منذر مصري
(سوريا)

منذر مصريفي تتبعك آثار تجربة عادل محمود الكتابية المتنوعة، كقاص وككاتب مقالة وشاعر، في قراءتك لمجموعاته الشعرية الأربع، ( قمصان زرقاء للجثث الفاخرة، ضفتاه من حجر، مسودات عن العالم، إلى استعارة مكان ) سوف ترى أن الشعر عند عادل، كان اختياراً. اختياراً عقلياً عن سابق قصد وتصميم، كما في كل جريمة حقيقية، لأنك سوف تراه كيف يحمِّل على ظهر هذا الشعر، قضاياه ومصالحه، واختياراً عاطفياً أيضاً، لأنك سوف تراه يغمس كل كلمة فيه بعواطفه وأهوائه ، لتستكمل لديه كل دوافع الشخصية لهذه الجريمة من نوع الشعر.
في قراءتي لكل ما يكتبه عادل، في قراءتي لعادل بشخصه، منذ ثلاثين سنة ربما، حين عرفني عليه محمد كامل الخطيب، في كافتريا على طريق دمشق، خلال كل هذا الزمن والأحداث، ومروراً بالكثير من الناس، كنت أشعر أن عادل ينحو بشعره بعيداً عن أكثر ما هو عليه، أكثرَ ما يعرف عنه من صفات، هو الحاد والقاسي، إذا لم أذكر سوى هذين الوصفين. لكني كتبت وذكرت له مراراً، أن أشد ما فاجأني منذ أول قصيدة قرأتها له، مذيلةً باسم مستعار، ليس فقط أنه بدأ يكتب الشعر، لأنه كان كاتب قصة قصيرة بامتياز، بل تلك العاطفة الزائدة، الرقة، التي لم أكن أعرفها ولا أتوقعها فيه. الشعر عند عادل، كان ومازال، كشفاً للمشاعر، بوحاً عن عواطف سرية، اعترافاً بآثام مهلكة، وأستطيع القول : أن أكبر المشاكل في فهم عادل محمود للشعر، هي أنه يختلط لديه دائماً، بكل بساطة هذا الكلام وبكل تعقيده، الشعر و... الحب!.

لكننا، رغم عنادنا، أن نبقى دائماً على ما نحن عليه... نتغير إنسي: إنسي: (التغيير حق أكيد / ألا يتعب القضاة من آذانهم ويغادرون ؟) وعادل اليوم لا ريب ليس عادل السبعينات، الجيل الذي اعتُبِرنا أنا وهو وبندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش، فرسانه الأربعة، علماً بأن أياً منا لم يعتلي يوماً جواداً، ولكني بنفس الوقت، أعود وأقول إن عادل هو نفسه عادل الآخر الذي عرفناه من شعره ومن نزقه ومن قميصه المفتوح الصدر صيفاً وشتاء، ذلك أن اختيارنا للشعر، منذ البداية لالرئة، النسبة لنا نحن الأربعة، سوى وسيلة، أداة، أداة تشبه القلب أو الرئة، نحاول بها ضبط هذه المعادلة، و بتعبير شعري وعلمي معاً، ضبط كل حرارة متاحة مع الضوء اللازم.
ليس عادل من نوع أولئك الشعراء، الذين، كل ما التقيت واحداً منهم، ينقل لك آخر أخباره الشعرية، أو يقرأ لك آخر قصيدة كتبها، قليلاً ما يتكلم عادل عن الشعر، وقد سمعته مرة، يعتذر عن كتابة مقدمة لمجموعة شعرية بقوله: ( الشعر آخر ما أستطيع التكلم عنه ) ولا أدري كيف يتفق هذا مع الفكرة التي ذكرتها عن اختلاط مفهوم، اختلاط علاقة، الشعر بالحب عند عادل، ولكن ما يؤكدها، هو جملة أخرى سمعت عادل يكررها: ( منذر.. المهم أن نحيا كشعراء ) وأظنه، حقيقة، يقصد: ( كعشاق ).

لَم يخلق عادل محمود ليكون شاعراً، ليس فقط بسبب عدم تصديقنا، لفكرة أن كل منا خلق لغاية محددة مسبقاً، أو عدم اعترافنا بوجود موهبة محددة بداخلنا، فحسب، بل لأن الشعر، في أحد وجوهه، رغبة، لا أحد يعرف من أين تولد بنا، بل ربما نعرف ! ، لنكون شيئاً آخر غير ما خلقنا عليه، شيئاً آخر غير ما نحن عليه.
لم يخلق عادل ليكون شاعراً، أردد كالببغاء، بل خلق ليختار، عن وعي وعاطفة وحاجة، الشعر، كطريقة رائعة للحياة، وربما أيضاً، كطريقة رائعة، للموت.

والآن اسمحوا لي بإيراد تلك القصيدة التي تتضمن سطوراً - وردت بين أقواس - من قصائده، والتي كتبتها عنه في أواسط الثمانينات، وكان وقتها خارج البلاد، في حالة استعارة مكانٍ آخرَ للحياة على حد تعبيره، لأنه إن لم يكن وقت قراءتها الآن، ونحن نتكلم عنه، كإنسان وكشاعر، فمتى يكون ؟

جَريمَةُ إلقاءِ تَحيَّةِ الصَّباح

( عادِل مَحمود )

حتَّى وإن لَم
تَكشِف بِقَصائدِكَ الأُولى
عَن اِسمِكَ الحَقيقي
فذَيلُكَ المُستَعارُ
كانَ دَليلاً كافياً
لِنَمسِكَ بِكَ مُتَلَبِّساً
بِجَريمَةِ إلقاءِ تَحيَّةِ الصَّباح
عَلى مَن كانا يَتَبولانِ عَلى بابِ بيتِكَ:
( باكِراً على البيرة
يا شَباب).
/
حَتَّى وَإن أَبدلوا
بِفَضلِ غَبائهِم الأَزَلي
بِدايةَ كُلِّ مَقطَعٍ مِن أَوَلِ قَصيدَةٍ نَشَرتَها
( لِلَّتي )
وَطَبَعوا بَدَلاً عَنها
( سِتِّي )
وَبَدَوتَ وَكَأَنَّكَ
رَجُلٌ يَهيمُ غَراماً بِجَدَّتِه
فإنَّ ذلكَ لم يُسبِط مِن
عَزيمتِكَ على إفهامِنا بأَنَّ الشِّعرَ
هُوَ أَن تُفاجِئَ الجَميع
بِتِلكَ العاطِفةِ المائعَةِ
تحتَ قِشرتِكَ القَاسِيَة.
/
حتَّى وَإن لَم تَمُت بَعد !
فإن ذِكراكَ
باقِيَةٌ
باقِيَة
كما حينَ يَزورُ المُدُنَ المُحَرَّرَة
وُفودُ الدُّوَلِ الصَّديقَة
والغُرباءُ ذَوو النَّظَّاراتِ السُّود
( فيَجِدونَ في اِستِقبالِهِم
بِضعَةَ كِلابٍ وَدُجاجاتٍ
وَمُحافِظ )
/
حَتَّى وَإن نَفَثتَ الضَّبابَ
عَلى زُجاجِ النَّافِذَة
وكَتَبتَ بِإصبَعٍ مُرتَجِفة
فَإنَّهُ ما زالَ يُقرأ
ما زالَ يُسمَع
( عُودي )..

17-7-1984