حاوره: محمد جميل خضر

أمجد ناصرفي محطات درب ممتد على مساحة ثلاثين عاما يواصل الشاعر الاردني المقيم في لندن أمجد ناصر مشروعه الابداعي، ويجدد عند كل مفصل ومرحلة ويقرأ نفسه، ورغم برودة بلاد الضباب الا ان صاحب "رعاة العزلة" يظل قادرا على تكوين حرارته الخاصة. ومن تجريبية التخوم والهوامش عمل صاحب "مديح لمقهى آخر" من دون كلل على القصيدة المثالية، جاعلا في اعماله الاخيرة (حياة كسرد متقطع نموذجا) النثر بوصلته الى الشعر، بما يشبه مطاردة شبح. حول الكتابة وفضاءات الخيال كان لـ "الغد" هذا الحوار مع الشاعر إبان زيارة عمانية لتوقيع اعماله الكاملة الصادرة حديثا عن وزارة الثقافة الاردنية.

* تسعى في "حياة كسرد متقطع"، بدربة خبيرة وحس يقظ، إلى تحرير قصيدة النثر العربية من آخر ما ظلّ عالقاً بها من هواجس الشكل والقولبة، وتحاول، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إنقاذها من أسر الرتابة والتماثل. إلى أي غاية قصوى تود (مسوقا بريبة أسلافك) الوصول على صعيدي الشكل والمضمون؟

_ يبدو أن مشواري في الكتابة قد بدأ من نقطة معينة كانت "التفعيلة" الخفيفة التي تحاول اكتشاف التفصيلي في المشهد اليومي، في المكاني والحياتي وحتى شبه الوجودي، ليواصل طريقا حددته، كما يبدو، نهايات كل عمل. ففي نهايات "مديح لمقهى آخر" ثمة اطلالة لقصيدة النثر. أو لأقل قصيدة النثر كما كانت سائدة، شكلا ومضموناً، في متداول الساحة الشعرية العربية. بعد ذلك حاولت القصيدة استثمار التفصيلي والجزئي في لحظة كانت تحفل بما هو كليٌّ وشامل. أظن أن قصيدتي في ذلك الطور، في "منذ جلعاد" مثلا، خفيضة الصوت وشبه عارية بلاغيا في لحظة ذات عقيرة وبلاغة عاليتين. لم يكن الأمر مقصودا على الأغلب. لم أفكر فيه طويلا. ولكنه ميلي شبه الفطري لما هو خارج المتن، للهوامش والتخوم. فأنا أصلا ابن مكان يقع في الهامش. ولدت أيضا على تخوم البداوة والتمدين، عشت في أحياء عشوائية (جناعة مثلا) وأمكنة صارمة في تخطيطها وعلاقتها بعالمها الخارجي (معسكر الزرقاء). هذه الاقامة على التخوم ربما هي التي ضبطت اتجاه تلك البوصلة المتوترة التي عمقت عندي شعورا غامضا بأنني لست ابن المتن والمستقر والثابت. هذا ما أفكر فيه الآن. أما في تلك الآونة فلم يكن هناك سوى هذا الشعور الغامض، سوى تلك البوصلة المتوترة، وهما اللذان حفزا خطوتي وربما قاداها في اتجاهات ونحو أمكنة لم تخطرا لي على بال. في نهاية كل عمل، مثلما لاحظ اكثر من ناقد، هناك انطلاقة الى لحظة اخرى في القصيدة. يصعب بطبيعة الحال تحديد الاطوار الشعرية انطلاقا من كتاب واحد أو كتابين. أقصد أنه ليس معهودا ربما أن يكون كل كتاب شعري لشاعر تمثيلا لمرحلة أو طور شعري. ولكن تنبغي الملاحظة، هنا، أنني لا أكتب كثيرا. هناك دائما مسافة زمنية تقدر بخمس أوست سنين بين عمل وآخر، خصوصا، بعد العملين الأولين. عندما صدرت أعمالي الشعرية المكتوبة حتى الآن في مجلد واحد لاحظت كم نتاجي، من حيث الكم، قليل. لاحظت كذلك الانتقالات في الموضوعات والشكل وربما في اللغة أيضا. لا أدري كيف ينظر النقد الى ذلك، فقد لا يرى الباحثون عن وحدة في الموضوعات والجو انسجاما وتواصلا في طرق جو واحد أو موضوع بعينه. يبدو أنني أيضا ضد ما يسمى بالوحدة والتماسك في العمل الشعري، رغم أنني كتبت أكثر من كتاب في موضوع واحد وجو واحد. ولكن يبدو أن تناولي موضوعات واشكالا متعددة هو أشبه ببحث عن قصيدة لم أتوصل اليها حتى الآن. القصيدة المثالية التي أريدها لم تتحقق على ما يبدو. هذا يفسر، ربما، ذلك البحث المضني عن الشكل المثالي الخاص بي، أو الذي أريده. الى أي غاية تذهب قصيدتي؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي بين حين وآخر ولا أجد له جوابا. لكن النثر هو الذي يلوح لي الآن. الذهاب في النثرإلى أبعد مدى ممكن لملاقاة الشعر أو ربما عدم ملاقاته. أعرف أن الأمر ينطوي على تناقض قد يبدو جوهريا ولكني غير قادر على دفع كتابتي في اتجاه آخر. فكل ما أكتبه اليوم هو قطع نثرية أو أعمال نثرية يحلو لي أن أرى الشعر يتخللها. ذلك، طبعا، شيء يشبه مطاردة شبح.

* في قصيدتك "طريقة أردنية" تعود بنا إلى البدايات، إلى أزمة تيسير سبول ومأزق الطاهر وطار في علاقتهما مع الغرب عموماً ومع المرأة الغربية على وجه الخصوص، ربما لا تحتمل القصيدة (الطريفة) كل هذا التأويل، ولكن (على كل حال) كم تبقى من الشاب الصغير القابع "مبهوتا" في مرآة الزمن السريع؟

- هذه القصيدة تحتمل عندي تأويلا آخر. المرأة الغربية، وهي نادلة في مقهى، ليست ربما أكثر من ذريعة لتأمل تلكؤ البدايات واللحظات الأولى في حياة المرء. قد نظن اننا تخلصنا من لحظات ومواضعات المكان الأول عندما نذهب بعيدا في الأرض والجغرافيا ولكننا نكتشف أننا لا نزال نحمل وشم المكان الأول ومواضعاته ولو على نحو حائل. لم يكن الرجل شبه الكهل هو الذي ينظر الى النادلة ويمسد شعره بيده، كما كنا نفعل للفت نظر فتاة عندما كنا صغارا، بل هو الولد الصغير نفسه الذي لم يفارق، على ما يبدو، رجلا يخطو نحو منتصف العمر. تلك الاشارة المحلية البسيطة وربما الساذجة ظلت في ذاكرة الرجل ويده، رغم أن اشارة كهذه تبدو مضحكة في مقهى لندني وبالتأكيد لا تدل على مقصدها. لكنها ظلت موجودة. ربما هذا ما أردت قوله: إن البدايات تتلكأ داخلنا على نحو أو آخر، وإننا لا نتغير كثيرا، أو ان هناك اشياء فينا لا تتغير رغم تقدم السن وتبدل الاطار المكاني واختلاف المواضعات بالكامل. لذلك سميت تلك القصيدة "طريقة أردنية".

* حتى "مرتقى الأنفاس" الديوان الصادر عام 1997 أيضا في بيروت (حيث صدرت كثير من أعمالك الشعرية)، لم تكن النهايات بعد قد شكّلت شاغلا في ثنايا وعيك (الموضوعي والواقعي) كما فعلت قصائد الديوان المتقاربة في أجوائها ونفحتها الصوفية المسكونة بضوء دفين وبعشب وخفة، إلى أي مدى تنظر إلى هذا الديوان بوصفه نهاية عشق ما؟

- كل كتابة هي نهاية ما، وبداية غامضة. إنها قطع واستئناف في الوقت نفسه. هذا ما تفعله الكتابة عادة، إنها تفتح لحظة وتغلق، ربما، لحظة أخرى. أفكر بكتابتي، بعد أن تكون قد نشرت ولم يعد هناك امكانية لاسترجاعها الى حبرها الأول، بوصفها بدايات. قلت من قبل إن بحثي عن قصيدتي، قصيدتي المثالية (بالنسبة لي فقط) هو الذي جعل البدايات، وما يشبه النهايات كذلك، واضحة في أعمالي. لكن ذلك، على ما أظن، سطح مراوغ. فنحن على ما يبدو لا نفرغ تماما مما يمتلكنا من هواجس واعتمالات داخلية غير محددة تماما، ما يبدو نهاية قد يكون استئنافا لخيط ما تركناه وراءنا وظننا اننا ولينا عنه الى غير رجعة. هذا الحسم غير موجود في العمل الابداعي. ليس هناك من حسم مطلق للاسئلة ولا اجوبة نهائية لما نبحث عنه. الكلام عن القطيعة في الابداع والمعرفة مجرد اهزوجة راديكالية. قد يكون "مرتقى الأنفاس" نهاية لغة في قصيدتي، تلك اللغة التي تحاول تأهيل نفسها كي تزج معجمها المهمل في دوامة الشعر الحديث. هناك لغة تستعرض نفسها كذلك. لم أعد أفعل ذلك الآن. اللغة لم تكن يوما غواية خاصة لي، لم تكن هدفا للكتابة. أعتقد أن ذلك الكتاب استمرار لكتاب سابق عليه تماما هو "سُرَّ من رآكِ". قد يبدو الموضوع الذي تتصدى له القصيدة مختلفا، ففي الأول هناك ما هو ايروتيكي، وفي الثاني هناك هو ما هو تاريخي أو شبه تاريخي. لكني أظن أن اللغة التي صنعت الكتاب الأول هي تقريبا اللغة التي صنعت الكتاب الثاني. هناك خيط واصل غير اللغة بين الكتابين أظنه البحث عن تحقق وجودي من خلال الأنثى. يحلو لي أن أتصور أن أبا عبد الله الصغير في "مرتقى الأنفاس" ليس أكثر من قناع لما هو راهن. قناع لصاحب القصيدة نفسه أو من يشبهه في اللحظة الراهنة. التاريخ بحد ذاته ليس شيئا مهما في هذا الكتاب، فالتاريخ يكتبه المؤرخون. لكن الفن يتصدى في الموضوعة التاريخية لما هو غير تاريخي بالمرة. أظن أنه يحاول اكتشاف اللحظات المفقودة، أو اللحظات التي لا يتوقف عندها كاتب التاريخ ودارسه. إنها طبقة تحتية بعض الشيء حيث يثوي الفقدان وتبدد الأحلام ويتخثر الحنين. فهل ينطوي بحث كهذا مع نهاية كتاب؟ لا أعرف.

* مع "من غطَّ أصبعا في السرّة" و"نعطي معاني شتى لإطباقة الشفتين/ نشمّهما/ نقبّلهما/ نغسلهما بالرّضاب/ لنوقظ النحلة ونلثم القمر ذا الخدين" وصولا إلى السخونة في القطن، وقصائد غيرها في "سر من رآك" ودواوين أخرى، منحت ناقدا مثل فخري صالح، على سبيل المثال، فرصة أن يرى "البعد الإيروسي يضرب جذوره في أعماق تجربتك الشعرية"، وتركته يقول "في "سُّرَّ من رآكِ"، وفي بعض قصائد "حياة كسرد متقطع"، نعثر على مشاغل الجسد في أقصى حالاته شغفا ورغبة وغلمة واشتهاء". إلى أي قدر أردت أن يرى النقاد ذلك؟ وإلى أي درجة أنت متفق مع نعتك بشاعر الإيروتيكا؟

- لا أحد يقول للنقاد شيئا من هذا القبيل، النقاد، أو بعضهم في الأقل، هم فاضحو مطاوي النص ونابشو أعماقه وأحشائه. بعضهم طبعا يقطع النص بمبضع خشن وبعضهم بمبضع مرهف، ولكن في الحالتين هناك تقطيع ودم وأشلاء. لا أعترض على القراءة والتأويل فمن حق القارىء، ناهيك عن الناقد، أن يقرأ كما يشاء، فقد لا تكون الكتابة عملا ديموقراطيا، لأن الكاتب يقول شيئا ويصمت عن شيء آخر، إنه يقرر الخطاب ويعمل، من داخل النص، على توجيه تلقيه، لكني أحسب أن القراءة فعل ديموقراطي. فأنت تبتاع الكتاب وأنت تقرأه في الوقت الذي يناسبك وتصل معه الى خلاصة ما. لا أعترض على شيء كهذا فكلنا نفعل ذلك. ما أعترض عليه هو سوء القراءة. فخري صالح من النقاد الذين تابعوا الجيل الذي أنتمي اليه وهو يعرف، حسب ظني، معظم ما كتبت، وله كتابات في ذلك. لا بد أنه رأى ما يبرر قوله هذا. الحجة واضحة أيضا، فهناك عمل كامل مكرس لما هو "ايروتيكي"، أو حسيّ، إنه "سُرَّ من رآكِ". لا يخفي هذا الكتاب خطابه، حتى انه لا يحتاج الى تأويل. فهو يقع في تلك المنطقة التي يسهل وصفها بالايروتيكية. قد يكون هناك توتر ذكوري في لغتي، قد تكون هناك غلمة، ولكن الأمر، في ظني، أبعد من مجرد انفعال أمام لحظة حسية. أظن أن الكتابة، والفعل البشري عموما، مسكونان، في العمق، بما هو حسيٌّ، بمحاولة البحث عن طريق للأنثى. ففي ذلك اكتمال لما هو انساني وبشري. في ذلك، بحسب ظني، تحقق انساني منشود، بل قد يكون هو التحقق الانساني، إن لم يكن الفردوس المفقود. ثمة من رأى الرجل والمرأة باعتبارهما نصفين مسلوخين عن بعضهما البعض. لا أدري من هو الكاتب الذي قال إن الرجل والمرأة كانا أصلا جسدا واحدا انشق نصفين راحا يبحثان عن التئامهما. ألم يكن الحسيّ والعضويّ، في المثيولوجيا، هما بداية تكوّن البشرية. البعض يرى هذا التكوّن كامنا في الخطيئة، لكن الأكيد أن في تلك الخطيئة يكمن شوق الالتحام، او التئام النصفين المفصولين عن بعضهما البعض. فإذا كانت الحياة البشرية بدأت من لقاء رجل بامرأة وطردهما من الجنة على خلفية اقدامهما على الالتحام، فكل فعل بشري لاحق موشوم بتلك البداية.

* في إحدى مقالاتك في مجلة "عمان" الثقافية تحدثت فيها عن نوع من النكران بين الكاتب والمثقف الأردني وحياته الاجتماعية، وتحدثت كثيراً عن "الشاي" كمعطى في حياة الاردنيين لم يحاول أي من الكتاب الأردنيين إدراجه ضمن نص الكتابة الإبداعية، فهل برأيك هنالك حالة نكران من قبل المثقف الأردني لواقعه الاجتماعي؟

- لم أتحدث عن نكران، بل لعلني قلت إننا لا نلحظ ما يشتغل في متخيلنا الجماعي من طقسيات ورموز. تحدثت عن الشاي في أكثر مقال وكتابة باعتباره وسيطا للأكل والحكي والضيافة وناظما لحياة الفقراء. إنه كما قلت، ذات مرة، دم الأردنيين الأحمر القاني. الصباحات لا تكون صباحات إلاَّ به، والأكل الصعب لا يسلس قياده إلا بمزيجه الحلو الذي يعقد الشفاه، وجلسات المصاطب والبرندات في العصاري والمساءات لا تكتمل من دون حضوره بروائحه المخلتفة: النعنع، الميرمية، القرفة، الخ. قد لا يكون للشاي عندنا طقسية تشبه طقسيته في المغرب حيث لا يعتبر الشاي مجرد مشروب يومي يتخلل الأكل والكلام والسهر والضيافة بل يتعداه الى نوع من طقس، له شروطه وأشكال توزعه الطبقي، وله كذلك صناعة شعبية رائجة وحضور في الشعر الشعبي والفن التشكيلي. وقد اشتغل المثقفون المغاربة على موضوع الشاي باعتباره جزءا من المتخيل الجماعي والهوية. في مصر الشاي مهم في الحياة اليومية لعامة المصريين، خصوصا، القرويين. وللشاي عندهم مراتب في الثقل والخفة. في مقاهينا هناك تراتبية وشيء من الطقسية للشاي. شاي ثقيل. شاي خفيف. شاي بالحليب. شاي بالقرفة والجوز (الإينر). لكن الشاي رغم تخلله تفاصيل يومنا الأردني لم يدخل على ما أظن في الكتابة والبحث. لم نسمع قصيدة تشبه قصيدة عبد الرحمن الأبنودي التي يقول فيها: كباية شاي القهوة (المقهى) غير كباية شاي البيت خالص! المشروب الذي له طقسية ورمزية خاصة في بلادنا هو القهوة العربية (السادة). ففي تقديمها وشربها تثوي رمزيات ثقافية واجتماعية وأعراف سائدة. هي مشروب الأعراس والمأتم، مشروب "الجاهات" والصلح بين المتخاصمين. شربها أو عدمه يعني الموافقة على شيء أو رفضه. هزّ الفنجان له معنى، عدم هزّه له معنى آخر. تحريك الفنجان في العرس غير تحريكه في المأتم. الكلمات التي تقولها بعد شرب القهوة في فرح غير تلك التي تقولها في ترح أو مصاب. تراتبية تقديم القهوة (من الأكبر الى الأصغر أو من اليمين الى الشمال) في المضافة والمجالس ليست هي نفسها في حالة أخرى. بأي يد تقدمها للضيوف وماذا تفعل باليد الأخرى، وما إلى ذلك من أصول مستقرة في علاقتنا بها. كم مرة في اليوم نشرب هذه القهوة، بهذه المعاني بالضبط، في بلادنا؟ حتما أكثر من مرة. ولكن مع ذلك دلني على كتابة (غير الشعر البدوي والفلاحي) تناولت هذا المشروب الذي تفيض منه رموز وينعقد حوله متخيل جماعي موروث. البدواة الفعلية في بلادنا لم تعد موجوة كما كانت عليه من قبل، بقيت عادات البداوة وبعض أوجه ثقافتها وطقسيتها، وفي مقدمتها المعنى الاجتماعي والثقافي للقهوة وطريقة تقديمها. أحب فعلا أن أعرف إن كانت هناك كتابة تتناول هذا الأمر. هل هناك في الجامعات الأردنية، وهي بالعشرات، من أعدَّ اطروحة في هذا الشأن؟ قد يكون ولكني لم أسمع بذلك. وبالعودة الى موضوع الشاي لعلني أردت، أنا الذي يحب المقاهي وجلس فيها طويلا، لفت النظر الى غيابه في المدونة الثقافية والبحثية في الأردن. لكن البعض يظن أن موضوعات الكتابة هي في مكان آخر.

* تنتقل بأناة وذكاء نحو النص الأفقي (على الأقل شكلا)، ويأخذ النثر (في بعديه السردي والدرامي)، مساحة واسعة من قصائدك الأخيرة. هل هي تمارين أولية (تحماية) لكتابة الرواية كما فعل أقران شعريون كثيرون من أبناء جيلك وأجيال إبداعية عربية أخرى؟

- تحدثت عن السرد، أو هذه الكتابة الأفقية، وقلت إنها صارت تقريبا الطابع الأبرز لكتابتي. عندي ما يشبه اليقين الداخلي، غير المفزع، أنني غير قادر على الكتابة مثلما فعلت في أعمالي الأولى وصولا الى "مرتقى الأنفاس". صارت الكتابة عندي منبسطة ونثرية وتذهب في السرد والحكي المتقطعين. كنت من قبل أكتب على خطين متوازيين: خط القصيدة وخط كتابة الأمكنة. الخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان كسكة القطار قد يلتقيان في الأدب. في الواقع ما حصل هو أن هذين الخطين تداخلا حتى صار من الصعب التفريق بينهما. هكذا لم أعد أفصل الشعر عن النثر، ما هو مجازي عما هو تقريري ووظيفي. المثال الأوضح على ما أقول هو العمل الذي أكتبه الآن في اطار برنامج التفرغ الابداعي الاردني. كنت أرغب في اقتفاء أثر الأشياء التي تغيرت أو تبددت في محيطي العائلي، وأبعد في حياة الصحراء الأردنية. لم أقل في تقديمي للمشروع إنه شعر، أي قصائد منفردة، بل قلت إنه مزيج من الشعر والنثر والسرد، الواقع والخيال، الحكايات التي حصلت وتلك التي لم تحصل قط. كان عندي تصور مسبق لشكل العمل وهندسته ومضمونه، ولكني اكتشفت أثناء الكتابة أن العنوان لا يفي بما صارت تنحو اليه الكتابة، هكذا سأسميه على الأغلب "فرصة ثانية: أصوات وخطى على طريق الملوك". لأنه فعلا يشكل ما يشبه الفرصة الثانية التي تعطى للمرء فيعود لرؤية ما فاته أن يراه في المرة الأولى، أو لعل الأمر هو بمثابة تمني حصول معجزة الفرصة الثانية التي نقول لأنفسنا إننا لو أعطيت لنا لفعلنا كذا وكيت. العمل مركب وذو شكل يصعب تصنيفه. ففيه من قصيدة النثر، بالشكل الذي صرت أكتبه، بقدر ما فيه من كتابة المكان ولكن على نحو مختلف عما فعلت في كتبي السابقة. فالكتابة هنا ليست معرفية صرف، الجملة نفسها ايقاعية قصيرة متدفقة لاهثة في موضع ومسترخية بطيئة وطويلة في موضع آخر. إنه من كتبي القليلة التي شعرت بشيء من السرور أثناء كتابته، كما أن هناك مشروعا لعمل يذهب فيه السرد الى الحكاية الفعلية، وهذا شيء يشبه الرواية، رغم أنني من الذين يقولون بوجود أشكال مختلفة للرواية بينها رواية الواقع أو الحقيقة كما هو الأمر مع الكتابات التي تتناول الأمكنة وما يعتمل فيها من صراعات وأحداث، ففي ظني أن الرواية بشكلها الحكائي المتداول قد استنفدت، وهي اصلا مستنفدة في بلدان الرواية الاولى. هناك رواية اخرى غير قص حكاية مختلقة عن شخوص مختلقين.

الغد
نوفمبر 2008