غيّب الموت، صباح أمس الأربعاء، الكاتب الأميركي الكبير صول بيلو (حائز نوبل للآداب العام 1976) عن عمر يناهز التسعين سنة (من مواليد 10 حزيران العام 1915، في مدينة (كيبيك) الكندية، لأسرة من المهاجرين الروس اليهود). وهو يعتبر أحد عمالقة الأدب الحديث، لا في أميركا وحسب، بل في العالم بأسره. كذلك يشكل أحد أهم وجوه ذلك الجيل الذي خطّ بداياته في عالم الأدب، غداة الحرب العالمية الثانية، وهو أكثرهم تفردا.
ينتمي (صول بيلو) مع (برنار مالامود) و(فيليب روث) و(أرثر ميلر) (الذي رحل منذ ما يقارب الشهرين) إلى تلك المجموعة المهمة من الكتاب اليهود، الذين أسهموا إسهاما كبيرا في الأدب الأميركي المعاصر، إذ أعطوه صوتا جديدا ونبرة مختلفة، مع العلم بأن كلمة (مجموعة)، لا تشكل حالة ضيقة، أي بمعنى المدرسة أو جماعة أدبية محددة.
ثمة اختلافات كبيرة بين هؤلاء الكتاب، لكن ما يقربهم وما يجعل لديهم تلك الحساسية المشتركة، هو أصولهم، إذ أنهم كلهم، إما أبناء مهاجرين أو أحفاد مهاجرين جاؤوا من أوروبا الوسطى ومن روسيا، حتى أن البعض منهم يتكلم اللغة (اليديشية) ويمارسون شريعة موسى. فهذا الشعور بأنهم ينتمون إلى أقلية، أصبح نافذا ومتحركا وبخاصة في نيويورك، داخل الأوساط الأدبية والصحافية، مع العلم بأن هذه الأقلية احتفظت بذاكرتها السلفية لما تعرضت له من عمليات إبادة وذل وهوان.
من هنا كان السؤال الذي طرحه النقاد، في السنين الأخيرة (وتحديدا العام 1998)، أين صول بيلو من ذلك كله؟ سؤال، يدخل عميقا في مساءلة ما نشره بيلو من كتب أخيرة. والجواب المنطقي، المناسب، كان أنه لم يتخلّ عن أفكاره هذه، إلا أنه أصبح أكثر تصالحا مع نفسه، إذ عاش هزيع حياته الأخير، في شبه تقاعد، في قريته القريبة من (فرمونت)، حيث تزوج مجددا من إحدى طالباته القديمات، التي تصغره بثلاثين سنة، تزوج مجددا، بعد أن تعرض لتسمم غذائي (وهو في التاسعة والسبعين) جعله طريح الفراش، لأشهر عدة، فوق سرير أحد المستشفيات. بيد ان مرضه لم يمنعه من الاستمرار في سخريته المعهودة، إذ ان أول تعليق علني قاله، بعد ان استرد عافيته، كان بخصوص سيرة ذاتية، كتبها أحدهم مع العلم بأنه لم يوافق على نشرها، لما تتضمنه من مغالطات. فحين سئل عن رأيه فيها، أجاب (إنها تشبه نقدا لحفلة موسيقية سيمفونية، كتبها ناقد أصم). ومع ذلك، لم يحتقر الكاتب التشريفات التي حصل عليها في حياته، إذ حاز ثلاث مرات الجائزة الوطنية للكتاب في الولايات المتحدة، كما جائزة نوبل للآداب العام 1976 بالرغم من انه اعتبر ان فوزه بالجائزة، وفي الخطاب الذي ألقاه في العاصمة السويدية: (إننا نعيش انحدار وسقوط كل شيء)، فهذان الأمران (يشكلان خبزنا اليومي).
السؤال عن بيلو، هو السؤال عن غياب تلك (الفروسية الميتافيزيقية) التي عُرفت عنه، منذ قرأ العهد القديم، وهو في الخامسة من عمره. سؤال عن ذلك (المقاتل)، ابن المهاجرين الروس، الذي كان يتكلم العبرية واليديشية، قبل الإنكليزية، والذي نشأ في الشارع بعيدا عن المدرسة. ربما بدلته الأيام قليلا، إلا أنه كان لا يزال يحتفظ بعدم تواضعه، وإن كان يقدر المزاح، تماما مثلما فعل في رائعته (هيرتزوغ) (1966) التي صور فيها مثقفا يهوديا، عصابيا، يكتب الرسائل من دون أن يرسلها إلى الرئيس الأميركي ايزنهاور (وحيد الساق)، أو أيضا، مثلما صور الهذر اليهودي، واستيهامات طغمة المدن، وهذيانات الاستبطان، وتشاوف ذلك الكائن الذي لا ينتمي لا إلى اليسار ولا إلى اليمين (كما في كتابه (كنت قناصا)). ربما فقد بيلو، في سنواته الأخيرة، بعض هذه الصفات، إذ لم يعد مثلما كان عليه تماما، (فمتنزه شيكاغو)، كان يقضي وقته في (سباته الشتائي).
هكذا بدا بيلو في كتابيه اللذين صدرا العام 1995 (انتحال) و(العميلة بيلاروزا) كما في حكايته سيرته الذاتية (في ذكرى نفسي). فرسام الأفكار ذاك، بدا وكأنه يتبع حمية ما. هل كانت تلك الحمية، حمية مؤقتة؟ ثمة هامش لطرح سؤال مماثل، إذ جاء أحد كتبه الأخيرة (قرابة حقيقية) ليعيد تذكيرنا ببعض صول بيلو، مثلما عرفناه في بداياته.
قلت سابقا، ان مجموعة الكتاب تلك، تحركت بفضل شعورهم بأنهم ينتمون إلى أقلية أصبحت نافذة ومتحركة. هذا الشعور هو الذي يجعل الراوي في كتابه هذا يصرّح بالقول: (حين تبدو كيهودي، فأنت تصبح فريسة معينة)، علماً بأن جميع شخصيات الكتاب من اليهود الغريبي الأطوار، الذين عاشوا حياة معقدة، مليئة بمشكلات الطلاق والمحاكم، ومع ذلك فهم لا يظهرون أبداً كأشخاص يائسين ومضطهدين.
إحدى خاصيات فرح هاري، الراوي، انه لا يبدو كيهودي، بل كصيني. ربما سخرية الكاتب تكمن في إعطائه هذا المظهر. ففي غالبية روايات بيلو، نجده يجمع عدة شخصيات؛ قاسمها المشترك رفضُها للعديد من الأخلاقيات الأنغلوساكسونية، المؤسسة على شعور الشرف والشجاعة الفيزيائية، كتلك التي ترسخ في أذهان الأطفال، في المدارس الأرستقراطية، لتجعلهم ينتمون إلى طبقة (الجنتلمانات).
يشبه أبطال بيلو، أبطال مالمود، إذ أنهم لا يرغبون في أن يكونوا من تلك الطبقة، بالمعنى الساخر، الذي يعطيه لهذا الاسم. أنهم يرغبون في تعميق هذه المشاركة، هذا التماثل مع كل المهانين والمعذبين الذين يشكلون (حزبا) ما. شخصيات ترغب في أن تشهد لصالح نفسها. فكراهيتهم الخاصة أحالتهم حساسين تجاه جميع أشكال النفور. هكذا نجد (ليفنتال) بطل كتابه الجميل (ضحية)، الذي يتعرض لذلك الأمر من دون أن يشكو نحيب (ألبي) الذي يسمّم له حياته.. بالرغم من أنه لا يتوقف عن مرح تفوقه الأنغلوساكسوني. هيرتزوغ أيضا، في رسائله، يشكو مآسيه.
هذا النفور الذي يلف الجميع، يبدو كأنه يشكل جزءا من الماضي. فاليهودي الشاب يشكو اليوم من انه فريسة الرأسمالية المنتصرة بكل ما تحمله معها من لا طمأنينة ولا عدالة. وهو في ذلك يشبه جميع مواطني الولايات المتحدة. فالديون تتراكم فوق رأسه، يدفع الضرائب، يتعرض للطلاق مرارا، يتعالج عند طبيب نفساني، كما الجميع. انه ضحية الحضارة المادية أو ضحية (شيء جيد، في الغالب، فكرة تجارية)، حيث تهيمن (الضجة الجنسية العالمية). هذه هي المفارقة التي يبحثون عنها. فشخصيات (قرابة حقيقية)، هم أقرباء لجميع الناس في هذه الأيام التي يتقاسمونها. لذلك لا يبقى أمامهم سوى السخرية من ذواتهم. لقد دخلوا في معركة قاسية (كي يضعوا أقدامهم الثابتة فوق أميركا الأنغلو ساكسونية والبروتستانتية). لقد كسب هرتزوغ هذه المعركة، كما صول بيلو، الذي بقي مخلصا لشيكاغو، مدينة طفولته. فحين يُسأل هاري لماذا عاد إلى شيكاغو بدلاً من أن يسكن نيويورك أو باريس، يجيب بأن (باريس ليست سوى نيويورك بالفرنسية).
من حبكات صغيرة، كان بيلو يرسم (فريسكات) هائلة عن مجتمعه، وبخاصة مدينة شيكاغو (مدينة الحسية والتجارة والفن). حبكات يقارن من خلالها ما بين الجنس والرغبة، ما بين الروح والإيروسية، ما بين الانتظار وتحقيق النزوات بشكل سريع، ما بين شتاء القلب وصيف الروح... هذه الأفكار كلها عاد وصاغها في (قرابة حقيقية)، هل لأنه شعر بأنه وصل إلى نهاية الرحلة، لذلك أحب أن يعيد التفكير بجملة من البديهيات كان تناساها وهو يعيش في منفاه الداخلي.
جاء كتابه هذا كمحاولة لإظهار عدم إيمانه بأن هناك (شعبا مختارا)، لأن أميركا بأكملها أصبحت هذا الشعب المختار. من هنا كان ابتعاده، في سنيه الأخيرة، إلى داخل (منفاه الشخصي)، تماما مثلما يقول: (إن القصة الشخصية، تلخص، داخل أمر واحد: المنفى). أي منفى تحدث عنه بيلو؟ إنها الحياة.