الفصيحة وثقافة اللغة الفصيحة

نجاري جيلالي
(الجزائر)

  • أدونيسموجة قصيدة النثر ستتوقف ولن تتواصل على الإطلاق بسبب عدم قدرة مثل هذه الكتابة على ابتكار أي جمال جديد.
  • يجب أن تندرج كتابات الشعر الشعبي في التراث الشعري العربي وأنا أدعو إلى العناية به كليًا.
  • أنا مع الكتابة بالدارجة ومع الكتابة بلغات الأقليات أو اللغات التي لا أبجدية لها.
  • نعم لقد شعرت بالحرج في حواري مع نينار. أنا لم أكن شجاعًا في كل ما يتعلق بالقضايا الشخصية وبشكل خاص قضايا الجنس.
  • لقد أتاح لي الفن الرقائم أن أفصح عن مخيلتي كما أشاء وأن أعطي ليدي حرية لم تعرفاها أبدًا في الماضي.

****

يُعدُّ أدونيس اليوم شاعر العرب الأول بلا منازع، خصوصًا بعد أن غيّب الموت مؤخرًا محمود درويش. بل وبحسب الروائي أوكتافيو باز هو أهم شاعر على وجه الأرض.
وعلى الرغم من الشهرة العالمية التي يتحلى بها والمرتبة المرموقة التي بلغها، يبقى أدونيس إنسانًا كريمًا وباذخًا في علاقاته الإنسانية. اقتربت منه خلال أربعة أيام كاملة في الجزائر لدى زيارته للمكتبة الوطنية الجزائرية، فاكتشفتُ فيه باحثًا ومفكًرا تنويريًا استثنائيًا، إذ إضافة إلى جرأة أفكاره وطريقة مساءلته للتراث العربي، يتسم أدونيس بقوة الحجة والإقناع في طرحه للقضايا المفصلية في ثقافتنا العربية.
في آخر ساعة من تواجده معنا، كان هذا الحوار مع الشاعر والإنسان أدونيس.

س: إذا كان "الماء ليس وحده جوابًا عن العطش [*]"، فما الذي يمكن أن يروي عطش العرب الحضاري والفكري والسياسي اليوم؟

أدونيس: هذا بالنسبة إلي سؤال الأسئلة، لأنه يحتاج إلى جواب الأجوبة. أنا ليس لدي جواب. فكيف لي بجواب الأجوبة. ولكني أظن أن بداية الخروج من هذا المأزق الكبير هو في محاولة تحليله أولاً ثم فهمه فهمًا عميقًا. ولا أظن أن يكون هذا التحليل ممكنًا دون النظر إلى الأسباب، التي تكمن دائمًا في الماضي، في الموروث وفي المعيش، تعلّق الأمر بالجانب الثقافي أو الاجتماعي بشكل عام أو المعتقدي الديني بشكل خاص. ومع الأسف وكما يبدو لي نحن العرب لم نقم بهذا التحليل الضروري لحدّ الآن. وإذا لم نقم به سيظل الجواب صعبًا لأن الجواب لا يأتي من الخارج أو من الفوق. الجواب لا يمكن أن تجريديًا. ولكي نصل إلى مثل هذا الجواب لابدّ من هذا التحليل والفهم الذي أشرت إليهما. عندما نستوعب ونتملك ما نحن فيه، يمكن أن نخرج إلى الأفق الذي يقودنا إلى ما يجب أن نكون. إذن، نحن ننتظر مثل هذا التحليل ولكن حتى الآن مع شديد الأسف لم نبدأه.

س: لكن هناك من المفكرين العرب من قاموا بتحليلات جريئة واستنطقوا ماضينا بشكل عميق، غير أنهم اصطدموا بالسلطة الدينية فكفّروا وشُوِّهّتْ أفكارهم؟ هناك نصر حامد أبو زيد والجابري وغيرهما كثير...

أدونيس: هذا صحيح. فالمفكرون الذين تشير إليهم، بالإضافة إلى محمد أركون وعبد الكبير الخطيبي الذي نسيناه وهذا أمر غير عادل، انتظموا في الإطار النظري والإيديولوجي العام. التحليل الذي أشير إليه يجب أن يستند إلى تحليل الأسس الأولى التي قام عليها المجتمع العربي وانبثقت عنه ما نسميه بالثقافة العربية. ومن هنا فإن الأساس الأول الذي ينبغي أن يتناوله التحليل هو الدين الإسلامي الذي هو ليس مجرد إيمان ومعتقد وإنما هو ثقافة، بالإضافة إلى كونه حياة اجتماعية واقتصادية. وإذن، فهؤلاء المفكرون على أهميتهم لم يتطرقوا إلى مثل هذه الأمور. هذا بشكل عام، وبشكل خاص لم يتساءلوا حول الدين.، إن انتقاد الدين لا يعني تنتقد فقط انتقاد بعض المعتقدات وبعض الاتجاهات. النقد الديني هو نقد لمعناه. هل الإنسان في حاجة إلى الدين مثلا؟ ما هي القيمة المعرفية للدين اليوم؟ منذ القديم كان هناك كُتّاب وشعراء في المجتمع العربي قالوا بإمكانية الاستغناء عن الدين. وبما أن لدى الإنسان عقلاً ودينًا، وأن العقل سابق على الدين، فإنه بذلك يستوعب الدين وليس العكس. من هنا يمكن القول بأن الإنسان يمكنه الاستغناء عن الدين.
أبو العلاء المعري قال ذلك صراحة "إثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخرٌ ديّنٌ لا عقل له" . وإذن، فهؤلاء المفكرون لم يطرحوا الأسئلة الأساسية الميتافيزيقية حول المسألة الدينية، فكأنهم لم يحلّلوا شيئا. من جهة ثانية لم يدرسوا دراسة دقيقة هذا التمفصل التاريخي بين الديني والسياسي في الحياة العربية. كيف تحوّل الدين إلى عرش يجلس عليه الخلفاء والحكّام والقادة؟. كيف حصل ذلك ولماذا؟. لماذا تحالف الدين مع المال؟ وبناء على ما سبق، الدين لم يعد تجربة روحية، تجربة ميتافيزيقية وتجربة إنسانية بالمعنى العميق للكلمة. لقد أضحى تجربة في السلطة، في القيادة، في المال وفي مختلف الشؤون إلا في جوهره هو. في التحليل الذي أقصده، نحتاج إلى هذا النوع من الأسئلة ومع الأسف لم نفعل ذلك إلى اليوم.

س: في كتابكم الأخير والموسوم "ليس الماء وحده جوابا عن العطش" هناك غيمتان واحدةٌ فوق نيويورك وأخرى فوق قصابين. ماذا تمثل هذه الغيمات / المحطات بالنسبة لأدونيس؟

أدونيس: هذا الكتاب مكوّن من فصلين، القسم الأول يحمل عنوان "غيوم" والقسم الثاني "سياسة الضوء" وهو بشكل ما مرتبط بالغيوم. الغيوم هنا تشير إلى ما يمكن أن يحجب أو يضعف أو يشوش الرؤية بشكل أو بآخر. والغيوم تشير رمزيا إلى المشاكل أو العقبات أو الحواجز التي تحول دون الوصول إلى الرؤية الحقيقية للإنسان وللحياة وللعالم. وفي ظنّي على المستوى الكوني، فإن نيويورك رمز أساسي لهذا الحجب. بهذا المعنى كتبت "غيمة فوق نيويورك". أما "غيمة فوق قصابين"، فكتبتها لتكون النقيض الآخر. قصابين ترمز للقرية وللريف العربي وهي أيضا رمز للفلاح والفقير والعاطل عن العمل، المرتبط مصيريا ووجوديا بالحقل البسيط يزرعه وبالسماء التي فوقه وبالله. هذه الصورة يمكن أن تكون جميلة، رومانسية على مستوى الذاكرة والطفولة لكن مع هذا تندثر وتموت للأسف. فإلى أي حدّ يمكن التوفيق بين البقاء على مثل هذه الصلة الطفولية الفرحة البريئة العميقة مع الأرض التي ترمز لها القرية ومن جهة ثانية الانفتاح على كونية العالم إذ أنه لا يجوز أن نظنّ أننا نعيش لوحدنا كعرب في العالم. نحن جزء من الكون فكما نأخذ منه بعض منتجاته الاقتصادية، لا يمكن إلا أن نأخذ منه بعض آرائه في العالم والإنسان وبعض ثقافته في مختلف الميادين الأخرى. وإذن فإن من الضروري - من الآن فصاعدا - أن ننطلق من كوننا جزءًا أساسيًا من هذا العالم الذي نعيش فيه لا بكوننا منفصلين عنه كأننا نحن شيء وهو شيء آخر. كل هذه المشاكل تثيرها رمزية الغيوم بصورة أو بأخرى، سلبًا أو إيجابًا، ضد أو مع.

س: في سياق هذه الثنائيات، أرى كقارئ متابع لأشعارك أنها في الجوهر حوار مع الأصول البعيدة وفي ذات الوقت مناجاة للميتافيزيقي. لماذا ينوس أدونيس بين أصداء الماضي ونداءات الآتي والمستقبل البعيد؟

أدونيس: أولا، أنا في وجهة نظري الشعرية وفي كتابتي الشعرية أنطلق من رؤية توحد بين الرؤية الفكرية والرؤية الفنية. فلا فاصل لدي بين الشعر والفكر. الشعر فكر والفكر العظيم لا يمكن إلا أن يكون شعرا بشكل أو بآخر. وجميع الخلاقين في التاريخ يؤكدون ذلك. كل الشعراء الكبار في التاريخ كانوا مفكرين كبارا وكل المفكرين العظام كانوا شعراء، من هيراقليطس إلى أفلاطون إلى نيتشه إلى فلاسفة كثيرين اليوم. فأنا أولا أوحّد بين النظر الفكري والنظر الشعري. ثانيا، على مستوى الوجود وانتمائي إلى ثقافة معينة وإلى شعب وتاريخ معين - لم أختره – وإنما كان طبيعيا، أي بالولادة. ونحن لا نختار ولادتنا وإنما نختار كيفية ممارسة هذا القدر التاريخي. كيف نتصارع معه وكيف نحوله ونغيّره. أنا أعتبر أن المفكر أو الشاعر بمثابة شجرة مغروسة في أرض وهذه الأرض لا يمكن إلا أن تكون أرضها الخاصة. وأنا كشجرةٍ منغرس في تاريخ قديم عريق، أزهو بهذا التاريخ وبهذا الانغراس. لكن تربتي التي أنغرس فيها لا تكفيني، ولذلك أنا كمثل الشجرة أغصاني وحياتي وأفكاري تذهب في جميع الاتجاهات. لا الشرق وحده ولا الغرب وحده وإنما الشمال والجنوب معا. أنا منفتح كالفضاء، إنما جذوري في تربة معينة وهي الثقافة العربية. من هنا بإمكاني أن أقول لك بأني لا أجد نواسا وإنما أجد تأصيلا وتعميقا لهذا الانتماء الكوني انطلاقا من هذا الانتماء الخاص الذي هو الانتماء العربي.

س: في تناولكم للتاريخ والتراث العربي منهج يقوم على وضع التاريخ موضع الاتهام والتساؤل". لماذا هذه النزعة التشكيكية في تناول التراث العربي؟

أدونيس: لا ليس الاتهام وإنما تفكيري يقوم على المساءلة وإعادة النظر باستمرار فيما أعيشه. التراث ليس كتبا فقط وليس أسماء وأشخاصا. التراث تيار ونهر عظيم وأنا جزء من مائه. ومن حقي أن أعيد النظر دائما في هذا العالم الذي أتغذى منه. ما مكونات هذا الغذاء؟ التاريخ بالنسبة إلي مسألة يجب أن تكون موضع مساءلة وليس موضع اتهام.

س: حاورتك ابنتك نينار إسبر فكسّرت بجرأتها المحظور معك بما تناولته من قضايا الجنس والدين، وعلى ما يبدو أن أدونيس الأب قد أُحرج كثيرا. هل تغلّب فلاح قصابين على أدونيس الحداثي في تلك اللحظة بالذات؟

أدونيس: الحوار مع نينار تناول مستويات عديدة من حياتي، لا المستوى الثقافي والفكري فحسب وإنما تناول للمرة الأولى المستوي الشخصي والأبوي. هي ألحّتْ على المستوى الشخصي وكيفية تفكيري في الشؤون التي تهمّها كجيل جديد. لقد اكتشفت من خلال ذلك الحوار أنه كان بيني وبين والدي مسافة ضخمة من الأفكار المتغيرة والممارسات بحيث أنه كان يبدو لي أنه لا علاقة له بي أو أنني لا علاقة لي به. وبدا لي مع نينار – وهي رمز لأجيال كثيرة ولأبناء وبنات كثيرين – أنني أبدو قديما بالنسبة إليها. بصراحة أنا لم أكن شجاعا في كل ما يتعلق بالقضايا الشخصية وبشكل خاص قضايا الجنس وما ينشأ عن هذه القضايا من تعقيدات ومن أشياء حيّة وملموسة ولكنها مكبوتة. أصارحك حقّا، فأنا لم أكن شجاعا في الكلام عن هذه المسائل بالمقارنة مع شجاعتي في الحديث عن القضايا النظرية. وأنا هنا لست إلا رمزا للأب العربي، فنحن الآباء العرب وعلى الرغم عن حديثنا عن الحرية والتقدم لا نزال في صميمنا نحمل أشياء كثيرة يجب أن نتحرر منها. لكن ينسى هؤلاء الأبناء أن التحرر ليس أمرا سهلا، فالفرد وحده لا يستطيع أن يتحرّر ولا يتأتى له ذلك إلا إذا رأى في المجتمع نفسه ما يتيح له وما يشجعه على هذا التحرر. أبناؤنا أكثر حظّا منا فهم على الأقل يجدون في آبائهم قبولا كبيرا إلى حدّ ما في أن يعيشوا حياتهم الخاصة بهم. أما نحن، فآباءنا لم يكونوا يفعلون ويسمحون بذلك. في هذا الإطار وبلا شك وجدت نفسي أحتار بما أجيب وأتردد في قول بعض الأشياء مما أدى بها إلى اتهامي بأني أقول شيئا على المستوى النظري ولا أكمله على المستوى الحي والحياتي كما ينبغي.

س: على مستوى الإنتاج الشعري العربي، هل يجد أدونيس جرأة شعرية في الأجيال الجديدة؟

أدونيس: مع الأسف لا. وهذه ملاحظة هامة جدا، إذ أن الممارسة الكتابية في الجيل الجديد تقتل البعد الميتافيزيقي وتحصر همّ الكاتب في الواقع اليومي. فكتابته منصبة في علاقته مع هذا الواقع اليومي وعلى وصف الأشياء التي يراها أو يصطدم بها. وهذا تأثر واضح بالكتابات الغربية وبخاصة الأسلوب الأمريكي في الكتابة الشعرية. البعد الميتافيزيقي غائب تقريبا عن هذه الكتابة وإثارة مثل هذه المشكلات يتطلب هذا البعد الميتافيزيقي. لا أدري إن كنت سأسميه من الأخطاء الكبرى في الكتابة الشعرية العربية الجديدة وإنما هذه ملاحظة أظنّ أنها جديرة بالدراسة. قد يمكن الدفاع عن الكتابة الواقعية بالقول بنظريات أن الكتابة لا تحتاج إلى ميتافيزيقا ولا تحتاج إلى فكر وإنما تحتاج إلى حساسية فقط. يمكن الدفاع عن هذا الشكل من الكتابات بمثل هذه النظرية وأنا أحترم هذا الدفاع ولكن بالنسبة لي شخصيا هذا لا يرضيني وأعتبر أن مثل هذه الكتابة لا تقدم لي كقارئ شيئا ذا أهمية.

س: تحدّثت عن المسافة والهوة الكبيرة التي كانت بينك وبين الوالد. فماذا كان الأمر بالنسبة للوالدة؟

أدونيس: كان الوالد بالنسبة لي كائنا ثقافيا، لذلك كان هناك نوع من الصراع معه. صراع يشوبه الاحترام التام. ولقد اكتشفت بعد وفاة أبي أنه لم يقل لي في حياتي افعل هذا ولا تفعل ذاك. لم يكن أبا بهذا المعنى وإنما كان صديقا، كان يقول لي دائما حتى وأنا طفل افعل ما تشاء لكن قبل أن تفعل فكّرْ وادرس وناقش وقارن ثم يكون القرار عندئذ سهلا. هكذا كان يقول لي. أمي ليست كائنا ثقافيا وإنما هي كائن طبيعي، لم تكن تقرأ ولا تكتب وهي لا تزال حية وعمرها الآن مئة وخمس سنوات. كنت أراها كما أرى نبعا أو شجرة أو هواء أو نجمة. علاقتي بها كانت علاقة طبيعية إذ لم تكن لي معها أية مشكلة تذكر. بالعكس كنت عندما أتعب عقليا، أرتمي في حضنها طبيعيا لكي أستعيد عافيتي.

س: يقول عنك بعض النقاد بأنك جعلت من الإبهام في أشعارك منهجا وأسلوبا وبأنك فتحت من بعدك لعصر من "الشعراء الأدونيسيين" الذين اتفقوا في الغموض واختلفوا في الشعر. بماذا يردُّ أدونيس على هذا التصنيف؟

أدونيس: مسألة الغموض في الشعر مسألة قديمة جدا والعرب استرسلوا كثيرا في دراستها والبحث فيها والدفاع عنها تارة وإدانتها تارة أخرى. وبهذا الشكل، فالظاهرة لا تنسب إلي وإنما هي لصيقة بالتراث العربي القديم. وإذا كان هناك مفهوم آخر لمسألة الغموض وهو مزج الشعر بالفكر أو أن رؤيتي أساسا هي غامضة، فأنا أرد بالإيجاب وأقول بأن الغموض عندي يتأتى من ثلاثة أمور أساسية. الأول هو أن لغتي الشعرية كمفردات لغوية وكأسلوب ليسا بسيطين بل مركبين. وأنا أحاول أن أقدم تركيبا متقنا إلى أقصى ما يمكن. ومثل هذا الإتقان يحتاج إلى معرفة عالية باللغة وأسرارها وهذا في رأيي عنصر من عناصر الغموض عندي. لأن هذه المعرفة للأسف غير متوفرة كما ينبغي في الحياة العربية. أما السبب الثاني، فيتعلق برغبتي في إعادة كتابة التاريخ العربي في كل قصيدة أكتبها. وإعادة كتابة التاريخ فيها كم هائل من التقاطعات والرموز والأزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل)، وفيها أيضا تتشابك العديد من القضايا والعواطف. ومثل هذه الأنواع من التشابكات - أعترف - أنها تولّد هذا الغموض الذي تشير إليه. والنقطة الثالثة، تخص الحساسية الشعرية التي أصرّ فيها على أن تكون خلفيتها تجربة فكرية. الحساسية التي تكون واضحة وبسيطة وشفافة تعقّدها وشائج الفكر والرؤية الاستقرائية. في نظري، مسألة الغموض في شعري تنبع من هذه العناصر الثلاثة، إلا أني لاحظْْتُ أنني حين أقرأ شعري بصوتي يخفُّ هذا الغموض، أي أن تسمعني وأنا أقرأ نصا فإنك سوف تفهمه أكثر من أن تقرأه بمفردك في كتاب. وأنا أتساءل ما السبب؟ هل هو الصوت الذي يعدّ عنصرا أساسيا في تشفيف الأشياء وفي توضيحها؟. أنا أعدُّ قراءتي لأشعاري جسرا يهون العبور إلى شاطئ الفهم ومعنى ذلك أن المشكلة ليست في طبيعة النص بوصفه غامضا وإنما المشكلة في طريقة القراءة. وبهذا أستخلص أن شعري يستلزم طريقة خاصة في قراءته. وطرق القراءة العامة عندنا في ثقافتنا العربية طرق مباشرة، تعتمد على الحاسة المباشرة التي تستأثر الفهم السريع والمباشر وكأنما يريد القرّاء عندنا أن يفهموا الشعر كما يفهمون النثر. وفي مثل هذه الحال، أنا لا أحرج ولست نادما ولا غاضبا بأن أتهم بالغموض، بل بالعكس يسرّني هذا الاتهام لأنني أطالب القارئ بطريقة خاصة في قراءتي. هذا نوع من إغناء القراءة وليس نوعا من إضعافها. هناك شيء آخر، حيث أحول كليا بين قارئ يريد أن يستهدفني. أنا أخلق القارئ الذي يتعذب في قراءتي والذي كلما قرأني تتفتح له مشكلة أو أفق ما أمامه ومن هنا فأنا أغنيه أكثر مما أفقره. وفي الوقت نفسه أعترف أن هذا الغموض يبقى حاجزا أمام قرّاء كثيرين إذ وبمجرد أن يعسر الفهم عليهم ينصرفون عن قراءتي. ومهما يكن، فأنا أعتقد أن هذا ذنبهم وليس ذنب النص، خصوصا أن الشعر في العالم كله حافل بمثل هذه النصوص التي تتطلب قرّاء في مستواها.

س: في سياق حديثنا عن تطور الشعر العربي، نلحظ أن الكثير من الشعراء يلجأون اليوم إلى كتابة قصيدة النثر. هل انغلق أو سوف ينغلق أفق القصيدة العربية بقصيدة النثر؟

أدونيس: أنا أظن انطلاقا من خبرتي البسيطة أن العزوف عن الوزن هو إشارة عن العزوف عن اللغة الفصيحة وثقافة اللغة الفصيحة. وعليه، فهؤلاء الكتاب ليسوا ضد الوزن بحد ذاته وإنما هم ضد رمزيته وعلاقته باللغة الفصيحة وبممارسة لغوية فصيحة. ومن هنا، فهم يعتقدون أن النثر يقربهم من الحياة اليومية ومن الحياة العادية ويريحهم من أعباء كثيرة تتعلق بموسيقية اللغة العربية وموسيقية الشعر وبالوزن وفي المحصلة بعالم مرتبط بالعالم القديم. أظن أن الأمر هكذا وأنا أفسّره بحسن نيّة. ولكن ينسى هؤلاء أنهم لا يزالون يكتبون باللغة نفسها. لو كانوا غيروا لغتهم وكتبوا بلغة دارجة لكانوا منسجمين مع أنفسهم ومنطقيين أكثر. وبما أنهم يكتبون باللغة ذاتها التي كتب بها امرؤ القيس منذ ألفي سنة فلابد – احتراما لمهنتهم كشعراء وكتاب - أن يعرفوا معرفة عالية بالأدوات التي يكتبون بها. ومعرفة هذه الأدوات تقتضي معرفة شعرية هذه الأداة من بدايتها حتى اليوم. لذلك أعتبر أن هذه الظاهرة النثرية المنتشرة هي نوع من الهرب وبوصفها نوعا من الهرب فهي نوع من الجهل. أنت لا تستطيع أن ترفض شيئا إلا إذا كنت تعرفه. أعرفْ الأمر أولا ثم قل له لا أو نعم وحدّدْ على ضوء ذلك طبيعة علاقتك به. هذا مأخذي الأساسي على شعراء النثر، خصوصا أن هذه الموجة لا محالة ستقف. لن تتواصل على الإطلاق بسبب عدم قدرة مثل هذه الكتابة أن تبتكر أي جمال جديد. ولكي تبتكر جمالا جديدا يجب أن تتمكن من تاريخ هذه اللغة جماليا، ولذلك لن يتوصل شعراء النثر إلى أي نظام. ومهما هدمتَ فنيا فسيبقى هدمكَ نوعا من نظام آخر ولذلك ولحد الآن لم يتوصل إلى نظام في كتابة النثر. لا يزال النص النثري مجموعة أجزاء وحدتها في الصفحة البيضاء وليس في بنيتها العميقة أو تكوينها العميق. وعلى ضوء ما سبق، أقول أنني لا أجد مستقبلا لمثل هذه الكتابة. ومهما يكن فلا يجب أن يفهم مني أني ضدّ الكتابة بالنثر، فأنا أول من شجّعها في مجلة "مواقف" ومجلة "شعر". وأنا أوّل من اقترح ترجمة [Poème en prose] إلى قصيدة النثر وبعد ذلك سادت التسمية. فإذن، أنا لست ضد قصيدة النثر ولست ضد كتابة الشعر بالنثر إطلاقا، بالعكس أنا أمارسه وأدعو إلى ممارسته، لكن أنا أقولها لا فن بدون نظام مهما كان هدّاما ومخربا. السبب الأساسي في هذا هو أن الفن إعادة بناء للعالم وتقديم علاقات جديدة في هذا العالم بين الكلمات والأشياء والكلمات والقارئ وبين الأشياء القارئ أيضا. الشعر نظام آخر وأنا أدعو إلى التمعن في خلق مثل هذا النظام في الكتابة النثرية الراهنة وأدعو إلى الاستمرار فيها غير أني أدعو الشعراء إلى محاولة خلق نظامهم الفني الخاص كل بطريقته المتميزة.

س: قبل قليل أشرتم إلى الكتابة باللهجة الدارجة. في الجزائر هناك ما يسمى بالشعر الشعبي أو الشعر الملحون. كيف ينظر الشاعر أدونيس إلى مثل هذا الإنتاج الشعري؟

أدونيس: يجب أن تندرج هذه الكتابات في التراث الشعري العربي وأنا أدعو إلى العناية به كليا، لأن هذا الشعر يعبر تعبير مباشرا وحيّا عن حياة الناس ومشاعرهم وأفكارهم. فبقدر ما نحترم الناس وحياتهم ونحرص عليها يجب أن نحترم مثل هذا النتاج ونحبه كما نحب النتاج اليدوي المتمثل في الفلكلور والصناعات الفخارية والبسط والسجّاد. هذه أعمال فنية راقية. ومن هذا المنطلق، فالكتابة الشعرية باللغة الدارجة هي كذلك أعمال فنية وأنا أدعو إلى تدريس هذا الشعر في الجامعات والمدارس بحيث يصبح جزء أساسيا من الحياة الثقافية القائمة. أنا مع الكتابة بالدارجة ومع الكتابة بلغات الأقليات أو اللغات التي لا أبجدية لها. اللغة ليست مجرد أداة، بل هي كينونة الإنسان، فلا إنسان بدون لغة. وعلى هذا الإنسان يخب أن نقدر ونمجد كينونة الإنسان ممثلة في لغته.

س: معروف عنك ولعك بفن الكولاج. لو اضطر أدونيس لهجر الشعر فهل سيتفرغ لهذا الفن؟

أدونيس: نعم، أظن ذلك. أنا سميت هذا الفن بفن "الرقائم" بدل الكولاج لأن الرقيمة في اللغة العربية تشير إلى هذا التأليف اللوني والخطي في آن معا. وأنا أعتقد أن فن الرقائم قد أفادني كثير على الرغم من أنني وصلت إليه عفويا. ولقد أمضيت أكثر من سنة كاملة وأنا أنجز الرقائم خبط عشواء ثم مزّقتها جميعا عندما شعرت أنني اهتديت إلى خيط يمكن أن أتمسك به وأسير نحو أفق لا أعرف كيف ينتهي. لقد أتاح لي هذا الفن أن أفصح عن مخيلتي كما أشاء وأن أعطي ليدي حرية لم تعرفاها أبدًا في الماضي. ثم أنني اكتشفت وتفهمت معنى المصادفة في العمل الفني. كل عمل فني جدير يقوم في جزء كبير منه على المصادفات سواء تعلق الأمر بالشعر أو غيره. سأطلعك على كيفية كتابتي للقصيدة المتروكة للمصادفة. كنت أكتب القصيدة فأظن أنني ما كتبته سيكون هو مطلع القصيدة، ثم ينشأ بيت آخر فأقول أن هذا هو المطلع الأجمل وبعد فترة يصبح ما كنت أظنّه بداية القصيدة خاتمتها. هناك مصادفات غريبة جدا وجميلة جدا في العمل الفني. الحقيقة أن الرقيمة فتحت لي إمكانيات هائلة لمثل هذه المصادفات. وهناك شيء آخر أتاحت لي الرقيمة، حيث يلتقي خط الكلمة وخط اللون وخط التشكيل بحيث تستحيل الرقيمة عملا فنيا شبه متكامل. وإذا كانت السينما عملا فنيا كاملا (Œuvre totale) من حيث امتزاج الموسيقى بالضوء والكلام بالتمثيل واللون في مختلف الأبعاد الزمنية، إذ يحضر العالم كلّه في لحظة من اللحظات السينمائية، فإن الرقيمة بالنسبة لي تتيح لي هذا الاتجاه الشبكي الممتد في جميع الاتجاهات الكونية. أنا بشكل ما انتهجت هذا الأسلوب في أعمالي الشعرية ولكنني عمّقته أكثر في فن الرقائم. الرقيمة شريحة من العالم منبسط أمامك. ثم أن الفنان يحتاج إلى أن يحيا حياة كريمة حتى لا ينفق حياته في أعمال لا تكفل له إلا النزر القليل. وكإنتاج فني، بصراحة تدرُّ الرقائم ببعض المردودية مقارنة بالشعر. ثم أنه بمقدار ما يكون الفنان مرتاحا ماليا في حياته سيمكنه ذلك من التفرّغ التام لإبداعه وهذا عامل آخر قد يجعلني في لحظة ما – أترك الكتابة الشعرية والنثرية وأنصرف إلى هذه الكتابة الأخرى.

ايلاف
2008 الثلائاء 28 أكتوبر