسح تاريخه وسرقة خيراته وتشكيله وفق الأجندة الثقافية الحضارية للمحتل والمستعمر لطمس الهوية وتحويل أصحاب الأرض مسوخاً مشوهة ونسخاً كارتونية.
ساقتنا تلك الثورة التاريخية إلى متابعة ليس فقط أخبار وانجازات المناضلين المقاتلين وغير المقاتلين على أرض المعركة، وإنما أثارت فضولنا لنقتفي أثرها في إبداع المبدعين وبالخصوص الإبداع الأدبي. و لكن المستعمر الثقافي جهد على جعل لغته هي الأداة اليومية في التعبير شفاهاً وكتابةً إضافة إلى العمل على قطع الصلة بين إنسان الأرض الجزائري وتاريخ أمته. ولأهمية اللغة التي هي التعبير الأول في تاريخ الصلة والعلاقة بين الإنسان والأمة ركزوا على سلخ هذا الإنسان عن لغته ، وهذا ما سمي في المصطلح السياسي بالاستعمار الثقافي الذي هو الاستعمار الأخطر.
لذا وبالضرورة المتصلة فإن الإبداع وخاصة بجانبه الكتابي باللغة الأم يتراجع ليضعف ويتضاءل حين ذاك، فيتجه المبدعون إلى لغة المستعمر في التعبير والإبداع ، وذلك بالاضطرار وبالحكم والظروف التاريخية لهيمنة الاستعمار وبجانبه الثقافي الذي تعبيره هو جعل لغة المستعمر هي السائدة وهي الرسمية في التعليم والدوائر والمؤسسات وحتى في التعامل اليومي للناس.
وعليه فإننا التقينا بالمبدعين الجزائريين من خلال اللغة الفرنسية،وقد كان حظنا كبيراً أن هذا الإبداع والخلق وصل إلينا مترجماً في زمنه إلى العربية فالتهمناه كي ندخل في العالم الروحي لهذه الثورة ولهذا الشعب: " مات صديقي على نغم القيثار
وغناء القمح/ يا لها من ميتة/ كان في ريعانه كان جزائرياً/لقد كتب لي تاريخي.
/ كان أحسن حديثاُ من نشيد القمح./ أريد أن أقول له شكراً/فأنا موسيقى لأنه يبدع الموسيقى،/أظل يقظاناً أمام الحلم الذي نبنيه ، وأقول شكراً ".
هكذا استطعنا أن ندخل في مسارب روح المبدع الجزائري، تلك الروح التي تنشد للصلة بين الإنسان والأرض. هو المبدع الذي أمسك بأيدينا ليحملنا على سفينة ألق الكلمات المتفجرة من داخل الذات المحترقة ومن شواطئ خارطة الوطن ليفتح لنا نافذة النفس على فضاء تلك العلاقة بين الإنسان وترابه .
لم تكن غربة المكان واللغة هي مسافةَ الابتعاد بين مالك حداد أو غيره من فرسان الكلمة والإبداع السامي الجزائري وبين ما يجري في وطنهم. بل العكس فهي معمق الصلة ووعاء الصرخة لإيصال صوت الثورة والمناضلين وصرخة الوطن المستباح إلى كل أصقاع الدنيا ومن عقر دار المحتل وبأداته اللغوية وأساليبه التعبيرية ، وبإبداع إرتقى قمة الفن التعبيري .
مالك حداد هو الصوت الذي صاغ وصور ذلك الخيط المشدود والمتين بين الاغتراب المكاني والارتباط الروحي بالوطن وبإنسان الوطن الذي ولد فيه وعايش نبضه وكل زوايا معاناة إنسانه ، واختبر وعانى وطأة ثقل المستعمر وجرائمه، لذا نراه يقول عن ولادته:"لقد وُلدت في الثامن من أيار سنة 1945 سنة الشقاء سنة المجزرة الرهيبة."
مع أن ولادته هي في عام 1927.إذن ما الذي دفعه إلى تأريخ ولادته بسنة 1945؟
لقد أخبرنا التاريخ بأنه في هذه السنة هُدمت قرى على رؤوس أهلها، وجز المظليون الفرنسيون رقابَ العزل من الناس،وغرز المستوطنون حرابهم الخبيثة في صدور الآمنين غيلةً وغدراً مليئاً بالحقد.
هذه المقولة تلخص بعمق مدى حب مالك حداد لوطنه وتعلقه به, لذا ليس من المستغرب أن يوقف إبداعه وفنه شعراً ورواية على تصوير ما يجري في وطنه والتعبير عن الثورة وعمق الصلة الروحية بين الوطن والذات الخلاقة ، حتى في وجودياته ووجدانياته يحملنا معه على رفرفة همومه مع الوطن والغربة:"أبتاه !!
حرمت فتاك موسيقى الجسد .. أنظره: يرطن باللسان الغريب/كلمات تعلمها
يوم كان راعياً/ يا الهي !!ما لهذا الليل،/لماذا يظلم هذا الليل كله في عيني؟."
اللغة الأم التي لم يتعلمها، اللسان الأجنبي الذي يفكر به وينطق ويكتب،كل هذا غربة أشد وقعاً على النفس من غربة المكان. ولذا أطلق صرخته المشهورة:"اللغة الفرنسية هي منفاي.".وكان يقصد أنها منفاه الروحي ، وهو أثقل وطأة وأشد ألماً على النفس والروح من وقع حسام المنفى المكاني .
لقد كانت الفرنسية سلاحه لإيصال قضية وطنه إلى العالم ، وللتعبير عنها وشد الناس إليها، والمشاركة في ثورتها المسلحة بالكلمة السيف والكلمة الضوء والكلمة العشق. لقد كان همه الأول أرضه المحتلة والمستباحة لذا تفرغ بكل فنه المتألق لقضية بلاده، أليس هو القائل:"نحن الكتاب الجزائريين الذين نكتب باللغة الفرنسية يجب أن ننتهي عندما تتحرر الجزائر لأن مهمتنا تنتهي آنئذ."؟.
و فعلاً فقد توقف عن الكتابة بعد التحرير وبعد عودته إلى الجزائر. لقد كانت الكتابة عنده سلاحاً في خدمة الجزائر وثورتها، وحين تنتصر الثورة فلا حاجة للكتابة وبلغة المنفى.
لقد كان مالك حداد يشعر بألم العجز عن الكتابة بلغته العربية والتفاهم مع عالمه بلغته الأم،لأنه كان يحب أن يوصل صوت الثورة ونضال شعبه بالمباشرة اللغوية دون الحاجة إلى جسر لغوي آخر غريب يحس معه بوقع الغربة الروحية وجراحها النازفة ، ثم جسر ثان من ترجمة تفقد بالتأكيد حرارة الأحاسيس والصور وأساليب الفن الراقي. و قد عبر عن ذلك الألم في دمشق في محاضرة له باللغة الفرنسية عن الثورة الجزائرية وهي في قمة اشتعالها:" تتجلى مأساتي الآن بشكل أعمق...أنا أقف أمامكم، لا أعرف كيف نتفاهم ! ".
لم تكن اللغة الأجنبية حائلاً يسد منافذ الإبداع الأدبي والموهبة المتألقة والتعبير عن كل ما في أعماق الراحل مالك حداد تجاه وطنه وثورة شعبه، بل استغل هذه القدرة العالية ووظفها لهذه الخدمة التي نجح في إيصالها إلى العالم وبالمقدمة عالم المحتل نفسه ، وعالمه العربي ، وإنسانه الجزائري ، ليرتقي من خلالها قمة الفن الأدبي الراقي وبحرفية مدهشة ، وموهبة نادرة مصقولة استغلت قدراتها وتجاربها الحياتية في الوطن والمغترب إنسانياً ليعلو صوت الإنسان الجزائري ، والإنسان المناضل في كل أنحاء العالم حين يخلق من وسطه مثل هذا المبدع الشامخ والإنسان الكبير ، الذي أظهر أن للفن دوره العظيم في نضال الشعوب وكفاح الإنسان وبناء الذات الروحية الملتصقة بالأرض وبعشق الناس وبحرفية فنية عالية لا تتنازل عن شروط الفن الناجح الراقي وتكنيكات النص المتألق الأصيل الممتزج بالتفاؤل الإنساني رغم كل الجراح والآلام والمعاناة .
لقد كان مالك حداد أديباً ملتزماً بالمعنى الفني والسياسي للالتزام مع المحافظة الصارمة على مقتضيات النص الفني العالي. وعليه فقد كان مالك حداد رمزاً للتفاؤل بالمستقبل المضيء مثل أي فنان حقيقي ملتزم:"لقد كلمتهم/تلمست أيديهم،/لهم أطفال،
بل لهم أخطاؤهم،/و لكنهم يعرفون كيف يبتسمون في الظلمات الحالكة."
كما أنه كان يحيا مع نبضات شعبه دائماً وفي العمق ، ونستخلص ذلك من خلال تعبيره عن مدى عمق حبه لأصدقاء طفولته الذين سرقته الغربة منهم لكنهم لم يغيبوا عن ضميره لحظة،إنهم يعيشون معه في كل حركة يقوم بها،في كل نبضة قلب،هم ذاته التي لا تستوي إلا بهم ، هم طعامه وشرابه وتنفسه ، هم كلماته ولسانه وروحه ، هو بكل بساطة الإنسان المتشبث بعشق الأرض وناس الأرض لأنه منهم وإليهم ، وكل ما تفجر من إبداع وفن من روحه كان منهم وإليهم ومن وحيهم ومن أحلامهم وآمالهم، فهم وطنه ومسكنه وملاذه:"لقد أصبحوا روحاً ، أصبحوا وطني./ألقاهم عندما أشتري صحيفة ،/هم أصدقائي، هم ليسوا كلمات فحسب/ولا أرقاماً ولا أسماءاً ،/هم آلاف الأيام وعشرة أعوام من ذاتي،/هم في اللقمة التي نأكلها معاً،/وسيجارة يدفعنا السأم لتدخينها،/يعرفون أبنائي ، منحتهم قصائدي،/كانت أمي تحبُ قلوبهم،/إنهم رفاق طفولتي،لطالما تكلمت معهم.".
هكذا كان مالك حداد ، وهكذا سيبقى روحاً متأصلة في الأرض ، وصوتاً خلد وطنه ، والتزاماً أدبياً راقياً بكل ما في كلمة الرقي الفني من معنى وشروط. إنه شاهد على أن الفنان المبدع هو من ارتبط بعشق الوطن والإنسان. وسيبقى أحد الأسماء الكبيرة في عالم الأدب ، وخير مثال على أن الإبداع بلغة غير اللغة الأم لا يعني الإنسلاخ عن الأرض الأم.
** فرات اسبر / شاعرة وكاتبة سورية
(الوطن كله في خطر يا مالك !!)
طلبت مني الصديقة العزيزة نوّارة لحرش ،المشاركة بملف الراحل مالك حداد، وقد أعادتني بذاكرتي إلى أيام مضت.كنت فيها أحلم بأن أكون كاتبة مشهورة، لها أحلام وأمنيات، كان عندي أكثر من ديوان وعشرات المقالات التي أكتبها ،عن كتب وروايات أقرأها وأحبها.وكانت المصادفة أنني قد حصلت على رواية" ذاكرة الجسد" لأحلام مستنغانمي الرواية الساحرة بسردها، و بشخصياتها ،وكان ما لفت نظري، الإهداء. إذ كان موجها إلى شخص أسمه "مالك حداد" وفي الحقيقة توقفت عند هذا الإسم كثيرا ، لغاية في نفسي و تساءلت يا ترى من يكون هذا الشخص المهدى له هذه الرواية بكل ما فيها من جمال وسحر للأدب؟،هل هو حبيبها ؟،هل هو صديق؟
يا ترى من هو؟.
بكل الأحوال أن تهدي كتابك إلى شخص ما، هذا يعني، أنه يعادل في القيمة أهمية كتابك، تجاهك، وتجاه ما تحمله، له ولهذا الكتاب، سواء أكان رواية أم ديوان شعر أو ما شابه من صنوف الإبداع.
في ذلك الوقت وعلى ما أذكر في عام 1993 سنة صدور الرواية.كانت أحدى المجلات السورية قد أقامت حفلة تكريم لأحلام مستغانمي، وفرحت كثيرا، بأنها فرصة لأنشر مقالتي وأفكاري عن ما تركته في نفسي روايتها " ذاكرة الجسد" ، ومضيت أبحث عن عنوان المجلة المذكورة . صعدت الدرجات بسرعة غزال وأنا أحدث نفسي، اليوم سيتعرف إلي ّ الناس، وسأغدو مشهورة، وستكون فرصة لي للنشر، إحتفاء بأحلام والملف الذي سينشر عنها في المجلة.
تجاوزت وعلى ما أعتقد الطابق الثالث ،وليس هناك ما يوحي بأي حركة ، بناء مقفر وصامت، برغم أناقته وطابعه الهندسي المميز، في منطقة مميزة. ولوهلة إرتعدت من خوفي ،وقلت لنفسي، يا لك من متهورة وطائشة ،إلى أين تصعدين؟ إذ ليس هناك ما يشير بالحياة، إلا الحرس في أول الطريق .
طرقت أحد الأبواب بدون تعيين ، وبعد فترة وجيزة فتح الباب من قبل شاب . سلمت عليه و سألته ،هل يمكن أن ألتقي بالسيدة رئيسة التحرير؟ سألني من أنا؟أجبته ببساطة ،ولكن كان قلبي يخفق لسببن أولاهما صعود الدرج، وثانيا الرهبة والخوف.إذ أن الصمت مهيمن على كل البناء الذي دخلته وليس هناك ما يوحي بأي حركة صحافية أو ثقافية. أعتذر الشاب بلطافة وقال السيدة في إجتماع ولا يمكن أن تلتقيها، عندها وبكل ثقة سحبت المقال من حقيبتي وأعطيته أياه وطلبت منه برجاء حار أن يوصله للسيدة المسؤولة.ومازلت أذكر إلى اليوم كيف نزلت الدرجات كما صعدتها بخفة غزال يحلم بأنه يطير في غابة.وإلى الآن لم ينشر مقالي.تهدي أحلام روايتها "ذاكرة الجسد": "إلى مالك حداد.. إبن قسنطينة " الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألا يكتب بلغة ليست لغته.. فاغتالته الصفحة البيضاء..و مات متأثرا بسرطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية، وأول كاتب قرر أن يموت صمتا وقهرا وعشقا لها": وتقول أيضا في هذا الإهداء: "وإلى أبي.. عساه يجد هناك من يتقن العربية" .قرأت الرواية، قراءة محبة، إندمجت بشخصياتها كما لو أنني بطلتها.كان علي أن أجد في نشاطي ، وأن ألم بكل أطراف الرواية من الكاتبة إلى المهدى لهم إلى الاطلاع على الثورة الجزائرية ،وتخيلت نفسي في ندوة أدبية ومازال الحلم قائما، و أنا أتحدث عن هذه الرواية الجميلة بشاعريتها وشخصياتها ،والإهداء الذي هو جزء منها، لأنه يوحي بحياة الكاتب أو الكاتبة الشخصية ،وأن تتعرف على جانب من حياة الكاتب،هذا يعني أنك تعرفه، وهو قريبا منك ،بالرغم من الأميال التي تفصل،أخذت أسأل وأبحث، وإذا بي اكتشف مالك حداد من خلال مكتبة بيتنا ،بكتبه المترجمة إلى العربية،هذا الكاتب الذي أعتبر اللغة الفرنسية منفاه .إذا كتب بها وعاش بها ولكنه كان يحيا بلغة أخرى .عرفناه جزائريا فرنسيا ولم نكن نعرفه جزائريا عربيا، هذه الأمة التي لا تُعّرف، وتعترف بمبدعيها، إلا بعد موتهم وكأن الموت هو علامة الحضور، الحضور المغفور له في ثقافتنا العربية وواقعنا العربي.كان عليّ أن أشكر أحلام مرتين،الأولى لروايتها ذاكرة الجسد، والثانية لتعريفنا بكاتب جزائري،يكتب بالفرنسية وأكيد هناك الكثير من الكتاب يكتبون بغير لغتهم الأم، قد يأتي يوم ونتعرف إلى الكثيرين منهم .مالك حداد وأنت إذ كنت في منفاك الفرنسي ، تكتب بالفرنسية وتتحدث بها وقلبك على العروبة، العروبة التي تقصي العربي عن العربي، تقصي المبدعين ، تقتل الأزهار من على رصيفك الذي لا يجيب .أحلام مستنغانمي كانت وفية لك، بإهدائها، ذاكرة الجسد ، أهدتك شيئا من الجزائر، ولكنهم لم يرحموها رجموها بحجارة الثقافة العربية، إتهموها بالزنى الثقافي واتهموها...ولو كنت حيا لقالوا مالك حداد كتب لها الرواية بالعربية. كلنا هنا في هذا الوطن الكبير منفيون ، نحن العرب مثقفون، ولكن ثقافتنا مستعصية على الفهم، نكتب ونحب ونعشق الكتابة ولكن هناك سلاطين الرقابة على الأدباء ، أمراضنا منا وفينا ومستعصية على الحل. أهنئك بموتك الغريب،وبلغتك التي كتبت فيها، نحن الملايين نتكلم بلغة واحدة ولكن لا أحد منا يفهم الآخر، كلنا نعيش في أرض واحدة ووطن واحد من المحيط إلى الخليج ولكن أحلامنا متباعدة ومتنافرة .وأنا أقول لك من هنا من منفاي البعيد ، لقد تعلمت لغة جديدة ، أقرأ بها ولا أكتب بها، ولكني أفهم ما يدور في رأسي الصغير الذي يتخبط في هذا الوطن الكبير الذي لم يمنحني إلا البعد والإغتراب.سأقطف لك زهرة من رصيف الأزهار وسأهمسُ لك بصمت هذا الليل :" وطني هو منفاي ".ها أنت قد مت بحب لغتك العربية، وها أنا أموت بسرطان حبي، الوطن كله ، الوطن كله في خطر يا مالك !!.
** عبد الرزاق الربيعي/شاعر وإعلامي عراقي مقيم في مسقط
(مالك حداد يغادر منفاه الفرانكفوني)
"في كل الدروب التي تقود إلى النهار/أفتش أبدا عن اسمي بين شواهد القبور/
عجبا! كيف يفتح الماضي المظلم أبوابا لغد جميل؟/إني أحلم دائما بغد كالأساطير".مالك حداد
عندما إكتشف الشاعر مالك حداد أن الفرنسية منفاه عندما قال مخاطبا صديقه الشاعر الفرنسي أراغون: " إن الفرنسية هي منفاي الذي أعيش فيه ..بلى يا أراغون لو كنت أعرف الغناء لتكلمت العربية " ،كان الوقت قد فات للخروج من هذا المنفى القسري الإجباري الذي وجد نفسه متورطا فيه،لكن مشاعره وعواطفه كلها كانت مع اللغة العربية وهموم بلده الجزائر متغنيا بالحبّ هو المحب قبل كل شيء كما يقول في ديوانه،" الشقاء في خطر " الذي نقلته إلى العربية الدكتورة ملك أبيض وقام بمراجعة الترجمة الشاعر الكبير سليمان العيسى وكان هذا الديوان الصغير بحجمه والكبير بمحتواه بطاقة عرفتني بهذا الشاعر الكبير الذي ولد بمدينة قسنطينة سنة 1927 م وتوفي 1987 م،سافر إلى فرنسا ونال الإجازة في الحقوق ولما عاد أصدر مجلة " التقدم" وشارك في حرب التحرير الجزائرية وكان مليئا بالحب نافرا من كل الأحقاد مدركا أنّ : " ليس هناك حقيقة سوى الموسيقى والحب العظيم"وهي حقيقة يقرها في أكثر من مناسبة مع معرفته :" أن في الحبّ وساوس لا نهاية لها " فهو يعلن :" أنا محب قبل كل شيء ، نعم ..أنا أنضج الحقد ..ولكن حقدي عاقل كوجبة طعام ضرورية،ولتطمئن أيها الصديق فليس لدي شهية للطعام..شهيتي قليلة أيها السادة ،ستحاول أن تكون جديرا بالذرى،إني أدعوك أن تحاول أن تعلن ميلاد أغنيتك الخارق إنك لست ضد الفرنسيين..يجب أن لا تكون ضدهم..بل أنك لا تستطيع أن تكون ضدهم أتعلم لماذا؟ أسمع إذا رأيت هذا المساء كهلا يعمل في دكانه حتى ساعة متأخرة من الليل كان صديقي الحذاء المجهد يزدرد قطعة من الجبن وهو يفصل الجلد ،كانت له أصابعه ثقيلة واثقة ..قادرة على أن تشد بحرارة على يدك..قادرة على نسج إكليل من الزهور...لأول أيار ..قادرة كل القدرة على صفع رجل غليظ شرير..لا تنس هذا الكهل المجهد الذي كان يزدرد الجبن لقد همس في أذني : لن أصنع أحذية عسكرية أبدا لقد سيق إبنه على التو إلى الجزائر ليشارك في حرب لم يعلنها هو ".
ولكن هل لمالك حداد ذنب في هذا ؟ ففرنسا ليست عدوته..فرنسا أراغون و بول ايلوار ففرنسا هي هذا الكهل الذي كان يكدح في دكانه حتى ساعة متأخرة من الليل ،هذا الكهل يمكن أن يكون ابن عم "لدسنوس"أو لبول ايلوار ولا يوجد له معها تصفية حسابات بل يتساءل أتسمونني جزائريا؟ لا تقولوا ذلك..فشقيقتي لا تضرب على وجهها الخمار ألم أحصل في المدرسة على كل الجوائز في الفرنسية ،في الفرنسية،في الفرنسية،وباللغة الفرنسية ،ويتواصل نشيده معلنا: لم يكن لعسل ذنب في يوم من الأيام.إني لا أحب فلسفة النحل النفعية.إني مع الزهور..فالزهور جميعها لذاتي . أعرفها يا إلهي..أعرف أسماءها..من زعفران الحقول..إلى شوك الدواب الذي هو أشد سوءا من قلب رأسمالي.أراني أنفث الحقد..نعم إني لأنفث الحقد رغم أنني كتبت يوما أنّ الحقد يصدمني،ينفرني كالإبتذال وحين يتحدث عن الكتابة الشعرية يقر: أنت تكتب لأنك تحب..و إذا لم يكن لديك ما تحبه فاطرح قلمك". مدركا خطورة هذه المهنة الشاقة مهنة الكتابة التي تجعله يفقد الكثير ،الكثير من الأصدقاء و الأيام والمدن ولكن مقابل هذا يصنع الجمال،يقول مالك حداد:"خطرة هذه المهنة،مهنة الشاعر..يفقد فيها الريش ولكنه يصنع الأغاني،ذاك ما قاله لي بلبلٌ أعذبُ غناءٍ مني هذا البلبل ما إن يتكلم عن الحرية حتى يحمل جناحي عقاب..حتى يصبح عربة منقذة..حتى يصبح ريا للأرض.. للأرض العطشى..هذا البلبل يسمى قمحا.. قمحا.. قمحا. لا تكن القبرة،سارقة حبات القمح ..هذه القبرة التي تفيد من أزمة سكن لتزرع أغانيها في أخاديد لم تحفرها هي .إنك تقرأ الخطوط في كف العلم ،أنت تشخر كقاطرة ،وأنت حيي حياء حب أول ستضرب الأرض بأقدام جندي وليسألوك عما تفعل،إنك ستجيبهم: ذلك من شأني وحدي.بعثر سوءك في كل مكان ..مزقه قطعا صغيرة إنها الطريقة المثلى لكي تجد طريقك من جديد ثم دعهم يتكلمون .. ولكن ماذا تراك صانعا بدوار الحب؟ماذا تصنع بأزهار أيار؟
أتراها قطعا من قوس قزح ترسمها أناشيد الحب في سن العشرين ؟ دعهم يهذرون..أقفل شدقك الكبير ..وتكلم صادقا ..سواء . ولكن من يصغي لصوت الشاعر وقدر تضحياته في عالم أغلق أذنيه عن سماع أصوات العصافير و أذنيه عن رؤية الجمال؟ وبكل عزيمة يقول مالك حداد: سمعوك أم لم يسمعوا..تمثالك سيصنعه لك الآخرون . تذكر " مايكوفسكي"إذ يقول: " أنا لا أكترث كثيرا بكنتال من البرونز ".أواه ما ألذ المجد تصنعه الأغاني التي لا يعرف قائلها..إني سأخلع عليك إسما جديدا..سأسميك فن الشعب روحه المجسدة..فأنت أكبر من بلدك، أنت قارة..أتسمعني جيدا ؟ أنت الإنسان أربط قدميك بتراب الجزائر..إلتصق به..إنتعله فقدماك قدما الجندي ،قدما الشاعر الجوال قد وجدتا أخيرا قالبهما.سر..يجب أن تسير..أن تسير، السير هو طريقك في الإنتظار..في ارتقاب الأحداث، دع غيرك ينتظر قبر..وهو جامد كالموت.
وهكذا ربط مالك حداد قدميه بتراب اللغة العربية وبتراب الجزائر فظل اسمه مشعا كواحد من أبرز الشعراء الجزائريين الذين ظلوا ملتصقين بوطنهم وبلغتهم العربية التي مثلت له وطنا بعد أن كانت الفرنسية منفاه .
** محمد العيد بهلولي /كاتب وروائي جزائري
(موتك الكبير إحداث الدهشة في السكون)
لنحيا مع مالك قبل الموت/ هذه الرسالة إليك يا مالك ميتا حيا بدواخلنا، إلى القراء الموتى و إلى المستمعين الذاهبين خلف دربك المرصع بالشموس والأقمار الجنوبية يتشبثون بليل الكتابة العربية و الفرنسيّة منهم كتّابا كبارا لكنهم غير معروفين و لا مقروئين،منهم مواهب ناشئة، تتيمم "رصيف الأزهار لا يجيب" و"سأهبك غزالة" أشرفهم حظّا من خلّدك ناطقا على لسانك بالحرف العربي الهادي إلى الرُّشد..
قبلة ود وضمّة ورد للروائية الجزائرية الفالحة في التموضع الإبداعي أحلام مستغانمي موجة عالية من أشعارك حملتنا عاليّا بأعالي البحار و أنت تجوس أرض المنفى عبر نافدة تطل منها على باريس القاتمة الرّطبة.
مناخ الألم الخميسني/ الإغتراب ،هروب الصحراء / ضيق الآفاق ...
تصفّحك لكتاب الغربة / رحيلك في اللّغة و في الوجع/ انتصارك على الجرح الكلونيالي/حريتك الإبداعيّة..روحُ الإنسانية /هدوءك الإبداعي، قدرتك في سردية الشعر/تفاصيل نصك..نبض قصائدك ،أمكنتك المستعارة..البناء في الفراغ...جرأتك في اصطناع وطن بإتساع الكون.
موتك الكبير ،لم يكن موتا عاديّا ، كان عبارة عن " إحداث الدهشة في السكون "موت الشاعر نهار مختلف../ نحن في أجواء أقسى من تلك الأجواء البّرانيّة .. حيثُ الهجرة الداخلية،النفي الحكومي..قهر لصوص السياسية..غربة الكلمة..اللهاث خلف البيولوجي ، معاداة المعنى..وسوء السبيل المؤدي إلى القتل والنحر و التصفية في مثل هذه التراجيديات نقضي الصبيحة و الظهيرة و الأمسّية..والليلة الماكرة..يحدونا الشّوق للحاق بك..البعض منا يرغب في الدخول إلى دائرة العدم ، العدم الجسدي.. اللاوجود المادي،البعض يبحث عن الموت الحقيقي/المغادرة.لم يعد بوسعنا أن نحلم أو نناضل أو نكتب بدوامة الجهل و الأميّة و الإيمان التجاري.
إنعدم الحلم..على كواهل الغلبانين يتم صعود أسياد اللحظة..إغراءٌ للشهادة المفقودة و نكران الذات يتآمرون...يدفعون بالشاعر إلى المقصلة و بالمعارض إلى الزنزانة.
الرسالة إلى مالك حداد كاتبا و شهيدا و باقيا عالي الجبهة نتلو بياناته حين نستميله إلينا قراءة و كتابة و بحثا..حين نفعلُ نبعث الحياة في كلماته..نروى عطش القبر نحرك في الشكل روح الشكل نعيد اللون للشاعر و السارد و الحكاء .. نخفف من سرابيل اليأس نحييه و نحيا به. هل نفى الشعر مالكا خلف تخوم البلاد..؟
هل كان يبحث عن النبع؟.." الماء في سيلانه لا يعود إلى النبع " هل ضيعهُ الشعرُ و هو يسبح عكس التيار ؟ هل أعانه الشعر و ارتفع به عن الحقد و الكره و المذلة، هل كفكف الشعر ضياعاته و لملم جراحاته الكثيرة...واستقانا منه كرما و ضيافة ..؟ .
غاب الجسد و لم يغب الشاعر ،مالك حداد عبر في حياتنا رمحا من الضوء و الأسرار هاجر إلى غير عودة.. هل قتلته الهجرة أم قتله الحبّ الشمولي المختزن في كل حرف و فاصلة و نقطة، و "من الحبّ ما قتل ".
عوامل عديدة ساهمت في قتله قبل أن يموت بعيدا عن اللغة الأم / منفاه الآخر..من ساهم في قتله..يقوم بنفس الدور في زمن مختلف لقتل شقيق له في الأرض والمنفى و الكتابة . مالك الغائب الحاضر الكبير نفرح لذكراه..نلفظ اسمه و رسمه و شعره و ما تبقّى من بقاياه ننفخ سفير الحمرة في اكتناز الرماد هاهو مالك يجمعنا مثلما يجمعنا الوجع و القهر و عولمة القتل ،نقتسم الثقل والوجع ليخف الوطأ الثقيل و تنزاح عقود المهانة يورق الورد بقلب النزيف " تعود الطيور إلى الشبابيك العتيقة" كعود أوراقه..ذكرياته أصداؤه...حمائم بيضاء بعين الأفق.نلتقي به/نحتفي بنصه المؤسس للألم و التراجيديا ... النص الباني لخيمة المودة في قلب الإتساع جسر التواصل بين التائهين القدامى، كان مالك يتسلق وعر المسافات لم يكن الدرب يسيرا ولا كان الليل قصيرا كان يتشبث بالبقاء في كون الإبداع لدرجة الإيمان المطلق كان يتوغل ثائرا بوجه الغدر و القبح و الدسيسة .. شاعرا كبيرا وروائيا رائدا من رواد بحر الدم بحر الإبداع . لنقرأ مالك حداد قراءة غير أكاديمية عسانا نفلح في التعرف إلى الشاعر، لنحيا مع مالك قبل الموت ندرج معه لحوار الحرية الإبداعية ذات النغم الإنساني المقدس،صاحبة الشأن في كل الأمكنة و الأزمنة..بقراءة مالك حداد نطلق المؤقت الزائل،و نتمسك بالدائم الأبدي الروح داخل الجسد...ضوء الجسد.
** مسعود حديبي / شاعر جزائري
(مالك حداد بين برد اللغة/المنفى
و قسنطينة دفء الطفولة ورائحة الوطن والمكان)
صعب أن يتحدث شاعر( مقيم في قفص من ذهب اللغة العربية ) عن شاعر منفي في لغة فولتير وأراغون و بودلير وووو...لكن مهما يكن فإن لمالك حداد مكانة خاصة في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية...كيف لا ؟؟؟؟؟؟ وقد تفوق على كثير من كتابها..شعرا ورواية ففي الشعر كان المدهش في : " الشقاء في خطر "،" استمع إلى ندائي"، وفي القصة والرواية كان المذهل في "الانطباع الأخير "، "سأهبك غزالة"، "التلميذ والدرس" ، "رصيف الأزهار لا يجيب" ..
والمهم أن مالك حداد كان متشبعا بالروح الوطنية في أدبه وكتاباته،وهذا ليس بالغريب على ابن قسنطينة المفعمة برائحة النضال وآيات الحضارة ومبعث حركة الإصلاح التي قادها العلامة ابن باديس.وهنا تقتضي منا الصراحة والموضوعية أن نعترف بأن قسنطينة هي مدينة لم تخلق سوى للحب والنضال ومد الجسور !!!!!!!! وكم كانت مصيبة (بمعنى غير مخطئة) روائيتنا الكبيرة أحلام مستغانمي إذ أهدت رائعتها: "ذاكرة الجسد "إلى مالك حداد ابن قسنطينة الذي مات متأثرا بسرطان صمته،ليصبح شهيد اللغة العربية وأول كاتب يموت قهرا..وعشقا لها ".إذن،فمالك حداد من طينة نادرة فضل الصمت في آخر أيامه على أن يكتب بلغة هي منفاه وما أصعب أن يقدر كاتب على تكسير قلمه وتمزيق أوراقه ومغادرة البياض / المحو / الكتابة إلى بياض الصمت / النهاية !!!.
هي بطولة أخرى إذن تضاف إلى مواقفه ونضالاته التي كانت دوما تعبيرا(عن مشاعر الشعب الجزائري الغارق في الأمية والجوع والمرض والقهر.)
وما تركه لنا من أعمال أدبية في الشعر والقصة والرواية سيبقى شاهدا على أنه لم يكن أقل شأنا من الفرنسيين أنفسهم في لغتهم ،وهو الذي يمتلك الإجابة المسكتة على أي سؤال بأن [ الجزائر للجزائريين ].أما الأدب فشأن إنساني تتقاسمه شعوب الأرض عل مختلف الملل والنحل،إنه مالك حداد الذي يستحق صفة المبدع[ بلغة مستعمر] يدعي أننا البدو...الذين يحتاجون إلى مزيد من التدريب على مدنية الحديد والنار. وحفظ شعار[ الحرية والأخوة والمساواة ]،و يكفي مالك حداد أدبا أنه قال بصوت مرتفع:[ اللغة العربية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط .وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية إن الفرنسية لمنفاي!!!].إنه الأديب الذي كان يفكر بلغة أمه ويكتب بلغة عدوه.
**هاتف جنابي / شاعر عراقي وباحث و مترجم ومحاضر في جامعة وارسو.
(مالك حداد وصورة المنفى)
"خطرة هذه المهنة، مهنة الشاعر، يفقد فيها الريش، ولكنه يصنع الأغاني" م. حداد
قبل خمس وثلاثين سنة ونيف وقع بين يدي ديوان "الشقاء في خطر" مترجما إلى العربية من اللغة الفرنسية، قرأته ففاجأتني لغته الشعرية الموحية العنيفة الذكية، فأعدت قراءته مرات. لم تكن من عادتي قراءة الأثر أكثر من مرتين، لكن لكل قاعدة استثناء. فما الذي دفعني لمتابعة أخبار هذا الرجل فيما بعد ياترى؟
في الحقيقة كنت أبحث عن كتابات فيها طراوة الرغيف الخارج للتو من التنور، فوجدت في أشعار وآراء مالك حداد التي توفرت لي، كوة أطل من خلالها على الجزائر وعذاباتها وتشظيها الثقافي واللغوي. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما لاحظت دقة في الكثير من مواقفه وتشخيصاته الفكرية والسياسية التي ماتزال في غالبيتها حيوية. تكمن أهمية مالك حداد بالنسبة للثقافة الجزائرية والعربية عموما في أنه قد سلط الضوء مبكرا على قضايا مفصلية خطيرة، لعل مفردات من قبيل: الانتماء، وازدواجية الثقافة الجزائرية ومشكلة التعبير الفني، خصوصا على الصعيد اللغوي، ثم الموقف من الانسلاخ الثقافي من بين أبرزها. كان مالك حداد يعاني معاناة شدية الوطأة بسبب اضطراره للتعبير عن قضايا وطنية وعربية بلغة المُسْتعمِر، وهذا الهاجس المقترن بالحياء والشعور بالدونية الناجمة عن عقدة الضحية(المستَعْمَر) في استخدام أدوات الجلاد(المستَعْمِر)، قد خلق لنا لغة منفى، هي ذاتها التي أسست ظاهرة "منفى اللغة". ألم يخاطب أراغون قائلا: "إن الفرنسية هي منفاي الذي أعيش فيه، بلى يا اراغون، لو كنتُ أعرف الغناء، لتكلمتُ العربية". هذه الحالة تذكرني بأخرى مماثلة ذكرتها في مقام آخر، أيقظها تواجد مجموعة من الكتاب الألمان زمن الهتلرية، في بلدان أمريكا اللاتينية، الأمر الذي جعلهم يعيشون حالة "منفى مزدوج" بسبب بعدهم عن قارئهم من جهة وغربتهم اللغوية من الجهة الأخرى. منفى مالك حداد اللغوي أكثر عمقا وغربة وجودية، لأنه منفى وجودي، إنساني، رغم إجباريته، إلا أنه قد وظف لأغراض فكرية وثقافية ووطنية. لذا فموقف الشاعر قد أحدث قلقا، باعتقادي، مماثلا لدى المستعمِر الذي لم يكن يفقه كيف يمكنه إسكات كاتب ينازله بلغته التي يتباهى بها.
قضية الانتماء دفعت الكاتب إلى توجيه رسالة بعنوان "إلى صديقي الشاعر الجزائري"، حافلة بالشعر والجرأة والانتماء الروحي والثقافي للجزائر وللمنطقة العربية. وكأننا به يستوحي الشاعر الألماني ريلكه في عمله "رسالة إلى شاعر ناشيء"، لكن بطريقة مغايرة تماما. فإذا كان هدف ريلكه الشعر وحسب، فإن مالك حداد أراد ربط الشعر بالانتماء والالتزام. قال مالك: "لنجعل القلب ذكيا، ولنمنح قلبا للذكاء. أريد براكين مفكرة، فالاندفاع الأهوج هو صلع الفكر، والفاعلية السليمة" و"أنت ياصديقي الشاعر أكبر من أن تكون طائفيا،متحزبا ضيق الأفق، أنت تحتقر البلداء، واحتقارك لهم يجعلك في يقظة دائمة"(إلى صديقي الشاعر الجزائري - 1956).
لهذه الرسالة وقعان خطيران: شعري، بفضل شفافيتها وعمقها الفني وبراعتها التعبيرية، وفكري، نظرا لأهمية المسائل المطروحة فيها، وهي ماتزال حية معاصرة. كان مالك برسالته هذه صاحب رسالة شعرية وإنسانية كفاحية جريئة.
تبقى قضية الانسلاخ والمسخية التي حاربها الشاعر والمتمثلة في سعي المستعمر الحثيث لطمس هوية الجزائر الروحية والثقافية والتاريخية. بحيث يصعب على أبنائها التعبير بلغتهم الأم دون الرجوع إلى لغة السيد - ربّ القطيعة الثقافية الممنهجة!
سياسة المحو خلقت شعر وأدب الحضور، ومنفى اللغة خلق موطن العبارة وانتماء الصورة والفكرة والهدف. كان مالك حداد في أبهى اتقاده الفكري والجمالي، إذ وضع النقاط على الحروف ونبه مبكرا إلى خطورة تنمية روح الثأر والديماغوجية والشعارات الفارغة الحاقدة، لقد نبهنا إلى ضرورة الترفع عن الأحقاد، وإلى تبني مبدأ الثبات والصلابة ولكن إلى يقظة الضمير والحس الإنساني، قائلا: "من الغضب لايمكن أن ينطلق أيّ فرح"(الشقاء في خطر).
أقول، لقد كان مالك حداد رائدا في إيقاظنا إلى عدم التعميم والكره الأعمى. فبرغم معاناته الشخصية واستعباد شعبه، إلا أنه دعا إلى التسامح وتجنب الكراهية المطلقة:
"ليستْ فرنسا عدوّك، وإذا ما فُهم التاريخ على هذا النحو، فلن يكون هناك – تصفية حسابات"(الشقاء في خطر)، لكننا نراه في لحظة أخرى يقول: "لم نتعلم من فرنسا إلا يتمنا"! كان متقدا وصافيا مثل نبع في فهم دوره كاتبا ومكافحا في سبيل انعتاق شعبه ووطنه، مثلما كان واضحا في تشخيصه لطبيعة المستعمر، وفي ذكر ما له وما عليه من عطايا وآثام بمستوى الخطيئة الكبرى: "أنا الذي أغني بالفرنسية، أيها الشاعر يا صديقي، لا تلمني إذا ما صدمتك رطانتي، لقد أراد الاستعمار أن أحمل اللكنة في لساني، أن أكون معقودَ اللسان"(إلى صديقي الشاعر الجزائري).
إن أشعار وروايات وآراء ومواقف مالك حداد ضرورية لنا جميعا، سواء في " الشقاء في خطر" و"أسمع وأناديك" على سبيل المثال، ورواياته "سأهديك غزالة" و"رصيف الأزهار لا يجيب" أو نقده كما في "الأصفار التي تدور في الفراغ". ضرورية بجرأتها وشاعريتها العالية وإبداعها وكذلك بأبعادها الإنسانية الرحبة.يبقى لمالك حداد وزملائه من كتاب"المنفى اللغوي" دور تاريخي في تأسيس ظاهرة أدب المنفى في القرن العشرين وفي نصرة الروح المنكسرة والذات المستباحة. وهذا القدر من العمل من شأنه أن يخلد صاحبه، باعتباره وجها من الأوجه الناصعة للضمير الجمعي الجزائري. كاتب وشاعر بارع يمثل جدلية الحركة ومناهضة السكون والإذعان: "يخيل إليّ أن هذا القطار منهمك في السير إلى أقصى الحدود"( رصيف الأزهار لا يجيب).
مالك حداد في سطور
من مواليد: 1927.07.05م بقسنطينة، عمل معلما لفترة قصيرة، تنقل عبر مدن وبلدان عدة منها: باريس، القاهرة، لوزان، تونس، موسكو، نيودلهي وغيرها. اشتهر بمقولته : "الفرنسية منفاي".
عاد بعد الاستقلال إلى أرض الوطن وأشرف في قسنطينة على الصفحة الثقافية بجريدة النصر ثم انتقل إلى العاصمة ليشغل منصب مستشار ثم مدير للآداب والفنون بوزارة الإعلام والثقافة. أسس سنة 1969م مجلة آمال، أول أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين في الفترة ما بين 1974 و1978م.
توفي في: 1987.06.02م.
من مؤلفاته بالفرنسية: الشقاء في خطر(شعر 1956م)، الانطباع الأخير(رواية 1958م)، سأهبك غزالة (رواية 1959م) التلميذ والدرس (رواية 1960م)، رصيف الأزهار لم يعد يجيب (رواية 1961)، اسمع وسأناديك (شعر 1961م)، الأصفار تدور في الفراغ (دراسة 1961م).
إقرأ أيضاً: