انتظرني أيها الموت ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي

mahmood_darwaish-19.jpg

قبل سنوات كتب الشاعر الكبير محمود درويش: "وعند الفجر أيقظني/ نداء الحارس الليلي/ من حلمي ومن غتي:/ ستحيا ميتة أخرى/ فعدِّلْ في وصيتك الأخيرة/ قد تأجّل موعد الإعدام ثانية/ سألتُ: إلى متى؟/ قال: انتظرْ لتموتَ أكثر/ قلت: لا أشياء أملكُها لتملكني". كان درويش في "جداريته"، الصوت المقبل من الموت، على ما قيل، والعارف بأسرار الحياة بعد فوات أوانها. كتب "جداريته" بعد أزمة قلبية رهيبة، بعدما دخل في حضرة الغياب، وصادق أسراره، وبواطنه، وكلماته، فرأى الموت من داخل، وعاشه، وتعايش معه، بل تقمصه، ثم خرج من حضرة الغياب الى حضرة الشعر، كأن ليولد ثانيةً وثالثة ورابعة، ويحيا ثانية وثالثة ورابعة، ويواصل العيش، قريباً من الموت، هاجساً به، لكنْ منتصراً عليه. إلاّ أن الموت هذه المرة كان هو الموت الحقيقي، الموت الخائن، الذي أدخل الشاعر في متاهته... من غير رجوع. فمن أي باب نكتب عن الشاعر الكبير، الذي كان اسمه يوازي قضيته بلاده، بل الذي كان يحسده ارييل شارون على كلماته، هذا الجلاّد الذي دأب على اغتيال الشعب الفلسطيني. محمود درويش ربما يكون الاسم الاكثر حضورا بشعره في العالم العربي. يقصد القارئ المكتبة ليشتري كتابه، فيختلط البعد الذاتي بالبعد الجماعي في شخصيته، حتى ليغدو مستحيلاً الفصل بينهما. هذا الشاعر الذي يمثل الضمير الحيّ لفلسطين وشعبها، هو أيضاً ذاكرة الحياة الملحمية التي عاشها الفلسطينيون. انه جزء من صناعة وطن وليس ايديولوجيا كما يحلو للبعض ان يقول. كان لافتا ان يرحل بعد ايام على رحيل الكبير الاخر يوسف شاهين. شاهين كان اسكندرانيا، ودوريش كان فلسطينيا مشرقيا، تحضر في شعره رموز التوراة، كما يحضر المسيح والقرآن. لسبب او لاخر صرنا نحفظ شعره، بسبب قضية فلسطين او من دون سببها. بل هو اصبح جزءا من ذاكرة الشعر، ومن ذاكرة البطولة، ومن ذاكرة الانتصار على الموت، فنقرأه في العين ونسمعه في الاغنيات ونحفظه في الضمير. محمود درويش، صاحب "ريتا" و"تصبحون على وطن"، و"لماذا تركت الحصان وحيدا"، الان يترك ريتا. الان بينه وبين ريتا ثمة الموت. بل الان يترك فلسطين وحيدة، وربما يكون اوصاها ان تحتفظ بشعره في ذاكراتها، هو الذي حفظ ذكرياتها في شعره. مات محمود درويش. سمعنا الخبر، فقلنا انه خبر عار من الصحة، لكن الشاعر الشاب بشعره وبحياته، كان دائما مهجوسا بالموت. حتى لكأن الموت كان مرآة يكتب فيها اللغة، او يرى فيها الايقاع والجناس، او يقرأ فيها "لسان العرب" الذي طالما احبه، بل يقرأ فيها الرواية التي دائما كانت شغفه على رغم انه الشاعر ويحب الشعر. لا ينتهي الكلام عن محمود درويش في اخر الليل، هو الذي خرج في مقتبل عمره من فلسطين الى المنفى الكبير، وعاد بعد ثلاثين عاماً من المنفى الكبير الى فلسطين التي لم يجدها، بل وجد جزءاً منها، ما برح محاصراً بالخوف والقلق وسؤال المصير: "الطريق الى البيت بات اجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي". كانت هذه العبارة صاعقة بالنسبة الى الكثيرين، وهي صورة يمكن تفسير وجه فلسطين من خلالها، بل يمكن ان نعرف وجه المنفى من خلالها. عاد محمود درويش الى فلسطين لكنه لم يجدها، كما عاد ادوارد سعيد الى بيته فوجد المحتلين فيه.

ولادة

في 13 آذار 1941 وُلد محمود درويش في قرية البروة بالقرب من عكا، من أعمال الجليل. في إحدى الليالي استيقظ فجأة على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وخروج فجائي، وعدو استمر لأكثر من ست وثلاثين ساعة تخلله اختباء في المزار، بعيداً عن أعين وأيدي أولئك الذين يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم: "عصابات الهاغانا". استيقظ محمود درويش ليجد نفسه في مكان جديد اسمه لبنان. هنا بدأ وعيه بالقضية يتشكل من وعيه ببعض الكلمات، وفي عامه السابع عشر تسلل إلى فلسطين عبر الحدود اللبنانية، وعن هذه التجربة يقول: "قيل لي في مساء ذات يوم... الليلة نعود إلى فلسطين، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟! ولكن أين هي؟ فلم أعد إلى بيتي، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت". عاد محمود درويش إلى قريته فوجدها قد صارت أرضا خلاء، فصار يحمل اسما جديدا: "لاجئ فلسطيني في فلسطين"، وهو الاسم الذي جعله مطارداً دائما من الشرطة الإسرائيلية، لأنه "متسلل" ولا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية. تنسيقًا مع وكالات الغوث بدأ الشاب اليافع في العمل السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي، محاولا خلق مناخ معادٍ للممارسات الإرهابية الصهيونية، وكان من نتيجة ذلك أن صار محررا ومترجما في الصحيفة التي كان يصدرها حزب راكاح الشيوعي الإسرائيلي، وهو الحزب الذي رفع في تلك الفترة المبكرة من الستينات شعارا يقول: "مع الشعوب العربية... ضد الاستعمار"، وهي الفترة ذاتها التي بدأ فيها درويش يقول الشعر، واشتُهر داخل المجتمع العربي في فلسطين بوصفه شاعرا للمقاومة، حيث كانت الشرطة الإسرائيلية تحاصر كل قرية تقيم أمسية شعرية لمحمود درويش. بعد سلسلة من الحصارات، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورا عليه مغادرة هذا الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي، ظانا أنه سيكتم صوت الشاعر عبر منعه من إقامة أمسياته. هنا بدأ محمود درويش الشاعر الشاب مرحلة جديدة في حياته بعدما سُجن في معتقلات الصهيونية ثلاث مرات في 1961 و1965 و1967.

بيروت خيمتنا

في مطلع السبعينات وصل محمود درويش إلى بيروت مسبوقا بشهرته كشاعر. يقول درويش انه عندما غادر الارض المحتلة هاجمته الصحافة اللبنانية، للاعتقاد بأنه انتهى كشاعر بخروجه، حيث كان يُنظر الى الشعر الآتي من الارض المحتلة نظرة رومنطيقية، وكان العالم العربي يصفق للشعر من هناك ايا يكن، جيدا ام رديئا. لكن خروج الشاعر اولا الى موسكو ثم الى القاهرة، كان بداية تحول في شعريته، حيث شكلت القاهرة منعطفا في حياته الشعرية، ثم جاءت بيروت التي اورثته مرضا هو الحنين اليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية منها. عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، فقد وُزع من كتبه أكثر من مليون نسخة في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط. حتى ان إحدى قصائده "عابرون في كلام عابر" أثارت مناقشة حادة داخل الكنيست الإسرائيلية. هذا التأثير الكبير أهّله بجدارة لأن يكون عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من عدم انتمائه الى أي جماعة أو حزب سياسي منذ مطلع السبعينات، وقد تطورت علاقته بمنظمة التحرير حتى اختاره الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مستشارا له في ما بعد ولفترة طويلة، وقد كان وجوده عاملا مهما في توحيد المقاومة حينما كان يشتد الاختلاف. يذكر زياد عبد الفتاح أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واقعة تؤكد هذا المعنى فيقول: "قرأ محمود درويش على المجلس الوطني الفلسطيني بكامل أعضائه ومراقبيه ومرافقيه وضيوفه وحرسه قصيدة "مديح الظل العالي" فأثملهم وشغلهم عن النطاح السياسي الذي شب بينهم في تلك الجلسة. وهذا ما جعل ياسر عرفات يحاول إقناع محمود درويش بُعيد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، معللا هذا الرفض بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن ثم التفرغ لكتابة الشعر.
عاش محمود درويش كثيرا من مآسي هذه المقاومة، وشاهد بنفسه كثيرين من الرفقاء يسقطون بأيدي الاسرائيليين، وكانت أكثر حوادث السقوط تأثيرا في نفسه حادث اغتيال ماجد أبو شرار في روما عام 1981، حين كانا يشاركان في مؤتمر عالمي لدعم الكتاب والصحافيين الفلسطينيين نظَّمه اتحاد الصحافيين العرب بالتعاون مع إحدى الجهات الثقافية الإيطالية. وضع "الموساد" المتفجرات تحت سرير ماجد أبو شرار. وبعد موته كتب محمود درويش في إحدى قصائده: "أصدقائي... لا تموتوا". محمود درويش الذي يعتبر بيروت جسر الحنين، عاش في كنفها يوم كانت زاخرة بالأحلام والمشاريع الثقافية. أصدر منها في أواخر السبعينات مجلة "الكرمل" التي رأس تحريرها. أثناء قصف بيروت كان درويش يعيش حياته صامدا، وعلى المستوى الشعري ساهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره ليكون على مقربة من كل قارئ، فأنتج قصيدته الطويلة الرائعة "مديح الظل العالي"، معتبرا إياها قصيدة تسجيلية ترسم الواقع الأليم، وتدين العالم العربي، بل الإنسانية كلها. وعندما أسفر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عن خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، فضّل محمود درويش البقاء فيها، معولا على عدم أهميته بالنسبة الى إسرائيل، لكنه وبعد عشرين يوما من بقائه علم أنه مطلوب للتصفية، فاستطاع أن يتسلل من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا. بين القاهرة وتونس وباريس، عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح، معزولا عن جنته الموعودة فلسطين، وكتب كتابه الشهير "ذاكرة للنسيان".
كان محمود درويش يحلم دائما بالعودة إلى ارضه. في عام 1993 وأثناء وجوده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني، أُتيح له أن يقرأ "اتفاق أوسلو"، واختلف مع ياسر عرفات للمرة الاولى حول هذا الاتفاق، فكان رفضه مدويا، وعندما تم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى قدّم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني، وشرح بعد ذلك أسباب استقالته قائلا: "إن هذا الاتفاق ليس عادلا؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي. وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأسوية وأكثر سخرية، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص".
عاد درويش في حزيران 1994 إلى فلسطين، واختار الإقامة في رام الله، واستمر يكتب الشعر ويقوله تحت حصار الدبابات الإسرائيلية، إلى أن تم اجتياحها أخيرا. وقد أطلق درويش التساؤل الكبير: "إذا كنا هامشيين إلى هذا الحد، فكريا وسياسيا، فكيف نكون جوهريين إبداعيا؟". وفي آذار 2002 قام وفد من البرلمان العالمي للكتاب يضم وولي سوينكا وجوزيه ساراماغو وفينشنسو كونسولو وبرايتن برايتنباخ وخوان غويتسولو إلى جانب كريستيان سالمون سكرتير البرلمان بزيارة درويش المحاصر في رام الله. وعلى هامش الزيارة كتب الأسباني خوان غويتسولو مقالا نشره في عدد من الصحف الفرنسية والأسبانية اعتبر فيه محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه، وقال عن درويش إنه استطاع تطوير هموم شعرية جميلة ومؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعا مركزيا، فكان شعره التزاما للكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعرا نضاليا أو دعويا. هكذا تمكن درويش، شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين، من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه. وكان درويش شارك في الانتفاضة الأخيرة بكلماته، ويقول: "لم تكن لديّ طريقة مقاومة إلا أن أكتب، وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد، وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية". يضيف: "كتبت عن قوة الحياة واستمرارها وأبدية العلاقة بالأشياء والطبيعة. الطائرات تمر في السماء لدقائق ولكن الحمام دائم... كنت أتشبث بقوة الحياة في الطبيعة للرد على الحصار الذي أعتبره زائلا؛ لأن وجود الدبابة في الطبيعة وجود ناشز وليس جزءا من المشهد الطبيعي".

قصيدة النثر

على رغم تمسك درويش بالقضية الفلسطينية فإنه كان عرضة للاتهامات من هنا وهناك، وهو أشار إلى حملة من "الملاكمة"، قام بها بعض الشعراء الفلسطينيين ضده بسبب ما اعتبروه "هم" دفاعاً عن شعر "المقاومة" الذي يرون أن درويش ابتعد عنه في مجموعاته الشعرية الأخيرة، وتحديداً ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد"، وهي حملة لا تقتصر مقالاتها وانتقاداتها على بعض الشعراء الفلسطينيين فحسب، بل تمتد إلى غيرهم من الشعراء والنقاد العرب الذين لا يملّون تمجيد قصائد درويش ذات الطابع السياسي، أو ذات "الموضوع" الواحد، الذي يتناول شأناً فلسطينياً، بل هم فوق ذلك يحبذون أن يأتي التناول الشعري أكثر مباشرة كلما أمكن.
في مقابل هذا النقد العصابي، ثمة جدل آخر تثيره آراء محمود درويش في "قصيدة النثر"، التي تركت الأبواب مشرعة على حق الجميع في كتابة شعرية لا تتقيد بشكل محدد. يرى البعض في آراء درويش عداء واضحاً ل"قصيدة النثر"، وهو استخلاص خاطئ، يستند إلى انحياز الشاعر إلى خياره الشعري المتمثل في "قصيدة التفعيلة". لكن من يقرأ تجربته الشعرية يلحظ أن عالمه الفني يقوم في ركن أساسي منه على الاستفادة القصوى من إيقاعات الشعر العربي، وهي استفادة زاوجت في صورة خلاقة بين المعنى والصورة الشعرية، وحتى المناخ النفسي للقصيدة، وحواملها الشكلية وفي القلب منها الإيقاع. آراء درويش في قصيدة النثر فيها الكثير من رفض ما هو مطروح من نماذج تعتدي على الشعر، وتساهم في وجودها بكثرة بعض الصفحات الثقافية التي يشكو الشاعر من ركاكة بعض القائمين عليها، وهي شكوى محقة، على رغم أن درويش يؤكد في مساحة أخرى من آرائه أن "قصيدة النثر" حققت مشروعيتها.
اصدرت تهاني شاكر كتابا عنوانه "محمود درويش ناثرا" يخرج منه القارئ بانطباع مفاده ان الكتاب الموثق جيدا وبمنهجية تبدو "مدرسية"، لم يجب بوضوح عن سؤال يكمن في عنوانه نفسه. تقول شاكر إنها سعت في دراستها هذه إلى الاجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية أولها عن مضامين نثر درويش والثاني عن الفنون النثرية التي تنتمي إليها أعماله والثالث "هل استطاع محمود درويش أن يكون ناثرا كبيرا كما كان شاعرا كبيرا؟". ربما بدا للقارئ ان هذا السؤال الأخير الذي يحمله العنوان ضمنا بقي من دون اجابة واضحة على الرغم من تردد أقوال عن اظهار "مقدرة" هنا وأخرى هناك.
تستهل شاكر المقدمة بالقول إن محمود درويش شاعر كبير عني النقاد بشعره عناية فائقة واجروا حوله دراسات كثيرة لكنهم لم يلتفتوا إلى نثره. فالحديث عن نثره يكاد يكون مغيبا مع انه بدأ ينشر إنتاجه النثري منذ عام 1971 فصدر له في ذلك العام "شيء عن الوطن"، ثم توالت كتبه بعد ذلك، مثل "يوميات الحزن العادي" و"وداعا ايتها الحرب وداعا ايها السلام" و"ذاكرة للنسيان" و"في وصف حالتنا" و"عابرون في كلام عابر" فضلا عن الرسائل المتبادلة بينه وبين سميح القاسم.
وفي ما يكشف كذلك عن نظرة الباحثة إلى الانواع الادبية تقول "أما أبرز المشكلات التي تواجه الدارس في بعض كتبه النثرية فهي اختلاط الفنون فيها أو عدم تحديد الفن النثري الذي ينتمي إليه الكتاب"، وتتحدث مثلا عن عمل له هو "وداعا ايتها الحرب وداعا ايها السلام" الذي يشتمل على بعض النصوص التي تحيّر الدارس في تصنيفها أهي قصة أم مقالة. وتورد شاكر أسبابا للجوء درويش إلى النثر منها انه صاحب قضية يسعى إلى ايصالها إلى القارئ، والشعر في طبيعته يعتمد على الايحاء والتكثيف اللذين قد يحولان دون ذلك. ومنها انه "صحافي محرر" اشتغل في الصحافة وانه "يحب النثر ويرى ان فيه جمالية أكثر من الشعر أحيانا". واراؤه، كما تقول شاكر، لا تقتصر على بعض المقابلات التي أجريت معه بل تظهر أيضا في مقالات نقدية كتبها هو. ومن ذلك مقالة "بلاغ من النثر" تقول إنه يتناول فيها قضية الاجناس الادبية والتمييز بين النثر والشعر حيث يرى ان الجمالية قد تتحقق أحيانا في النثر أكثر من تحققها في الشعر لكن ذلك لا يلغي الفارق بين الكتابة النثرية والكتابة الشعرية. وتنقل عنه الباحثة استدراكا يتمثل في قوله: "لكن تحقق الشاعرية في النثر أكثر من تحققها في القصيدة أحيانا أو غالبا لا يهدم سياج القصب الدقيق والمرن بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية على الرغم من المحاولات البارعة لالغاء الفوارق بين الاجناس الادبية وتوحيدها في عملية واحدة هي الكتابة". يرفض درويش المفاضلة بين النثر والشعر لان لكل منهما جماليته فيقول: "أليس النثر هو حقل الشعر المفتوح. أليس الشعر هو نثر الورد على الليل ليضيء الليل".

انقذونا من هذا الشعر

كان المنفى مستمرا في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة ارض في فلسطين. اطلق مجموعة "شعارات" صارخة منها "انقذونا من هذا الشعر"، وفي احدى الامسيات رفض قراءة "سجل انا عربي"، حتى ليمكن القول انه ابن عصره، وان شعره ينبض بالحياة واللحظة، وان ذهب الكثير من شعره مع الزمن، وهو الذي قال انه لو عاد الامر اليه لانتقى خمسة دواوين من اعماله فحسب.
لم يكتب محمود في تنظير الشعر الحديث عن تجربته الكثير فهو قد قال شعراً ما أراد ان يقوله نثراً وهذا يحسب له بعكس الآخرين. لكننا إذ نقرأ مقابلاته التي تكلم فيها عن لحظة الشعر لديه نلاحظ وجود تباين متكامل في المواقف يكمل الدائرة لديه. فهو يقول في إحدى المقابلات التي أجريت معه: "أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع، فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي على مرجعية سابقة. أي أنني أحول اليومي إلى رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري" ("البيان" الخليجية، 20/5/1986).
ثمة دراسات كثيرة أنجزت عن تأثره بشعراء عرب وغير عرب، منها تأثره في ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" بالشاعر نزار قباني، ولم ينكر هذا، بل أقرّ به في مقابلات عديدة. وتأثر درويش بإليوت ولوركا وأراغون ونيرودا، وهذا ما تابعه دارسون وكتبوا فيه، وهذا ما أقرّ به درويش نفسه.
في مجلة الكرمل (عدد 86، شتاء 2006) سأل عبده وازن محمود درويش عن الشعراء الذين يقرأهم الآن، فعدد له درويش أبرزهم: ريتسوس وأراغون، وأقر بأن شاعره المفضل هو نيرودا. ولما كان في فلسطين، قبل المغادرة في العام 1970، قرأ لوركا ونيرودا وتأثر بهما وخصوصا لوركا.
إذا كان محمود درويش قد خانه قلبه اخيرا، بعد خيانات سابقة، الا أن الموت الشعري لم يخف درويش الذي واجهه "جاعلاً منه الوجه الآخر للشعر واللغة". حتى الموت لم يركّع الشاعر ولم ينل منه. هاكم بعض ما قاله فيه: "هذا البحر لي. أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل فلست لي"، "يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا وكان لنا"، "قالوا: كيف تطلب موتك؟ قلت: سأسألكم أن تكونوا بطئين، أن تقتلوني رويداً رويداً لأكتب شعراً"، "أريد أن أحيا فلي عمل على ظهر السفينة"، "يا موت انتظر يا موت حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي لتكون صيّاداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع"، و"أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي". فهل حقاً أنهى الشاعر الكبير حديثه العابر مع ما تبقّى من حياته؟

يوسف حاتم

أعمال

عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل، مطر ناعم في خريف بعيد، يوميات الحزن العادي، يوميات جرح فلسطيني، حبيبتي تنهض من نومها، محاولة رقم 7، أحبك أو لا أحبك، مديح الظل العالي، هي أغنية ... هي أغنية، لا تعتذر عما فعلت، عرائس، العصافير تموت في الجليل، حصار لمدائح البحر، شيء عن الوطن، ذاكرة للنسيان، وداعاً أيها الحرب وداعا أيها السلم، كزهر اللوز أو أبعد، في حضرة الغياب، لماذا تركت الحصان وحيداً، بطاقة هوية، أثر الفراشة.

المستقبلبول شاوول

***************

رحيل الشاعر الكبير محمود درويش صوت فلسطين العالي

ول شاوول

mahmood_darwaish-19.jpgرحل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي هزم الموت مرات، ليهزمه أخيراً، وهو في عزّ وقفته العالية، في عز قدومه، وفي عزّ أحزانه. وأحزان فلسطين، تماماً كما هزم المنافي مرات، وكاد يهزمه الوطن، رحل بين شموس الأحلام الفلسطينية المشرقة، وبين انكساراتها. رحل محمود درويش، ويا للأسف، وفلسطين أمامه، ذلك الذي كان صوتها وجسدها وقصيدتها، مِزَقٌ، وحلمه في قلبه مزق، حتى عاد لا يطيق أو يحتمل، فانفجر جميعه وصمت. لم يعد من احتمال لهذه العددية. ولم يعد من احتمال لهذه الميتات المتراكمة حوله: من عدو يبطش ويفترس وطنه السليب، ومن أخوة يتقاسمون بالدم أرضاً كأنها لم تعد لهم. هكذا، كأنما ترك وراءه ما لم يعد قابلاً للتقاسم من حفى امال وأرض وسماء ودم وقتل واستباحة ومجازر.
غادر فلسطين إلى المنفى، وهي في المنفى. وكثرت منافيه وتكاثرت منافيها. وعندما كاد حُلمٌ بالعودة أن يرتسم، ويحفر، كان لمحمود أن ينفض المنافي كلها عن عينيه، وعن صوته، وعن روحه، يعود إلى حيث لتراب الوطن نكهة القيامة، ولهوائه نَفَسُ الحياة، ولناسه شهادة الانتصار. وهكذا، كان له أن ينتقل من حلم يتجسد ثم يتبدد، إلى حلم يتبدد ثم يلوح. وهذا مصير الاوطان السليبة. وهذا مصير المقاومات الدائمة. ومحمود درويش صوت المقاومة الشعري الأول، وصوت الضمير الوطني الأول، وصوت الحلم الكبير الأول، وصوت الانكسار الأول. لكنه، هذه المرة، عندما عاد، إنما عاد ليبقى. كل المنافي مناف، ومنفى الوطن وطن. ولا يرث الوطن سوى أهله. ولا يرث ترابه سوى أهله. ولا يرث أمله سوى أهله. وهو الوارث في كل الأحوال. من فلسطين المحتلة إلى بيروت، فإلى بلاد أخرى، فإلى أسفار، ليكون سفير فلسطين الحي، سفيرها الشعري، سفيرها المقاوم، سفير ثورتها، سفير شهدائها، سفير شعبها. انه السفير بحجم القضية. السفير بحجم المواجهة. السفير بحجم شاعر كبير، عرف، كيف يرسم فلسطين، بكل وجوهها، وتحولاتها، وآلامها، بقصيدة بدأت صوتاً معلناً، يخترق العقول والقلوب والعالم، بنبرة عمومية، رفيقة، قريبة، شرسة، مباشرة، محسوسة، وكأنما، وهو يكتب، تكتب معه الأمة كلها، والناس كلهم: كان شعر محمود درويش في تلك اللحظات الجمْرية، يُوَقّعه بحبر ناسه وأنفاسهم، وشغفهم وإيمانهم: من الناس إلى الناس. وعندما كان لهذا الصوت العمومي أن يمتد في فلسطين وكل العالم، ويكون الصوت المعلن، عرف محمود درويش، بعدها، كيف يمزج هذا "القدر" الشعري العمومي بذاتية تحترق وتلتهب، وبحميميات، هي إلى خصوصيتها، كمن يمزج هواء الوطن بهواء القلب، وبأنفاس الحبيبة، وبإيقاعات "الغريب"، وبتفاصيل الحياة، واللوز، والليمون.. والموت.

وكان محمود، بذلك، يمزج، بين قوة الإحساس المرتعش بالقريب، وبالقلق الوجودي، وبالحب، وبالتأمل، وبين انفتاح على لغة خصوصية، لغة شعرية تحمل قلقها بقدر ما تحمل قلق الأسئلة، من أسئلة الوطن إلى أسئلة الشعر من اجتراح وطن صعب إلى اجتراح لغة مركبة. تماماً كما فعل الكبار من أهل النضال والقضايا الكبيرة، حين كان للغتهم العالية، وذواتهم الخاصة، الحيز الكبير، والشعرية المتجددة كبابلو نيرودا، ولوركا، والبرتي وناظم حكمت وسواهم. وكأنه يكاد يكون هنا، الاستثناء بين الشعراء العرب، الذين تحسب لكثيرين منهم أعمالهم الأولى ثم يتعبون، وهو، محمود درويش، الذي تعب بشعره النضالي الأول، لتحسب له انجازاته الأخيرة، الممتدة على عقدين، والتي اتسمت بقلق حي بالتجديد وبالخروج من العمومي إلى الخصوصي، ومن الشعر كمجرد سلاح للقضية، إلى الشعر كسلاح للشعر، من دون أن يفترق عن "قدره" النضالي المقاوم. وهكذا تآخت عنده النبرتان، واستوت عنده اللغتان، واحدة تهجس بقلق الناس، وأخرى بقلقه الشعري، لكن على غير انفصال، وعلى غير تنافر، وعلى غير تضاد.
ولهذا، نقول، ان الصديق الأقرب محمود درويش، مات في عزّ مقاومته الشعرية، موتَه في عز مقاومته السياسية، والانسانية، مات في أوجّ تألقه، وتدفقه، وتملكه أدواته، وتحوله، وخروجه على السائد المعمم الى تلك النقاط المستحيلة من القصيدة.
خسرناك يا محمود. وفي "الليلة الظلماء يفتقد البدر". انطفأ البدر، والليلة الظلماء أكثر ظلمة وسواداً.
خسرناك يا محمود، أنت الذي كنت ذاتك في وداعات لا تنتهي، ها أنت تُلوِّح لنا بالمنديل الأخير، من وراء السُّجب والغيوم، والآمال، والموتى. كأنما آن "للفارس ان يترجل"، وأن ليوليس ان يعود الى أرضه. ففي رحيلك عودات. وفي عودتك ألف رحيل. هكذا نبكيك يا محمود، بدمع الأخوة والصداقة والمصير والقدر، نبكيك، وأنت الحصان الذي خلّفت وراءك ما خلّفت من "صهيل" عال، ومن شعر عالٍ، ومن نبل عال!.

هكذا ترحل يا محمود، وكنّا بانتظارك، تماماً، كما ترحل الأوطان، والناس بانتظارها.
أرضك تنتظرك ربما للمرة الأخيرة، لكي لا تغادرها، الى أي منفى. فقد تعبتَ من المنافي، وتعبتْ منك المنافي. فآنَ لك أن تكون حيث لا كان للمنافي، ولا للرحيل، في منفاه الأخير.
كأنك يا محمود اليوم اول الداخلين الى فلسطين، وكأن فلسطين أول الواصلين اليك.
توفي الشاعر الكبير أمس في أحد مستشفيات تكساس في جنوب الولايات المتحدة، اثر عملية جراحية له أجريت في القلب الأربعاء الماضي. وسبق ان أجريت لمحمود درويش عمليتان جراحيتان في القلب عامي 1984، و1998.

ولد محمود درويش عام 1941 في قرية البردة المدمرة اليوم في الجليل، ونشأ وترعرع هناك واعتقل أكثر من مرة من قبل سلطات الاحتلال الصهيونية.
في العام 1972 توجه الى موسكو ومنها الى القاهرة وانتقل بعدها الى لبنان، حيث أقام في بيروت.
ترأس مركز الأبحاث الفلسطينية وشغِل منصب رئيس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية". واستقال من اللجنة التنفيدية لمنظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً على اتفاق أوسلو عام 1993.
عاد الى الأراضي الفلسطينية عام 1996 وأقام في رام الله حتى وفاته.

المستقبل - الاحد 10 آب 2008 - العدد 3043 - الصفحة الأولى - صفحة 1

*****

مطر على فلسطين

صلاح ستيتيه

هذه القصيدة أهداها الشاعر صلاح ستيتيه الى الشاعر محمود درويش قليلاً قبل موته. محمود درويش في القصيدة هو فلسطين. وقد ترجمتها الى العربية باطلاع مباشر من الشاعر صلاح ستيتيه.
م. ف.

ترجمة مروان فارس

(الى محمود درويش)

مطر على مطر فوق فلسطين
مطر دون مطر من مطر من نار
الى مريم العذراء كانت سيوف سبعة
وأكثر في قلوب اللواتي
لا ينمن أبداً في منازلهن الهزيلة
ولهن طرق الفقراء الرهيبين
فيضعون اذ رعتهم على الابن الذي قضى

مطر من مطر يمطر ليلاً
في امتلاء شمس هذا النهار الذي ضاع
حيث الحياة لم يعد لها الاسم الجميل للحياة
لم يعد يحتمل القلب لم يعد ليحتمل
أن يرى الاطفال يبكون من تعاسة
الولد المتمرغ الفتاة بجدائلها

بلد الزيتون هذا بلد المسيح
النخيل هنا علامته الضائعة
لقد غنّينا ولادته الاكيدة
هزال الولد الذي حكم عليه
من القيصر القبيح هيرودوس القميء
للذي لم تغسل يداه ابداً
بالاردن انهاراً

ولد الامس هذا يولد من جديد
في الحضن الاسود لنساء فلسطين
الازواج قد ماتوا والاولاد قضوا
بيوت التنك ومن ترابة عارية
قد وقعت كما في غيرنيكا تصرخ الانابيب
بوجه الدبابات وبوجه الجنود المستترين
وقد صمتوا صمتاً الذين يقتلون

ان موسى
موسى لم يشأ ذلك
ان كوكبنا الارضي والازرق كثيرا
صنعناه من أثير ومن ماء ليبقوا
معاً: هو محاصر بالجلد
والمراهق الذي ترك وهو يحترق
في الحريق الذي وجد بقارورة
الغاز التي انفجرت بالرصاص الدقيق

ان موسى
موسى لم يشأ ذلك
بندقية متجهة الى قلب
الولد وقد ولد - ميتا في الكنيسة البيضاء
انهم كلهم ينامون وليسوا الحرس وحدهم
لكن رجل روما الابيض ايضاً وهو هرم
الديموقراطيات ورئيسها المخذول
هذا الذي جبينه ضيق
على عينين ضيقتين كما يؤكد داروين

مسكينةٌ فلسطينُ المساكين، لماذا
نعم، لماذا تريدين أن يستفيقوا؟
في القدس حيث يملك اوبو - الملك
وفي الجيب صبرا وشاتيلا، وفي الاخرى
جائزة نوبل للسلام، منخاره الاعوج

نعم، لماذا تريدين ان يوقظنا هذا؟
فاذا ارادوا وجبة مزدوجة، لِمَ لا؟
امراؤنا يغفون في براميل النفط/ نهارا
لوبن في فرنسا يصل بعينه الزجاجية
والبيت، ايضاً من زجاج في نيويورك
وقد أضحى اللاشيء الذي تعرفون

لماذا تتحركين يا فلسطين التعيسة
لأنهم يقترحون عليك أخيراً ان لا تكون فلسطين؟

بلاد المسيح هل تذكرين المسيح؟
بلاد الاسلام، لماذا لا تريدين أن تعودي الى الحياة؟
لك مصفحات شارون ذات النجوم؟
كما للشيشان هو ايضاً بوتين
وبوش هو هنا ضابطاً للايقاع
بلاد المسيح، لماذا تريدين الحياة من جديد؟
ان الفصح قد مضى "ربيع من العدوى"
مطر مطر مطر عليك، لي يا فلسطين
بلاد دون مطر في مطر من نار
ولمريم، "التي لم يلمسها رجل"
في قلب القلب شوك كثير.

*****

اللقاء الأخير مع محمود درويش

فيصل دراج

في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية. لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول. كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت. "خدعتني الحياة فانخدعت". وظلّت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره.
فتح الباب مرحّباً كعادته. كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. "صاحبنا شاهين لم يحضر بعد". وأخذني، على غير عادته، إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة. قال: كيف أحوال الدنيا؟، قلت: مع الخبرة نتكيّف مع وجوه الحياة المختلفة. قال: إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثٍ بالكلمات قلتُ: الحكمة هي استئناس الخيبة. قال: الأدق أن نقول: إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة، ثم: لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكان الهرب. كان د. شاهين يسجّل، أحياناً، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء - الحوار.
لم يكن "اقتصاد اللغة الحكيمة" أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب "في حضرة الغياب". سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية – الحديثة في كتاب "الأيام"، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً. فيه شيء من نثر أندره مالرو، قال: ليس بالضبط. واقع الأمر أن الشاعر كان مفتوناً، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما والتر بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته. كان حوارنا عن "الحكمة البشوشة" استئنافاً لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي للقصيدة في أمسية بيت لحم؟: القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام، الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد. ولعل من يرجع إلى كتاب "في حضرة الغياب" يعثر، بلا مشقة، على هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته بـ"الكلمة الجامعة" وعاد محمود، لاحقاً، وقال من الأفضل أن نقول "جوامع الكلم".
"تأخر شاهين"، تواطأ مع شروده وانزلق إلى شارع آخر. قال محمود ضاحكاً. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلى يميني وقعت عيني على "لسان العرب" لابن منظور، قال الشاعر: لا أستغني عنه البتة، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه "كتاب نفيس فخيم"، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرّفت اليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل: سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشكلات الآخرين. في المناسبة أودّ مرة أن أذهب إلى دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف المقبل، ربما. استعاد مرة أخرى "استراتيجيا جوامع الكلم" وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشة.
وتابع فرحاً: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة. وقُرع الباب: صحا محمد شاهين من شروده. كان محمود يحب شاهين على رغم شروده، أو بسبب شروده ويرى فيه مغترباً، تصرّفت به الحياة ومنعته عن التصرّف بحياته كما يشتهي. أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثرى وأعادها إلى الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثرى؟ في شبابي كنت أرى فيها صورة عن ثدي الأنثى الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثى تحمل الكمثرى، لم أعد شاباً، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شباباً، فنحن على مستوى العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ما هي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي، سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي من دون أن أدري، وأن "الآخر" يعامل العرب باسترخاص كبير. غداً راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنرى ما تأتي به الأيام.
كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلّب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدى تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في بيت لحم، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له : أمّا عن القصائد فقد مثّلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له: جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفرداً ثم تتكاثر، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثّل الإلقاء وثالث يبرهن عن المهارة ورابع يستثير الإعجاب وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاماً أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيراً أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.
إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية"، كما تقول، وإلاّ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (نانت)، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسيقى وجمهور أنيق ومدرّج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنكليزية: "هذا سحريٌ"، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برّادة، وكانت الأمسية لمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنشاء دار النشر "أكت سود". وبدا محمود راضياً فرحاً، وكان من عادته أن يوزّع الفرح على اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعاً. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة ولا بتوقعات "الشاعر الكبير"، بل كان فرحاً عفوياً تكسوه البراءة. وكثيراً ما بدا محمود، وهو يتحدّث عن أمسياته صبياً، حصل على جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجه والطور، فقد كان "نجاحه غير المتوقع" يجعل منه، كل مرة، إنساناً شفافاً، فيذكر فرِحاً التفاصيل ويشدّه الرضا البريء إلى الوقوف على تفاصيل التفاصيل. كان يعبّر عن موقفه من "النجاح اللامتوقّع" بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثيراً ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضياً عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيُّ الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا لمناسبة ولغير مناسبة. كان يشير دائماً إلى ت. س. إليوت الذي أصبح مرجعاً شعرياً في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالى مئتي صفحة لا أكثر. ولتعبير "غير المتوقع" عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، لمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفاً في كوريا وأن يقدّمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، حديثاً، والجو ممطر تواطأت معه "مباريات كرة القدم"، قال: لم أتوقع هذا الحضور، وحين ظفر باستقبال مهيب في مسرح "الأوديون" في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلى الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، ترى إلى كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدّدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة على قيد الحياة. قال مرة بعدما استمع إلى قصائده في دمشق جمهور "غير متوقع": هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير أم أن الجمهور يظنني شاعراً كبيراً؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان، فالمبدع بما هو من دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ما جعله قارئاً مواظباً: معجب هو بأوكتافيو باث، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموز الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني على شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبّر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير...
سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتِ بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء على المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقداً ثقافياً وأدبياً بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافاً وتجاوزاً له في آن واحد، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلى الندرة، أجمل أعماله "الحرافيش" ولا أحب كثيراً "أولاد حارتنا"، وأحب رواية هدى بركات "أهل الهوى"، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية "دنيا" لعلوية صبح في مقدمة روايات جائزة "البوكر" بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني "آثار المحو" عمل فاتن وهو خليفة محفوظ، والياس خوري موهوب وأنيق الموهبة، وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوّية إلا متأخراً، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها،... والجملة الأخيرة دائماً: كل مبدع على صورة أستاذه، وكل أستاذ أستاذٌ إلى حين...
بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثرى والمدرّج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام، قاله الطبيب بلغة علمية ـ أخلاقية صارمة. لم نقل شيئاً ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: "إنشاء الله". انصرف الطبيب مخلّفاً وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من الصمت. هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة. نظرنا إلى بعضنا، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات، وبدا محمود في حال حسنة، ووعد شاهين بحفلة عامرة مقبلة، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب" في مكانه، ولم يلق أي منا نظرة على المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثرى ذكّرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيهاً باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك. أوصلنا محمود إلى المصعد، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعاً، وغطّت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال.

*****

خارج الخوف

هدى النعماني

كان سباّقا إلى الكلمة مثل ظبية كحيلة تتألق في كأس من النبيذ
كما كان سباّقاً إلى الموت مثل فراشة تحترق.
كان خجولاً أمام المرأة مثل أرنب يتيم الأبوين
كما كان صاعقاً أمام الشعر مثل ليث مفترس.
كان عاتباً على السماء كبوذيّ في صومعة
كما كان عاشقاً للحياة كطفل لم يبلغ العاشرة بعد.
كان يحبّ الليل كجميع الشعراء
كما كان يخشى الظلمة كشمعة تركض في الريح على سمع الرعد.
كان متيّماً بالأرصفة والمقاهي والمدن الخارقة الجمال
كما كان مشرع القلب للقتل والدمار والانفجار والمحبة والسلام.
هذا التناقض هو الذي قتل محمود درويش.
ريتا وثوب فلسطين المبلل بالدم والدمع.
فنجان القهوة المسكوب على قبور الشهداء وعطر الليمون
الذي يتقطّر في المخيّمات جريحاً ومكبّلاً كأيّوب يوماً بعد يوم...
خنقته القضية الفلسطينية والعروبة كوردة
حتى أخذ ينتظر مسامير الصليب كمريم العذراء.
له شبح يرنو الى كلّ وطن مصاب والى كلّ جداريةٍ تكرّس الله في الله
السماء في السماء، الحبّ في الحبّ، والموت في الموت.
وإلى قصيدة جديدة محمود وإلى لقاء قريب محمود.
خارج الخوف.

****

النهار
الجمعة 15 اغسطس

يتبع