منذر مصري
(سوريا)

أعرف الكثير من الشعراء الهامشيين. فالشعراء، بأغلبيتهم، هامشيون. أي أنهم كشعراء يقعون على هامش النص، لا متنه. على هامش المجتمع لا محوره. عوامل عديدة دفعت الشعر وكاتبيه إلى هذا الموقع خارج الدائرة، ليس بإطلاقية قصوى، رغم أنه حتى الشعراء الذين يستطيعون الاقتراب قليلاً من المركز، لا يبدون أي رغبة في أخذ دورٍ هام في اللعبة، ولا شيء يدفعني الآن لأذكر بعض الأسماء كأمثلة.
فهو،كان الشعراء، بكتلتهم الكبيرة، المتنافرة، هامشيون، فإن محمد سيدة، الشاعر السوري اللاذقاني، الذي نقدم الآن، بمناسبة وفاته، مختارات من قصائده، لا أقل ولا أكثر من هامش الهامش.... فهو ، لا ريب ، واحد من أهمش الشعراء السوريين والعرب ، على كثرتهم كما ذكرت . ولم يكن بالإمكان لمحمد أن يكون أي شيءٍ آخر، أو في أي موقع آخر، فلقد اجتمعت لتركب هذه الحالة، كل الأسباب والظروف، الخاصة، الخاصة به وبشخصه، والعامة، العامة به وبمحيطه، لم يكن هناك أي إنسان، أي شيء، يمكن أن يساعد محمد على تغيير هذا الوضع.
ولد محمد لأسرة فقيرة، ولكن ليس معدمة، كأغلب الأسر اللاذقانية آنذاك. لا نعرف بأي شهر، فقد أكتفي بذكر سنة الميلاد على بطاقة الهوية، 1942. لأبٍ ضئيل الحجم، أسمر، كان يعمل شرطياً، ولأم من عائلة ذات مكانة اجتماعية أفضل من مكانة عائلة أبيه. مما جعل محمد يستنكر دائماً قبول أهل أمه بهذا الرجل، أبيه، كزوج لأمه البيضاء الجميلة. كما كان يذكرها، لأنها ماتت وهو مازال فتىً، فلم يدرس محمد إلا عدة صفوف ابتدائية، ربما حتى الصف الرابع لا أكثر، عندما أخرجه أبوه من المدرسة وألحقه بالعمل في فرن أحد أخواله. ثم وفي بداية الستينات، عند بلوغه العمر البلوغ القانوني، لم يساق للخدمة العسكرية الإجبارية، لا أدري لم؟ ولم يخطر لي مرة أن أسأله عن السبب، ثم توظف في مديرية كهرباء اللاذقية، حيث عمل بها ما يقارب ال 40 سنة، كعامل مناوب على تشغيل محطة توليد الكهرباء على الديزل، إلى أن أغلقت واستعيض عنها بالمحطات الحرارية، وذلك قبل انتهاء مدة خدمته بسنوات قليلة. لم يكن له، يوماً، علاقة حقيقية بامرأة، رغم أنه أحب الكثيرات، ورغب كثيراً بالزواج من كل فتاة عرفها، ورغم أنه لم يبخل عليه الحظ بفتيات أحببنه، ولكنه كان فاشلاً في الحب كفشله في أشياء عديدة بل أكثر. حيث أنه كان يشبعهن كلاماً، عن الطبقة العاملة والشيوعية والاتحاد السوفيتي والثورة والشعر و... لا يتخلل كلامه ولا يأتي بعده أي إشارة لرغبته بهن، ولم يكن يقبل أي نصيحة بهذا المجال، كما في غيره من المجالات.. والمفارقة أنه رغم هذا، أقصد فقدانه الدائم للحب من جهة، وكونه عاملاً شيوعياً واعياُ نظرياً للشروط التي تحيط بطبقته من جهة أخرى، حتى أنه دخل الحزب الشيوعي وخرج منه مرات عديدة، فإن نسبة 90% من شعره عن الحب. الحقيقة التي يجب تثبيتها الآن، أن الحب كان إيمان محمد سيدة الأوحد، حتى أنه كان يقول بأن الحب كفيل بإيجاد الحلول الرائعة لكل مشكلات البشرية، و لكن، بالنسبة لمحمد كان الحب ذاته مشكلة المشكلات.
ربما كان نزار قباني، أول وآخر مؤئر أدبي، في شعر محمد سيدة، رغم أنك لا تستطيع مهما بلغت بك الدراية والخبرة، أن تعيد أي قصيدة من قصائد محمد، من أي ناحية، سوى الموضوع ربما، إلى شعر نزار قباني، ولكن محمد، بعد أن قرأ، في البداية، بعض دواوين نزار، ما عاد يقرأ أي نتاج شعري جديد أم قديم، عربي أم مترجم، وكان يبرر هذا بخشيته أن يتأثر بأي منه، كما لم يقرأ سوى بعض روايات الجيب وبعد ذلك ما كان له الطاقة على قراءة أي نوعٍ من الكتب، مع أنه كان لديه فوق رفوف قبوه وكراسيه وطاولته وعلى أرضه أيضاً أكداس منها، على أنه سيبدأ بالقراءة قريباً، كان يردد، ولكنه كان قارئ نهماً للمجلات. كما كان جامع طوابع وعملات قديمة، ومتابع سينما، ومصور، وعشرات الهوايات الأخرى.
عمله المنشور الأول، كان ديوان( أنذرتك بحمامة بيضاء ) الصادر عن وزارة الثقافة السورية عام 1984، بالاشتراك مع مرام مصري، ومنذر مصري، كاتب هذه السطور، ورغم الاستقبال الطيب للعمل، ومعرفة الكثيرين على محمد لأول مرة، وإعجابهم بشعره الذي ما كان له، حينذاك، أن يعرف لولا هذا الديوان، إلا أنه ساءته لدرجة مبالغ بها، الأخطاء المطبعية الكثيرة في قسمه، كما في القسمين الآخرين، معتبراً إياها مؤامرة، وعدم فهم بعض الذين كتبوا عن الديوان لطبيعة شعره وخصوصيته. مما دفعه، وبعد 17 عاماً، لتضمين عدد من قصائده في ديوانه الخاص الأول والأخير ( إذا كنت وردة حمراء ) الصادر عن وزارة الثقافة 2001، وذلك بعد إجرائه بعض التغييرات.

في سوق الجمعة خارج مدينة اللاذقية، والذي كان محمد حريصاً أن يذهب إليه باكراً كي لا يسبقه أحد ويلتقط الأشياء النادرة التي يصدف أن تعرض فيه. الساعة 12 ظهراً، تحت أشعة شمس آب القائظة، وقع أرضاً، بين بسطات الباعة وأقدام الناس، رجلٌ أشيب الشعر، طويل القامة، يرتدي ثياباً بسيطة، فنقل إسعافياً إلى مشفى الأسد الجامعي، حيث مات، إثر جلطة دماغية، بعد عشرة دقائق. ولأنه لم يكن يحمل بطاقة الهوية، ولم يتعرف عليه أحد، وُضِع في أحد برادات غرفة عزرائيل، إلى أن افتقده أخواه وأخته بعد عشرة أيام، ولما لم يجدوه في قبوه، سألوا عنه الشرطة، فأخبروهم، بأن هناك جثة رجل مجهول الهوية في البراد في المشفى، تأكدوا أنها لأخيهم قبل أن يروها، حين أخبروهم أيضاً بأن الرجل كان في سوق الجمعة.
توفي محمد سيدة عن عمر يناهز 62عاماً، قضاها بالوحدة والتشرد، بدون عائلة من أي نوع، بعد خروجه الباكر من بيت أهله نتيجة علاقته الصعبة مع أبيه، ولرفضه الزواج إلا بنساء من خارج بيئته و طبقته، شكلاَ ومضموناً، رغم ما كان يدعيه من انتماء طبقي، وخسارته الدائمة للأصدقاء... مات ولم يترك لأحدٍ يوماً،ذكر، ولكنه كان يرغب أن تعود كل أملاكه إلى ابنة أخيه ( ديما ) وهذه الأملاك لم تكن سوى عدة مجموعات من الطوابع والعملات، وأكداس من الكتب، دونكم الصور الفوتوغرافية التي غطت حيطان قبوه، وجهاز تلفاز 14 بوصة مع عارض أقراص، ابتاعهما مؤخراُ، أما البراد ؟ فلم يكن لديه برادٌ يوماً، لكنه أورثنا شعراً، كيف أنسى هذا وأقول لم يترك شيئاً يذكر ! شعراً يستحق منا أن نتظاهر بأننا فجعنا، كالعادة، بفقدان موهبة استثنائية، وإنسانٍ، ما كان لنا أن نعرف قيمته إلا بموته.

قصائد الهامشي

مختارات من
محمد سيدة
( 1942-2003 )

1

لهفتي عليكِ
تاريخُ شاعرٍ صعد الحلبة
ونازل الهواء
بسيف الكلمة الطيبة.
/
انتظرت مجيئكِ في محطات الشتاء الباردة
على ساعدك معطف سميك
وخلفكَ حجرة نومٍ
يسيرك إلَي
وَجهي الشاحب
وقلبي الذي قرع كل باب
وسأل عنكِ..

2

قميصكِ يغرف الابتسام
ومازلت أسير
نظرتي الأولى
وجرحي هرمٌ
ينزفُ من موضعٍ مهجور..

3

في ليلة العيد
رفعت اسمك الراية
فوق رنين الأجراسِ وامتداد القبل
وفوق غربةِ سفن تصفر في الميناء.
/
في ليلة العيد
أحببت أن أحملك على كتفي
كنجمةٍ في شجرة ميلاد
وأن نجوب معاً كل أجيال الفرح
وأنا أقول:
يا عيد... هذه حبيبتي.
/
في ليلة العيد
خلعت جسدي وسهرت معكِ
ولمَّا نمت
نمت في شفتيكِ حتَّى الصباح
...
فاعذريني..

4

للحزن يا روحي
ألف ساعد
محملةٌ
بألفِ آلة حرب رهيبة
تدك
حصوني وأبراجي.
/
وأحلامي
بندقية معمرة
إصبع خائن الزمن
دائماً على زنادها
دائماً على زنادها
يسلي فراغه الموحش
بصيد
غزلان سعادتي..

5

وجهي إعلانٌ أًصفر
يغطي أنباء هزيمتي
ويداك رايتا سلم ورخاء
مرميتان في
سلة المهملات.
/
آه آه
لماذا تكثفين الجدران
أمام خفقات قلبي
قلبي الذي أحرق الزورق
وأنذركِ
بحمامةٍ بيضاء..

6

لأني عامل
وعلامته المميزة
تغمس ثيابه بالزيت الأسود
محسوب على أحلامك
عربة خيول قديمة
وصفر
مهما قربته من العدد
واحد
لا يصبح
عشرة..

7

إذا دقت كف السعادة بابي
بدهشةٍ سأمشط
ذلك الزائر الغريب
من الرأس
حتى أخمص القدمين
...
من أنت
لا أعرفك.
/
وسأقول لذلك الطائر
الذي طالما عللتني به
شفتا الوهم:
إن بينكَ وبين غُصني
جداراً كثيفاً من الصمم
سيحول دون استمتاعي
بإعجاز ألحانك.

8

كان وجهي مطرقاً وذليلاً
في غيبوبة ذهولٍ قصيرة
وتقف إلى جانبي نجمةٌ مواسية
أخذتني بحنان إلى
صدرها.
/
وأنتِ حول المرايا
تدورين وتدورين
لأنكِ قبلي لَم تعرفي
كم أنتِ جميلة.
/
كنتُ أحبُّكِ
ودعوتك إلى مائدتي
برفقة عصفور تعلم التغريد عندي
فرفضتِ...
لأنكِ لا تجيدين
أدبَ الجلوس عليها..

9

كلا... لن أكون مجرد خاتم
يصلب رجولته
في إصبعكِ الصغير
أو رقماً
يسقط في سجل دعارتك الكبير
فأنا أعرف لدى
كل امرأة أحببتها
بحامل الحنين إلى القلب
رقم واحد..

10

على مرمى لفتة صغيرة من نظري
تنمو وردة
غلفها الجمال بوشاحٍ من عبير
منسوجٍ بخيط من حريرٍ وخيطٍ من
ذهب
في مزبلة تؤمُّها كلاب الصيد المبتذلة
بلا حساب.
/
قضيت أنا الذي كنتً أستطيع
بفرقة مصباحٍ مسحور
أن أبني لها سلماً بين
أناملي وأنفاسي
فصلاً من الإعياء الكامل
أكشُّ الذباب عن
وجهها.
/
لكنها وقفت على جلد إنسانيتي
كبعوضة
كششتها آسفاً
لأحطِّمً غرورها..

11

بالأمس فقط
رأيت رؤيةً واضحة
لم تحرق الهواجس المحمومة أطرافها
بأنه يتوجب علي أن أرتدي
الدرع فوق الدرع
وأن أسنًّ السيف تلو السيف
لأحاور القدر باللهجة الوحيدة
التي بات يفهمها.
/
وتأكد لي شيء
لم يفرد عليه طائر الشك
جناحه بعد
بأني سأدخل الحلبة
للفوز بقلب حبيبتي
مع حشاش
يريد أن يجعل من جسدها البريء
مرحاضاً لشهواته
وسوف تلبس حبيبتي للحشاش
ثوبها الجديد
على مرأى من عين
قلبي الذائب..

12

حين رأوك متلبسةً بحرير النوم
قربي
وتفيضين حناناً وبياضاً وقوَّة
رجموكِ بسلسلةٍ من الجبال
وهربوا..

13

لماذا حين عرَّجَ بساقه المكسورة
كلَّ الفواصل السوداء
تقرَّباً منكِ
رأيت
أزهاره من حجر
وابتسامته
غابةً خرجت لتوِّها من
الحريق..

14

افتحي... افتحي
ورائي سماء مهجورة
ووقع أقدام مشبوهة على الأرصفة
وكلاب منتصف الليل الضالة
وإعصار خوف
يرمي الشجر
بداخلي.

15

يا إلهي
إذا كانت هي البحر
فاجعلني الشاطىء
الذي يحتويها
بين ساعديه.
/
يا إلهي
حتّى في كفها الصغيرة
الصغيرة والشاحبة
بحيرة زرقاء
تسبح بها الأسماك
الملونة.
/
يا إلهي
إني أغوص
أغوص
في الأشواك التي
جرحتُ بها
ابتساماتها.

16

إذا كنت
ستحترقين مثل شمعة
فسأحترق لأجلك
مثل غابة.
/
سأنفجر مدوياً
ككوكب هائل
عسى
في خضم هذا الليل الطويل
أن تعرفي مكاني..

17

أنا يا ديما
سنديانة هرمة
وأنتٍ ألف عصفور
يغرد عليها.
/
اخبريني يا ديما
إلى متى يستطيع المرء
أن ينام ويصحوا
ليتكسر كالأمواج
على صخر ما هو تافه
وما هو فارغ.

18

أعرف أعرف
بأن فمكِ مقفلٌ
كالبرعم الصلب
في وجه قبلتي
وأن جميع أمنياتك لي
بالدفء
لن تحول بلا موتي
من البرد
بدونك..

19

عندما أموت
وتمتلئ عيناي بالتراب
ويحرق الصقيع كلَّ الغابات التي
نمت على جسدي
أريد أن أعود على شكل
موجة بحر زرقاء
تمسح برفق
قدمي مدينتي اللاذقية
إلى الأبد.. *


إقرأ أيضاُ