أجرى الحوار: عباس بيضون

أمجد ناصرهذا الحديث هو في الحقيقة شتات أحاديث، كلمـا التقينا أنا وأمجد ناصر نجد ساعة للكلام حول الشعر، ساعة لفحص أسئلتنا كما يفحص المرء أسلحته وزاده ولنختبر معا كم قطعنا من الحيرة. الأرجح ان داعينا للحديث كان نوعا من التكاتف الضروري للافتراق عند وحشة أخرى، كلما التقينا نقيس مسافات بعد زمني ومكاني، وما جد من بعد في التجربة عن بعضنا، وأكثر من ذلك، عن أنفسنا.
أحاديث أفضل ما فيها يولد تو ساعته وننساه لساعته، وكلما حاولنا ان نسجل شيئا تذرعنا بأي حجة لكي لا نسجل. التقينا في كولن وفوتنا أكثر من موعد للتسجيل، وحين عدت الى لبنان بقيت في رأسي البداية، والبداية غالبا كلام عن المفترقات وعلى أبواب مفترق جديد كنا تحدثنا عن قوة اللغة والفصاحة والضعف إبان تناول تجربة امجد بالدرجة الأولى، فكرت بأن من الممكن ان يواصل كل منا وحده السؤال والجواب، وكان هذا الحديث مكتوبا.

تذكر حديثنا الأخير. كنا نتكلم عن الحذر من الفصاحة التي يبدو انك تقترب بحذر منها. والسؤال ما الذي يحملك الى هذه التجربة. أي جواذب أي غواية؟.

ـ كل مرة نلتقي فيها نتحدث عما يطرأ على القصيدة العربية من تغيرات ومن بينها ما نكتبه. حدثتك مرة عما اعتبرته ضعفا أو تراجعا في بعض أعمالك. كنت أقيس ذلك على ما اعتبره قويا عندك سواء على صعيد اللغة أم بناء القصيدة. تتذكر حديثنا عن "أشقاء ندمنا " عندما كنا نهبط شارعاً طويلا يؤدي الى قلب عمّان. يومها لاحظت أنك انزعجت من رأيي في الكتاب ولكنك واريت ذلك بطريقتك الساخرة والتي، بالمناسبة، لا أعرف بعد أكثر من عشرين سنة على تعرفنا على بعضنا بعضا ان كانت سخرية أم هي مجرد طريقة في التعبير. كنت في تلك الفترة مهتما بقوة القصيدة. اللغة، البناء، لأنني كنت منشغلاً في تجربة شعرية جديدة علّي ولم اعرف كيف أصيغها، كيف أتعامل معها، أو كيف أدخل إليها. كانت تلك التجربة كتاب "سُّر من رآكِ" الذي يمكن ان يؤرخ بداية اهتمامي الخاص بالبلاغة...لم أتبين سبب احتياجي أو اهتمامي بالبلاغة، أو ما تسميه الفصاحة حينها. لاحظت ذلك فيما بعد. فالتعبير عن تجربة كهذه كان يحتاج الى نوع من الحماية، كيلا تقع في مطب المباشرة الفجة.. أو "البورنوغرافي" لذلك لم تكن البلاغة سوى درع أو ذريعة تمكنني من ان أقول ما أريد قوله من دون ان تتحول القصيدة إلى صور مكشوفة. أو تغادر ارض الشعر الى ارض أخرى. واعترف لك أنني أعدت قراءة ما اعتبرته ضعيفا في بعض أعمالك ووجدت حكمي السابق خاطئا. فليس على الكتابة، القصيدة خصوصا، ان تكون قوية دائما.. متماسكة تماسك الاسمنت. فلكل كتابة تاريخها الخاص بها. لكل كتابة حوافزها وجواذبها والإغراءات التي تهتف لها. فليس السياق العام للكاتب أو الشاعر سياقا صاعدا دائما. انه ليس مضماراً للسباق عليه دائماً ان يقطع مسافة أطول أو ان يحطم رقماً قياسياً. للكتابة، بالا حرى، شكل دائري. إنك تبدأ من نقطة وتعتقد انك فارقتها ولكن من المحتمل جدا ان تعود إليها. وقد لا تعود إليها تماما ولكن ربما الى أجوائها، الى ما كان ناقصا فيها، ما لم تعره اهتماما لحظتها. لذلك افهم، الآن، ان هذا الضعف لم يكن سوى محاولة لفتح طريق للكتابة عندما تقترب من كمالها أو لنقل من مأزقها. وبخصوص الفصاحة، أقول ان ما تسميه الجواذب أو الغوايات التي تدفعني إليها أو التي ترى أنها تلوح لي فلها سببها الخاص الذي أشرت إليه. ولكن ربما لها سبب آخر غير مفكر به أصارحك به الآن، وهو ما يمكن ان يكون نوعا من رد على الاتهامات التي تلاحق قصيدة النثر لجهة وقوعها خارج الشعرية العربية وركاكتها اللغوية أو البلاغية ان شئت. قد يكون اقترابي، الحذر نسبياٌ، من الفصاحة التي تسمح بالوقت نفسه للعالم ان يتراءى من خلالها هو رد غير مباشر على هذه الاتهامات. لست متأكداً من ذلك ولكنني أظن هذا الأمر قد يكون أقوى الجواذب أو لنقل التحديات.

تذكر إننا تحدثنا ايضا عن قوة اللغة قلنا ان الشعر ليس دائماً قوة لغة وأنه يحسن بالشاعر أحيانا أن يتجنب هذه القوة أو يحذر ان يتحول الشعر الى سحر لغوي تجربة أدونيس وبعده بركات وبعض العراقيين تُذكر في هذا المجال. ما هي محاذيرك أنت، ما هي ضوابطك، تجربة كهذه بدون محاذير واضحة قد تؤدي الى ببغاوية فصيحة؟.

ـ لم يكن الشعر بالنسبة لي قط قوة لغة.لم أحضر الى الشعر من هذه الوجهة. بل العكس كانت وجهتي التي قدمت منها تحفل بالتفصيل اليومي، بالصورة، بالمشهد بما هو ملموس أكثر من احتفائها باللغة. لم أنكر أو اطمس الوجهة التي جئت منها. وغالبا ما أتحدث عن سعدي يوسف كملهم، كمعلم تعلمت من شعره الكثير. وليس سعدي يوسف من شعراء اللغة، بل هو اقل الرواد اهتماما بهذا الجانب. أنت تعرف تجربتي من أولها فهي مهجوسة بأشياء أخرى غير قوة اللغة. هناك شعر له هذا الهاجس القوي مثل شعر سليم بركات على سبيل المثال، اللغة هنا تصبح هي العالم نفسه. وللغة في هذا الشعر وظائف قد تتجاوز الشعر نفسه الى ما اسماه الشاعر الفرنسي ميشيل ديغي في حوار نشرناه في "القدس العربي" مؤخرا الحفاظ على اللغة نفسها. هناك شعر إذن يحفظ اللغة من الاضمحلال وهناك شعر لا يحفل باللغة إلا بوصفها مادته الأولى. بالنسبة لي، ليست قوة اللغة مطلبا ولا مسعى يتطلبه شعري. حدث ذلك، ربما، في أكثر من عمل ولكن اللغة، كما ازعم، لم تطمس العالم ولم تحلّ محله. لا أكتب قصيدة انطلاقاً من لغة بل كثيراً ما تكون انطلاقاً من إيقاع أو من صورة. الصورة والإيقاع مهمان جداً عندي ولا أستطيع ان أتصور قصيدتي بدونهما أما موضوع الضوابط فليس من السهل ان ترسم حداً واضحاً لها. لكن ينبغي لي لكي لا تتحول القصيدة إلى ببغاوية، فصيحة، كما تقول أن أتبين العالم الذي تتناوله. إذا لم أتمكن من تبين أو تلمس نتوءات وحواف، وبشكل عام ملموسية هذا العالم، فهذا يعني ان القصيدة أخفقت في أن تقيم الصلة المطلوبة مع العالم. تحدثنا، أنت وأنا، في أكثر من مناسبة عن ضرورة ان يعي الشاعر لغته، نصه. مثل هذا الوعي يحدوني دائماً ولعله احد الضوابط أيضا. وقد لاحظت من خلال تجربتي وتجارب بعض الأصدقاء أن من السهل على الشاعر ان يقع في غواية عمله، ان يفتن بما يكتب وأن يكرر بوعي أو من دون وعي ما فتن به.
أحاول دائماً أن أكون يقظاً تجاه ذلك وإن كان من الصعب ترصد تسلل الفتنة دائما.

"مديح لمقهى آخر" منظوم وأظهرت فيه عن موهبة أكيدة في مجال الوزن لماذا التحول الى النثر أي جاذب أي تطلب.

ـ لا أتذكر الآن أسباباً حاسمة لمغادرتي الوزن. قد يكون أحد الأسباب هو البحث عما كنا نسميه بنوع من الطوبى الخالصة الصوت الخاص، أو ربما كان الأمر يتعلق بمجرد المغايرة والاختلاف، فالأمر حدث مبكراً في حياتي الشعرية وفي عمر يمكن التأثير عليه بسهولة. فأنت تعرف أنني كنت تقريباً الوحيد الذي بدأ يكتب ما يسمى "قصيدة النثر" في الوسط الشعري الفلسطيني السبعيني. كانت "التفعيلة" سيدة الموقف يومها وكان الخروج الى النثر يشبه الخروج من الصف الوطني. أقول لك بصراحة أن كل الكلام الذي كنت اردده عن استنفادنا للوزن، عن عدم قدرة الوزن على مجاراة طرائق الحياة والتعبير الجديدتين وعن قيوده وقوالبه كان بمثابة كليشيهات وإعلانات فاقعة. فأي استنفاد للوزن لشاب في الواحدة أو الثانية والعشرين من عمره؟ ففي هذا العمر وقع التحول السريع عندي إلى النثر ولم يأخذ الوزن فرصته الفعلية.
ليس هذا حنينا الى الوزن، فأنا الآن لا أستطيع ان أكتب وزناً ولم اعد اعرف كيف أفعل ذلك، ولكنه محاولة مراجعة أو فهم لموقفي السابق من الوزن. أظن أنه كان موقفاً متشنجا يلهج بل يصرخ بمقولات التحطيم الشائعة يومذاك للغة والوزن والعائلة والدين والدولة. ولكن هذا لا يعني ان القصيدة الموزونة السائدة يومذاك كانت تطلع من المتطلب الشعري والجمالي أو أنها كانت تقيم علاقة خلاقة مع الوزن. علاقة فيها تفرد ومغادرة للقوالب، بل بالعكس، أتذكر الآن ان القصائد كانت في معظمها متشابهة في الأوزان والمشاغل كأنها كانت ترتدي زياً موحداً. أتحدث عن سائد القصائد وليس عن استثناءات أو عن تجارب خاصة ومميزة لبعض الشعراء. لكن عليك ان تتذكر ان الانتقالية الى النثر حصلت عندي في بيروت وليس في عمان مدينتي الأولى. وأظن ان الشعر اللبناني كان له تأثير علي أكثر بكثير من الشعر العربي باستثناء سعدي يوسف الذي كنت مولهاً بشعره، اغلب الظن أنني ما كنت سأنتقل إلى قصيدة النثر لو بقيت في عمّان أو حتى في أي عاصمة عربية أخرى. فلا تنس ان بيروت، يومذاك، أواخر السبعينيات كانت تضم عدداً من شعراء قصيدة النثر الذين ما يزالون الأكثر إنتاجا حتى اليوم، بل كان في بيروت أحد رواد قصيدة النثر الذي لم التقه شخصياً إلاّ في لندن وبعد سنوات طويلة، على مغادرتي بيروت واقصد أنسي الحاج. ففي بيروت تلك كان بول شاوول يكتب وكنت أنت تكتب وكان بسام حجار قد بدأ يطل على الساحة وكان محمد أبي سمرا يكتب شعراً يومذاك قبل ان ينتقل الى الرواية وكذلك وديع سعادة الذي لا أتذكر أنني قرأت له شيئاً كثيرا يومذاك. وكان هناك حمزة عبود وعبده وازن قد بدأ لتوه، أكيد ان هناك أسماء أخرى ولكنها لا تحضرني الآن. تلك الأيام كانت أواخر أيام "الهورس شو" وبداية صعود "الإكسبرس" التي قرئت على موائدها آلاف القصائد ورابط فيها عشرات الشعراء. فعندما أحاول أن أتذكر انتقالي الى قصيدة النثر تحضرني كل هذه الأجواء والجواذب التي أسهمت كلّها من دون شك في هذا الانتقال. مع العلم أنني لم أذهب بعيداً جداً عن الوزن، لأنني أعتبر ما أكتبه أو معظم ما كتبته هو أقرب الى الـ Free Verse بمعناه الغربي منه الى Prose Poem فأنت تعرف ان الفارق بين الاثنين في الشعريات الغربية كبير. أكثر هذه الفوارق وضوحاً هو الشكل الطباعي للقصيدة نفسها وتوزيع أسطرها على الصفحة. ففيما تكتب "قصيدة النثر" الأوروبية على شكل كتلة طباعية، وبأسطر تمتد على عرض الصفحة تتوزع القصيدة الحرة على شكل أسطر تطول وتقصر تحت بعضها البعض. كان عبد القادر الجنابي هو أول من أثار انتباهي الى الفارقين الشكلي والمضموني، إذا جاز التعبير، وكان يمكن للملف الذي أعده في احد إعداد مجلة "فراديس" قبل سنوات عن هذا الأمر ان يشكل بداية تفكير في اختلاف قصيدة نثرنا العربية عن قصيدة النثر الأوروبية التي كانت ملهمة أنسي الحاج وادونيس عندما طرحاها لأول مرة في مجلة "شعر" ولكن قليلين التفتوا الى أهمية هذا الملف. فلا أعرف، حقا، أي شبه يربط بين "قصيدة النثر" العربية أو التي نكتبها نحن وبين الأوروبية.
لذلك لا أرى نفسي ابتعدت كثيراً عن الوزن. قد أكون تخلصت من الوزن بوحداته القياسية - البحور- ولكنني لم أتخلص من تعلقي بالإيقاع وتصوري ان ما أكتب يخضع لإيقاع صارم أيضا.

من موضوعات مباشرة أو على الأقل ملموسة، ومن بينها سيرتك البدوية ذهبت الى موضوعات ابعد وأكثر تجريدا: اللغة والتاريخ؟ هل هذه هي سيرتك الإنكليزية اللندنية على نحو ما أم رد عليها؟.

ـ إنها نوع من السيرة اللندنية، ورد عليها في الوقت نفسه، ولا بدّ أن يكون للمكان، أهله، ثقافته، علاقتنا المعقدة معه تأثيره في هذه الإنتقالة من الملموس إلى ما هو قريب من التجريد ولا أقول التجريد تماماً. ثم ان قوة اللغة والفصاحة التي تتحدث عنها الآن وسبق وان تحدثنا عنها أكثر من مرة من قبل لم تحصل إلا في المكان اللندني. فهل يتعلق الأمر بوصولي هذه المرة الى المكان الغريب، مكان الأخر الفعلي وليس النسبي كما كان عليه الوضع في حياتي العربية؟ وهل ما كتبته هو رد على ذلك، محاولة للحفاظ على الذات؟ يحدوني الظن ان الأمر قريب من ذلك. وقد لاحظ هذا الجدل الخفي في كتاباتي اللندنية بين الذات والآخر الناقد رشيد عناني أستاذ الأدب العربي في جامعة إكستر البريطانية في مقالة نشرها في "الحياة" مؤخرا لمناسبة صدور مختارات شعرية لي عن "بيت الشعر" الفلسطيني. لا أريد أن اثني أو أشدد على هذه القراءة أو هذا الفهم لما كتبته في لندن، ولكن القراءة كتبها ناقد يعيش في سياق مشابه للسياق الذي أعيش فيه منذ نحو ثلاث عشرة سنة. من الصعب ان أجيب إجابة مقنعة على هذا السؤال، لأنني لم أفكر فيه بشكل جدي من قبل. ولكن اللغة والتاريخ اللذين ظهرا بشكل جلي في بعض الأعمال اللندنية، وخصوصاً في "مرتقى الأنفاس" يؤكدان على أمر واحد هو"الهوية". لا بدّ لموضوع "الهوية" في محيط مغاير لك بالكامل ان يشغلك. لعلني أردت بذلك أن اثبت نقاط ارتكاز ما. ان اقنع نفسي أنني لست مقطوعاً من شجرة. لعلك تعرف مشاعر الاغتراب العنيفة التي تصيب المهاجرين أو المنفيين في الغرب، وأظن ان كتابات الذين يكتبون منهم لا تغادر كثيراً الأم الاندماج، الهوية، الإحساس بالاقتلاع الجسدي والمعنوي. وفي آخر الأمر لست بعيدا عن هؤلاء. فأنا أيضا مهاجر، بل كان يحلو لي أن أصف نفسي بالمنفي. لست متأكداً الآن مما إذا كنت مهاجراً أو منفياً ولكن الشروط التي يعيش فيها الاثنان واحدة.
أرجو أن تتذكر ان أول كتاب شعري كتبته في لندن ونشرته عند رياض الريس عندما كان لا يزال في لندن هو بعنوان "وصول الغرباء".

من لغة رملية كما وصفها احد نقادك الى لغة فيها الارابسك والترجيع الضمني والفصاحة الخفية والمعلنة أي طريق قطعت وأي مغامرة في القاموس والعبارة والصورة والإيقاع؟.

ـ كانت لغتي الرملية هذه وليدة المكان الأردني، أو ما ظل يفعل فعله فيَّ من أرض وحياة هذا المكان في أمكنة أخرى. ولا أعرف ما إذا كان الحديث عن لغة رملية عندي هو مجرد وصف أم حكم ولكن من المؤكد أن لغتي تغيرت مثلما تغيرت لغتك بين "الوقت بجرعات كبيرة" لو: "حجرات"، أو بين "نقد الألم" وبين "صور". فمن البديهي القول ان اللغة لا تظل على حالها. إنما تتغير بتغيرك أنت، بتغير تطلّبك من الشعر أيضا. إن اللغة التي عالجت موضوعات أردنية وبدوية بل حتى ومدنية عمّانية ليست هي نفسها بالضبط اللغة التي عالجت موضوعات عن الكونكريت والوحدة والعزلة ولا هي نفسها التي تناولت موضوعات شبه ايروتيكية أو تاريخية، لا أتحدث عن لغات عند الشاعر ولكن عن أطوار ومراحل في هذه اللغة. هذا فضلا عن ان المعجم يتسع ويكبر مع الوقت والتجربة. لا اعرف ان كان معجمي كبيرا أم صغيرا ولكنني اعرف أنني تناولت موضوعات عديدة وشكل كل كتاب شعري لي، تقريباً، تجربة خاصة قد تكون مختلفة عن التي سبقتها. فكيف ستظل إذن اللغة على حالها؟ أظن أنني من النوع القلق الذي لا يستقر كثيرا على حالة واحدة سواء على صعيد العلاقة مع المكان أم على المستوى المعنوي؟ يبدو أنني ظللت على هذا الصعيد بدوياً مترحلاً. فكم من مكان أقمت فيه وغادرته منذ غادرت مكاني الأول قبل نحو خمس وعشرين سنة؟ أظن ان كل هذه الأمكنة وأطواري فيها قد مارست تأثيرها على كتابتي وعلى قاموسي وبالتأكيد على مستوى الصورة والإيقاع.

بعد هذه التجربة أنت الآن اسم أساسي في الطور الثاني للقصيدة الحديثة هل ينكشف هذا الطور في في نظرك عن قصيدة أم قصائد عدة هل تتبلور فيه اتجاهات ومفاهيم مختلفة للشعر. هل ترى نفسك في وجهة وما هي عناوينها؟.

ـ أظن ان قصيدة الطور الثاني قد أصبحت قصائد. هناك قواسم مشتركة عريضة بين شعرائها ولكن صار لكل شاعر وجهة وقصيدة. فمثلما لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج والماغوط وسعدي يوسف قصائدهم والوجهات التي تأخذها هذه القصائد ازعم انه صار لشعراء الطور الثاني من قصيدة النثر مثل هذه القصيدة التي من الصعب أخطاؤها. اعرف قصائد هؤلاء الشعراء من دون عناء. فقد تأسست بعد نحو ربع قرن من وجود هؤلاء الشعراء في الكتابة الشعرية والتراكمات التي حققوها أساليب وقواميس ومشاغل يمكن تمييز كل واحد منهم على أساسها. أما الحديث الشائع، البائس أحيانا، عن التشابه واختلاط الحابل بالنابل فهو حديث من لا يعرف ساحة هذه الكتابة. انه حديث من الجهة الأخرى للكتابة، ولعله يرمي الى التأكيد مرة بعد أخرى على ان من الصعب ان تتحقق هذه القصيدة داخل الشعرية العربية بدليل عدم قدرتها على فرز أصوات واتجاهات، ولكن ليس هذا صحيحا. فأنت لا تشبه سركون بولص أو صلاح فائق ولا يشبه نوري الجراح زكريا محمد أو مبارك وساط مثلما لا يشبه بسام حجار بول شاوول أو سيف الرحبي أو سليم بركات ولا يشبه زاهر الغافري بندر عبد الحميد أو منذر المصري الخ... مثلما ان القصيدة اللبنانية هي قصائد وكذلك الأمر العراقية. فلا يصح الحديث عن قصيدة لبنانية واحدة في إطار قصيدة النثر فهناك أكثر من جيل فيها وفي إطار الجيل الواحد هناك أصوات مختلفة. هذا واضح لك ولي لأننا على صلة بما يكتب في هذه الساحة ولكن بعض العرب يخلطون ويتحدثون عن قصيدة لبنانية. إذن أستطيع ان المس الاختلافات والتمايزات ولكنني لا أستطيع الحديث بنفس الحسم عن اختلافات كبيرة في مفهوم الشعر عند هؤلاء. اختلاف الأساليب، الطرائق، القواميس لا يعني بالضرورة اختلافا في مفهوم الشعر. الاختلاف الكبير في مفهوم الشعر يوجد في المنعطفات وعند انطواء مراحل وبدء أخرى. أظن ان الاختلافات كانت اكبر قبل عشرين عاما عندما كنا نناضل من اجل الشعر والقصيدة، وقصيدة النثر على نحو خاص. فنحن الآن لم نعد نناضل، بل ان أحدا لا يناضل من اجل الشعر، إننا نكتب الشعر في إطار استقرت فيه الى حد ما المفاهيم والتصورات وصارت هناك أكثر من صيغة للكتابة. فبعد الحرب الضارية التي خضناها ضد القصيدة الوطنية وتسييس وادلجة الشعر انتهت، برأيي، آخر الحروب الكبيرة على جبهة دور الشعر ووظيفته. الأمر الذي يطول المفاهيم نفسها. هناك مفاهيم مختلفة ولكن اختلافها نسبي أو درجي وليس اختلافا جذريا في فهم الشعر ودوره. أظن ان الجميع الآن لا يكتبون انطلاقا من مقولات التحطيم الأولى ولا من أوهام تغيير العالم ولا حتى انطلاقا من مفاهيم ذات تصور نظري صارم. أظن ان غياب السجال لا يعني بالضرورة ان القصائد قد استقرت في الذائقة أو قد قبلت في المنجز العريض قبولاً تاماً. بل أظن ان غياب السجال أو النقاش حول المفاهيم، حتى في المفهوم الذي تقوم عليه قصيدة النثر نفسها، ولماذا قصيدة نثرنا العربية تختلف عن غيرها، ليس سوى تعبير عن نوع من الكسل الفكري أو عن الإحباط من عزلة الكتابة الشعرية نفسها. ان عزلة الكتابة اليوم والشعرية خصوصاً، لا تحتاج الى برهان يكفي ان تحضر أمسية شعرية عربية: وتسأل كم عدد النسخ التي يطبعها الشاعر لتعرف ذلك. واعتقد ان عزلة كهذه لا بدّ لي ان تنعكس على الكتابة نفسها والأسئلة التي تطرحها.

السفير ـ بيروت
29/9/2000