لا. مصادفة، أم أن هناك أسباب يمكن معرفتها، ذلك أن أحببت أكثر ما أحببت أول كتابٍ قرأته لكلٍّ من أدونيس، وأنسي الحاج، وشوقي أبو شقرا، ومحمد الماغوط، وجبرا إبراهيم جبرا، وأخيراً، وكان يجب أن يكون أولاً، توفيق الصائغ ! لا .. لا أظنها مصادفة، ذلك أنه عندما تقرأ لأول مرة شاعراً، تفاجأ بأدواته، كيف يركب جمله، مفرداته، كيف ينقل أفكاره، كيف يخترع صوره، وربما يثيرك بمواضيعه، عما يروقه أن يتكلم عنه، من أي زاوية ينظر للأمور... أما في الكتاب الثاني والثالث فتكون قد عرفت كلّ هذا أو أغلبه، وما عدت ترى فيه سوى تراكماً ما، حتى ولو كان جيداً. إلا أننا، وهذا أيضاً ما يحدث، نغدو أسيري الصورة، أسيري الصوت.. من هنا تأتي رغبتنا بالمتابعة، من هنا نبدأ بالتعلق بالاسم.. لأن الشعر كالحب.. لا حاجة لنا به سوى... للمزيد والمزيد.
*****
1- (ثلاثون قصيدة ) توفيق صايغ/ دار الشرق الجديد/ أيلول 1954/ مطابع دار الكشاف/ بيروت: أول كتبه، ابتعته من مكتبة صغيرة صاحبها قسيس في طرابلس عام 1972، أي بعد 16 سنة من صدوره. قال عنه سعيد عقل الذي لا يعجبه عجب: أما ما يقول عنه إنسي الحاج، فقد أضعت تلك الورقة التي كتبت عليها شهادات العديدين من الشعراء والنقاد، مدحاً وهجاءً، ولكني أذكر منها: (كتاب يعود المرء إليه كما يعود إلى امرأة)بالنسبة لي عدت له مرات لا أعرف كم، أكثر بكثير مما عدت لأي امرأة، حتى إني كتبت (ساقا الشهوة) وأنا أتكلم لغته، كمن يتكلم في حلمه بكلّ طلاقة لغةً لا يعرف كلمة منها في يقظته. أظنه لم ولن يبطل تأثيره بي. كما هذه السطور التي أحفظها هكذا من مقدمته، ولا أدري إن كانت مطابقة لها حرفياً أم لا: (تصاعدتُ من بحيرتك غيمةً هطلت على الأودية / وفوقك اتشحت بالبياض / وإني بين (بلى) كنتِها منذ بطش الضوء بالعتمة الحنون / و(بلى) ستكونينها حين تعيدنا معاً عتمة أحنّ / طوالَ عهد الضياء الضرير / كنتُ ( لا ).
- إلى جون مارشل
قلتَ لي: " هيَّا معي "
(خيالاً كنتَ أم إنساناً)
قلتُ: " الآنَ، وقد عَمَرَت المائدة
بأطايب الملكِ وخمر مشروبه ؟ "
قلتَ : " هيّا معي " .
وعرفتُ أنَّ في القصر الذي جئتَ منه موائد
حول كلٍّ منها فتيانٌ سمانى
فلحقتكَ، أُسِرُّ في داخلي:
" هناك
هناكَ الأطايبُ والخمور. "
وفي القصر استدرتَ وقلتَ: " جُلْ
بين الموائدِ
واقتت بما تشاء. "
.. ولم يكن على الموائد غير قطانيّ وماء.
/
قبيل الصباح أيقظتني بسماتُ مَن
لأجلها كنتَ عكازي
ولأجلها كان ترحالي،
والتفتُّ إلى الحائط ِ، حيث كانت لوحةٌ
لغديرٍ وتلٍ وشجرتين وعاشقين وبضعِ عصافير
رسمها طرّاشٌ في نصف نهار
( قيل لي إنَّه يرسم عشراً مثلها كلّ شهر )
فإذا لفيف من مرايا
ورفٌّ من الكتب ونافذة
تطلُّ على ما حاول الطرّاش أن ينسخ
وقَصقَصَت شعري
وكَوت ثيابي
وعندما برزتُ للناس
غمزَتْني
فمددتُ لهم لساني.
/
ووجدت المسطرةً التي صحبتها معي
قد انكسرت
وأوراقي القدامى التي أثقلت جيبي
زُمَّت أبياتها السبعون إلى ثلاثين
وقالت الثلاثون: " مُسَّ شعرةً إنِ اسْطَعْت. "
وراقصتْ مرصّعاتُ الزمخشري
حفاةَ ضيعةٍ في الجليل.
ونظرتُ إلى الغلاف الذي كانت أوراقُ حبّيَ فيه
فإذا برسم القلب الذي كان عليه
قد أضيفَ له رسمُ رأسٍ
وثالثٍ دونهما.
/
وحملتُها إلى الناقدِ
فألقاها على الفراش
وقال لها: " تحدَّثي "
وخلع نظّارتيه، وجلس يستمتع.
/
بعد عشرة أيامٍ لقيتُكَ
وصرختُ: " أنظرْ، زال مني الهزال ".
وقلتَ: " أمامكَ بعد
جُبٌّ الأُسود "..
ــــــــــــ
القصيدة رقم (....) بعد القصيدة 30 وكأنها أضيفت على الكتاب بعد تسميته (ثلاثون قصيدة) !
******
2- (المـدار المغـلق) جبرا إبراهيم جبرا / المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر/ بيروت / 1964: الكتاب الشعري الثاني لجبرا، بعد (تموز في المدينة) دار مجلة شعر 1959، الذي حصلت عليه وقرأته لاحقاً كالعادة. أستغرب كيف يغبط الآخرون جبرا إبراهيم جبرا حقه كشاعر، فإن إحدى قصائد هذا الكتاب (رسالة إلى توفيق الصائغ) قلت هذا مرة وهاأنذا أردده، ولأسباب كثيرة، واحدة من أجمل وأهم القصائد التي كتبت في الشعر العربي الحديث، وهي ربما ـ إن كان لهذا أي أهمية ! ـ أهم مؤثر عربي وغير عربي في شعري برمته، وأحسب أن أفضل ما كتبت مثل (الدرس - كلانا يهذي بالحق) و(على وجهك علامات براءتي) و(تفوقت علي في كلّ شيء دون أن تقوم به) تدين لها ديناً مثبتاً بالصكوك والبصمات.
رسالة إلى توفيق صايغ
بوجهِكَ ووجهي يقفونَ
ليجمعوا بعراً وحصى،
(بنو الزرائب هم)، وعطراً.
/
بوحل الميازب يضمخون ذقونهم.
/
ما عدت أريد أن أكتب
واسمي مطبوعاً جعلت أخشى رؤيته
فهو ينبو عما حوله، كعينٍ
حولاءَ بينَ عيون السِّوى،
أو لفظة طهرٍ بين الشتائم -
أم أنه هو الشتيمة، لفظة الكفر والمرارة
بين ألفاظ الطهر والعذرة والسُّكَّرين ؟ -
/
ما عدت أريد أن أكتب - ولمن ؟
لمن بربك نكتب ؟ هل سألت نفسكَ
هذا السؤال
حين امتطيت مهرتك البيضاء النقية ؟
أ ندخل عراةً بين جمعٍ تسربلوا بالرقع
أم ندخل مرتدين الوشي والجوخ
بين جمعٍ من عراةٍ يريِّلون ؟
/
أ بين الكسحاءِ ننطلق على الجياد الأصيلة ؟
/
ما لنا ولهم ؟ عشرين سنةً ورَّمتُ قلبي
نقَّبت عينيّ، جرَّحت حنجرتي
أجمع الأفكار والصور وأبثها مع هبَّاتِ الريح
تحمل العشق منّي والقلق -
ورفاقي يخزنون الدنانير، لا يقلقهم
عشقٌ لشيءٍ أو أحد.
/
بعشقٍ ابتلينا كزكامٍ أبدي
(أ قرأت " دوقة مالفي " لوبستر؟)
بعشقٍ لكلِّ ما عتزَّ واهتزَّ وأكتنَز
بعشقٍ لفيض النور وفيض الدجى
وومض الرؤى وومض الجسد.
فهذا القلب منا مبتلى، والناس في غنىً
عن العشق والبلية.
/
بوجهي ووجهك يقفون رافعين
فوق العيون أيديهم، لئلا تصيبها
رؤيةٌ منّا تقُضُّ مرقدهم في
الزريبة.
/
سئمتُهم، والله، وعفتُهم
غلاظَ القفا
مقتعدي المقاهي، متهجئي الجرائد
آكلي الشوكولا، ماضغي الهوا
المتشدقين - إذا عرضوا أردافهم -
بكلائش الأحزاب والتفاهات العراض
الفاغرين أفواه البلاهة في القاعات والسينمات
قراء فلانٍ وفلانٍ في الفراش -
أُفّ !
لمن تروي عن عشقكً الدامي لإلَهك
ومن تشبه، ظلماً، بإلَهك ؟
/
نحن الغرباء الآبدون
نحن الرافضون، المخلفون للطين
سلاحف الطين، النافذونَ
مصاريع الأيام كالرصاص.
غبارُ أرجلِنا قصائد
ينتحر به الآخرون..
ــــــــــــ
أي روح، أي فرادة، أي شعور بالقدوة أي مثلٍ، أي تحدّي للغباء والسخافة، أي نفاذِ لمصاريع الأيام.. فقط أرجوكم إعادة قراءة المقطع الأخير:/ نحن الغرباء الآبدون، نحن الرافضون.../ لتشعروا بذلك الشعور من الغربة والرفض الذي قوبل به توفيق صايغ، وبقية الطليعة العربية آنذاك، وربما مازالوا هكذا يُقابَلون.
******
3- (أغاني مهيار الدمشقي) أدونيس: علي أحمد سعيد، هكذا كتب على غلاف الطبعة الثانية منه، منشورات مواقف 1970، أما طبعته الأولى فأظنها صدرت عن دار مجلة شعر، عام 1961، التاريخ ذاته الذي أرخت به خالدة سعيد مقدمتها للكتاب. ويكاد يتفق معي جميع من أعرف، بأن هذا الكتاب أجمل كتب أدونيس قاطبة، وإذا قلت إنه يرسم المنعطف الذي اتخذته تجربة أهم شاعر عربي حديث، وإنه النقطة التي نبع منها وكثيراً ما سيعود إليها في (كتاب الهجرة والتحولات..) و(المسرح والمرايا) و(مفرد بصيغة الجمع) فإنه ـ بعسفٍٍ ما ـ يمكن القول أيضاً أن أدونيس بكلّ ذلك الكم الإعجازي الذي أتى به، لم يستطع تجاوزه، لا أقصد فكرياً، ولا فنياً، ولكن شعرياً. فقد كانت قصائده، أغاني مهيار الدمشقي، دائماً معيني حين أدافع عن شاعرية أدونيس، بين من يعترفون له بأشياء كثيرة ما عدا الشاعرية !
1- لا حدَّ لي
لدربي اللابسة الأمواج والجبال
لوجهي المليء بالأصداء
أطفأت آلاف الشموع البيض في السماء.
/
قلت لأسناني، للأظافر الزرقاء
ليني معي واستسلمي للموج والهدير
قلتُ لها أن تقطع الحبال
بيني وبين الشاطئ الأخيرْ.
/
لا حدّ لي لا شاطئٌ أخيرْ.
2- البرق
أومَأَ ليَ برقٌ بكى ونامْ
في غابة الظنون
يجهل من أكون
يجهل أني سيد الظلامْ.
/
أومأ لي برقٌ بكى ونامْ
نامَ على يدَيَّ
منذ رأى عينَيَّ.
3- شرق الجمال
كلّما مرَّ ببالي
أن أرى شرق الجمالِ
ودعاني الشَّفَقُ،
تمَّحي، عبر خطايَ، الطُّرُقُ.
4- سفر
مسافرٌ دونما حراكِ:
يا شمسُ، من أينَ لي خُطاكِ ؟
5- الذئب الإلَهي
الضُّحى محترق الوجه شريدُ
وأنا موت القمرْ
تحت وجهيً جرس الليل انكسرْ
وأنا الذئبُ الإلَهيُّ الجديدُ.
6- يا قلقي
يا ظلمةً في أفقي
يا قلقي،
شُدَّ على تجددي ولزَّهُ ومزِّقِ
واعصفْ به وحَرِّقِ،
لعل في رماده
أبتكر الفجر النَّقي.
7- وحدة
وُحِّدَ بيَ الكونُ فأجفانهُ
تلبسُ أجفاني
وُحِّدَ بيَ الكونُ بحريَّتي
فأيُّنا يبتكر الثاني ؟ .
ــــــــــــ
ولكن، بحثت حتى كللت، ولم أجد تلك القصيدة التي يقول أدونيس بها: (خطف المجهول قلبي..) وأنا متأكِّدٌ أنها في هذا الكتاب ! .
4- (الفرح ليس مهنتي) محمد ماغوط /منشورات اتحاد الكتاب في دمشق/1970: هو كتابي المفضل للماغوط الكبير، وكنت كلّما أبديت هذا أمام الآخرين، أسمع أحدهم، وخاصة من يكبرني بالعمر، يقول بأن لا شيء فيه جديد على (حزن في ضوء القمر 1959) و (غرفة بملايين الجدران 1964) ولكن، رغم فهمي لتلك الآلية التي حاولت شرحها سابقاً، والتي تجعلنا ننبهر بقراءتنا الأولى لشاعر ما ومن ثم يخبو هذا الانبهار في قراءتنا لأعماله التالية، حيث تصير معروفة ومعتادة سمات الشاعر وأدواته ومفرداته...، فإن مجموعة الماغوط الثالثة والأخيرة هذه، بالتأكيد، أقولها بعد قراءتي لكلا الكتابين السابقين، تمثل أفضل وأنضج ما وصلت إليه تجربة الماغوط الشعرية، حتى أنه بعدها بدا وكأنه أبطل، للأسف، بكلّ ما يعرف عنه من بطولة... كتابة الشعر.
1- خوف ساعي البريد
أيّها السجناء في كلِّ مكان
ابعثوا لي بكلِّ ما عندكم
من رعبٍ وعويلٍ وضجر.
/
أيّها الصيادون على كلّ شاطئ
ابعثوا لي بكلّ ما لديكم
من شباك فارغة ودوار بحر
أيّها الفلاحون في كلِّ أرض
ابعثوا لي بكلِّ ما عندكم
من زهور وخرق بالية
بكلّ النهود التي مُزِّقت
والبطون التي بُقِرت
والأظافر التي اقتلعت
إلى عنواني... في أيِّ مقهى
في أيِّ شارعٍ في العالم
إنني أُعدُّ (ملفاً ضخماً)
عن العذاب البشري
لأرفعه إلى الله
فور توقيعه بشفاه الجياع
وأهداب المنتظرين
ولكن أيّها التعساء في كلّ مكان
جلَّ ما أخشاه
أن يكون الله (أُميّـاً)
2- إلى بدر شاكر السيَّاب
يا زميل الحرمان والتسكع
حزني طويلٌ كشجر الحور
لأنني لست ممدداً إلى جوارك
ولكنني قد احلُّ ضيفاً عليك
في أيَّة لحظة
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات.
/
لا تضع سراجاً على قبرك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكير إلى زجاجته
والرضيع إلى ثدي أمِّه
فعندما ترفع قبضتك في الليل
وتقرع هذا الباب أو ذاك
وأنت تحمل دفتراً عتيقاً
نُزِع غلافه كجناح الطائر
وأنت تسترجع في الذاكرة المتعبة
هذه الجملة أو تلك
لتقصَّها على أحبابك حول المصطلى
ثم تسمع صوتاً يصرخ في أعماق الليل:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا أحد في العالم
ثم تلوي عنقك وتمضي
بين وحولٍ آسنة
وأبواب أُغلقت بقوةٍ
حتّى تساقط الكلس عن جدرانها
وأنت واثقٌ أن المستقبل
يغص بآلاف الليالي الموحشة
والأصوات التي تصرخ:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا أحد في العالم
هل تضع ملاءة سوداء
على شارات المرور وتناديها يا أمّي
هل ترسم على علب التبغ الفارغة
أشجاراً وأنهاراً وأطفالاً سعداء
وتناديها يا وطني
ولكن أيّ وطنٍ هذا الذي
يجرفه الكنَّاسون مع القمامات في آخر الليل ؟
تشبث بموتك أيّها المغفل
دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب
فما الذي تريد أن تراه ؟
كتبك تُباع على الأرصفة
وعكازك أصبح بيد الوطن.
/
أيّها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبداً
فالجنة للعدَّائين وراكبي الدرَّاجات.
ـــــــــــــ
لا يستطيع الواحد منّا عند قراءة هذه القصائد، إلا وأن يستعيد ذلك الحكم الذي أطلقه مرة عباس بيضون، بأن الشعراء الجدد في سوريا قد خرجوا من معطف الماغوط، وخاصة نزيه أبو عفش في (أيها الزمان الضيق أيتها الأرض الواسعة) و(كم من البلاد أيتها الحرية) وأيضاً عادل محمود، وأكثر الجميع رياض صالح الحسين... هذا إذا لم أذكر محمد سيدة الذي يشبه الماغوط، دون أن يقرأه، في كثير من الأمور.
**********
5- (سنجاب يقع من البرج) لشوقي أبي شقرا/ دار النهار للنشر/ بيروت 1971: هو أول كتاب لشوقي قرأته، وأحب كتبه إلي. ابتعته من بيروت، من مكتبة بالقرب من الجامعة الأمريكية، مع كتب أخر ليوسف الخال وفؤاد رفقة، وعصام محفوظ، لم تكن هذه الكتب متوفرة في سوريا، وبعضها لم يسمع عنه أحد. عندما قرأنا ( سنجاب يفع من البرج ) أنا ومصطفى عنتابلي، رحنا نكتب كلّ يوم عشرة قصائد، عن كلّ كلّ شيء، وأعترف أن مصطفى تلبسه أكثر مني، فكتب قصائد عن الدبابير والبط و أخته ذات العينين الحمراوين كالفجلتين والحاج الذي ضحوا له بكلب !! بعدها تمكنت من الحصول على ما سبق (سنجاب يفع من البرج منذ (أكياس الفقراء) و(خطوات الملك) و... وما تلاها، وهي أكثر من أن تذكر مثل (حيرتي جالسة كالتفاحة على الطاولة) و(صلاة اشتياق على سرير الوحدة) وأحببتها كلّها، ولكن لم يقع على رأسي من البرج غير ذلك السنجاب، وتحت عنوان القسم الأول (مِن جيب المعطف الخاكي) من (آمال شاقة) مجموعتي الشعرية الأولى، كتبت (إلى شوقي أبي شقرا إيفاءً لدين قديم).
1- ضفدع أخضر المجهول
افتحْ أظافركَ مروحة
لتخدش الحياة
في بطنها
الكلُّ يشهدون
أنّكَ سكران تزول
أنّكَ ضفدع
تخاف الغول
رجلاك رخوتان كاللبن
وتتركان بقعاً
في أخضر المجهول.
2- الغلطة
الشمس حمارة في الحساب.
كلّ مساءٍ تغيب وتقع في الغلطة ذاتها.
3- مملكة
نامي، أنا أكتب
نامي، أنا عصفور
نامي، أنا أصداف
نامي، أنا زورق
نامي، وخذيني
فالنوم معك مملكة.
4- المجنون
يأخذ المنطاد من القاموس، من
كتابٍ أصفر، وينفخه بفمه، ويرتفع
في النشرة الجوّيّة.
مع السلامة أيّها المجنون.
5- إنطاكية
يا بنات الأخوية صلين لي، للعبد
الحقير الذي ليس بطريرك أنطا كية
وسائر المشرق.
تحت الحجر، كالحية ضاعت
مسبحتي، وأريدها للصعود حبةً حبة
إلى السماء.
6- مخالب الكآبة
أيّتها الكآبة حذاؤك أحمر،
تسرعين مثل الفهد وتفوح مخالبك.
/
نسي القبطان شاربيه في الجزيرة
وحبيبته ضيَّعته وأخذت غيره مرفأً.
/
أنا شاعرٌ ضعيف أضعف من القمر.
ــــــــــــ
في ( سنجاب يقع من البرج ) مازال المرء يجد قصائد مقفاة، وقد يخطر له أنها بقايا من ( أكياس الفقراء ) ديوان شوقي الأول الموزون المقفى، ولكن بنظرة أكثر بساطة، نرى أن شوقي يلعب بالقافية كما يلعب بكل أدوات الشعر، الصور والكلمات والمعاني. وهو في ( سنجاب يقع من البرج ) لا يقوم فقط بتقديم إحضارات شعرية، كما وصف لي أدونيس كتابة شوقي مرةً، بل يقوم بتركيب قصيدة خاصة به، وإن كطفل، يركب ثم يخرب. ذلك التخريب الذي ظهر بكل قسوته فيما بعد، ربما منذ ( كالساحر يكسر السنابل ويركض ).
6- (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) انسي الحاج (هل هناك داع للكنية؟)/ دار النهار للنشر 1970: كتاب انسي الرابع، ذو المقاس المربع العريض، والغلاف الفيروزي الذي لم يرسم عليه حفاظاً على صفائه، سوى العنوان وبخط فارسي أبيض. أحضرته لي من بيروت فتاةٌ، لا أذكر الآن، لا اسمها ولا حتى وجهها، أذكر فقط أن فتاة لجأت لبيتنا، أمها لبنانية وأبوها عامل سوري في لبنان، أحبتني على نحو ما !! وعندما طلبت مني أن أوصيها على شيءٍ ما تحضره لي من بيروت، أوصيتها على (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) أحضرته وقدمته لي دون أن ترضى بأخذ ثمنه، رغم حاجتها، كان ذلك في عام 1972. هناك أشياء كثيرة تقال عن (لن) و(الرأس المقطوع) و(ماضي الأيام الآتية) ولكن بالنسبة لي لا شيء يقارن ب (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة ) ولا حتى ما تلاه مباشرة، مطولة (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) ثم بعد انقطاع (الوليمة). علمني (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) تقريباً كلّ شيء، وفي كلّ ما كتبت كنت أود أن أكتب شيئاً خاصاً بي جميلاً ومؤثراً مثله، وحين يقول البعض بأن الشعر الحديث لا يحفظ، أجدني أقرأ لهم عن ظهر القلب، وها أنذا أفعل الآن:
1- فرِحَ على الأرض
( بدون العودة للكتاب )
بحثَ عنها كثيراً ولَمّا وجدها
احتار ماذا يفعل بها
فتركها تذهب
ثم عاد وبحث عنها كثيراً
ولَمّا وجدها
قال: يا إلهي
اجعلْ نظري كبيراً فيحويها
وحجري ماءً فيسقيها
طوِّقها بي كسجن
وطوِّقها بي كشكران
أو اكسرني يا إلهي عليها
كالصاعقة
في البحر.
/
كان ضائعاً فلَمّا وجدها
فرحَ على الأرض قليلاً
ثمَّ طار إلى السماء.
2- فردة حذائها
كي أرتمي فيها كعملاق يرتمي في كأسه، كي
أقبل عليها كغرباءٍ إذا استوطنوا يأكلون الوطن وفاءً.
كي أَنهار فيها مثل رجفان الجبال.
/
الغائبة القلب في اليدين، الغائبة اليدين في صدأ
العادة الجمري.
/
التي تفقد فردة حذائها من أجل أن يهتدي الأمير
إلى مصيره.
3- أنتَ
( بدون العودة للكتاب )
إذهبْ إلى الطبيعةِ، ثلاثةً
أنتَ، هوَ، هيَ
يتحابان
وأنتَ وحدَك
تتحاب
وتعشقك الطبيعة.
4- عندما يفتحونه عندما يغلقونه
سأطبع كتاباً
لتعرفي أنَّكِ
سأطبع كتاباً
ليقولوا عندما يفتحونه:
(كنّا نحسبه شخصاً آخر)
سأطبع كتاباً
ليقولوا عندما يغلقونه:
(لم نكن نعرف أنَّهُ
كنّا نظنُّ أنَّهُ)
سأطبع كتاباً
لأن عينيك لأن يديكِ
سأطبع كتاباً
لأنّي لا أصدق
لأنّي لا أصدق
لأنّي لا أصدق.
5- أوراق الخريف مريمُ العذراء
الكآبة التي كانت تسكنني ماتت
حلَّ محلَّها، برياحه وأمطاره،
السيد الوقت.
/
صرت أستغرب الشِّعر
أقول عن الأطفال أطفال
عن ركبة امرأة ركبة امرأة
وعن غصن حورة مقطوع غصن حورة مقطوع.
ولم أكن، عهد الكآبة
أتداول أسماء المسميات المتداولة
لا تكبُّراً وحدَه
بل لأنني كنت شاعراً
فكنت أُسمِّي
مثلاً
أوراق الخريف مريم العذراء.
...
وآه كم كنت غنيّاً
كلُّ ما يلمسني يسحرني
كلُّ ما ألمس أسحر
ولم أكن أجهل
لكن لم أكن أعرف
وظننت صبحَ يومٍ من الأيام
أنني خالد
حتى فاحت الكآبة التي كانت
والتي لم أعرف كيف
ماتت كالمسك.
سئلتُ كثيراً، وأقسم إني سئلت البارحة: (أيّ كتابٍ تحب؟) وكتابا واحداً لا غير) ولم أجد يوماً جواباً سوى (ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة)، إنه كتاب، قلت، تقريباً، علمني كلَّ شيء، ولكن ما أقله هو أنه..فهل، الحب. فهل ، ولو رغبت أن أسمّي كتاباً آخر ، أستطيع أن أُسمِّي .سواه. .
اللاذقية 25/12/2003