(فواز طرابلسي: - عدسة وائل اللادقي)
|
على استرسال فواز طرابلسي وسجاليته والفته ودماثته أيضا يبقى فيه شيء من السر، فهذا الوجه الايقوني ليس تماماً لمناضل أو كاتب أو حزبي، صورته تسبقه لكنها ليست ناتئة كلياً. يشبه الشعراء أكثر من الشعراء أنفسهم لكنه يكتفي بحب بعيد للشعر. ولا تعرف من أين يجد ولع حياته في الغرنيكا والأغنية الرحبانية على سبيل المثال. يلعب بكرات مختلفة بدون أن تكون عليه هيئة اللاعب، ويعلّم وجوده بشتات علامات لكنه يبقى واحداً وأكثر من أي شخص آخر.
يكاد أن يكون بلشفياً قديماً لكنه أيضاً معلم جلود شارح ومُناظر لا يتعب وفتى معاصر بالأحمر أو بغيره، لكنه لا يشيخ. لا ننسى أيضا عراقة تشده شاء أم أبى إلى عيسى اسكندر المعلوف جده وفوزي وشفيق المعلوف خالَيه. ابن بيت ولولا ذلك لما وجد أرشيفا ومكتبة. لا نعرف لذلك من أي مكتبة خرج لكنه مع ذلك الأقل التباساً والأكثر وضوحاً. وإذا تعدّدت نوازعه لا تتعدّد صورته، ثم انه من الراديكاليين القليلين الذي يفهم معنى الصداقة ويعيش ويحارب بلا صخب، كتاباه الأخيران (يا قمر مشغره) و(إنْ كان بدّك تعشق) هما أيضا صورتان شخصيتان وعامتان، معه كان هذا الحديث.
* بداية أسألك هل ما زلت لينينياً؟
لا بالمعنى الآني: إذا كانت الفكرة الأساسية من اللينينية هي دكتاتورية البروليتاريا أو اسميه النزعة الارادوية في بناء الاشتراكية: تغليب العنصر السياسي على الاقتصادي، واعتماد الفكرة التي تقول بان البناء الفوقي المتقدم يجر البناء التحتي، وإذا كانت اللينينية هي الفكرة السائدة حول الحزب الانقلابي، يمكنني هنا القول إني لست لينينياً، ولكنني اعتقد انه من الظلم أن يُعرف لينين انطلاقاً من هذه الاعتبارات فقط، والأثر الذي يبقى صالحاً إلى اليوم هو فكرة التحليل المحدد لظرف معين. لا يزال هذا صالحا لفهم توازن القوى وكيفية تغيّر علاقات القوى التي انتقلت الآن من الطور الصناعي الى الطور الذي يمكن تسميته بالكومبيوتري أو السيبرنتيكي، وتوسّعت فاكتسحت أسواقاً كانت مغلقة سابقاً بسبب الكتلة السوفياتية ودوران ثلث اقتصاد العالم في تلك الدائرة المقفلة المتمثلة بدائرة الدول الاشتراكية.
في هذا الطور الذي نعيش، تسمح أدوات الماركسية أكثر من أي أدوات أخرى بفهم الواقع في أشكاله المختلفة، سواء من حيث اتجاهات التطور الرأسمالية التي لا تزال حقيقية في سعيها وراء معدلات الربح، أو من حيث التناقض بين الإنتاج والاستهلاك والدور المتزايد للثقافة في الرأسمالية، إضافة الى مفهوم صنمية السلعة الذي يكتسب أشكالاً مجسّمة.
وأشدّد هنا على الدور المتزايد الذي تلعبه الثقافة في الترويج للرأسمالية، ودور الصنمية أي تحوّل البشر إلى عبيد لمنتجاتهم وتحوّل السلع إلى عالم مهيمن على البشر، وهنا يأتي دور الإعلام والثقافة والفكر في ترويج السلع التي يعبّر عنها فن الإعلان ووسائل الإعلام المختلفة. اعتقد أن هذه النقاط بين الأمور الأساسية التي لا تزال تشكل مصدر إلهام في فهم عالمنا المتعولم في هذا الطور الجديد، بهذا المعنى اسمح لنفسي بأن أقول بأنني ما زلت ماركسياً، وما زلت مقتنعاً بأن المنظور الرئيسي للأشياء هو النظرة التاريخية، لا أزال أعتقد بأن التاريخ يصنع البشر، وأنه توجد طبقات لا تشكل التنظيم الأوحد للبشرية إنما هي أحد أشكال التنظيم في العلاقات الاجتماعية الرئيسية التي لا تستبعد سواها، بل تفعل فعلها من خلالها وتتفاعل معها، بمعنى أن الطبقات تتفاعل مع الصراع بين الريف والمدينة، ولا تلغي التفاوت بين العمل الذهني والعمل اليدوي، وهي تتداخل مع الأشكال ما قبل الرأسمالية، وتعيد إنتاجها مثل الاثنيات والمذهبيات المختلفة التي لا تشكل بقايا الماضي إنما هي عناصر من مراحل سابقة أعيد إدراجها في عالمنا المعاصر، هذا ما يفسّر أحد أبرز تناقضات هذا العالم، ففي الوقت الذي يزداد فيه هذا توحّداً في مستويات معينة مثل الإعلام والاتصالات، يزداد تذرراً الى ما دون الدولة القومية والى أشكال الهويات المختلفة من أثنية ومذهبية وأقوام، اعتقد أن إحدى المفارقات الكبيرة في الماركسية هو أن فترة إعلان وفاقها تصادف أشكالا من إحياء دورها خصوصا في المجال الثقافي، النظري والفكري، يكفي النظر الى الكم من الأدبيات الماركسية اليوم خاصة في العالم الانغلوسكسوني، وربما لأن الماركسية لم تعد خطيرة سياسياً بدأ نفوذها يزداد في العالمين الفكري والسياسي. وهناك لذلك إسهامات كبيرة، جدا في كافة الحقول بما في ذلك النقد الأدبي والثقافي. هناك أيضا هذا الربط المتجدد بين الماركسية وعلم النفس والفرويدية ذلك يجعلنا شهودا على انتعاش مدهش لماركسية متجددة. لا يجوز مع ذلك إغفال أوجه من الماركسية خصوصا تلك ذات الادعاء النبوي والتي أثبت التاريخ عدم صحتها، وخطأ تصوّر أن هناك طبقة وحيدة يمكن أن تختزل الكونية وان تكون بالتالي واسطة التغيير الكوني.
أعتقد أن هذا الاختزال الطبقوي تاريخي ومرّ عليه الزمن ويحتاج أن يُهمل، يتمّ البحث عن قوى جديدة هي القوى المناهضة للعولمة والمتضرّرة من المسح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. هذه القوى هي تلك التي يجب التعرّف عليها كونها ليست معطاة سلفاً. هنا تجدر الإشارة ثانيا الى ماركسية التبسيط في الاستقطاب القائلة إن كل مجتمع يحوي دائما طبقتين متعاديتين وميلا للطبقات الوسيطة الى الانفكاك والاضمحلال، هذه النقاط هي أيضا من النبوءات التي سقطت. لون كهذا من الماركسية يفترض أن تعاقب المراحل في التاريخ يؤدي بالضرورة الى تجاوز الرأسمالية، تلك النظرة الحتمية في التاريخ تحتاج الى إعادة نظر جذرية. هناك خيارات قد تذهب في اتجاهات مختلفة. إذ لا يوجد قوانين حديدية ترسم ما يجب أن تفضي إليه الرأسمالية... إنما الأكيد في الرأسمالية هو أنها سمحت لأول مرة للبشر بأن ينتجوا ما يكفي جميع البشر، وان مؤسسة الرأسمالية بحد ذاتها أو مؤسسة الملكية الفردية باتت تعوق سد الحاجات الأولية لجميع سكان المعمورة.
ماركس بدأ في مجتمع ديمقراطي. كانت الديمقراطية معطى اجتماعيا، كما أن المفكّرين الاشتراكيين أو الماركسيين الأوائل كانوا يسمون أنفسهم الديمقراطيين الاجتماعيين، وفكروا أن الديمقراطية السياسية متحققة وأنها متناقضة بمعنى أنها تحققت في ظل الرأسمالية وليس بسببها والديمقراطية هي نتاج الصراع الاجتماعي في ظل الرأسمالية. وليست الإنتاج الطبيعي للرأسمالية. هذا موضوع يجب الكلام عنه بوضوح، فالجمهورية الفرنسية تطلب مجيئها قرناً كاملاً وثلاث ثورات، وبالتالي فإن للعمال والفئات الشعبية دوراً في فرض الانتقال من الانتخاب بناء على قواعد الملكية إلى الاقتراع العام وفرض انتخاب النساء وتوسيع الحريات وفرض حرية العمل النقابي، وبالتالي ما نسمّيه ديمقراطية وهو إعلان المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين في الدولة يقابله عدم مساواة في المجتمع. الماركسيون افترضوا أنه بناء على الديمقراطية السياسية أن تستكمل بالديمقراطية الاجتماعية، أما الآن فالمزج بين قيمتي الحرية والمساواة هو الذي يسمح ببناء ديمقراطية سياسية تغتني بأن تتحوّل تدريجياً أو بقفزات تبعاً لمنطق الأحداث، إلى ديمقراطية اجتماعية.
المناضل والمثقف
* لو اقتربنا ناحيتك، لرأينا أنك تتكلّم عن نفسك بوصفك متجاذباً بين السياسة والثقافة، أي أن فيك الكاتب والمفكر وهناك المناضل. هذا المناضل الموجود حالياً خارج كل الأطر الموجودة، كونه ليس ضمن حزب أو مجموعة ولا جبهة، كيف يستطيع الاستمرار وحيداً، وكيف تسمّي النضال وجهاً أساسياً لك؟
أشكرك على تسميتي مناضلا، لأنها تميّزني عمّا يدرج على تسميته (السياسي) أنا لست سياسياً وإذا كنتُ قد لعبتُ دوراً في منظمة العمل الشيوعي والحركة الوطنية تولّيت فيها مسؤوليات قيادية، فإن ذلك لا يعني أني أصنف نفسي كفرد يعمل في السياسة.
لم أعد أجد الآن تناقضاً بين كوني مناضلاً وكوني مثقفاً وأستاذاً جامعياً للسبب الآتي: منذ سنوات قليلة بتُّ لا أمارس أي نشاط عمليّ، سوى ما قد تعتبره نشاطاً رمزياً من توقيع عرائض وحضور بعض المناسبات الضرورية وأعني بالمناسبات الشعبية منها. في الفترة الأخيرة تحديداً تركّز جهدي الرئيسي على العمل والإنتاج في المجال الفكري، ولست أدري إذا كان هذا يُسقط عنّي صفة المناضل، حاولت المزاوجة في فترة معينة بين النشاط العملي من النمط التنظيمي والحزبي وبين الكتابة والنشاط الفكري. أنا الآن لست منضوياً في أي تنظيم ولا مشاركاً في أي مشروع لتنظيمات أخرى؛ لسبب واضح كثيراً على الأقل بالنسبة إليّ وهو أن اليسار الذي أنتمي إليه (بالجملة) منقسم انقسامات لست مقتنعاً بضرورة الانحياز إلى طرف من طرفيها الرئيسيين المتمثلين بالحزب الشيوعي اللبناني وحركة اليسار الديمقراطي.
ما يحتاجه اليسار هو ابتداع رؤية مبنية على معرفة متجدّدة لواقع متغيّر هو لبنان ما بعد الحرب، رؤية بكل معنى الكلمة، تكون مشدودة لآفاق واسعة. لا تأخذ بعين الاعتبار العالم الذي نعيش فيه فقط بل تكون قابلة لأن تلهم مخيلة وحماس جماهير. ربما كان الخطأ سابقاً أن نبدأ من أزمة الرأسمالية والانهيار الحتمي، الأمر الذي جعل الوثائق تبدأ دائماً بالخط العالمي، أما الآن فأنت إذا لم تبدأ من العالمي لن تفهم شيئاً. لا من وضعنا العربي، ولا من وضعنا اللبناني. هناك بالتالي نوع من القروية والبلدية الطاغيتين على اليسار اللبناني. اعتقد أنهما من أسباب عدم اقتناع الناس فيه. لا أشعر بالانحياز لطرف من هذين الطرفين أولاً لسبب ديمقراطي يعنيني كثيراً فأنا لست مقتنعا بالتبشير بالديمقراطية من قبل أناس يضعون فيتو على الجلوس مع بعضهم وبحث القضايا مهما كانت.
هناك نفاق كبير في رأيي في دعوات الانفتاح عند اليساريين إذ إنهم عاجزون عن اللقاء وتحمّل التحديات الكبرى المطروحة عليهم معا. أنا لست من المتحمّسين لأي تيار من الوحدة، أنا مع تيارات متعددة أو تنظيمات متعددة تعطي الأولوية لانتماء اليسار. ما نحن شهود عليه برأيي هو أن اليسار، بخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، ضاع أمام ما فُرض على البلد من انقسام مفتعل حول الوجود السوري معه أو ضده بين أجنحة متضررة من هنا، أي من النظام، وأجنحة متضررة من هناك، وبالتالي أصبح دوره الأساسي اقرب الى الالتحاق منه الى الاستقلال. الموضوع الثاني بعد الاستقلال هو الموقع، فمن يمثّل اليسار علماً انه لا يوجد طرف يمثل كل الناس، وبالتالي فإن يجدّد تمثيله أم لا يجدد تمثيله، يبقى هو السؤال الكبير، لكل هذه الأسباب وغيرها أركز الآن نشاطي الرئيسي على عدد من المشاريع الكتابية والثقافية.
* بين ما كنتَ وما أنت عليه الآن، ألا ترى أنك بدون قصد انضممت الى هذا الصف من المحاربين القدماء والشخصيات الوطنية التي هي غالباً صف من الناس يعيش على قيمة رمزية وعلى حضور رمزي دون أن يكون له وضع عملي، وبهذه القيمة الرمزية قد يكون معيقاً أو ثقيلاً على حركة الغير؟
السؤال في محله، اعتقد أن النية التي عدتُ بها الى البلد منذ حوالي عشر سنوات أو اقل بقليل، وما حاولته منذ أن غادرت العمل السياسي التنظيمي العام 1984 تقول العكس تماماً، مما فعلته هو محاولة تجديد الصلة أو تجديد شرعية الحديث والقول وشرعية العلاقة مع الناس انطلاقاً من مراجعة التجربة السابقة. لا أعتقد أن كثيرين من زملائي الذين أسميتهم شخصيات وطنية عذّبوا أنفسهم كي يقوموا بهذه المهمة، إنْ لجهة المراجعة العلنية للتجربة واستخلاص دروس منها، أم لجهة الإفصاح عن أفكارهم الجديدة ووضعها على محكّ رأي الناس فيها. بالتالي لا أجد نفسي شخصية سياسية إطلاقاً، كون هذه الشخصية تلعب ضمن إطار لست منتميا أبدا إليه وهو إطار عام اسمه (العمل السياسي)، وكنت أتمنى وما أزال وسأظل أسعى الى إقناع العدد الأكبر من اليساريين بأن مهمة اليسار الآن أن يعيد تأسيس نفسه لا أن يستمر حيث هو الآن، وأعتقد أن الخطأ الأكبر الذي يُرتكب هو عدم الاستعداد لوقفة تجديد النفس وإعادة طرحها على الناس بهدف كسب ثقتهم.
الذي يتمّ على الأرض هو العكس أي التوجه الى السلطة واستدرار اعتراف أوساطها باليسار وفرقه المختلفة. أزعم على الأقل بأن المهمة هي العكس تماماً. عبّرت عن ذلك بأشكال مختلفة في خطابي بمناسبة منح الوسام للرفيق كريم مروة، فوظيفة اليسار هي تماماً عكس ما يجري. ما يحصل هو أن جيلاً من قدامى اليسار يعتقد بأنه مظلوم لأن هذا النظام لم يعترف به وبالتالي يبحث عن مكان له داخله، في حين أنني أشعر بأن اليساريين كما أكثرية اللبنانيين خسروا الحرب ويخسرون في السلام، ووظيفة اليسار أن يكون معهم.
الأوهام التي تفترض بأننا كنا انعزاليين أو طبقويين تفترض توليد انفتاح، فعلى من سيكون الانفتاح هذا؟ أولا مَن نحن؟ الانفتاح يتمّ الآن على أجنحة متضررة من النظام تسعى الى الانخراط فيه أكثر، واليساريون يتلبّسون الى حد كبير إشكالياتها وهمومها.
على محكّ المراجعة
* تقول إنك دعوت كل (الشخصيات الرمزية) الى مراجعة أنفسها، خلال مراجعتك لنفسك عبر مذكرات (الفتى بالأحمر) كان انطباع الكثيرين أنك بهذه الطريقة تعيد تكريس التجربة وإعطائها اعتبارا جديدا، دون أن تكون مراجعة أو نقدا فعليين لها؟.
أولاً الكتاب لا يحوي الجزء المتعلق بتقييم تجربة المنظمة اللاحقة التي أتت بعد العام 1976، كتبتُ بأشكال كثيرة حول هذا الموضوع. أحبّ أن اعرف أين الخطأ في هذا النص الذي يقدم رؤية للحرب اللبنانية، وكيف يكرّس التجربة التي تقول بوجود طرفين اولهما الحركة الوطنية ومعها الشيوعية يفرضان على اللبنانيين الإصلاح بواسطة السلاح، وثانيهما، طرف يدافع عن النظام بواسطة السلاح. الوجه العسكري للحرب هو الذي كرّس قسمة اللبنانيين وعمّقها طائفياً وسمح بالتدخّل الخارجي فيها، في نهاية الحرب كل الأطراف خاسرة، والدروس البليغة هي أننا نستطيع أن نفرض أي شيء بالقوة في لبنان. كما أن الاستنجاد بالخارج والاستقواء على طرف لبناني بالآخر هو جريمة. نصّي يقول أيضا بضرورة عمل رؤية جديدة نقدية لموضوع الطائفية الذي يتجاوز بكثير التبسيط الطائفي الذي يدخل بكل التعقيدات أنا غادرت العمل الحزبي احتجاجاً على استمرار الحرب، هذا موقف لم تتقبّله منظمة العمل الشيوعي، ولي كتابات كثيرة في هذا الخصوص.
قال الكثيرون بأن شهادتي ناقصة، أنا أقول إن كل شهادة ناقصة، ولكني أعتقد أن ثمة شيئاً ينبغي الوقوف عنده اليسار مصاب بمشكلة اسمها ضرورة النقد الذاتي، التي هي ممارسة مهمة وخطرة في الوقت ذاته، وبالتالي قد يقضي الإنسان حياته كلها وهو يقول بضرورة النقد الذاتي، ويتلكأ عن هذه الممارسة هذه بحد ذاتها مشكلة، خصوصا انه أُفسح ويُفسح المجال أمام ردتي فعل غريزيتين، فإما أن نقول لو عادت الأحوال الى ما كانت عليه العام 1975 لما فعلنا غير ما فعلناه، وإما أن نقول إن كل ما قمنا به خطأ نقيضه صحّ. أزعم على الأقل بأنني ساهمت في التفكير في هذه المسألة التاريخية أي التساؤل عن ماذا أقدمنا حين أقدمنا، وما الذي كان يوجّهنا. قلتُ الدافع كان حداثويا وطبقويا. كان هناك حزب الكتائب الذي تقوده البرجوازية واعتبرنا أننا إذا قمنا بتخويف البرجوازية بالسلاح الفلسطيني فإنها ستسمح بالإصلاحات، واعتبرنا أنه يمكن استخدام الهراوات الفلسطينية لفرض الإصلاح. طبعاً هذا اجتهاد مفتوح للنقاش لكنها محاولة في التفكير على الأقل، أما عن تكريس الكتاب لتجربة منظمة العمل الشيوعي فإنني غادرت المنظمة عام 1984 لاقتناعي بأن محاولة تجديد اليسار قد انتهت، وأنه كان بالإمكان إنقاذها بخطوة واحدة هي إيجاد وسيلة تمكّن الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي من التوحّد في ظل الانهيار الذي حدث بعد العام 1982. إلا أن هذا الاهتمام كان غائباً عن كلا الطرفين، وسار كل طرف بالاتجاه الذي سار فيه.
سيرة ذاتية
* كتبك الثلاثة (مذكرات الفتى بالأحمر)، (قمر مشغرة) و(عن أمل لا شفاء منه) عبارة عن سير ذاتية مختلفة، فما هو الدافع الذي يجعل مناضلا عاما مشغولا الى هذه الدرجة برواية سيرته الذاتية.
بإمكانك أن تضيف كتاب (يوميات اليمن) وان تحذف كتاب (قمر مشغرة) كونه، وعلى عكس ما يظن البعض، ليس من سيرتي الذاتية.
ولكنه يستنتج وضعا كاملا من خلال النبش في الأوراق العائلية.
الجواب الأبسط والبديهي هو الآتي: أنا مقتنع بضرورة تقديم التجارب السياسية بكل أنواع التعبير، وآخرها التعبير الفكري السياسي. كان قراري الذي اتخذته منذ بداية الحرب ونجحت في تنفيذه يقضي بالكتابة بكافة الأشكال، ولم يقتصر إنتاجي على السيرة الذاتية، فكتاب (يوميات حصاد بيروت) مثلا عبارة عن يوميات وليس سيرة ذاتية على الإطلاق، كتبت أيضا نصا في النقد الفكري اسمه (صلات بلا وصل، نقد لفكر ميشال شيحا)، فأول المحاولات كانت التفكير بالمدينة كمشهد. كتاب (غرينكا بيروت) روى سيرة الحرب اللبنانية من خلال الحرب الأسبانية وحاول أن يقيم صلة بين لوحة وبين مدينة في الحرب. لدي تعدد في الأساليب وهذا التعدد يخرج عن سياق النص الواحد الذي تتبعه السيرة الذاتية. كتاب (وعود عدن) في الأدب السياسي كتبت معظم مواده خلال زيارتي لليمن وهو يظهر طريقتي في التعبير عن تجربة اليمن الديموقراطية وعن علاقتي بها. (يوميات حصاد بيروت) يوميات كتبت خلال الحصار ولم يُضف إليها شيء. الفكرة المركزية عندي هي ضرورة الكتابة عن هذه التجربة بكل الأشكال، فقد يكون التعبير الأدبي والروائي والفني واليوميات أنجح في التعبير عن الفكر السياسي من السياسة بحد ذاتها، لا أحاول هنا استبعاد الفكر السياسي، ولكن هذا التعدد في الأشكال يسمح بإحاطة اكبر بما يسمى أحداثا سياسية بينما هي في حقيقة الأمور ليست أبدا مجرد أحداث سياسية، وتحويل الحرب في لبنان الى مجرد حدث سياسي أو عسكري هو بحد ذاته مجازفة شديدة. بهذا المعنى أنا أكمل مسيرتي على نفس الخط. كتاب (يا قمر مشغرة) يشكل باعتقادي دراسة سوسيولوجية تنبثق من صلب اهتمامي لفهم المجتمع اللبناني والعلاقات السياسية فيه. وحدها الصدفة ومصاهرة عمي لسليمان طرابلسي مكنتني من أن أقع على عدد من وثائقه عندما كنت لا أزال طالبا في الجامعة الاميركية، وبالتالي وجدت لها لاحقا دورا في دراسة العائلة والحزبية العائلية بما هي إحدى محاور إشغال النظام اللبناني في دراسة محددة جدا بحدود الأرشيف الذي في تصرفي. حاولت أن افهم ظاهرة مهمة في تاريخ لبنان في ظل المتصرفية وهي الانتقال من النظام (المقطعجي) الى نظام ملكية الأرض انطلاقا من التجارة، أو الربا، وحاولت أن أتابع سيرة وجيه في علاقات المحسوبية مع زعماء البقاع والمركز البيروتي، ثم جازفت بأن أتابع بعد وفاة سليمان طرابلسي تكون العائلية وانقسام العائلة في القرية والتأثير المتفاعل للحزب العقائدي على الحزبية العائلية والعكس بالعكس، وقفت عند أسئلة مدهشة، لماذا تتكون حزبية عائلية وكيف؟ ولماذا هناك عائلات توالي الأخرى؟ أسئلة لا تلقى أجوبة حاسمة عليها وأعتقد أن أي دارس للحزبية العائلية سوف يتوقف عندها ليتبين إلي أن الجوار مهم، فالمكان في القرية له علاقة بالمقام الاجتماعي، وبالتالي إذا قدمت عائلة من خارج القرية فإنها ستكون خارج مركز القرية ومن حزبيات أخرى، كل هذا يقع ضمن مشروع كتابة متعددة المناهج لموضوع واحد اسمه المجتمع اللبناني وقضاياه، في هذا المعنى أنا ميال الى المجازفة الكبرى مع تعدد المناهج أو الاختصاصات في الكتابة، هذا قد يكون فيه بعض الادعاء في أحيان وبعض الخصوبة في أخرى، الأمر متروك للقارئ.
* في إجابتك، لم تشر ولا مرة الى النزعة الأدبية، إذ لا يمكننا الحديث عن نزعة أدبية ملجومة أو عن ميل روائي مكفوف.
أحلم بأن أكتب رواية ولدي يقين عميق من قلة موهبتي في هذا المجال، مجال القص، أنا أكتب في الأدب السياسي بدون أدنى شك، أنا معجب بالرواية وذواقة للرواية والشعر، ولا يضايقني أبدا القول بأنني أسعى أحيانا الى إدراج شاعرية ما في النص النثري، لا اكبت إطلاقا ميلا الى الرواية، كل ما في الأمر هو أنني لا املك استعدادا لها ليت الرواية بسهولة السيرة الذاتية، ربما كان مفهومي للرواية كلاسيكياً قليلا، إذ أنني لا أحب الروايات التي تختلط فيها الوجدانية بالسيرة الذاتية، أحبها أكثر بصفتها حكاية وبناء شخصيات، وبالتالي أنا ميال للرواية التاريخية وإذا وجدت في نفسي جاهزية لذلك سأفعل، محمود درويش يسمي ما أمر به بالشذوذ الأدبي، وبلا خجل أقول إني أسعى الى تربية هذا الشذوذ (يضحك) بهذا المعنى كل كاتب يختار أنواع الكتابة الأكثر قدرة على ممارستها، عندي شعور أنني أغامر أكثر من اللازم في الأنواع الكتابية، بما في ذلك اقتحام مجالات مثل الكتابة الشعبية.
* أنت الشخص الذي ترجم شعرا واهتم بالشعر والأدب، وكتب عن الغرينكا، وبسرعة وبدون تردد كتب سيرته الذاتية، وهذه أمور تنم كلها عن الشذوذ الفني الذي تتكلم عنه، لكن عندما أقرأ مذكراتك أحس بأن هذه النزعة لقص الحكايات ممسوكة جيدا برغبة دائمة لمنع أي عمل للخيال.
إذا قرأت كتاب (عكس السير) الذي يضم عددا من النصوص في النقد الأدبي والفني، ربما كنت ستعدل سؤالك قليلا، لأن غرينكا وترجمتي لجون بيرغير عن وجهات الثقافة، واحتواء (عكس السير) لثلاث أو أربع دراسات منها واحدة عن شعر محمد مهدي جواهري والقراءة النقدية للمرأة وتصنمها السلعي في الإعلان، وحديثي عن زيارة متحف الفن الحديث في نيويورك، كلها نصوص لا تشكو من قلة الخيال.
ليس لدي الشعور بأنني أحرم نفسي من هذه الألوان في الكتابة وأؤكد بأن النتاجات اللاحقة ستواصلها، حبذا لو أكتب أكثر في هذه المجالات كونها جديدة، فأنت تتحدث عن نص الفتى الذي مضى عليه حوالي سبع سنوات، إذا كان هناك من مكبوت فهو يظهر أكثر الآن (يضحك).
* دعنا ندخل في الثقافة الشعبية، فمن أين ينبثق هذا الاهتمام إذا ما قارناه بكتاباتك المختلفة؟
المصدر الرئيسي هو عدم اقتناعي بأن المثقف هو الذي يتعاطى بالثقافة العليا، وربما بسبب التأثير العميق لغرامشي علي، وبسبب بيئتي وما فيها من أصداء علاقاتي الريفية أيضا لدي، في كل ذلك نوع من الصلة بالناس يقنعني أكثر فأكثر بأن هناك عبقرية شعبية يتجاهلها عادة المثقفون العرب، عندي قناعة نفس بأن المثقف يعيش على عمل آخرين وبأن لا فارق كبيرا بين الثقافة العليا وتلك المسماة (بالدنيا) فأمهات الأعمال العظيمة في العالم تعكس الإنتاج الأدبي وبالتالي فالفن الشعبي هو نتاج جماعي للناس، بهذا المعنى كنت دائما مهتما له. كتاب (إن كان بدك تعشق) هو على هامش كتاب آخر كان نتيجة جهد طويل استمر لعقود من الزمن وتمثل بقراءتي الدائمة للمسرح الرحباني، مما أوصلني للدبكة وجعلني اكتشف أن تاريخ جبل لبنان مربوط بإنتاج أوحد اسمه الحرير، وبالتالي يستحق التفكير الأدبي والتاريخي فيه، وأنا كما غيري تشبعت بقراءة روادنا في الثقافة الشعبية وفي طليعتهم مارون عبود وسلام الراسي وأنيس فريحة، مما جعلني استنتج أن هناك وسيلة أخرى للنظر الى الأمثال الشعبية باعتبارها أشكالا من الحكمة والتأمل في الحياة والمجتمع، أضف الى ذلك اهتمامي بالطقوس. الأربع أو الخمس دراسات التي كتبتها بهذا الصدد نشأت على هامش اكتشافي بأنه خلال الفترة الفاصلة بين الحربين اللبنانيين أنتج الأخوان الرحباني وفيروز عددا من المسرحيات التي تروي بالقص الشعبي قصة أحداث لبنان والمنطقة، هذا البعد مهمل تحت وطأة سحر صوت فيروز ورهبة اللبنانيين وإيثارهم التعرف على الأغنية الرحبانية أكثر من المسرح الرحباني. هذا ألقى عليّ مشروعا قديما لا أستطيع أن أغادره.
أنا أميز بين ما اسميه ثقافة شعبية وفلكلورا، فالثقافة الشعبية هو ما ينتجه المنتجون المباشرون أما الفلكلور فهو إعادة إنتاج أرشيف البيئة المدينية من قبل أناس لم ينتجوا هذه الثقافة أصلا.
اعتقد أن قسما من هذه الثقافة الشعبية صارت تراثا، إلا أن القسم الأقل بهجة وخيالا من الريف هو حاضر الحياة في المدينة، وهو حضور متزايد لأشكال العصبيات والولاءات والقيم.
السفير
24- 12- 2004
إقرأ إيضاً