ليست صغيرة هذه «البيروت» التي تطل علينا في يوميات حصارها صيف 1982. ولا هي بحجم راحة اليد. كما يقول العنوان ففضاءاتها المشحونة غضباً وتمرداً وثورة. وزواياها المسكونة بالوجع والعتب والحنين، لأكبر من احتوائها في مساحة مهما بلغت حدود تلك المساحة.
شامخة ... فتيّة... نابضة متألقة ومدهشة، وعصيّة على الإنكسار. هذه هي بيروت التي رصدها أمجد ناصر بقلبه ونبضه متماهياً مع أطياف العشق فيها. وتحدّيها لشهقة الموت والدمار. ملتقطاً بنبضه الشاب أدقّ اسرارها، وخفاياها وتعاليها على صرخة الوجع. واحتضانها لكل هذه العوالم المدهشة التي رسمتها خريطة للحلم المستحيل.
ربما هي هذه «اليوميات» اليوم تعيد طرح السؤال ومن خلال مواجهة قاسية مع التجربة والذات.
أين أصبح هذا الحلم بعد ثلاثين سنة من الغياب؟
وليس سهلاً الجواب، فثمة خصوصية لهذه التجربة لا يدركها إلاّ من عاشها، وتفاعل معها، وخرج منها ربما أكثر قوة وصلابة. كما هو أمجد ناصر الذي لم تهزمه التجربة. ولا خطفت الحلم من بين أصابعه. فواصل عطاءه بنبض دافئ ومتدفق بالحياة. تماماً كما هو ذلك النبض الشاب الذي خطّ تلك اليوميات التي تعيد اليوم خلط الأوراق وتدعو لقراءتها من جديد.
ماذا يقول أمجد ناصر عن تجربته؟ ولِماذا احتفظ بهذه اليوميات كل تلك السنوات؟
وماذا عن رفاق الأمس شعراء، وأدباء وكتّاباً؟
وكيف يقرأ واقع الثقافة اليوم مقارنة بالأمس أسئلة كثيرة يجيب عليها أمجد ناصر في حوار من القلب وعلى هامش كتابه الجديد «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد - يوميات من حصار عام 1982- والصادر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان فكيف يقرأ هذه التجربة بعد أكثر من ثلاثين سنة على الإجتياح؟
«مسار واحد ووحيد»
- بداية، يعتبرها أمجد ناصر تجربة استثنائية في حياتنا العربية مؤكداً أنها لم تذهب سدى كما يمكن للمرء أن يتخيّل. ويستدرك موضحاً «أقصد عندما نرى المآل الذي انتهت إليه الثورة الفلسطينية، فحصار بيروت والقتال الباسل الذي خاضه الفلسطينيون واللبنانيون في مواجهة الجيش الإسرائيلي، أدّى لاحقاً، إلى تبلور المقاومة الوطنية اللبنانية التي جرى تحويلها واختصارها بعد ذلك في «حزب الله» يتابع مؤكداً بأن ما قام به «حزب الله» من اعمال مقاومة بطولية في مواجهة إسرائيل لم تكن غير مسبوقة. بل تجد هذه المقاومة جذورها في النضال المشترك للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية التي أريد لها أن تنتهي. كي يبدأ زمن الطوائف.
أمّا النتيجة المباشرة لحصار بيروت كما يقول أمجد فكانت في اخراج الثورة الفلسطينية من أي تماس مباشر مع إسرائيل. لدفعها لاحقاً، كما لاحظنا، إلى مسار واحد ووحيد هو المفاوضات مع إسرائيل، ولكن من موقع الضعيف..
«قرار لا خيار»
ولكن هل كان خروج المقاومة آنذاك من بيروت هو فعلاً من أجل بيروت وأهلها؟ لِماذا كان هذا القرار وما هي خلفياته؟
- يجيب أمجد مضيئاً على تلك المرحلة بأنه من السهل على الذين لم يكونوا تحت الحصار، وفي ظل التدمير المنهجي الذي كانت تقوم به القوات الإسرائيلية لبيروت أن يستنتجوا أن الخروج لم يكن حتمياً، أو أنه كان قراراً خاطئاً. «في الواقع لم يكن هناك بدٌّ من ذلك. فقد كانت الخطة الإسرائيلية التي تركّزت على تدمير البنية التحتية. وضرب احياء بيروت الغربية. تهدف إلى ممارسة ضغوط شعبية واخلاقية على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. فإسرائيل جاءت كي تنهي وجود قوات الثورة الفلسطينية من رأس الناقورة جنوباً إلى بيروت الغربية تماماً.
هذا الهدف اتضح بعدما وصلت قوات شارون إلى منطقة بعبدا. واحكمت حصارها الشامل من كل الجهات على بيروت» ويتابع مؤكداً بأن هذه القوات الجرارة التي جاءت إلى بيروت الغربية وبقيت فيها نحو ثلاثة أشهر لم تأتِ كي يعود الوجود الفلسطيني المقاوم كما كان عليه قبل الغزو. «وبهذا المعنى، وبعدما فشل العرب والعالم في الضغط على إسرائيل للإنكفاء عن بيروت. بدا أن أيّ إطالة للقتال في بيروت هو لمزيد من تدمير المدينة».
ويذكّر أمجد ناصر بأنه لا بدّ من الإشارة إلى أن وفداً من القوى الوطنية والإسلامية التقى القيادة الفلسطينية وطلب منها بكل وضوح الموافقة على الخروج من بيروت. كان هذا ايضاً قرار أهل بيروت «ويمكن لمن يقرأ كتابي أن يقف على جوانب من هذا الأمر».
«بيروت صغيرة بحجم راحة اليد»
ولبيروت زمن الحصار مذاق الحب والحنين والق الحضور وجوهاً وأسماء ومعالم. والكثير الكثير من وهج المشاعر واشتعالها فهل لا تزال هي المشاعر ذاتها بعد كل هذه السنوات؟
- «ربما تكون مشاعري تجاه بيروت قد اختلفت. يبدو هذا في القسم الثاني من كتابي «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد» فعندما عدت إلى بيروت بعد 14 سنة من خروجي منها لم تكن المدينة التي اعرفها» ويرى أمجد أن هذا الأمر طبيعي فثمة أشياء كثيرة تغيرت. بل كما يقول أيضاً عالم كامل تغير. فالأمكنة لها علاقة ايضاً بالناس «وأولئك الذين كنت اعرفهم من قبل في بيروت لم يعودوا هناك، وقسم منهم لم يعد موجوداً».
ويعتبر أمجد أن الأمكنة ليست مجردة. بل هي مرتبطة بالتاريخ ومع هذا يقول مؤكداً ان بيروت تظلّ قادرة على صنع معجزة خاصة بها، ربما تنفرد بها بين سائر العواصم العربية ألا وهي قدرتها على النهوض، تماماً مثل طائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد. «كأنّ الأسطورة الفينيقية وجدت لها مثالاً حيّاً في هذه المدينة».
«مرفوضة فنياً»
وفي يوميات الحصار أيضاً ثمة قصيدة مشتركة للشاعرين الكبيرين محمود درويش ومعين بسيسو بعنوان «رسالة إلى جندي إسرائيلي» اثارت تلك القصيدة في حينها سجالاً عنيفاً فقد اعتبرها الكثيرون مؤشر انكسار وهزيمة وبداية تطبيع مع العدو. كيف يقرأ أمجد تلك القصيدة؟
- يجيب بداية أنه لا يرى فيها تعبيراً عن الإستسلام «قد لا تكون قصيدة مهمة بالمعنى الفني للكلمة». يتابع موضحاً بأن من يعرف نتاج الشاعرين بامكانه ان يحدد المقاطع الخاصة في القصيدة بكلّ منهما. وباختصار هو يعتبرها قصيدة تحاول ان تطرح أسئلة على الجندي الإسرائيلي «هي في الواقع تطرح أسئلة على الإحتلال تقول له:
إلى متى ستظل تعيش في دبابة؟ تأكل في دبابة؟ وتنام في دبابة؟ وتنجب أطفالك في دبابة؟
وهذه أسئلة تعكس وعي الشاعرين المتحدرين من جذور ماركسية. وهي قصيدة لا يكتبها، لهذا السبب، شاعر ذو خلفية قومية مثلاً!
أما إن كان هو كشاعر يمكن ان يكتب هكذا قصيدة فيجيب بالنفي ولكن ليس لأسباب سياسية. وإنما لأسباب جمالية وفنيّة «الكتاب يعطي إمكانية للمقارنة بين مفهومين للشعر، بصرف النظر عن القيمة الفنية للقصائد التي ينطوي عليها». ويوضح أمجد مشيراً إلى ان ما يقصده هنا هو المقاربة الشعرية للواقع. وحول تلك القصيدة الاشكالية ايضاً يقول: «على كل حال محمود درويش لم يضم هذه القصيدة إلى أعماله. ولا إلى أي كتاب له صدر بعد ذلك. ليس لأنها مشتركة. ولكن لأنه لم يرَ فيها سوى موقف سياسي معبر عنه في شكل التفعيلة الشعري، وفي لحظة معينة».
...ومع هذا فالبعض سجّل عليك موقفاً من الشاعر محمود درويش كذلك لقّبه البعض بـ شاعر البلاط ماذا تقول اليوم عنه وكيف تقرأه كشاعر؟
- يؤكد أمجد ناصر أن ما كتبه عن محمود درويش اثناء الحصار هو بالضبط ما كان قد سمعه من آراء تتعلّق به في تلك اللحظة يتابع «ولا شك انه يعكس موقفي أيضاً. فقد كنت متفقاً مع الرأي الذي كان يقول أن درويش لم يتواجد على نحو واضح أثناء الحصار.
يتابع: «على كل حال لقد كتب محمود درويش روايته ورؤيته لِمَا جرى اثناء الحصار في كتابه «ذاكرة للنسيان» رغم انه لم يجب بشكل مقنع، على السؤال الذي يتعلّق بدوره. ولكن لماذا يطرح هذا السؤال على محمود درويش ولم يطرح على غيره من الشعراء والكتّاب؟ الجواب واضح بالطبع. «لأنه شخصية مهمة في حياتنا الأدبية، بل لعله الشخصية الأدبية الأكثر أهمية في وسطنا والعالم في اطار الثورة الفلسطينية.
وينفي أمجد ان يكون محمود درويش شاعر بلاط «لم يكن هناك بلاط فلسطيني أصلاً كي يكون شاعره... بل كان في نظر الغالبية العظمي من المثقفين والناس العاديين، شاعر الثورة الفلسطينية... ورأيي ان درويش هو أحد أبرز الذين صنعوا الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. وبقدر ما يشكّل شعر محمود درويش مكوّناً أساسياً في الهوية الوطنية الفلسطينية. فهو مكوّن أساسي في الشعرية العربية، ورغم اختلاف طرائقنا الشعرية، وما بدا من توتر في علاقته بقصيدة النثر إلاّ أن درويش كان من أكثر الشعراء العرب بحثاً عن الجديد وسعياً للتطور... كان يمكن لواحد بشهرته الكاسحة وبشعبيته الكبيرة أن يركن إلى إطمئنان شعري وجمالي، غير انه كان دائم القلق على هذا الصعيد، وهذا ما تعكسهُ أعماله التي لم تعد جماهيرية منذ ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً» فصاعداً.
«يوميات الحصار» بأسلوبها وصورها وتجسيدها للوقائع والأحداث أقرب إلى رواية متكاملة العناصر ومتفردة المضامين فهل فكّر أمجد بكتابة رواية عن ملحمة حرب بيروت وهو الشاعر الذي خاض التجربة عبر رؤيته «حيث لا تسقط الأمطار».
- يجيب أمجد بأن هناك من نصحه بتحويل هذه اليوميات إلى عمل روائي «هذا فعلاً ما اقترحه عليّ صديقي غسان زقطان الذي هو أحد شخوص تلك اليوميات. ولكني فضّلت أن تظلّ كما هي من دون مطامح أدبية. مجرد يوميات تعكس تفاصيل حياتية، لي شخصياً، ولمن كانوا معي وحولي اثناء الحصار، لذلك فهي لا تلم بكل ما كان يجري في بيروت.. بل تركّز على طاقم الإذاعة الفلسطينية التي انضمّ إليها اثناء الحصار عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين كانوا يقيمون في بيروت، وبهذا المعنى كانت هي المنبر الإعلامي الفلسطيني الأكثر أهمية سواء على مستوى صلته بالجمهور. أم على مستوى الأسماء الكبيرة التي انضمت إليها.
«الطفولة منجم الإبداع»
وأخيراً، تضيء «يوميات الحصار» على هذا الطفل المتمرد المشاكس والذي تجلّى في كثير من الصور وردات الفعل ومشاعر الرفض. فهل لا يزال هذا الطفل المشاغب المشاكس العنيد يسكن أمجد ناصر؟ كيف تروضه ومتى تُطلق له العِنان؟
- يعتبر أمجد ناصر أن من الصعب التخلّص من الطفل الذي في داخلنا فالطفولة هي الفترة الأكثر تذكراً في حياة البشر «بالأحرى هي منجم لا ينضب للإبداع». ويستدرك قائلاً ان من الغريب اننا نعيش مراحل عمرية أخرى أكثر نضجاً وأطول زمناً بكثير من زمن الطفولة، غير أن تلك الفترة تتغلب على أي مرحلة عمرية أخرى. «لذلك لا أرغب التخلص من هذا الطفل... بل بالعكس أحرص على أن يظلّ موجوداً بدهشته حيال العالم، بشيء من براءته... بمشاعره التي لا تعرف المساومات».
وعن ثنائية المشاعر التي تتجلى في الخطر كالحب والموت واجتماعهما معاً في أكثر من مشهد يصفها أمجد بأنها ثنائيات عجيبة... تلازم الخطر بالحب، المرض بالرجاء «لاحظت شخصياً، وقرأت لغيري، كيف تولّد الحروب مشاعر وعواطف قد لا تولد في الأحوال العادية... بل كيف يمكن أن تكون الحرب نفسها فعلاً جنسياً. هناك من قال ذلك ولا أتذكر إسمه الآن». يتابع أمجد بأن حالات الخطر تكثّف مشاعر قد لا تكون ظاهرة، أو واضحة في الأحوال العادية.. فان تكون أمام الموت وجهاً لوجه، يعني أنك أيضاً أمام سؤال الحياة وجها لوجه... أمام تبدّدها واندثارها في غمضة عين. «شريط سريع ومكثف من حياتك يمرّ في ذهنك عندما يكون الموت داهماً... واقرب اليك من ظلك هذه المشاعر عرفتها اثناء الحصار، وفي الجنوب اللبناني اثناء إجتياح 1978. ففي لحظات كهذه تقول لنفسك إذا نجوت إذا كتبت لي الحياة سأفعل كذا وكيت. ولن أنسى كذا وكيت ولكن ما أن يزول الخطر تماماً. وتعود الحياة إلى طبيعتها حتى ينسى المرء تلك الوعود الحاسمة التي قطعها على نفسه... على كلّ فهذا موضوع آخر... له علاقة بنقمة النسيان أو نعمته».
ولأن النسيان فعلاً قد يكون نقمة وليس نعمة... فهذه اليوميات تجلدنا بتفاصيلها وصدقها وحرارتها ومرارة الصدمة فيها. وتشعل فينا الذكرى لنعيد ربما تموضعنا من جديد! «يوميات» يخفق لها القلب، وتدمع معها العين، وتسقط الأقنعة عن الوجوه، هي اليوميات التي تضيء «هويتنا» ان كان ثمة بقيّة لنا من هذه الهوية!.
اللواء- 13 نيسان 2013