ليست (سيدي وحبيبي) رواية عن الحرب لكن ما جرى في لبنان لا يمكن أن نتخطاه

عباس بيضون
(لبنان)

هدى بركاتأن نتحدث إلى هدى بركات فهذا يعني أن عليك أن تتلقى أيضاً أسئلة وأن تستعد أحياناً لتجيب، لطالما تحدثت مع هدى. أفعل ذلك أحياناً لأستعيد لغتي أو أفكاري أو حتى انفعالي فنادراً ما تكون التجربة هي بيت الكلام بهذا المقدار ونادراً ما يمكن للحديث نفسه أن يكون تجربة.
هكذا يبتعد الحديث عن السؤال ويولد أسئلته الخاصة أو يبقى معلقاً كسؤال كبير لكن ضروري لنستمر في العيش لنتنفس ونفكر.

* (رسائل الغريبة) كتاب فيه شيء من السيرة الذاتية، بينما كتبك الأولى تبدو كأنها تتعمد تمويه السيرة الذاتية أو الابتعاد عنها والكتابة بخيط روائي. ملاحظتي الشخصية أن (رسائل الغريبة) كتاب يختلف حتى بأسلوبه.. هل في داخلك كاتبان؟ كاتب للرواية وكاتب للسيرة الذاتية؟

عندما كتبتَ عن (رسائل الغريبة)، قلتَ ان هذا أكثر كتاب يشبهني. قد يكون ذلك صحيحاً إذ إنه يتضمن وقائع من حياتي، وأسماء أطفالي، كذلك تتكلم فيه امرأة. لكن أنا، في العمق، لا أرى الأمر على هذا الشكل. أعتقد ان كتبي الأخرى التي تبدو لك بعيدة عن السيرة الذاتية، هي السيرة الذاتية الحقيقية.
وهذا يدعو المرء لأن يطرح على نفسه أين هو في العمق؟ في الروايات التي تشبهه أقل شيء ممكن، لأن هذا بالفعل عالمه الحقيقي الباطني، عالمه الذي يعيش فيه باستمرار، عالم الأفكار الثابتة التي تعود؟ هل وجوده هو ذلك الذي لا جنس له.. لا رجل ولا امرأة؟
في (رسائل الغريبة) شعرت بحاجة للكلام عن الهجرة بشكل مختلف عما كتبه المهاجرون.. ليس نوستالجيا ولا نوعاً من الحنين إلى الوطن. فنحن، في هذه الأيام، في هذا الزمن، في عالم اليوم، ليس لدينا إحساس بأننا مهاجرون.. أقله أنا.
أوّلاً ما عاد البعد الجغرافي يعني شيئاً.. فأنت تعمل مع لبنانيين في فرنسا وتلتقي بعدد من هؤلاء أكثر مما قد تفعل في لبنان. كذلك، يصلك البلد بشتى الوسائل والطرق.. أي دكان قد يبيعك منتجات لبنانية.
بالنسبة لي، لا أشعر بأن هذه الهجرة تشبه الهجرة السابقة. تضاف إليها أمور أخرى لا يمكن تفسيرها.. فأنت لا تحيا في بلدك، ولأنك سافرت في سن لم يكن جهازك العصبي قادراً فيها على الانتظام بشكل مختلف عن الحياة في البلد الأول. إلى ذلك، لا كلام سبق أن قيل يساعدك على فهم حالتك. فأنت لا تحب بلدك لدرجة أنك تحلم بالعودة إليه، بالطريقة التي كان يكتب بها المهاجرون.. كذلك لا أحد يمنعك من العودة لأسباب سياسية أو غيرها. لذا ترى جميع الناس يسألونك (ماذا تفعل في الخارج؟ تفضّل عد). ومن ناحية أخرى، لست قادراً على إنتاج أدب منفى كما يكتب أصدقاؤنا من كتاب عرب ممنوعين من العودة إلى بلدانهم.
لا أعلم إن كان هذا أقرب إلى السيرة الذاتية من الروايات.. أنا لا أفكر بهذه الطريقة. وأيضاً هو ليس كلام السيرة الذاتية الصادقة.. فيه كلام عن كيف يمكن للمرء أن يكون من مكانين في الوقت عينه أو ألا يكون من أي مكان. أن تشعر بأنك لست من مكان محدّد ليس أمراً مأساوياً، لكن عليك أن تساعد نفسك على كتابة هذا الشعور على الورق حتى تراه أمام ناظريك. هو لا يحمل ذاك البعد المأساوي للهجرة.
ولأجيب مرّة أخرى عن سؤالك، أعتقد بحق أن المناطق العميقة التي في داخلي يمكن إيجادها في الروايات التي كتبتها، أكثر مما قد نجدها في هذا الأدب الذي بحسب معرفتك بي يشبهني كثيراً.

حرب بلا حرب

* على الأقل، كتابك (رسائل الغريبة)، لا ينتمي إلى الأدب المهجري. لكنْ هناك شيء في (رسائل الغريبة) يظهّر أكثر بكثير، من الأدب المهجري، مسألة الوطن ومسألة المهجر المطروحين كسؤالين يصلان إلى الميتافيزيقية.. كسؤالين وجوديين. وأعتقد ان هذا لا يرتبط إلى حد كبير بالمهجر بحدّ ذاته، بل بالبلد الذي تركناه. بعد الأحداث الأخيرة في البلد، هل تعتقدين أن هذه الأحداث غيّرت من نظرتنا إلى البلد.. غيّرت من نظرتنا إلى أنفسنا؟ هل تدفعك إلى الشعور بأن سؤالك تغيّر بعض الشيء؟

من الممكن ألا يكون السؤال قد تغيّر.. لكن هذه الوقائع الأخيرة تجعلك تخضع لارتجاجات وجودية أقوى وأعنف. فهذا البلد، بلدنا، لا يُترك. لا يترُك اللبناني لبنان بسهولة، للأسباب التي أنا تركته لأجلها. هناك شيء مرضي قسري يدفعك إلى ترك بلد مثل لبنان.
وكما ذكرت سابقاً، نحن لسنا مضطهدين سياسيين حتى (نهج) من بلدنا.. ولم نسافر مثل أجدادنا لأسباب اقتصادية، على أساس أننا فقراء ونسافر لجمع المال. مغادرة البلد حتى لا أقول (هجرة) ليس لها معنى.. لا خلفية مقنعة لها. ليس فيها شيء تسامح نفسك عليه لأنك تركته. فإلى جانب انه بلد جميل، الحياة فيه سهلة وطقسه رائع.. يفقدك رشدك.
وكأن شيئاً.. حصل من دون أن تتمكن من تفسيره، ركلك ودفعك إلى خارج البلد. وهذا أمر لم نتمكن من فهمه ولا من استيعابه، ولم نتمكن من وضعه في أحد أدراج وعينا لنفسنا.. شيء اسمه الحرب أتى ودفعك خارجاً. رأيت نفسك في الخارج من دون أن تجد وجهاً مقنعاً لوجودك هناك، بالإضافة إلى أنه مقترن برغبة أكيدة لعدم الرجوع. أنت لا تريد أن تعود.
ما تسأل عنه، هو شيء يرتبط فعلاً بمعاناة وجودية. هو ليس أدب هجرة ولا أدباً سياسياً ولا أدب تشكٍّ ولا حتى نوستالجيا.. هو نوع من الخلل العميق في وجودك في مكان لا مبرّر لوجودك فيه، لكن مع رغبة أكيدة في عدم الرجوع إلى البلد.. إلى الوطن الأول.
عندما يرى المرء أموراً تجري من نوع الأحداث الأخيرة، يصاب باضطراب فظيع. وربما يتساءل مرّة أخرى (ماذا أفعل هنا؟).. ومرّة أخرى (لكن هذه أمور سبق أن خبرناها ولن تنتج شيئا). ومرّة أخرى يقول (أمراضنا ما زالت مكانها، وستظهر بعد قليل). هنا مزيج من الشك القلق المرير الذي يقول إن عليك أن تعود، على الأقل هذه المرّة، إلى البلد وفي الوقت نفسه لا تصدّق أن عليك العودة. شيء متناقض بطريقة مؤلمة، في بعض الأحيان.
عندما ترى المهاجرين الآخرين، لا يمكنك إلا أن تقارن هجرة اللبنانيين، إذا اتفقنا على تسميتها هجرة، بوجود العرب الآخرين في المنافي. لا نشبههم. لا يمكننا أن نتعاطى معهم وأن يتعاطوا معنا بشيء من التضامن بين الأغراب. نحن أغراب من لون خاص جداً.

* تضمّ الرواية الأخيرة (سيدي وحبيبي) مجدداً، كرواياتك السابقة، الحرب كموضوع أساسي. بعد الأحداث الأخيرة التي تتردد فيها فكرة تقول بأن تلك الأحداث قد تكون نهاية الحرب.. هل تفكرين بأن تكتبي مجدداً رواية تتضمن حرباً، بشكل وداع للحرب؟

لا أوافقك الرأي بأن الرواية الأخيرة مرتبطة بالحرب. هؤلاء الناس...
يوجد فيها حرب...
فيها بلد مأزوم ومضطرب لم يعد قانونياً ولا مواطنياً، وهو (فلتان) بالمعنى السيئ للكلمة. وأن تكون هناك ميليشيا إلى جانب بطل الرواية من دون أن يتعاطى معها وهو يحاول أن يبقى بعيداً عنها.. لهو في هامش بعيد جداً عما يجري في الحرب. يمكننا أن ننقل هذه الرواية إلى بلد آخر، حيث أي كائن بشري متروك فيه حتى يخترع هو قوته. ليس لديه أي شكل من أشكال الحماية.. وهذا واقع مجتمعات كثيرة من دون أن يكون محصوراً بالمجتمعات العربية.. على سبيل المثال مجتمعات أميركا اللاتينية. أشكال السلطة تختلف من بلد إلى آخر أو من وضع إلى آخر. لكن المأساة تبقى أنه عندما تضع أحداث رواية في لبنان، تأتي بسرعة قصة الحرب لتتملك بك.
لكن بما أن أحداث الرواية تجري في لبنان، وبما أن هذا البلد مرّ بحرب أهلية، أجدها مرّة جديدة حجة لأقول كيف أن الإنسان، وجودياً، يلاقي نفسه في وجه العالم غير المنظم لاستقباله، وكيف أنه يخترع قوته ومكانه. بمعنى أنه كيف يمكن أن يتعاطى أي إنسان مع مجموعة من العلاقات جميعها معادية له. على سبيل المثال، أين يبحث إنسان فقير عن الحماية؟ إذا كان عبداً ووقع بحبّ سيّده.. هل عنده حماية؟ فمشكلة تعاطي الفرد مع مجتمعات من هذا النوع.. لا أشعر بأنها ترتبط بالحرب. وعندما انتقلنا معه (بطل الرواية) إلى قبرص، لم يكن هناك مجتمع حرب. هناك مجتمع (فلتان).. لا بنية سياسية تدافع عنه ولا بنية أخلاقية ذات تأثير. والبديل الذي يقدمونه له، قد يكون حلاً دينياً.. أن يبحث المرء عن موقع له في المكان المطروح علينا جميعنا.
هل يمكن أن تجد مكاناً للذات من دون أن تؤمن بأن عليك ان تكون جزءاً من حركة فساد كبيرة وانهيار أخلاقي وتعاطٍ سلطوي فقط بمعنى القوة مع الآخرين؟ هذا ما حاولت أن أتعمق فيه لأنه السؤال الذي أطرحه على نفسي كلّ مرّة يجد ابني نفسه أمام خيار.. (هل عليه ان يساير الأستاذ؟) أو في الشارع عندما يصطدم بأحدهم (هل يستطيع أن يضربه بعصا من حديد أم ليس عليه أن يضربه؟).
هي مسألة مطروحة تقلقني وتعذبني لأنها مطروحة باستمرار. ربما يعود هذا إلى إحساسي بالنقص الفظيع.. فأنا مضطرة، كذلك رفاقي، إلى أن نخترع في كل يوم مكمن قوتنا. هذا ما تشعر به أكثر عندما تعيش في مجتمع مبرمج سلفاً.. وقد قال لك (هذه هي الحدود). أنت غير مضطر لإرهاق نفسك كثيراً. أنت تقرّر إذا كنت ستحتال على نظام الضرائب أم لا. كل شيء مرسوم.. هناك مجموعات تدبر حياتك كفرد وتترك لها هامش الاختيار. فليس كل شيء (فلتان) كما هو مطروح علينا. ونحن في كل لحظة من حياتنا نبحث عن أي مرجع أخلاقي.. دينياً كان أو سياسياً أو مواطنياً. لكن سرعان ما يجيبك المرجع (لا علاقة لي بك. دبّر رأسك).
لا أعتقد هنا أن هذه المسألة تتعلق بالحرب. هي مسألة (أين القوة؟) و(أين حماية الذات؟) و(كيف تختار؟).

* لم أتكلّم عن ضرورة أن تكون الحرب هي الموضوع المباشر.. قد تكون خلفية. وقد تكون كذلك معنى بذات نفسها للفلتان الذي تتحدثين عنه.. فهو إلى حدّ ما عالم الحرب أيضاً...

القاهرة (فلتانة) أكثر من عندنا...

* الإباحة المطلقة قد تكون إلى حد ما على علاقة بحالة تتفاقم في الحرب. على الأقل في لبنان، الإباحة المخيفة هذه تفاقمت في الحرب أو تولدت معها . لكن هذا لا يمنع أن نطرح السؤال الآتي: بعد الأحداث الأخيرة التي تعطي إشارة ما إلى أن الحرب قد تكون انتهت، هل ما زلت تفكرين بالكتابة عن الحرب؟ أو هل من الممكن أن تكون الحرب مرّة أخرى موضوع كتابة لك؟

أنت تصر على اعتبار الحرب موضوع كتابة...

* الحرب يمكن تسميتها خلفية الكتابة، منطلق الكتابة، أرض الكتابة...

الحرب بالنسبة لي هي نوع من التجربة البشرية الإنسانية التي لن أتخطاها في حياتي. حتى لو فرضنا أن شخصيات الرواية وأحداثها تجري حيث أقيم.. في فرنسا، إلا أنني شخص عاش هذه التجربة الفظيعة والكبيرة جداً.. لذا لا بد أن تأتي كتاباتي هكذا. فالحرب أعادت تربيتنا بشكل من الأشكال. ما يعني أن الشرط الإنساني الذي شاهدناه من خلالها، لا أعتقد أنني سأتخطاه في يوم.. حتى لو أن أحداث رواياتي وشخصياتها ليست في بيروت. فمن كتبها هو شخص مرّ في بيروت.. مرّ بما يمكننا أن نقوم به نحن البشر بعضنا لبعض.
التجربة بحدّ ذاتها تجربة كبيرة، مثل الآداب التي قامت في الخارج بعد هزّة عنيفة للشرط البشري. لغاية الآن، لم يتمكن أحد من حلّ مسألة أوشفيتز.. كيف وصل الإنسان إلى هناك؟ كيف لم يستفد من التجارب التي مرّ بها؟ كيف قامت حروب أهلية، والعالم بالتأكيد مرشّح لمزيد منها إذ إن الحروب غير الأهلية ممنوعة؟
في لبنان، ما مررنا به، هذه الحرب الأهلية، يمكنك ان تنسى كل ما حدث فيها.. يمكن أن يستقيم البلد ويمكنك أن تقرّر العيش في هذا البلد الجميل الذي اتخذ قرار تصحيح مساره فأضحى بلداً بديعاً. لكن، أين تذهب بما عرفته؟ بما خبرته عن الشرط البشري؟
أنت عباس بيضون، عندما أقرأ شعرك، لا يمكنني أن أفترض أنك لم تحيَ في بيروت.. حتى ولو كانت كتاباتك لا علاقة لها ببيروت. لا أحد يمكنه القول إن عباس بيضون عندما يركّب الإنسان المتكلم في شعره، هو شخص بريء لم ينتفض ولم يعش. هذه حصيلة أنك تتحدث عن معركة حصلت تحت المنزل الذي تقيم فيه.. أنت تتكلم عن رفيقك الذي تغيّر.. تتكلم عن ابنك الذي لا تعرف بما تجيبه لأنك أنت كعباس بيضون اختلّت قناعاتك مرّات عدّة.. قناعاتك السياسية اختلت وبالتالي قناعاتك بإيمانك بالبشر وببرنامج أحلامك لهم.
ماذا تحب أن تقول لابنك؟ مرّات عدّة نحن لا نقول شيئاً لأولادنا، لذا هم أكثر الأشخاص القلقين بين أقرانهم. ما تكتبه أنت لا يمكن ان يكون إلا من هنا.

باتجاه ما لا يشبهني

* أعود لأسألك السؤال الذي طرح عليك كثيراً.. ما معنى أن يكون الراوي في كتاباتك دائماً رجلاً؟ هل هذا يجعل من الرواية روائية أكثر، بمعنى أن العمل يكون روائياً بحتاً.. يجنّبك مغاطس الأدب الذاتي، الأدب العاطفي أو الأدب الذي لا أعلم ما أسمّيه؟ وإلى أية درجة هو جميل؟ طرح الموضوع كثيراً عليك.. وإذا لم تشائي الإجابة أستطيع أن أفهم...

لطالما أدهشني هذا السؤال لأنه لا يخطر على بال أحد أن يسأل كاتبة بيضاء من أفريقيا الجنوبية (لماذا تكتبين عن السود؟). أنا لا أضع برنامجاً ولا أقرّر أن أتكلّم هذه المرّة عن امرأة وفي أخرى عن رجل. لا يختار المرء مواضيعه بهذه القصدية العظيمة.
ما هو مغر بالنسبة لي في الكتابة، هو أن أقطع مسافة بين الأمكنة المختلفة عني. ليس لديّ ما أخبره عن نفسي.. لا شيء مهماً. لو كنت مناضلة في مجال حقوق المرأة أو كنت أعاني من مشكلة حقيقية لكوني امرأة في مجتمعي.. من الممكن أن أعاني من مشكلة إلا انها ليست في عمق تفكيري. هي ليست الموضوع الأول الذي يشغلني. المواضيع التي تشغلني لا جنس لها.. لا علاقة لها بموقع الشخص الجنسي في الموضوع.
أنا شخصياً معاناتي جدّ سطحية، ولا يمكنني ان اخترع قصة في سيرتي الذاتية تجعلني أعاني بحقّ كامرأة. وإذا اتخذت قراراً بألا أكتب عن حياتي، بمعنى سيرة ذاتية، فمن الطبيعي أن أذهب باتجاه الاختلاف. أي أن أذهب باتجاه ما لا يشبهني إذ يضجرني الكلام عن نفسي بشكل خاص، وأنا لا أشعر بأن في حياتي شيئاً يستحق الكلام. لم أكن يوماً سجينة سياسية أو مناضلة.. أي إن حياتي لم تنكسر في مكان ما على مفترق النساء. لا يمكنني أن اخترع مشاكل غير حقيقية، بالنسبة لي.
لا يمكنني أن أقنع نفسي بالكتابة عن أمور تهم النساء لأنني امرأة. تفكيري لا يستجيب لفرضيات سابقة على الكتابة. عندما تأتي الشخصية مثلاً وتحدثني، أختارها على الفور. أرى أن من الطبيعي أن يكلمني رجل.. لأنني امرأة. فإذا كان شريكي الحقيقي في الحياة رجلاً لأنني امرأة، لا بد أن أرى نفسي أذهب باتجاهه في كتاباتي.
ولأن هذه الكتابة تأليف وليست تذكّراً، تذهب إلى عناصر الافتراق لتتعاطى معها وتسألها عن غرض رغبتك. وأرى في ذلك توجهاً طبيعياً بين جاذب سلبي وجاذب إيجابي.
في عالمنا نحن، عندما أكتب، يشبهني الرجل أكثر. كيف ذلك؟ لا أعرف كيف أفسر. لكن عندما أكتب أفقد كل إحساس بأن هناك امرأة.. ما من جنس عندي في الرواية. وأنا أكتب، أجد نفسي من دون صفات جنسية إذ يغريني جداً أن يتحرّر المرء من مواقع الهوية التي تحدّد من هو. أنا لست أحداً، وفي الوقت نفسه أنا كل شيء. وهذه أمور لا يمكنني شرحها لأنني لا أفكّر بها كثيراً. لكن عندما يصرّ الآخرون على السؤال، تجد نفسك مضطراً للتفكير في إجابة.
شخصياً، لا أرى نفسي مجبرة على التبرير لنفسي بأنني في مكان ما أقوم بشيء غير طبيعي. فأنا أرى في ذلك أمراً طبيعياً.. فإذا لم يكن عندي مواضيع أدافع عنها، لا اجتماعية ولا حتى قناعات سياسية، فمن الطبيعي أن أتبع من يلهمني. إذا كان رجلاً أتابع معه، وإذا كانت امرأة من الممكن أن أكمل معها.

* أشعر بأن المرء لا ينجذب إلى جنسه.. على سبيل المثال، إذا كنت أبيض وأبطال روايتك سوداً لأنك تهتم بموضوع التمييز العنصري، فلن يسألك أحد (كيف ذلك وأنت أبيض؟). إلى أين تذهب في الرواية.. الشخصيات تقودك.
لدي إحساس بأنه في الرواية.. وهذا شيء جديد في الرواية العربية.. على الرغم من أننا نتكلم كثيراً عن الفساد.. من المرات النادرة التي يقرأ فيها المرء عن (المافيا).. مافيا بالطريقة العربية.

مافيا صغيرة وتافهة، لا قيمة لها...

* مافيا عربية أو مافيا قبرصية.. مافيا بالمعنى الأميركي. في كل رواية هناك بحث عن الشكل مختلف.. من (أهل الهوى) مروراً ب(حارث المياه) وصولاً إلى هذه. في هذه الرواية يبدو للوهلة الأولى أنها أقل هماً تقنياً.. حتى نصل إلى النهاية حيث إطلاق الصوتين. هل يمكننا اعتبار بنية الرواية تكمن في هذين الصوتين؟

بداية، شعرتُ بأنني لا أرغب في كتابة أدب، بل رواية بلغة الشخصية التي اخترتها والتي عانيت لأصل إليها.. هذا الشاب وكيف كان وهو مراهق، وكيف تركب علاقات القوة بيولوجياً. عند الحيوانات مثلاً، يبدأ الضعفاء أي صغار الحيوان بالاستسلام كمبدأ بيولوجي.. فهذا هو القوي الذي تسمح له أمه بإبعاد أخيه الضعيف عن الحليب، وبالتالي يرضى الضعيف بالموت.
هذا نوع من التحضير الذي كان يركب شيئاً فشيئاً. فأنا يلزمني بين 4 و5 سنوات حتى أخرج برواية، بعد أن تكون قد تخمرت في رأسي جيداً.
هذه المرّة أردت أن أكون أقرب ما يمكن عن البيولوجيا والابتعاد عن الأدب بمعنى التركيب الأسلوبي. هذا بالإضافة إلى حاجة للاقتصاد في الكلام وقد شعرت بأن هناك ثرثرة كثيرة، ليس فقط في الروايات وإنما أيضاً في حياتنا. نحن أناس نتكلم باستمرار ونفهم بكلّ شيء ونكتب حول كل شيء. على سبيل المثال، من النادر أن تجد في الغرب شخصاً يستطيع أن يتكلّم حول أي موضوع وقد استدعي لحديث تلفزيوني، في حين أنك، مهما كان اختصاصك، بإمكانك أن تتحدث عن أي اختصاص.. موسيقى، فن تشكيلي، إلخ... لا أحد يرتعب أو يرتهب من كونه يفهم بأي شيء.
كان عندي إحساس بأننا نثرثر بطريقة غير طبيعية. وإحساسي هذا كانت تدعّمه قراءاتي للكتابات العربية، فالمقال العربي طويل بشكل استثنائي إن في صحيفة أو في دراسة.. في النثر العربي، في الرواية العربية. حتى إن رواية من الروايات الرائعة، بإمكانك أن تلغي منها عدداً كبيراً من الصفحات.
نجحت أو لم أنجح، كانت عندي رغبة في اقتصاد لا يحتمل أن أقوم بسرد مركب أدبي بالمعنى الذي دخلت فيه في (حارث المياه). كانت لديّ متعة في (حارث المياه) أن أخبر أشياء غير مفيدة.. أن أستطرد من دون أن يعني ذلك الثرثرة. فالاستطراد ليس ثرثرة.. عندما تتحوّل عن موضوع لتخبر عن نوع من معلومة أو شكل من معرفة، مثل كل الروايات حالياً، فأنت تقول للقارئ (تعال لنذهب إلى متعة أخرى) ومن ثم تعود إلى موضوعك. وعندما تعود، تعرف إلى أي حد غذّى الاستطراد موضوعك.
ترابط الأفكار الذي قد يؤدي إلى الثرثرة أحياناً، لا علاقة له بالتنويع السردي الذي قد يأخذك إلى موضوع يتعلّق بأنك توثّق وتعطي معلومات.
عندما كتبت هذه الرواية، كنت أشعر بأن الجملة، سواء كانت واضحة أو لم تكن، من غير الضروري أن أضيف إليها جملة أخرى. لم أشأ أن أطرّب على ترجيع أمر من الممكن أن يكون غير واضح منذ بداية القراءة أو منذ بداية فقرة. طلبت من القارئ أن يركز معي إذا كان مهتماً بالموضوع. لن أشرح كثيراً ولن أعود إلى الموضوع ولن أقوم بشيء جميل ومغر وسكّري في الكتابة وفي الجملة، حتى يستمتع الناس وكذلك أنا.
في هذه المرّة كما تقول، كان عندي تحدّ جديد لنفسي.. قمت بتقطيعٍ فيه مخاطرة، بمعنى أن تأخذ قطعة من حياة الشخصية بارتباكها وبارتباكك ككاتب وتقول إنه للمرة الأولى أكتب رواية أعرف من كم صفحة ستكون. فأنا كنت قد قررت سلفاً ألا أقوم بالترجيع وألا أدخل في شيء (عربي جدا).. يشرح ويعيد يطرّب. وقد أتت بهذا مختلفة بعض الشيء وأنا في النهاية راضية عنها. فالمرء يكتب أولاً لنفسه ومن ثم يسأل الآخرين.
أن نكتب من بعيد

* بغضّ النظر عما إن كان يكتب لنفسه أو للآخرين.. ماذا يعني أن يعيش كاتب عربي في فرنسا؟ الكاتب يكتب عادة لنفسه إلا أنه يكتب جزئياً ضمن سجال عام، حوار عام، حتى إنه يسعنا أن نتكلم عن رواية مشتركة جزئياً لكل حقبة... أن يعيش كاتب في فرنسا، فإن هذا يجعله إلى حد ما بعيداً.. إلى أي مدى ترين أنك تكتبين ضمن الحوار العربي العام؟ واستطراداً، هل لديك أحد في فرنسا تجعلينه يقرأ رواياتك قبل أن تصدريها، وتأخذي رأيه؟

أولاً لنرَ إلى أي حد بإمكان إقامتك الجغرافية أن تُحدث فرقاً كبيراً وحقيقياً.. بالطبع أنا على علاقة دائمة بقراءة ما يحدث في الرواية العربية.. ولا أعتقد أنني لو لم أكن بعيدة لهذه الدرجة، فإن هذا سيحدث فرقاً. ما يربطك بهذه الرواية هو اللغة التي تكتب بها.
أنا شخصياً غير معنية بموقعي.. لا أعرف أن أكتب لأجيب عن سؤال (أين يمكن أن يكون مكاني؟). هذا أمر يراه المرء في وقت لاحق، وعليه القبول بأنه ليس عنده مكان.
أن أكون في بلد غير عربي ولا يتكلم العربية أمر يفيدني. أوّلاً، أعرف كم هو صعب أن تكون أديباً في الخارج.. كيف تصدر رواية على سبيل المثال، وما من أحد قادر على إعطائك ردّة فعل. لن تدخل إلى مقهى في الحمرا وتقول بعت في معرض الكتاب...
أنا لا أقوم بحفلات توقيع لكتبي، لا في مكتبات باريس ولا عندما تطلب مني (دار النهار) ذلك.. ربما خجلاً، ربما لأنني لا أريد أن أعرف، ربما لأنني منهمكة جداً وغير قادرة على الحصول على إجازات. عملياً لا يمكنني أن أحضر ساعة أشاء إلى لبنان، ومادياً أيضاً العملية مكلفة، إلخ...
حتى في فرنسا لا أقيم حفلات.. ومن المهم في قسوتك على نفسك، إذا كنت متطلباً من نفسك ككاتب، ألا تشعر بهذا النجاح أو وهم النجاح الذي يعطيك إياه التأثير المباشر على الشخص الذي يقرأك ويراك في اليوم التالي. فمن نلتقي بهم في المقهى سوف يسارعون إلى تهنئتنا وشراء كتابنا والكتابة عنا لأننا أمامهم ولن ينسونا.
عندما يعيش المرء في الخارج، لا يهتم كثيراً للمصلحة الاجتماعية.. فأن تكون كاتباً مشهوراً أو غير مشهور تقريباً سواء.. ليعلم التواضع وكيفية أخذ نقاط الاستدلال. فأنت لست مؤثراً لدرجة أن البلد سوف (ينطوش) إذا أصدرت رواية جديدة.. لن يشعر بك أحد. لكن إذا كانت الرواية تستأهل، فستشق طريقها شيئاً فشيئاً. وشيئاً فشيئاً، عندما تترجم على سبيل المثال، سيقول القارئ الفرنسي لماذا يهتم بها.. وأي نوع من القراءة قام بها.. ولماذا قرّر أن يقرأها؟
ما أقوله هو أن الاستفادة من عدم وجود تأثير مباشر على هيبتك ككائن عام يستحقّ الاحتفال.. هذا عمل فردي لدرجة أن من الجيّد إذا تبعه احتفال، إلا أن عليه أن يأخذ وقته في شقّ طريقه. وهنا يستفيد من هو بعيد.. من يعيش في (الغربة) إذ يرى المسائل بشكل نسبي، ومن الضروري أن يفعل ذلك. فأنت لن تلتقي في كل دقيقة بمن تسأله (هل قرأتها؟ هل أعجبتك؟)، ويجيب (رائعة).

السفير
2005/05/27


إقرأ أيضاً: