اسكندر حبش
(لبنان)

الكتاب: رسائل الى الشبيبة
الكاتب: عشرة شعراء من العالم
الناشر: ليبريو (فرنسا)

الكتاب: رسائل الى الشبيبةافتراضا أن الشعر لا يصل اليوم الى قسم كبير من القراء، لاعتبارات عدة، منها أن الشريحة الكبرى من القراء لم تعد تهتم بهذا الفن النبيل مفضلة عليه القراءات السهلة، كما أن (هرمسية) بعض القصائد تبدو عصية على فهم القارئ ، ما يلعب أيضا دورا في حفر هوة هذا (الجفاء)، قررت الحكومة الفرنسية منذ سنوات قليلة (وتحديدا من العام 1999)، تخصيص ظاهرة ثقافية سنوية باسم (ربيع الشعراء). منذ الأيام الأولى عرفت هذه التظاهرة نجاحا ملحوظا، لتظهر كم أن الطلاق كان وهميا ما بين الافتراضات المزعومة وواقع حال القراء الذين عادوا ليتوافدوا بكثرة صوب الشعر.

الظاهرة لم تكن فقط في احتفالية خطابية (على الطريقة العربية) ، بل رصدت لها الحكومة الفرنسية ميزانية لتقديم عدد كبير من النشاطات: أمسيات شعرية في المسارح والمقاهي والمترو والباصات، دعوة شعراء من العالم لإلقاء قصائدهم في مختلف المدن الفرنسية، لقاءات مع شعراء في المدارس والجامعات، العمل على اصدار انطولوجيات مزدوجة اللغة، أضف الى ذلك الكثير من النشاطات الأخرى التي حولت ربيع الشعراء، الى عيد حقيقي يتوافق مع يوم الشعر العالمي الذي أعلنته (اليونسكو).

كتابة الأمل

احتفالات الشعر لعام 2003 لم تشذ عن احتفالات السنوات الماضية، بل على العكس من ذلك إذ شهدنا اضافات عديدة عليه: منها تلك القراءات المشتركة التي جرت بين بعض بلدان المتوسط (ومنها بيروت) وبين مارسيليا على الهواء مباشرة. أضف الى ذلك العدد الكبير من الكتب اللافتة للنظر التي صدرت بتلك المناسبة، ومنها كتاب (رسائل إلى الشبيبة)الذي عمل على تجميعه جان بيار سيميون (المدير الفني لربيع الشعراء)  ويتلخص في الطلب من عشرة شعراء من العالم كتابة رسالة الى الشبيبة بالمناسبة، (ليتحدثوا فيها عن الأمل).

صحيح أن العنوان يحيلنا الى عناوين أخرى موجودة في التراث الانساني العالمي مثل (رسالة الى شاعر شاب) لريلكه، و(رسالة الى كاثوليكي شاب)للكاتب الألماني هاينريتش بول، و(رسالة الى شاعر)لفرجينيا وولف وغيرها الكثير، إلاّ أن المفهوم الذي سيّر هذا الكتاب يبتعد دون شك عن تقديم النصائح المباشرة التي وجدناها في تلك الكتب الماضية.
ولعل أبرز ما حرك المشرفين على اصدار الكتاب ان نسخة العام 2003 من ربيع الشعراء اندرجت تحت موضوعة (شعر العالم)، من هنا كان الميل في إلقاء الضوء على الشعر الأجنبي (غير الفرنسي) ماضيا وحاضرا عبر العديد من أعمال الشعراء غير الفرنسيين. ازاء ذلك كان الطلب من عشرة شعراء من العالم من بينهم اللبناني عباس بيضون، والايطالي جيزيبي كونتي، والبرتغالي نونو جوديسي والألماني راينر كونتزي والأميركي سي. كي.
وليامز أن يتحدثوا عن الأمل فجاءت الرسائل لتشير الى تلك الحاجة (للشعر واليوتوبيا على الرغم من اخفاقات التاريخ المعاصر الراهنة).
الكتاب الذي صدر عن منشورات (ليبريو)، ووفق الدراسات الفرنسية الإحصائية ان جمهور هذه السلسلة يتراوح عمره بين الخامسة عشرة والعشرين، أي تتوافق جيدا مع ما يرمي اليه المشرفون على إصدار الكتاب يأخذنا في رحلة مشوقة الى هذا الشغف (غير المعقول للايقين ولغير المتوقع وحتى للمستحيل). قد تتلخص احدى سمات هذا (المستحيل) في تلك الدعوة التي وجهها، ذات يوم، الشاعر الفرنسي رامبو بالبقاء شبانا دوما.
بهذا المعنى، تأتي رسالة اللبناني عباس بيضون (الشعراء يبقون شبانا)، لأنهم (لا يشيخون، لأنهم لا يتوقفون عن الأمل، ليس الأمل بشيء ما، بل الأمل الذي هو غزيرة وإحساس ولا يحتاج حتى الى موضوع). رسالة عباس بيضون تحاول أن تقف على ذلك الحد الفاصل، الذي يحاول أن ينزع الوهم عن الشعر لأن الشعراء لا (يبيعون الوهم>)، بل يوسعون (الحقيقة ويمنحون وجودا فعليا لم يكتمل بعد).
في هذه (الحقيقة)، يأتي الشعر لا ليقتل الذاكرة لأن الذاكرة هي التاريخ، (ونحن بها نؤكد اننا عشنا قبلا وما زلنا نسمع أسلافنا في كلامهم). رسالة بيضون، هي أيضا تحية للكتابة التي استطاعت ان تواجه القتل، التي واجهت الحرب، في مدينة عاشت حربا لا تريد أن تنتهي. انها بهذا المعنى رسالتنا من العالم السفلي، او رسالتنا (من منزل الأموات)، فيما لو استعرنا عنوان الكاتب الروسي دوستويفسكي.

الحلم والأمل

الكاتبة الفرنسية أندريه شديد ترتكز في رسالتها على ما قاله ذات يوم الشاعر الألماني ريلكه في رسائله الى الشاعر الشاب، من هنا تأتي لغتها أقرب الى النصيحة المباشرة أي الجديرة بشخص من مواليد العام 1920 الذي يرى العالم من مغربه. هذا الكلام، يختلف جدا عن كلام الايطالي جيزيبي كونتي الذي ينحو كثيرا الى الغوص في معنى الشعر باعتباره بحثا واستمرارية وأصالة وفقرا حيث يتحول كل ذلك الى غنى روحي، أي تتحول هذه الرحلة الشعرية من الكآبة الى اغتباط لا مثيل له (وكأن الأمر بفعل خيميائي) ينجح في تحويل معادنه. رسالة، هي أيضا ذلك البحث عن الأمل في إحالة (اللامرئي الى مرئي)، هكذا كان الشعر مع جلجامش وأورفيوس وعوليس وإينيه ودانتي وآخرين:
الرحيل من الجحيم للوصول إلى هذه الجنة المشتهاة. ربما كان ذلك حلما ولكنه الحلم الذي سيّر شيلي ووليام بليك ووالت ويتمان وليوباردي ورامبو وأونغاريتي وبازوليني وبورخيس. انه الحلم الذي واجه الواقع المليء بالرعب، الواقع في غلاف كوابيسه.
إذا كانت رسالة كونتي تحاول ان تقدم تفسيرا لهذه الرحلة، فإن الشاعر البرتغالي نونو جوديسي (في رسالته الى قارئ شعر شاب) يحاول أن (ينفي)هذه المهمة، لأن (القصيدة لا تفرض علينا أي شيء، بل على العكس من ذلك، انها تعطينا كل ما نحن بحاجة اليه ببساطة مطلقة). هذه البساطة المطلقة، يجدها جوديسي في تلك العلاقة (السرية) التي تقوم بين الشاعر وقارئه المجهول، فعلاقة الكلمة هي التي تجعل من القصيدة نفسها واقعا حقيقيا بعيدا عن تعدد اللغات والأعراق والديانات.
هل في ذلك، وهم ما؟ سؤال تحيلنا اليه رسالة الشاعر الألماني راينر كونتزي، إذ ان الكتابة... هي الانخراط في ذلك الوهم، الذي يتقاطع مع ما قاله ذات يوم الكاتب الفرنسي ألبير كامو: (ان الجمال والحرية هما من أسوأ همومي). صحيح أن الجمال لا يلخص، على قول بول فاليري، الا أن همنا الأساسي يبقى محصورا في هذه الفكرة: فالقصيدة ليست الا تجسيدا لهذا الجمال، لأنه أي الجمال، والقول أيضا هو لفاليري هو السبب في تلك الرغبة الأبدية في استعادة البداية). فكما يقول كونتزي نفسه في قصيدة أن تكون شاعرا: (في طول الدهشة/ يتموضع الشعر، الى هناك/ نذهب).
من كوبا (زويه فالديس) الى بنغلادش (تسليمة نسرين)، ومن كازخستان (أوليغ سليمانوف) الى أميركا (سي. كي. وليامس) يأخذنا هذا الرهان في كتابة رسالة الى الشباب. إذ نعرف أن هذا النوع من الكتابة (يملك دائما سمعة سيئة)، بمعنى اننا نتخيل أن (كبير السن)يحاول دائما توجيه (الشاب)الى ما يراه مناسبا، في حين أن الأخير، غالبا ما يرفض الانصياع إلى (هذا الأب).
لكن قد يبدو أن (المعجزة) قد تحققت هنا، لأن الدعوة لم تكن دعوة نصائحية،فالشباب والشعر ليسا في النتيجة الا أمرا واحدا، أي ما الشعر الا هذا الشباب الدائم للغة؟ ألم ينتبه عباس بيضون لذلك حين عنون رسالته (الشعراء يبقون شبانا).

السفير
2003/06/24