اسكندر حبش
(لبنان)

(1)

اسكندر حبشلا أعرف لماذا لم يتبق لي سوى هذا اللون الواحد. انه البرتقالي الغامق المشوب بالأسود. لونان، في الواقع، لكنهما كانا يتداخلان ليشكلا وحدة من الصعب الفصل بينهما. هكذا تأتيني الصورة الآن: الباص يغادر بغداد عائدا إلى بيروت. كان ذلك في أيلول العام 1999. أنظر من النافذة لألقي نظرة أخيرة على نهر دجلة، بينما المساء، كان بدأ بإلقاء حباله على طول الطريق أمامنا. ثمة أنوار كانت تلمع فوق سطح الماء، قلت ربما هي المراكب المطاعم التي تسير ليلا. استغرقني المشهد الضبابي هذا، الذي كان يحمل في طياته بعض ذاكرة جديدة تجمعت في تلك الأيام القليلة. كانت الحافلة تتهادى حين قال أحد الركاب، فجأة، إننا ندخل في منطقة الرمادي. نظرت. لم يكن اللون رماديا بالطبع. انه البرتقالي المشوب بالأسود. استللت الكاميرا والتقطت صورة للطريق. صورة، حين عدت وشاهدتها بعد أيام في بيروت، انتبهت إلى وجود أشجار النخيل فيها. أشجار واقفة كشواهد زمن. هل كنت أعرف يومها أنها الصورة الأخيرة التي ستبقى عالقة في ذهني كما أنها الصورة الأخيرة التي التقطتها من رحلتي إلى بغداد؟ عادة، لا يفكر المرء بشيء مماثل، يكون عندها في قلب هذا الحنين الذي يبدأ بترك مذاقه في فمه، في قلبه، في رأسه. كثيرا ما ظننت أنني شخص بلا حنين لأي شيء. بالأحرى اعتقدت دوما أنني أحتقر هذا الحنين، لهذا لم أفهم يوما كيف كان باستطاعة <<عوليس>> أن يعود إلى إيثاكا، إلى بينيلوب تحديدا بعد أن قضى سنوات جميلة برفقة كاليبسو.

(2)

لم تكن سنوات، بل أيام قليلة. ومع ذلك شعرت بأن هذه المدينة مدينتي. هل تنتمي بغداد، بذلك، إلى تلك الفئة من المدن التي لا تشعرك بأنك غريب عنها؟ بالتأكيد ثمة مبالغة في السؤال. لا أستطيع القول إلا أنني مررت عابرا. هل تكفي أيام لتكتشف مدينة؟ وبخاصة حين تكون مدعوا من جهة رسمية، تقيّد غالبية تنقلاتك ومشاهداتك؟ في تلك اللحظات المختلسة من حرية مزعومة، استطعت التنقل برفقة بعض الأصدقاء، لأكتشف مناطق أخرى، حياة أخرى. ومع ذلك لم أكن أشعر بالغربة، المكان ليس مكانا من دون أهله. ربما ما خفف وطأة ذلك كله، أولئك العراقيون الذين أخبروني الحكايات، الذين أدخلوني إلى تفاصيل يومياتهم. إنها اليوميات التي تعود الآن، تلك الوجوه التي كانت تحيل المكان أكثر ألفة. تعود في ظل هذه الحرب التي تخيم فوق الجميع.

(3)

لم أكن أعرف أن زيارتي الأولى هذه، ستكون الأخيرة. قيل لي أن المقالات التي كتبتها بعد عودتي من هناك لم تعجب الكثيرين. أحد اللبنانيين الذين كانوا معنا بالرحلة وهو من الذين يزورون بغداد باستمرار نقل لي هذا الاستياء، قبل أن يخبرني بأنني لن أعود إلى هناك أبدا. لم يكن في كلامه أي مفاجأة. ربما لأنني كنت أنتظر ردة الفعل هذه. هل حين كتبت ذلك كنت <<أنتقم>> لجميع أصدقائي العراقيين الذين غادروا وتشتتوا في منافيهم الكثيرة؟ لا أعرف أن كنت فكرت في <<انتقام>> ما. كل ما أحسست به لحظتها أن تلك البلاد الجميلة لا تستحق مثل هذا الرعب، لا تستحق هذا المصير الذي آلت إليه. كانت اللغة وحدها هي التي تقودني، كانت الكلمات هي التي رسمت خطوط الأفكار قبل أن تتبلور. كان مرأى <<أم غيداء>>، تلك السيدة التي <<تحرس>> ذاكرة ملجأ العامرية، كما أرواح الشهداء الذين سقطوا هناك وهي التي فقدت أسرتها كلها في هذا المكان أرعب من كل ما سمعه المرء من فظائع .إنها سيرة الفظائع التي تتكرر اليوم، والتي قد لا تنتهي. هل نحن بحاجة حقا إلى نهاية هذا التاريخ، لكي تعود السومرية من خلف الضباب؟

(4)

لماذا علينا أن نختار بين سفاحين لا يستقيم عملهما إلا عبر عمليات إبادة؟ هل يعرف الحمقى عادة معنى تاريخ المدن؟ لدينا أشياء أخرى غير هذا التاريخ... الحاضر مثلا، المستقبل أيضا. لكن كيف علينا أن نكسبهما في ظل هذه الأشياء التي تلقي برعبها؟

(5)

منذ فترة وأنا أحاول أن أكتب، أن أسترد بعض تفاصيل من تلك الرحلة.
لا شيء يأتيني سوى صورة تلك السيدة التي كانت تحرس ذلك الخراب الروحي، في هذا الملجأ، في هذا السواد الذي كان يلف المكان. يومها قادتني <<أم غيداء>> إلى داخل هذا المكان الذي تتكاثر فيه الورود والصور المعلقة على الجدران. قالت أنها صور الذين استشهدوا هنا. أما الذي لم تعرف هويته أو صورته، فقد كتب اسمه في لوحات أخرى. كانت تشير لي إلى الفتحة الموجودة في السقف، قالت <<من هنا سقط الصاروخ الأول>>. سقط من فتحة التهوية، وما هي إلا لحظات حتى سقط الصاروخ الثاني من الفتحة نفسها، باعثا حريقا عظيما. قالت لي <<في تلك الليلة كنت هنا مع الجميع، وفي ساعات الصباح الأولى، حملت طفلي كي أذهب إلى المنزل لأحضر بعض الثياب، ما أن وصلت إلى بيتنا القريب حتى سمعت الانفجار. عدت بسرعة، فوجدت الجميع موتى: منهم من احترق، ومنهم من اندثر. لم ينج سوى عدة أشخاص، حملتهم قوة الانفجار إلى الخارج. توفي ما يزيد عن ألف شخص بينهم زوجي وطفلتي>>. كانت تحدثني وأنا غارق بالبكم. ماذا كان باستطاعتي أن أقول. كل ما كنت أفعله هو مشاهدة صورة هذه الطفلة الجميلة المعلقة على عنق <<أم غيداء>>: صورة طفلتها.
كم من عامرية أخرى يعدنا بها العالم اليوم؟

(6)

انه اللون البرتقالي المشوب بالأسود. لا أعرف لماذا أتخيل الآن أنها كانت حرائق مشتعلة في الفضاء. هل كانت أيضا حرائق الأرواح التي سقطت على مدى تاريخ الموت هذا؟ متى تستعيد بغداد اسمها <<الحقيقي>> الذي أطلقه عليها أبو جعفر المنصور. يقول التاريخ إن الخليفة العباسي هذا، أسماها <<مدينة السلام>>، ومنذ أن أطلقت التسمية، دخلت المدينة في حرائقها التي لم تنطفئ.
ألا يحق لنا بشيء آخر؟
هل يحق لنا بأن نختار اليوم التسمية التي نريد؟
تسميات وتسميات. هل يحق لنا لمرة واحدة أن نخرج من تفاهة الأسماء؟

(7)

قيل <<الإنسان من النسيان، سموه إنسانا لأنه ينسى>>. ما زلت أذكر بعد. لم أصل إلى هذه المرتبة. ربما لأن الإنسانية لا تزال فكرة غير محددة. اعتقدت دوماً أنني شخص لا يشعر بالحنين لأي شيء. هل كان <<عوليس>> محقا بالعودة إلى بينيلوب، بالعودة إلى إيثاكا؟ أميل اليوم إلى مسامحته. ربما لأنني أشعر أنا نفسي بحنين للعودة إلى هناك. لا لشيء، فقط، لكي أحرس خراب روحي، أو بعض أجزائها، التي سقطت مني هناك.

السفير 2003/03/21


اقرأ أيضا: