بل حقائق أملاها الرعب)

(خمسون عاماً على قضية باسترناك شاعر السعادة)

اسكندر حبش
(لبنان)

مونولوغات شكسبير تعيد سلسلة (كوارتو) الصادرة عن منشورات غاليمار، إصدار رائعة بوريس باسترناك الدكتور جيفاغو، لكنها تضيف إلى الكتاب نصين لم يسبق أن ترجما إلى الفرنسية وهما ينتميان إلى نص السيرة الذاتية، كما تعيد بشكل كامل نشر الملف الصحافي الذي عُرِف باسم (قضية باسترناك) لتضيف بعد ما يقارب نصف قرن، نظرة جديدة على هذا الكاتب. هنا كلمة مُعدة من الصحف التي تناولت الكتاب.
(لا نستطيع أن نحكم على الحياة بأكثر من هذه القاعدة الخاطئة: الموت). هكذا كان يقول المفكر الفرنسي فوفينارغ. ربما التحق اليوم، مؤلف (الدكتور جيفاغو)، بهذا (الأخلاقي) الفرنسي، إذ إن أدبه الذي كتب في عصر وفي بلد مشتعلين بحمى الطوباوية وحيث كان الموت هو السيد المنتصر لم يكن سوى نشيد للحياة. تعني كلمة (جيفاغو) الحي، وإذ أردنا أن نفسر أكثر لقلنا إنها الحياة التي تزال حيّة.
(الدكتور جيفاغو) أكثر من مجرد رواية عادية، إنها ببساطة من أكبر الأعمال الأدبية في القرن العشرين، واحدة من الروايات التي شهدت بشكل نهائي على هذا العصر العنيف، أي بمعنى آخر، هي رواية كانت ترغب في أن تكون (مضادة للتاريخ) (الرسمي)، لأنها رفضت التاريخ الشرعي من أجل الحياة غير الشرعية. من هنا، نجد أن المدهش في هذا العمل (اللاتاريخاني) أنه أنتج واحدا من الأحكام الأكثر دقة والأكثر يقينا على الدرب التاريخي الذي قاد في ما بعد ثوران هذا اللاإنساني.
الواقعية اللافردية
كل شعر بوريس باسترناك (1890 1960) قاد إلى النثر، وإلى هذه الرواية الشاملة التي هي عليها (الدكتور جيفاغو). لأن الشعر ليس فقط هذه الوجدانية الذاتية الغنائية، بل هو أيضا هذه الواقعية اللافردية التي تمسك بالعبارة بكونها (مجموعة من أشياء العالم) في كل لحظة من لحظاتها. من هنا كان جيفاغو هذا العبقري الذي مضى من دون أن ينتبه له أحد. فتقديم الذات بصفتها هذا القربان ليس سوى علامة من علامات العبقرية. ذهب في شرطه حتى (باع) نفسه في المزاد مثلما فعل (إيغريك تروا)، بطل أحدى قصصه (الذهبية) في كتاب (سرد) (1929). تجعلنا هذه الرواية نفهم هذا (الإسهال) للواقع في الفترة التي أعقبت الثورة: كان البشر ينعطفون عن هذا الواقع ليصبحوا حاملي أفكار.
بيد أن الحياة كانت تهزهم مثل هذا (المشكال)، تماما مثلما فعلت مع قطبي الرواية، أي مع يوري الطبيب والشاعر (كان طبيب عيون أي إن النظر والمشاهدة يقعان في مجاله الحيوي) كما مع لارا، هذا المرأة التي جرحتها (مساومة) الحياة في مجتمع استغلالي. ثمة استحقاقات قدرية كانت تقترب منها لأن (المتطلبات الأخلاقية الكبيرة) للأنتلجنسيا الروسية قادتها إلى إعادة إنتاج عمياء لهذه الأفكار التي طرحت ولعنفها الذي تنتجه. إن تشابك مصائر العمال والمثقفين الذين جاؤوا من الشعب ومن النبلاء الروس والذين ينتمون إلى أكثر الأخويات الثقافية تجذرا التي أطلق عليها اسم الانتلجنسيا كانوا يتفاهمون، بداية، داخل (هذا الطنين) التحضيري؛ من ثم تكسرت الموجة لتحل مكانها هذه (الصفحة البيضاء)، أي هذه الجمهورية الشابة الأشبه بجمهورية أفلاطون، والتي لم يكن لها حاجة لا للفن ولا للكائن الفرد.

مجتمع ينهش نفسه

لقد أظهرت لنا اللوحة الاجتماعية التي رسمها باسترناك لروسيا كم أن المجتمع بأسره كان ينهش نفسه. إلا أن جيفاغو لم يُلتهم بل تلاشى؛ لقد محا نفسه مثلما فعل (هاملت) الأدب الروسي: الأمير ميشكين، (الأبله)، الذي رحل إلى سويسرا ليعيش في ملجإه. ثمة (انحلال) طوعي، قريب مما يسميه علماء الدين الأرثوذكس (الكينوز) (Kenose)، في قدر جيفاغو العاطفي والاجتماعي. فبعد لارا، وبعد هذه اللحظات المهيبة وبعد هذا الحب المستحيل الذي مثلته له إقامته الثانية في (فاريكينو)، رزق الشاعر (المخلوع) بابنتين من امرأة موسكوفية تعمل في غسل البياضات، لكن كبر المدينة وغفلية الكائنات فيها هما ما أنقذه. لقد مات في أحد التراموايات، وخلال دفنه جمعت الحياة التي تجمع وتفرق للحظات، لارا وأصدقاءه، ومن ثم جاء التبعثر وعملية توقيف لارا، وترحيلها إلى (الغولاغ)، الذي يُستدعى بسطر واحد. لم يتبق منه سوى دفتر قصائد لكنه كان يحمل، بنظر أصدقائه، التحول والسعادة.
بنشرهم مع هذه الرواية، هذين النصين الرائعين (اللذين ينتميان إلى السيرة الذاتية) وهما بعنوان (جواز مرور) (1931) و(رجال ومواقف) (1955)، كما كل الوثائق التي تتعلق بقضية باسترناك، يفترض المشرفون على سلسلة (كواترو) هذه أن كل هذه النصوص تشكل وحدة واحدة، وأن جيفاغو يشكل أيضا جزءا من باسترناك، أن (كنوز) الشاعر هذه اجتازت حياته بأسرها مثلما اجتازت جلّ أدبه. بمعنى من المعاني، نستطيع أن نقول ذلك، أننا أمام باسترناك بأكمله، أمام حياته وأدبه، اللذين علينا أن نجمعهما حول جيفاغو. جمع يتأتى من هذا التناقض (الباسترناكي) للسعادة (من فوق جميع الحواجز). لأنه إذا ما كان التاريخ يحضر بطغيانه الأصم وإذا ما كان الواقع أصبح غير شرعي وإذا (أصبحنا نحن أطفال سنوات روسيا الرهيبة) (كما يقول الشاعر ألكسندر بلوك في إحدى قصائده، وهو حاضر بقوة في الرواية)، فإن باسترناك، على خلاف ذلك، بقي لغاية ساعاته الأخيرة، وهو على فراش الموت، يحب الحياة مثلما أحبها تولوستوي، إذ على الرغم من تعليميته وعلى الرغم من (قوى الظلام) كان دائما شاعر (السعادة). بهذا المعنى يقترب باسترناك كثيرا من ستاندال الذي كان (مناضلا من أجل السعادة)، لكنه يتفوق عليه في أن سعادته كانت سعادة معيشة مثلما يروي عنه الذين عرفوه عن كثب. كانت هذه السعادة حاضرة في تفاصيله اليومية وحتى في تقديم نفسه قرباناً على مذبح.

لم تكن خدعة مسرحية

الكاتب ومؤرخ الآداب الروسية جورج نيفا يقول عن باسترناك متذكرا حوارا جمعهما العام 1957، أي قبل سنة من وفاته: (في تلك السنة تذكر العام 1937، الذي كان يسميه عام الرعب الكبير، لأنه شهد اختفاء بوخارين الذي له الفضل في جعل باسترناك واحدا من كبار الشعراء السوفيات. قال لي باسترناك: لم يعد الواحد منا يستطيع الاعتراف لأحد، حتى ولا لزوجته ولا لأطفاله. كنت أشاهد الكرملين ففهمت أن المونولوغات الطويلة التي كتبها شكسبير لم تكن خدعا مسرحية، بل حقائق أملاها الرعب علينا. أنا أيضا كنت ألقي مونولوغات طويلة كي أعبر عن ثورتي الداخلية...). بهذا المعنى، نفهم ما كان الفن يمثله لباسترناك: كان واقعا أقوى من الواقع.
اليوم وبعد مرور ما يقارب نصف قرن على (قضية باسترناك)، ثمة دهشة ما لا تزال تمتلكنا ونحن نقرأ هذا الملف الصحافي الذي خصص للقضية العام 1958، أي بعد حيازته جائزة نوبل. ملف يضم جميع الشتائم التي كيلت له، كل الهجمات الإعلامية التي تعرض لها ذلك الوقت في (الاتحاد السوفياتي). لكن (الأجمل) من ذلك كله، الرسالة التي نشرها زملاؤه الكتاب في (النوفي مير)، ليبرروا عملية امتناعهم وعدم موافقتهم على نشر المخطوط: (إن روايتكم هي رواية عن حياة الانتلجنسيا الروسية وموتها، عن طريقها إلى الثورة وتدميرها، أي هي عن نتيجة هذه الثورة). رسالة تشير فعلا إلى أنه الرواية كانت (مفهومة) حقا.
ربما هي (سذاجة) الشاعر وطيبة قلبه التي جعلته يعتقد أن من الممكن نشر هذه الرواية في الاتحاد السوفياتي. لكن باسترناك آمن دائما بالحياة، بالعجائب، بحبه الأخير لأولغا إيفينسكايا التي دفعت مرتين ثمن علاقتهما بالإقامة في المخيمات.
ينقل جورج نيفا عن لسان باسترناك أن قصيدته (آب)، التي يتخيل فيها مأتمه، قد استوحاها مباشرة من عملية توقيف أولغا للمرة الأولى. هي قصيدة بالنتيجة عن إعادة تجسيد المصير الأنثوي النبيل والمذل، تماماً مثلما وجدناه سابقاً عن دوستويفسكي. أضف إلى ذلك أن الطغيان الجديد في قصيدته كان يأخذ شكل عذاب المرأة القديم، إلا أنه من أكبر الضحايا كان يأتي الجواب الأكثر بطولية.
هذا ما كانت عليه رسالة هذا الشاعر الكبير الذي تعرض لموجات الرعب: (إن الحياة الزانية) تحيل القصة المزعومة إلى قصة شرعية، إن غابات الواقع تعيد تأهيل صحارى العنف، إن التضحية بالنفس تخيف (عتاعيت) الثورة العمياء). لقد استطاع باسترناك اجتياز ذلك كله. ولم يبق حيا فقط، بل بقي هذا العنصر الأساسي، في حركة الكون.

السفير
2005/09/23