صلاح ستيتيه

ملف جريدة النهار

هذه القصيدة أهداها الشاعر صلاح ستيتيه الى الشاعر محمود درويش قليلاً قبل موته. محمود درويش في القصيدة هو فلسطين. وقد ترجمتها الى العربية باطلاع مباشر من الشاعر صلاح ستيتيه.
م. ف.

ترجمة مروان فارس

(الى محمود درويش)

مطر على مطر فوق فلسطين
مطر دون مطر من مطر من نار
الى مريم العذراء كانت سيوف سبعة
وأكثر في قلوب اللواتي
لا ينمن أبداً في منازلهن الهزيلة
ولهن طرق الفقراء الرهيبين
فيضعون اذ رعتهم على الابن الذي قضى

مطر من مطر يمطر ليلاً
في امتلاء شمس هذا النهار الذي ضاع
حيث الحياة لم يعد لها الاسم الجميل للحياة
لم يعد يحتمل القلب لم يعد ليحتمل
أن يرى الاطفال يبكون من تعاسة
الولد المتمرغ الفتاة بجدائلها

بلد الزيتون هذا بلد المسيح
النخيل هنا علامته الضائعة
لقد غنّينا ولادته الاكيدة
هزال الولد الذي حكم عليه
من القيصر القبيح هيرودوس القميء
للذي لم تغسل يداه ابداً
بالاردن انهاراً

ولد الامس هذا يولد من جديد
في الحضن الاسود لنساء فلسطين
الازواج قد ماتوا والاولاد قضوا
بيوت التنك ومن ترابة عارية
قد وقعت كما في غيرنيكا تصرخ الانابيب
بوجه الدبابات وبوجه الجنود المستترين
وقد صمتوا صمتاً الذين يقتلون

ان موسى
موسى لم يشأ ذلك
ان كوكبنا الارضي والازرق كثيرا
صنعناه من أثير ومن ماء ليبقوا
معاً: هو محاصر بالجلد
والمراهق الذي ترك وهو يحترق
في الحريق الذي وجد بقارورة
الغاز التي انفجرت بالرصاص الدقيق

ان موسى
موسى لم يشأ ذلك

بندقية متجهة الى قلب
الولد وقد ولد - ميتا في الكنيسة البيضاء
انهم كلهم ينامون وليسوا الحرس وحدهم
لكن رجل روما الابيض ايضاً وهو هرم
الديموقراطيات ورئيسها المخذول
هذا الذي جبينه ضيق
على عينين ضيقتين كما يؤكد داروين

مسكينةٌ فلسطينُ المساكين، لماذا
نعم، لماذا تريدين أن يستفيقوا؟
في القدس حيث يملك اوبو - الملك
وفي الجيب صبرا وشاتيلا، وفي الاخرى
جائزة نوبل للسلام، منخاره الاعوج

نعم، لماذا تريدين ان يوقظنا هذا؟
فاذا ارادوا وجبة مزدوجة، لِمَ لا؟
امراؤنا يغفون في براميل النفط/ نهارا
لوبن في فرنسا يصل بعينه الزجاجية
والبيت، ايضاً من زجاج في نيويورك
وقد أضحى اللاشيء الذي تعرفون

لماذا تتحركين يا فلسطين التعيسة
لأنهم يقترحون عليك أخيراً ان لا تكون فلسطين؟

بلاد المسيح هل تذكرين المسيح؟
بلاد الاسلام، لماذا لا تريدين أن تعودي الى الحياة؟
لك مصفحات شارون ذات النجوم؟
كما للشيشان هو ايضاً بوتين
وبوش هو هنا ضابطاً للايقاع
بلاد المسيح، لماذا تريدين الحياة من جديد؟
ان الفصح قد مضى "ربيع من العدوى"
مطر مطر مطر عليك، لي يا فلسطين
بلاد دون مطر في مطر من نار
ولمريم، "التي لم يلمسها رجل"
في قلب القلب شوك كثير.

*****

اللقاء الأخير مع محمود درويش

فيصل دراج

في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية. لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول. كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت. "خدعتني الحياة فانخدعت". وظلّت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره.

فتح الباب مرحّباً كعادته. كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. "صاحبنا شاهين لم يحضر بعد". وأخذني، على غير عادته، إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة. قال: كيف أحوال الدنيا؟، قلت: مع الخبرة نتكيّف مع وجوه الحياة المختلفة. قال: إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثٍ بالكلمات قلتُ: الحكمة هي استئناس الخيبة. قال: الأدق أن نقول: إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة، ثم: لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكان الهرب. كان د. شاهين يسجّل، أحياناً، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء - الحوار.

لم يكن "اقتصاد اللغة الحكيمة" أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب "في حضرة الغياب". سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية – الحديثة في كتاب "الأيام"، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً. فيه شيء من نثر أندره مالرو، قال: ليس بالضبط. واقع الأمر أن الشاعر كان مفتوناً، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما والتر بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته. كان حوارنا عن "الحكمة البشوشة" استئنافاً لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي للقصيدة في أمسية بيت لحم؟: القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام، الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد. ولعل من يرجع إلى كتاب "في حضرة الغياب" يعثر، بلا مشقة، على هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته بـ"الكلمة الجامعة" وعاد محمود، لاحقاً، وقال من الأفضل أن نقول "جوامع الكلم".

"تأخر شاهين"، تواطأ مع شروده وانزلق إلى شارع آخر. قال محمود ضاحكاً. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلى يميني وقعت عيني على "لسان العرب" لابن منظور، قال الشاعر: لا أستغني عنه البتة، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه "كتاب نفيس فخيم"، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرّفت اليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل: سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشكلات الآخرين. في المناسبة أودّ مرة أن أذهب إلى دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف المقبل، ربما. استعاد مرة أخرى "استراتيجيا جوامع الكلم" وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشة.

وتابع فرحاً: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة. وقُرع الباب: صحا محمد شاهين من شروده. كان محمود يحب شاهين على رغم شروده، أو بسبب شروده ويرى فيه مغترباً، تصرّفت به الحياة ومنعته عن التصرّف بحياته كما يشتهي. أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثرى وأعادها إلى الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثرى؟ في شبابي كنت أرى فيها صورة عن ثدي الأنثى الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثى تحمل الكمثرى، لم أعد شاباً، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شباباً، فنحن على مستوى العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ما هي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي، سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي من دون أن أدري، وأن "الآخر" يعامل العرب باسترخاص كبير. غداً راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنرى ما تأتي به الأيام.

كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلّب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدى تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في بيت لحم، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له : أمّا عن القصائد فقد مثّلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له: جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفرداً ثم تتكاثر، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثّل الإلقاء وثالث يبرهن عن المهارة ورابع يستثير الإعجاب وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاماً أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيراً أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.

إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية"، كما تقول، وإلاّ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (نانت)، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسيقى وجمهور أنيق ومدرّج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنكليزية: "هذا سحريٌ"، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برّادة، وكانت الأمسية لمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنشاء دار النشر "أكت سود". وبدا محمود راضياً فرحاً، وكان من عادته أن يوزّع الفرح على اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعاً. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة ولا بتوقعات "الشاعر الكبير"، بل كان فرحاً عفوياً تكسوه البراءة. وكثيراً ما بدا محمود، وهو يتحدّث عن أمسياته صبياً، حصل على جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجه والطور، فقد كان "نجاحه غير المتوقع" يجعل منه، كل مرة، إنساناً شفافاً، فيذكر فرِحاً التفاصيل ويشدّه الرضا البريء إلى الوقوف على تفاصيل التفاصيل. كان يعبّر عن موقفه من "النجاح اللامتوقّع" بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثيراً ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضياً عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيُّ الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا لمناسبة ولغير مناسبة. كان يشير دائماً إلى ت. س. إليوت الذي أصبح مرجعاً شعرياً في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالى مئتي صفحة لا أكثر. ولتعبير "غير المتوقع" عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، لمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفاً في كوريا وأن يقدّمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، حديثاً، والجو ممطر تواطأت معه "مباريات كرة القدم"، قال: لم أتوقع هذا الحضور، وحين ظفر باستقبال مهيب في مسرح "الأوديون" في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلى الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، ترى إلى كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدّدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة على قيد الحياة. قال مرة بعدما استمع إلى قصائده في دمشق جمهور "غير متوقع": هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير أم أن الجمهور يظنني شاعراً كبيراً؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان، فالمبدع بما هو من دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ما جعله قارئاً مواظباً: معجب هو بأوكتافيو باث، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموز الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني على شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبّر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير...

سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتِ بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء على المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقداً ثقافياً وأدبياً بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافاً وتجاوزاً له في آن واحد، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلى الندرة، أجمل أعماله "الحرافيش" ولا أحب كثيراً "أولاد حارتنا"، وأحب رواية هدى بركات "أهل الهوى"، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية "دنيا" لعلوية صبح في مقدمة روايات جائزة "البوكر" بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني "آثار المحو" عمل فاتن وهو خليفة محفوظ، والياس خوري موهوب وأنيق الموهبة، وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوّية إلا متأخراً، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها،... والجملة الأخيرة دائماً: كل مبدع على صورة أستاذه، وكل أستاذ أستاذٌ إلى حين...

بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثرى والمدرّج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام، قاله الطبيب بلغة علمية ـ أخلاقية صارمة. لم نقل شيئاً ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: "إنشاء الله". انصرف الطبيب مخلّفاً وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من الصمت. هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة. نظرنا إلى بعضنا، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات، وبدا محمود في حال حسنة، ووعد شاهين بحفلة عامرة مقبلة، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب" في مكانه، ولم يلق أي منا نظرة على المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثرى ذكّرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيهاً باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك. أوصلنا محمود إلى المصعد، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعاً، وغطّت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال.

*****

خــــارج الخـــــوف

هدى النعماني

كان سباّقا إلى الكلمة مثل ظبية كحيلة تتألق في كأس من النبيذ
كما كان سباّقاً إلى الموت مثل فراشة تحترق.
كان خجولاً أمام المرأة مثل أرنب يتيم الأبوين
كما كان صاعقاً أمام الشعر مثل ليث مفترس.
كان عاتباً على السماء كبوذيّ في صومعة
كما كان عاشقاً للحياة كطفل لم يبلغ العاشرة بعد.
كان يحبّ الليل كجميع الشعراء
كما كان يخشى الظلمة كشمعة تركض في الريح على سمع الرعد.
كان متيّماً بالأرصفة والمقاهي والمدن الخارقة الجمال
كما كان مشرع القلب للقتل والدمار والانفجار والمحبة والسلام.
هذا التناقض هو الذي قتل محمود درويش.
ريتا وثوب فلسطين المبلل بالدم والدمع.
فنجان القهوة المسكوب على قبور الشهداء وعطر الليمون
الذي يتقطّر في المخيّمات جريحاً ومكبّلاً كأيّوب يوماً بعد يوم...
خنقته القضية الفلسطينية والعروبة كوردة
حتى أخذ ينتظر مسامير الصليب كمريم العذراء.
له شبح يرنو الى كلّ وطن مصاب والى كلّ جداريةٍ تكرّس الله في الله
السماء في السماء، الحبّ في الحبّ، والموت في الموت.
وإلى قصيدة جديدة محمود وإلى لقاء قريب محمود.
خارج الخوف.

النهار – 4
الجمعة 15 اغسطس

 

*****

محمود درويش "في حضرة الغياب"

(1941- 2008)

انتظرني أيها الموت ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي

قبل سنوات كتب الشاعر الكبير محمود درويش: "وعند الفجر أيقظني/ نداء الحارس الليلي/ من حلمي ومن لغتي:/ ستحيا ميتة أخرى/ فعدِّلْ في وصيتك الأخيرة/ قد تأجّل موعد الإعدام ثانية/ سألتُ: إلى متى؟/ قال: انتظرْ لتموتَ أكثر/ قلت: لا أشياء أملكُها لتملكني". كان درويش في "جداريته"، الصوت المقبل من الموت، على ما قيل، والعارف بأسرار الحياة بعد فوات أوانها. كتب "جداريته" بعد أزمة قلبية رهيبة، بعدما دخل في حضرة الغياب، وصادق أسراره، وبواطنه، وكلماته، فرأى الموت من داخل، وعاشه، وتعايش معه، بل تقمصه، ثم خرج من حضرة الغياب الى حضرة الشعر، كأن ليولد ثانيةً وثالثة ورابعة، ويحيا ثانية وثالثة ورابعة، ويواصل العيش، قريباً من الموت، هاجساً به، لكنْ منتصراً عليه. إلاّ أن الموت هذه المرة كان هو الموت الحقيقي، الموت الخائن، الذي أدخل الشاعر في متاهته... من غير رجوع. فمن أي باب نكتب عن الشاعر الكبير، الذي كان اسمه يوازي قضيته بلاده، بل الذي كان يحسده ارييل شارون على كلماته، هذا الجلاّد الذي دأب على اغتيال الشعب الفلسطيني. محمود درويش ربما يكون الاسم الاكثر حضورا بشعره في العالم العربي. يقصد القارئ المكتبة ليشتري كتابه، فيختلط البعد الذاتي بالبعد الجماعي في شخصيته، حتى ليغدو مستحيلاً الفصل بينهما. هذا الشاعر الذي يمثل الضمير الحيّ لفلسطين وشعبها، هو أيضاً ذاكرة الحياة الملحمية التي عاشها الفلسطينيون. انه جزء من صناعة وطن وليس ايديولوجيا كما يحلو للبعض ان يقول. كان لافتا ان يرحل بعد ايام على رحيل الكبير الاخر يوسف شاهين. شاهين كان اسكندرانيا، ودوريش كان فلسطينيا مشرقيا، تحضر في شعره رموز التوراة، كما يحضر المسيح والقرآن. لسبب او لاخر صرنا نحفظ شعره، بسبب قضية فلسطين او من دون سببها. بل هو اصبح جزءا من ذاكرة الشعر، ومن ذاكرة البطولة، ومن ذاكرة الانتصار على الموت، فنقرأه في العين ونسمعه في الاغنيات ونحفظه في الضمير. محمود درويش، صاحب "ريتا" و"تصبحون على وطن"، و"لماذا تركت الحصان وحيدا"، الان يترك ريتا. الان بينه وبين ريتا ثمة الموت. بل الان يترك فلسطين وحيدة، وربما يكون اوصاها ان تحتفظ بشعره في ذاكراتها، هو الذي حفظ ذكرياتها في شعره. مات محمود درويش. سمعنا الخبر، فقلنا انه خبر عار من الصحة، لكن الشاعر الشاب بشعره وبحياته، كان دائما مهجوسا بالموت. حتى لكأن الموت كان مرآة يكتب فيها اللغة، او يرى فيها الايقاع والجناس، او يقرأ فيها "لسان العرب" الذي طالما احبه، بل يقرأ فيها الرواية التي دائما كانت شغفه على رغم انه الشاعر ويحب الشعر. لا ينتهي الكلام عن محمود درويش في اخر الليل، هو الذي خرج في مقتبل عمره من فلسطين الى المنفى الكبير، وعاد بعد ثلاثين عاماً من المنفى الكبير الى فلسطين التي لم يجدها، بل وجد جزءاً منها، ما برح محاصراً بالخوف والقلق وسؤال المصير: "الطريق الى البيت بات اجمل من البيت الذي لم أجده بعد عودتي". كانت هذه العبارة صاعقة بالنسبة الى الكثيرين، وهي صورة يمكن تفسير وجه فلسطين من خلالها، بل يمكن ان نعرف وجه المنفى من خلالها. عاد محمود درويش الى فلسطين لكنه لم يجدها، كما عاد ادوارد سعيد الى بيته فوجد المحتلين فيه.

ولادة

في 13 آذار 1941 وُلد محمود درويش في قرية البروة بالقرب من عكا، من أعمال الجليل. في إحدى الليالي استيقظ فجأة على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وخروج فجائي، وعدو استمر لأكثر من ست وثلاثين ساعة تخلله اختباء في المزار، بعيداً عن أعين وأيدي أولئك الذين يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم: "عصابات الهاغانا". استيقظ محمود درويش ليجد نفسه في مكان جديد اسمه لبنان. هنا بدأ وعيه بالقضية يتشكل من وعيه ببعض الكلمات، وفي عامه السابع عشر تسلل إلى فلسطين عبر الحدود اللبنانية، وعن هذه التجربة يقول: "قيل لي في مساء ذات يوم... الليلة نعود إلى فلسطين، وفي الليل وعلى امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان الوعرة كنا نسير أنا وأحد أعمامي ورجل آخر هو الدليل، في الصباح وجدت نفسي أصطدم بجدار فولاذي من خيبة الأمل: أنا الآن في فلسطين الموعودة؟! ولكن أين هي؟ فلم أعد إلى بيتي، فقد أدركت بصعوبة بالغة أن القرية هدمت وحرقت". عاد محمود درويش إلى قريته فوجدها قد صارت أرضا خلاء، فصار يحمل اسما جديدا: "لاجئ فلسطيني في فلسطين"، وهو الاسم الذي جعله مطارداً دائما من الشرطة الإسرائيلية، لأنه "متسلل" ولا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية. تنسيقًا مع وكالات الغوث بدأ الشاب اليافع في العمل السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي، محاولا خلق مناخ معادٍ للممارسات الإرهابية الصهيونية، وكان من نتيجة ذلك أن صار محررا ومترجما في الصحيفة التي كان يصدرها حزب راكاح الشيوعي الإسرائيلي، وهو الحزب الذي رفع في تلك الفترة المبكرة من الستينات شعارا يقول: "مع الشعوب العربية... ضد الاستعمار"، وهي الفترة ذاتها التي بدأ فيها درويش يقول الشعر، واشتُهر داخل المجتمع العربي في فلسطين بوصفه شاعرا للمقاومة، حيث كانت الشرطة الإسرائيلية تحاصر كل قرية تقيم أمسية شعرية لمحمود درويش. بعد سلسلة من الحصارات، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورا عليه مغادرة هذا الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي، ظانا أنه سيكتم صوت الشاعر عبر منعه من إقامة أمسياته. هنا بدأ محمود درويش الشاعر الشاب مرحلة جديدة في حياته بعدما سُجن في معتقلات الصهيونية ثلاث مرات في 1961 و1965 و1967.

بيروت خيمتنا

في مطلع السبعينات وصل محمود درويش إلى بيروت مسبوقا بشهرته كشاعر. يقول درويش انه عندما غادر الارض المحتلة هاجمته الصحافة اللبنانية، للاعتقاد بأنه انتهى كشاعر بخروجه، حيث كان يُنظر الى الشعر الآتي من الارض المحتلة نظرة رومنطيقية، وكان العالم العربي يصفق للشعر من هناك ايا يكن، جيدا ام رديئا. لكن خروج الشاعر اولا الى موسكو ثم الى القاهرة، كان بداية تحول في شعريته، حيث شكلت القاهرة منعطفا في حياته الشعرية، ثم جاءت بيروت التي اورثته مرضا هو الحنين اليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية منها. عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، فقد وُزع من كتبه أكثر من مليون نسخة في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط. حتى ان إحدى قصائده "عابرون في كلام عابر" أثارت مناقشة حادة داخل الكنيست الإسرائيلية. هذا التأثير الكبير أهّله بجدارة لأن يكون عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من عدم انتمائه الى أي جماعة أو حزب سياسي منذ مطلع السبعينات، وقد تطورت علاقته بمنظمة التحرير حتى اختاره الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مستشارا له في ما بعد ولفترة طويلة، وقد كان وجوده عاملا مهما في توحيد المقاومة حينما كان يشتد الاختلاف. يذكر زياد عبد الفتاح أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واقعة تؤكد هذا المعنى فيقول: "قرأ محمود درويش على المجلس الوطني الفلسطيني بكامل أعضائه ومراقبيه ومرافقيه وضيوفه وحرسه قصيدة "مديح الظل العالي" فأثملهم وشغلهم عن النطاح السياسي الذي شب بينهم في تلك الجلسة. وهذا ما جعل ياسر عرفات يحاول إقناع محمود درويش بُعيد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، معللا هذا الرفض بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن ثم التفرغ لكتابة الشعر.

عاش محمود درويش كثيرا من مآسي هذه المقاومة، وشاهد بنفسه كثيرين من الرفقاء يسقطون بأيدي الاسرائيليين، وكانت أكثر حوادث السقوط تأثيرا في نفسه حادث اغتيال ماجد أبو شرار في روما عام 1981، حين كانا يشاركان في مؤتمر عالمي لدعم الكتاب والصحافيين الفلسطينيين نظَّمه اتحاد الصحافيين العرب بالتعاون مع إحدى الجهات الثقافية الإيطالية. وضع "الموساد" المتفجرات تحت سرير ماجد أبو شرار. وبعد موته كتب محمود درويش في إحدى قصائده: "أصدقائي... لا تموتوا". محمود درويش الذي يعتبر بيروت جسر الحنين، عاش في كنفها يوم كانت زاخرة بالأحلام والمشاريع الثقافية. أصدر منها في أواخر السبعينات مجلة "الكرمل" التي رأس تحريرها. أثناء قصف بيروت كان درويش يعيش حياته صامدا، وعلى المستوى الشعري ساهم هذا القصف في تخليه عن بعض غموض شعره ليكون على مقربة من كل قارئ، فأنتج قصيدته الطويلة الرائعة "مديح الظل العالي"، معتبرا إياها قصيدة تسجيلية ترسم الواقع الأليم، وتدين العالم العربي، بل الإنسانية كلها. وعندما أسفر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عن خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، فضّل محمود درويش البقاء فيها، معولا على عدم أهميته بالنسبة الى إسرائيل، لكنه وبعد عشرين يوما من بقائه علم أنه مطلوب للتصفية، فاستطاع أن يتسلل من بيروت إلى باريس ليعود مرة أخرى إلى حقيبته وطنا متنقلا ومنفى إجباريا. بين القاهرة وتونس وباريس، عاش محمود درويش حبيس العالم المفتوح، معزولا عن جنته الموعودة فلسطين، وكتب كتابه الشهير "ذاكرة للنسيان".

كان محمود درويش يحلم دائما بالعودة إلى ارضه. في عام 1993 وأثناء وجوده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني، أُتيح له أن يقرأ "اتفاق أوسلو"، واختلف مع ياسر عرفات للمرة الاولى حول هذا الاتفاق، فكان رفضه مدويا، وعندما تم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى قدّم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني، وشرح بعد ذلك أسباب استقالته قائلا: "إن هذا الاتفاق ليس عادلا؛ لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته الفلسطينية، ولا جغرافية هذه الهوية إنما يجعل الشعب الفلسطيني مطروحا أمام مرحلة تجريب انتقالي. وقد أسفر الواقع والتجريب بعد ثلاث سنوات عن شيء أكثر مأسوية وأكثر سخرية، وهو أن نص أوسلو أفضل من الواقع الذي أنتجه هذا النص".

عاد درويش في حزيران 1994 إلى فلسطين، واختار الإقامة في رام الله، واستمر يكتب الشعر ويقوله تحت حصار الدبابات الإسرائيلية، إلى أن تم اجتياحها أخيرا. وقد أطلق درويش التساؤل الكبير: "إذا كنا هامشيين إلى هذا الحد، فكريا وسياسيا، فكيف نكون جوهريين إبداعيا؟". وفي آذار 2002 قام وفد من البرلمان العالمي للكتاب يضم وولي سوينكا وجوزيه ساراماغو وفينشنسو كونسولو وبرايتن برايتنباخ وخوان غويتسولو إلى جانب كريستيان سالمون سكرتير البرلمان بزيارة درويش المحاصر في رام الله. وعلى هامش الزيارة كتب الأسباني خوان غويتسولو مقالا نشره في عدد من الصحف الفرنسية والأسبانية اعتبر فيه محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه، وقال عن درويش إنه استطاع تطوير هموم شعرية جميلة ومؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعا مركزيا، فكان شعره التزاما للكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعرا نضاليا أو دعويا. هكذا تمكن درويش، شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين، من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه. وكان درويش شارك في الانتفاضة الأخيرة بكلماته، ويقول: "لم تكن لديّ طريقة مقاومة إلا أن أكتب، وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد، وكانت اللغة وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية". يضيف: "كتبت عن قوة الحياة واستمرارها وأبدية العلاقة بالأشياء والطبيعة. الطائرات تمر في السماء لدقائق ولكن الحمام دائم... كنت أتشبث بقوة الحياة في الطبيعة للرد على الحصار الذي أعتبره زائلا؛ لأن وجود الدبابة في الطبيعة وجود ناشز وليس جزءا من المشهد الطبيعي".

قصيدة النثر

على رغم تمسك درويش بالقضية الفلسطينية فإنه كان عرضة للاتهامات من هنا وهناك، وهو أشار إلى حملة من "الملاكمة"، قام بها بعض الشعراء الفلسطينيين ضده بسبب ما اعتبروه "هم" دفاعاً عن شعر "المقاومة" الذي يرون أن درويش ابتعد عنه في مجموعاته الشعرية الأخيرة، وتحديداً ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد"، وهي حملة لا تقتصر مقالاتها وانتقاداتها على بعض الشعراء الفلسطينيين فحسب، بل تمتد إلى غيرهم من الشعراء والنقاد العرب الذين لا يملّون تمجيد قصائد درويش ذات الطابع السياسي، أو ذات "الموضوع" الواحد، الذي يتناول شأناً فلسطينياً، بل هم فوق ذلك يحبذون أن يأتي التناول الشعري أكثر مباشرة كلما أمكن.

في مقابل هذا النقد العصابي، ثمة جدل آخر تثيره آراء محمود درويش في "قصيدة النثر"، التي تركت الأبواب مشرعة على حق الجميع في كتابة شعرية لا تتقيد بشكل محدد. يرى البعض في آراء درويش عداء واضحاً لـ"قصيدة النثر"، وهو استخلاص خاطئ، يستند إلى انحياز الشاعر إلى خياره الشعري المتمثل في "قصيدة التفعيلة". لكن من يقرأ تجربته الشعرية يلحظ أن عالمه الفني يقوم في ركن أساسي منه على الاستفادة القصوى من إيقاعات الشعر العربي، وهي استفادة زاوجت في صورة خلاقة بين المعنى والصورة الشعرية، وحتى المناخ النفسي للقصيدة، وحواملها الشكلية وفي القلب منها الإيقاع. آراء درويش في قصيدة النثر فيها الكثير من رفض ما هو مطروح من نماذج تعتدي على الشعر، وتساهم في وجودها بكثرة بعض الصفحات الثقافية التي يشكو الشاعر من ركاكة بعض القائمين عليها، وهي شكوى محقة، على رغم أن درويش يؤكد في مساحة أخرى من آرائه أن "قصيدة النثر" حققت مشروعيتها.

اصدرت تهاني شاكر كتابا عنوانه "محمود درويش ناثرا" يخرج منه القارئ بانطباع مفاده ان الكتاب الموثق جيدا وبمنهجية تبدو "مدرسية"، لم يجب بوضوح عن سؤال يكمن في عنوانه نفسه. تقول شاكر إنها سعت في دراستها هذه إلى الاجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية أولها عن مضامين نثر درويش والثاني عن الفنون النثرية التي تنتمي إليها أعماله والثالث "هل استطاع محمود درويش أن يكون ناثرا كبيرا كما كان شاعرا كبيرا؟". ربما بدا للقارئ ان هذا السؤال الأخير الذي يحمله العنوان ضمنا بقي من دون اجابة واضحة على الرغم من تردد أقوال عن اظهار "مقدرة" هنا وأخرى هناك.
تستهل شاكر المقدمة بالقول إن محمود درويش شاعر كبير عني النقاد بشعره عناية فائقة واجروا حوله دراسات كثيرة لكنهم لم يلتفتوا إلى نثره. فالحديث عن نثره يكاد يكون مغيبا مع انه بدأ ينشر إنتاجه النثري منذ عام 1971 فصدر له في ذلك العام "شيء عن الوطن"، ثم توالت كتبه بعد ذلك، مثل "يوميات الحزن العادي" و"وداعا ايتها الحرب وداعا ايها السلام" و"ذاكرة للنسيان" و"في وصف حالتنا" و"عابرون في كلام عابر" فضلا عن الرسائل المتبادلة بينه وبين سميح القاسم.

وفي ما يكشف كذلك عن نظرة الباحثة إلى الانواع الادبية تقول "أما أبرز المشكلات التي تواجه الدارس في بعض كتبه النثرية فهي اختلاط الفنون فيها أو عدم تحديد الفن النثري الذي ينتمي إليه الكتاب"، وتتحدث مثلا عن عمل له هو "وداعا ايتها الحرب وداعا ايها السلام" الذي يشتمل على بعض النصوص التي تحيّر الدارس في تصنيفها أهي قصة أم مقالة. وتورد شاكر أسبابا للجوء درويش إلى النثر منها انه صاحب قضية يسعى إلى ايصالها إلى القارئ، والشعر في طبيعته يعتمد على الايحاء والتكثيف اللذين قد يحولان دون ذلك. ومنها انه "صحافي محرر" اشتغل في الصحافة وانه "يحب النثر ويرى ان فيه جمالية أكثر من الشعر أحيانا". واراؤه، كما تقول شاكر، لا تقتصر على بعض المقابلات التي أجريت معه بل تظهر أيضا في مقالات نقدية كتبها هو. ومن ذلك مقالة "بلاغ من النثر" تقول إنه يتناول فيها قضية الاجناس الادبية والتمييز بين النثر والشعر حيث يرى ان الجمالية قد تتحقق أحيانا في النثر أكثر من تحققها في الشعر لكن ذلك لا يلغي الفارق بين الكتابة النثرية والكتابة الشعرية. وتنقل عنه الباحثة استدراكا يتمثل في قوله: "لكن تحقق الشاعرية في النثر أكثر من تحققها في القصيدة أحيانا أو غالبا لا يهدم سياج القصب الدقيق والمرن بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية على الرغم من المحاولات البارعة لالغاء الفوارق بين الاجناس الادبية وتوحيدها في عملية واحدة هي الكتابة". يرفض درويش المفاضلة بين النثر والشعر لان لكل منهما جماليته فيقول: "أليس النثر هو حقل الشعر المفتوح. أليس الشعر هو نثر الورد على الليل ليضيء الليل".

انقذونا من هذا الشعر

كان المنفى مستمرا في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة ارض في فلسطين. اطلق مجموعة "شعارات" صارخة منها "انقذونا من هذا الشعر"، وفي احدى الامسيات رفض قراءة "سجل انا عربي"، حتى ليمكن القول انه ابن عصره، وان شعره ينبض بالحياة واللحظة، وان ذهب الكثير من شعره مع الزمن، وهو الذي قال انه لو عاد الامر اليه لانتقى خمسة دواوين من اعماله فحسب.

لم يكتب محمود في تنظير الشعر الحديث عن تجربته الكثير فهو قد قال شعراً ما أراد ان يقوله نثراً وهذا يحسب له بعكس الآخرين. لكننا إذ نقرأ مقابلاته التي تكلم فيها عن لحظة الشعر لديه نلاحظ وجود تباين متكامل في المواقف يكمل الدائرة لديه. فهو يقول في إحدى المقابلات التي أجريت معه: "أنا اعتبر أن المصدر الأول للشعر في تجربتي الشخصية هو الواقع، وأخلق رموزي من هذا الواقع، فرموزي خاصة بي، حيث لا يستطيع الناقد أو القارئ أن يحيل رموزي على مرجعية سابقة. أي أنني أحول اليومي إلى رمزي. الواقع هو مصدر رئيسي لشعري" ("البيان" الخليجية، 20/5/1986).

ثمة دراسات كثيرة أنجزت عن تأثره بشعراء عرب وغير عرب، منها تأثره في ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" بالشاعر نزار قباني، ولم ينكر هذا، بل أقرّ به في مقابلات عديدة. وتأثر درويش بإليوت ولوركا وأراغون ونيرودا، وهذا ما تابعه دارسون وكتبوا فيه، وهذا ما أقرّ به درويش نفسه.

في مجلة الكرمل (عدد 86، شتاء 2006) سأل عبده وازن محمود درويش عن الشعراء الذين يقرأهم الآن، فعدد له درويش أبرزهم: ريتسوس وأراغون، وأقر بأن شاعره المفضل هو نيرودا. ولما كان في فلسطين، قبل المغادرة في العام 1970، قرأ لوركا ونيرودا وتأثر بهما وخصوصا لوركا.

إذا كان محمود درويش قد خانه قلبه اخيرا، بعد خيانات سابقة، الا أن الموت الشعري لم يخف درويش الذي واجهه "جاعلاً منه الوجه الآخر للشعر واللغة". حتى الموت لم يركّع الشاعر ولم ينل منه. هاكم بعض ما قاله فيه: "هذا البحر لي. أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل فلست لي"، "يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منا وكان لنا"، "قالوا: كيف تطلب موتك؟ قلت: سأسألكم أن تكونوا بطئين، أن تقتلوني رويداً رويداً لأكتب شعراً"، "أريد أن أحيا فلي عمل على ظهر السفينة"، "يا موت انتظر يا موت حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي لتكون صيّاداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع"، و"أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي". فهل حقاً أنهى الشاعر الكبير حديثه العابر مع ما تبقّى من حياته؟

يوسف حاتم

***

أعمال

عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل، مطر ناعم في خريف بعيد، يوميات الحزن العادي، يوميات جرح فلسطيني، حبيبتي تنهض من نومها، محاولة رقم 7، أحبك أو لا أحبك، مديح الظل العالي، هي أغنية ... هي أغنية، لا تعتذر عما فعلت، عرائس، العصافير تموت في الجليل، حصار لمدائح البحر، شيء عن الوطن، ذاكرة للنسيان، وداعاً أيها الحرب وداعا أيها السلم، كزهر اللوز أو أبعد، في حضرة الغياب، لماذا تركت الحصان وحيداً، بطاقة هوية، أثر الفراشة.

****

محمود درويش "في حضرة الغياب" (1941- 2008) [2]

الشعراء لا يموتون حقاً. إنْ رحيلهم سوى خدعة سوى فرصة سوى حلم ينسى أنه حلم ويصدّق غفوته.
الشعراء لا يموتون حقاً. ومنهم، في المقدمة، محمود درويش. قصيدتهم تقول لهم: استريحوا لبرهةٍ، وأنا اكمل بعض المشوار عنكم ريثما تعودون.
بعد محطة أولى أمس (راجع الرابطين الآتيين،:

www.annahar.com/content.php?priority=2&table=main&type=main&day=Sun
www.annahar.com/content.php?priority=1&table=adab&type=adab&day=Sun

نشرّع اليوم أيضاً البيت، بيت محمود، أي جريدة "النهار" وصفحتها الثقافية، لأصدقاء الشاعر ومحبّيه. فلا تأخذوا كلماتهم دموعاً ولا مراثي: إنْ هي سوى حبال تُرمى بين جبلين ليصل الصوت، صوت تحيتنا، صوت شوقنا، صوت لبنان الشاعر، إليه حيث هو: في الهناك النائم في الهنا. في الهنا الناظر الى الهناك.
الفسحة اليوم لكلمات باقة من أصدقائه اللبنانيين الكثر جداً، وغداً لكلمات بعض اصدقائه العرب. والصفحتان مزينتان برسوم لفنانين فلسطينيين.
نكرّر: الشعراء لا يموتون حقاً. انظروا جيداً في المرآة، تروهم يبرقون برق الضمير في العيون.

كلنا موتى منفى

كل ما كتبه محمود درويش كان من أجل وطن، ومات بلا وطن.
قبله مات عرب كثيرون من دون أوطان. مات عرب كثيرون في الأحلام الخائبة.
وبعده، وبعدهم، سيموت كثيرون أيضاً في المنافي.
إنها أوطان تلد ناساً كي تنفيهم أوطان أخرى. أو أوطان تلد ناساً كي تنفيهم أوطانهم. أو أوطان تلد ناساً كي يعيشوا في أوطانهم منفيين... لا، إنها المنافي وليست الأوطان!
كل ما حلم به محمود درويش هو الوطن، ومات بلا وطن. مثل درويش حلم كثيرون وكثيرون لا يزالون يحلمون. وكلهم ماتوا ويموتون بلا وطن.
العرب كلهم يحلمون أحلاماً شبيهة بحلم محمود درويش. كلهم يحلمون بوطن. وكما مات درويش، يموتون كلهم الميتة ذاتها. يموتون كلهم في الحلم الخائب.
نادراً ما نرى مواطنين وشعراء وأدباء ومثقفين غربيين يموتون خارج أوطانهم، فلماذا نرى هذا الكم الهائل من العرب يموت في المهاجر والمنافي؟!
فهل الأوطان العربية حلم مستعصٍ؟
هل الأوطان العربية رهينة حلمين: حلم يجهضه الخارج وحلم يجهضه الداخل؟
حلم، إن لم يجهضه الغرباء أجهضه أهل بيته؟
كم من العرب يعيشون في المنافي ويموتون في المنافي؟!
كم من العرب نفاهم الغرباء من أوطانهم؟ وكم من العرب نفتهم أوطانهم؟ وكم من العرب يعيشون في أوطانهم منفيين؟!
... فيا صديقي محمود درويش، أنت وشعبك لستما حالة استثنائية.
كلنا يا صديقي نعيش بلا أوطان ونموت بلا أوطان.

كلنا حلم وطن... وموتى منفى.

وديع سعادة

***

تليق بك الحياة

قبل شهرين كان آخر لقاء لي بمحمود درويش. زرته في بيته "العمّاني" برفقة الصديقين الدكتور أسعد عبد الرحمن والمطربة الجليلية (نسبة الى الجليل الفلسطيني) أمل مرقس. ما ان فتح الباب حتى بادرته قائلاً:
- كلما تقدمتَ في السن ازددتَ وسامة وشباباً (وكان أكثر نحافةً مما اعتدته).
- ليس المرء كما تظن يا زاهي، قال لي كمن يضمر شيئاً.
فهمتُ من جوابه أن قلبه عاود مشاكسته، وخصوصاً حين اخبرني أنه ذاهب الى اميركا لإجراء عمل طبي. واتفقنا على اللقاء في بيروت فور عودته.
قلتُ: هذه المرة ستأتي الى بيروت بلا التزامات عامة. لا أمسيات ولا ندوات. سوف ادعوك الى لقاء ثالث في "خليك بالبيت" وستكون الدعوة مجرّد ذريعة لنسهر ونخرج ونصعد الى الجبل. ستكون زيارة لأجل الحياة، مازحته ضاحكاً.
وافق محمود من دون أن يجادلني كعادته في مسألة التوقيت. فكّرتُ: كم تغّير. وكل تغيّر فيه كان دوماً نحو الأفضل. نحو مزيد من الشفافية والرقّة والتواضع.
في جلستنا الأخيرة تحادثنا في أمور كثيرة، ومازحنا قائلاً إننا قاطعناه عن متابعة مباراة كرة القدم من جملة مباريات كأس الأمم الأوروبية. وكانت كرة القدم احدى متع محمود درويش، هذا الشاعر الذي لا يشبه الشعراء الآخرين، لكنه يشبه الشعر الى حد التماهي. حتى بيته كان مختلفاً عن منازل الشعراء. "بيت شعر" اكثر مما هو بيت شاعر. قلت له ذلك. فحدثني عن بيتي وسألني عن رابعة ودالي. وسألته عن أمور كثيرة. وكنتُ كمن يسأل أخاً أكبر.
في طريق العودة اهديت الى أمل مرقس نسخة من كتابي "تتبرّج لأجلي"
وأشرت الى قصيدة عنوانها "تليق بك الحياة"، كتبتها قبل نحو خمس سنوات لمحمود درويش. قالت امل: إقرأها لي، فقرأت:

"لا تعتذر عما فعلت/ قم في صيحة الديك/ في صوت المؤذن/ توضأ واكتب قصيدتك/ في الصباح لك أن ترشق الجندي بحجر/ أن تقطف وردة لعاشقة الورد/ أن تجد وقتا لاشيائك الحميمة/ أن تنتقي قميصا ربيعي المزاج/ أن ترفع صوت الموسيقى عاليا/ أن تخفف قليلا وطأة هذا الاحتلال./ لك ان تفعل ما تشاء/ صدّقني يليق بك الصيف/ مثلما يليق بك الشتاء/ إذن.../ لك ان تقاتل/ ولك ان تغني/ أن تطلق غزالة من اسر الخيال/ أن ترجع فتى مفتول الساعد والاحلام/ أن تتغاوى بشيب التجارب والمحن./ لك أن تفعل ما يحلو لك/ لك أن ترى في مدينتي ما تريد/ ولي ان اجعل قصائدك خبز الفقراء/ ليس الحزن ما يجعلك استثنائيا/ ولا الموت المتربص بك عند ناصية الايام/ حبك للحياة جدير بالحياة/ واخطاؤك الصغيرة لا تستحق الاعتذار/ إذن/ لا تعتذر عما فعلت/ وامش كما تشاء/ معتدل القامة

أو سنبلة ملأى/ ناحلاً، مائلاً/ أخضر الابتسامات/ ابتسم لتغيط الجندي المكفهر خلف بندقيته/ غنّ/ غناؤك يعكر مزاج الجنرال/ غنّ
ليس الحزن ما يجعلك استثنائياً/ بل دفاعك الرائع عن معنى الحياة".

***

سوف يُكتب الكثير عن محمود درويش، ويمتزج الحبر بالدموع، سوف يُكتب عن شعره الذي لطالما اغضب المحتل الإسرائيلي وافزعه، وعن "فلسطينه" التي عشقها حتى الرمق الأخير، وعن نجمته بيروت، عن ريتا وعصافير الجليل، عن حصانه الذي تركه وحيداً، وسرير الغريبة الذي يشتاق دفء قصيدته، وعن أثر الفراشة الذي لن تقدر جرافات الاحتلال على محوه من ذاكرة فلسطين. مثلما سوف يُكتب عن شاعريته وفرادته وتمرّده حتى على شعره وجمهوره.
أما انا فسوف انتظره في بيروت مردداً "تليق بك الحياة" في الحياة وفي الموت الذي في حالة محمود درويش لا يكون كلياً.
زاهي وهبي

***

مسيح جديد

لستُ أدري الى اين ذهب محمود درويش. هل عاد ليسلك تلك الرحلة التي وصفها في "جداريته"؟ هذا الشاعر مات اكثر من مرّة. لقد مات كثيراً حتى أمات الموت. وإنني اعرفه. أعرف أنه لم يكن يخاف من الموت. ولكنني أنا كنت أخاف عليه وما كانه. لأن رحلة الغامض لعلها اكثر رعباً من رحلة الشهادة.
دخل هذا الشاعر في معركة شرسة مع بدائل الموت منذ فتح عينيه في مكان هو فيه وليس فيه، له ولا يملكه. وعلى زمان أنشب في عينيه اشرس مخالب التاريخ. منذ تلك اللحظة ومحمود درويش يدافع الموت بعينيه كطفل يدافع الوحشة بصفاء نظرته، بالبراءة.
لستُ ادري اين هو الآن محمود درويش. أيواصل العذاب؟ أيلقي قصائده هناك على غيمة، حيث ليس ثمة من جمارك، ولا كلاب سلطة، ولا قتلة. أم أنه، وهذا ما لا اريده، يواصل العذاب؟ إني أخاف.
آخر مرة رأيته فيها، كنا في القاهرة، في الملتقى الأول للشعر العربي والعالمي. قرأنا في أمسية واحدة. وحين جلسنا في المقهى حدّقتُ في عينيه. اكتشفتُ شيئاً لم اكن اعرفه فيه. قلتُ له: "يا محمود، ما زال شكل وجهك شاباً، ولكن الحظ أن لك حاجبين أشيبين تماماً. لماذا حاجباك أبيضان الى هذا الحد؟". كان يستر حاجبيه بنظارتيه ولم اكن قد تفرّستُ في عينيه قبل ذلك. دخلتُ في بئر عميقة من ذاك الشغف المجنون بالحياة والحرية، في غابة.
كان محمود درويش يكاد يدافع عن قاتليه، وشعره يقول ذلك. كان قد انقسم في آخر شعره اثنين في جسد واحد: القاتل والقتيل. وكان القتيل يبكي قاتله، لأن نبض الشعر عند محمود تجاوز الوطن نحو دراما الإنسان بذاته. وأنا على العموم لم أكن منحازا كثيرا الى شعره السياسي ولكنني كنت شديد الانحياز الى جداريته، هذه الجدارية العجيبة التي دخل فيها الشاعر دخولاً في ذاته، بعدما زار الموت وعاد منه. لم يتكلم عن وطن، ولم يتكلم عن فلسطين. تكلم عن رحلته العجائبية، وأحببته جدا هنا. لقد زار آخر من الشعراء الكبار الموت وعاد منه اول مرة، هو نزار قباني. ولكنه لم يكتب بعد هذه الزيارة أثرا يشير إليها.
محمود غلب الموت بالموت. إنه مسيح جديد.

محمد علي شمس الدين

***

في كامل أسطورته

يصعب على المرء، مهما أوتي من قوة اللغة وبلاغتها، أن يتفحص ملامح مثل هذه اللحظة، وهي تغرق في سديمها المبهم وتتشكل خارج كل ما يمكن الكلام أن يرسمه من معالم وإشارات. اللغة الآن عمياء وكسيحة، وهي تخوض أقصى امتحان لها أمام غياب شاعر أحبها ووهب لها حياته وروحه وشغاف قلبه. هل كان ينبغي لمحمود درويش ان يغيب لكي نكتشف في ضوء غيابه كم نحن هائمون الآن على وجوهنا وأقلامنا وكلماتنا، وكم المساحة الشاغرة التي خلّفها وراءه لا يمكن أحداً أن يردمها من بعده؟ لعله بعودته الى احشاء التراب الأم يخفف عن نفسه وعنّا هذا العبء القائم على ردم الهوّة بين امومة اللغة وأمومة الأرض. كانت الكتابة عنده على جمالها رديفة النقصان، وكان يريد في ضوء المنفى أن يستعيد فلسطينه المشغولة بالكلمات. وربما كان يريد أن يوفّر على الشعراء عناء الوقوع مثله في فخ البلاغة، ولذلك بدا كسيزيف راغباً في حمل الصخرة وحده على كتفيه.
محمود درويش هو من بين القلّة يغيبون في كامل أسطورتهم. ذلك انه لم ينفق جسده ونضارة وجهه كما فعل الآخرون، ولم يمت عجوزاً ولا شيخاً. مات وقصيدته أيضاً في أوج ريعانها. فهو لم يقبل كما فعل كثيرون سواه أن يقتات من فضلات أعماله السابقة. بل كان يؤثر أبداً أن ينقلب على نفسه وأن يحوّلها الى ساحة عراك مستمرة بين الممكن والمتخيّل، وبين المتحقق والمحلوم به. لعله من بعض وجوهه يستعيد تجربة المتنبي بامتياز، فإذا كان الثاني قد أنصت الى كل الأصوات التي سبقته مستوعباً كل ما تناهى إليه من مساقط شعرية سابقة عليه، من امرئ القيس وحتى ابي تمام، فإن محمود درويش قد فعل الشيء نفسه مصغياً الى نبض الحداثة الشعرية ومتلقفاً أصواتها المتعددة ليعيدها الى الحياة بشكل مختلف، ولتهضم قصيدته كل ما تلقفته من نسغ الكتابة محوّلاً إياها كما الشجرة الى ثمار ناضجة وبعيدة عن الأصل.
وإذا كان لمدينة أن تشعر بالثقل في هذه اللحظات، فهي بيروت بالذات، لأن محمود درويش كان جزءا من المعنى الذي ابتكرته لنفسها على مدى العقود الأخيرة. كان جزءا من مختبرها اليومي الذي واجهت به تحديات العصر وقيم الحداثة والذي انفجر في ما بعد تمزقات وشظايا وحروبا اهلية. تماما كما انفجر جهد محمود درويش بعدما ضاق ذرعاً بشياطين اللغة التي سكنته. وإذا كان لكل منهما صليبه، فلكل منهما قيامته ايضاً. وهي قيامة ليست ناجزة في أي حال، بل علينا نحن، كل من زاويته، ان نذهب بها حتى نهايتها الأخيرة.

شوقي بزيع

***

إلى اللقاء بعد قليل بعد عامين وجيل

كان ذلك في معرض بيروت الدولي للكتاب في العام 2007 حينما كان محمود درويش يوقّع كتابه "كزهر اللوز أو أبعد" في جناح "دار رياض الريس للنشر". يومذاك، تقدمت إليه برفقة ناشرة كتابي "أنا شاعر كبير" لينا كريدية، حاملاً باكورتي الشعرية بين يديّ. أخذت لينا الكتاب من يدي وقدّمته إلى محمود درويش. قالت له: "هذا الشاب الصغير، شاعر كبير"، ثم قلبت الكتاب بين يديه لتريه ما كتب على الغلاف الخلفي.

كان يضع رجلاً على رجل، ويبتسم، حينما راح يقرأ بهدوء جميل المقطع المكتوب على الغلاف، وكان فيه: "أنا شاعر صغير/ لذا يحق لي ما لا يحق لكبار الشعراء/ من هنا، أستطيع أن أموت باكراً على سبيل المثال/ أو أن اتوقف عن النمو/ ويحق لي أن اسرق مقطعاً من قصيدة "ريتا والبندقية" لمحمود درويش/ لأن الصغار لا يحاسبون على أفعالهم السيئة/ ولأن الله يحبهم/ ويكره محمود درويش...". قرأه كاملاً، ثم رفع نظره إليّ وابتسم وقال: "هناك سوء تفاهم هنا، من يكره الآخر، أنا أم الله؟".
ضحكنا كلنا، أنا، لينا كريدية ورياض الريّس الذي كان جالساً إلى جانب محمود درويش. قلت له إن الشعور ربما يكون متبادلاً. قبل أن يقلب الكتاب ويرى العنوان، قال إن العنوان يجب أن يكون "أنا شاعر كبير". وابتهج عندما أصاب.
أعاد إليّّ نسخة الكتاب، فكتبت عليها إهداءً: "إلى محمود درويش، الله لا يحب الشعراء الكبار لأنهم يقارعونه". وهو كتب لي إهداءً على نسخة من كتابه "كزهر اللوز أو أبعد": "إلى الشاعر رامي الأمين، بالمزيد من التقدم والنجاح". ما عناني في إهدائه، أنه أعطاني صفة الشاعر. شعرت كأني انتزعت اعترافاً من شاعر كبير بأني أنا شاعر وكان هذا يكفيني ويزيد.
عندما ورد خبر موته على التلفزيون شعرت بهول انتصار الله الدائم والحتميّ على الشعراء. عندما مات نيتشه كتب مناصرون للكنيسة: "نيتشه قد مات"، في ردّ على عبارته الشهيرة "الله قد مات". وفي ذلك الردّ من السخرية والألم ما يفوق القدرة على التحمّل.

ورد خبر آخر على الشاشات يقول إن محمود درويش لم يمت بعد، وإن حالته حرجة في المستشفى في تكساس. لكني كنت أعرف أن الرهان على بقائه على قيد الحياة كان خاسراً، مثل رهاننا على الإنتصار على فكرة الوجود.
فعلها ومات. لم ينتصر، ولم ينهزم. مات وحسب.
وعلينا، نحن الشعراء، أن نكتب كي نحرسه من "هواة الرثاء"، وأن نقول له كما كان يقول للشهداء عندما يذهبون إلى نومهم: "تصبح على وطن" يا محمود درويش. سلّم لنا على ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب. وإلى اللقاء، "بعد قليل... بعد عامين وجيل...".

رامي الأمين

****

نداء
من أجل أن تستعيد الأرض كلامها

وجّه مجموعة من اصدقاء الشاعر الكبير محمود درويش هذا النداء:
في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودّع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوما على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجا لزمن الخسارات الذي نعيش.

هذا النداء موجّه الى اهلنا في فلسطين الذين كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في ارضهم. وهو نداء يتعلق بحق شاعر الجليل في ان يعانق ارض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون.

يحقّ لابن الجليل وشاعره ان يدفن في ارضه، ويجب ان لا يكون في مقدور احد ان يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده.
هذا نداء موجّه الى الجميع، كي نعمل معا من اجل ان تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعرا عظيما كتبه شاعر عظيم.

التواقيع: انطون شماس، ليلى شهيد، سليم بركات، مارسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي، الياس خوري، طه محمد علي، انطوان شلحت، حنا ابو حنا، رمزي سليمان، محمد بكري، محمد علي طه، محمد نفاع، سهام داوود.

***

هيئات سياسية وثقافية
نعت "حامل ذاكرة فلسطين"

ابرقت امس شخصيات سياسية وهيئات ثقافية الى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس معزية برحيل الشاعر محمود درويش. كما تلقى مسؤولون فلسطينيون اتصالات مواساة من سياسيين، على رأسهم رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، نوهوا بمساهماته الشعرية لفلسطين ولبنان.
وأعلنت ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الحداد ثلاثة أيام، على ان تقبل التعازي في دار نقابة الصحافة اللبنانية اليوم الاثنين وغداً الثلثاء وبعده الاربعاء من الرابعة عصرا حتى الثامنة مساء.

  • رئيس مجلس النواب نبيه بري ابرق معزياً الى عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل، ورئيس المجلس التشريعي الفلسطيني عزيز دويك المعتقل في اسرائيل، ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون. ومما جاء في البرقية: "بعد محمود درويش ستصبح يوميات الحزن الفلسطينية استثنائية بالألم والمرارة والأمل. معا سنواصل الحلم الفلسطيني، ومعا سنفتح بوابات العيون على شمس فلسطين المضيئة على تلال الكرمل ويافا وجبل الزيتون ودائما القدس. الشعراء لا يموتون لنا الرحمة ولفلسطين العزة".
  • وزير الإعلام طارق متري اتصل بممثل "اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان عباس زكي، وابرق الى عباس معزياً "بمن رحل به قلبه، بعيدا منا". ونعى متري الراحل واصفاً اياه بأنه "فلسطيني بالاختيار الحر، وله انتماء الى بيروت، بالاختيار أيضا، يبحث فيها عن طفولة جديدة ودور لا يغلق عليه أو يضيق. ولم يغب عنه مرة، أن سلام لبنان حق له، وحرية فلسطين حق لها، وأن طريقنا الى السلام والحرية واحد. وواحد هو السعي لكي نستحق حقنا".
  • وزير الثقافة تمام سلام ابرق الى وزيرة الثقافة الفلسطينية تهاني ابو دقة معزيا. واعتبر ان "الشعر الفلسطيني سيؤرخ لفترة ما قبل محمود درويش وما بعد رحيله. فقد كان عملاقا نسج الكثيرون على منواله في العقود الماضية". كما اتصل سلام بزكي مواسياً.
  • النائب سعد الحريري ابرق الى عباس معزيا بـ"حامل ذاكرة فلسطين وقضيتها، الذي رفع راية ضد النسيان في أصقاع العالم كما حمل قضية لبنان الذي عاش فيه، وكتب فيه وعنه، وبخاصة عن عاصمته بيروت أجمل وأروع نصوص الصمود في وجه العدوان والظلم".
  • ممثل "اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان عباس زكي نعى "شاعر الوطن والشعب، عاشق فلسطين، زين شبابها، قصيدتها الأبدية، ومغنيها الأجمل (...)، والصوت الفلسطيني الموحد العصي على الإلغاء والتبديد المتمسك بزيتونة القدس، و زهر اللوز في الجليل، وكرمل حيفا، وتراب البروة في عكا".

كما نعى الراحل: "تيار المستقبل"، و"اتحاد الكتاب اللبنانيين"، و"الحركة الثقافية اللبنانية"، و"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين"، والمكتب الثقافي لحركة "امل" والـ"المؤتمر القومي العربي" و"الحزب التقدمي الاشتراكي".

***

محمود درويش "في حضرة الغياب"

جريدة النهار

جمانة حداد

محمود درويشيعود الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الى وكر النسور في الجليل، لينضمّ الى الأرض التي جعلها أرضاً ليس للبطولة فحسب ولكن خصوصاً لكل شعر حقيقي عظيم.
قبل ساعات قليلة كان محمود لا يزال في قلب المحنة الخطيرة، يواجه وضعا صحياً بالغ الحرج، ويخضع للتنفس الاصطناعي في أحد مستشفيات هيوستن، تكساس، بعدما أخضع في 6 آب الجاري لعملية جراحية معقدة في القلب تولاها الجراح العراقي حازم صافي، وتضمنت اصلاح ما يقارب 26 سنتيمترا من الشريان الابهر الذي تعرّض أخيراً لتوسع شديد وخطر.
وقد سبق ان اجريت وهي التي كتب على أثرها "جداريته" الشهيرة. لكن القلب الذي ظل وفياً للشاعر، على رغم عطبه الجليل، حاملاً معه أعباء الشعر والأرض والتاريخ، لم يستطع أن يكمل المسيرة، فدخل في عطب الغيبوبة العظيمة، تاركاً الشاعر وحيداً "في حضرة الغياب".

* * *

ها قلبكَ، يا محمود، كان، قبل قليل، يرفرف فوق الحافة المهيبة من جديد، وكنا نسأل أن لا تأخذه الحافة الى الأبعد منها.
فقد علّمنا قلبكَ، يا محمود، أنه لم يكن غريباً على أطوار الحافة وأمزجتها. فهي، كالأقدار، كالأرض، كالشعر، كانت ملعبه الأثير. حفظ قلبكَ فخاخها وفجواتها ومطباتها، غيباً، وعن ظهر قلب، كما تُحفَظ القصائد، وكما تُحفَظ الأرض، فلم يخطئ حدودها يوماً، ولم تدوّخه يوماً سكرة هوتها العظيمة. وقد ظل قلبك يتلاعب بالحافة، وتتلاعب به الحافة، الى أن أخذته، أمس، اليها.
قبل قليل، كنا نقول إن القلب إذا كان مثل قلبكَ، لا بدّ يعرفها، هذه الحافة، جيداً. وكنا نقول، ودائماً قبل قليل، إن القلب الذي مثل قلبكَ، يعرف جيداً، أنها الحافة الصعبة، الحرون، الكاسرة، المغوية، والتي ليس من حافات بعدها. وكنا نقول، إن قلبكَ، شأنكَ، شأن شعركَ، وشعبكَ، مرصودٌ لمثل هذه المناطق المحفوفة التي تشبه طعم المستحيل. لكنكَ، كالنسور المحلّقات، كالقصائد المحلّقة، كالفينيق، كنتَ، حتى قبل قليل، إذا نزلتَ في وادٍ، فشأنكَ أن لا تتحطم، أو تحترق، أو تسقط في عدم. وكنا نقول، شأنكَ فقط أن تعرف طريق الرجوع. وكنا نقول، أنتَ لا بدّ راجعٌ الى شعركَ، على طريق الراجعين. وكنا نقول سترجع. لا مفرّ.
كنا نقول إن القلب، قلبكَ، يعرف هذا كلّه. ويعرف قَدَره جيداً. وكان قَدَره يقول له أن يكمل الطريق، لا أن يخون.
لكن القلب الذي اختبرك طويلاً أيها الشاعر الكبير، عاد لا يستطيع أن يظل يختبر. كنتَ، أيها الشاعر، حتى قبل القليل القليل من الوقت، لا تبخل على القلب بالاختبار. كنتَ تداويه بما يليق بكَ وبه، ليعود اليكَ والى شعركَ وشعبك. وكنتَ تنده هذا القلب، بأسراره بألغازه بكلماته، فيعرف حدوده معك، ويصعد دائماً من هاوية الى حيث تقيم النسور. وقبل قليل كنا نسألك أن تنادي قلبكَ هذا على الفور. وقبل قليل كنا نلحّ عليكَ أن تناديه الآن، وأن لا ترجئ الى غد. وأن تزجره، وأن تزلزله، وأن تهزّه من تعب، وأن تبلسمه بشعرك، ليعرف القلب حينئذ ماذا ينبغي له أن يفعل. وكنا نقول: هو لا بدّ فاعلٌ. وكنا نقول: سيفعل.
لبنان منذ ساعات قليلة كان كلّه يناديكَ، يا محمود، لا أنا وحدي. شعراؤه، كتّابه، أهله، كانوا يسألونكَ أن تخاطب القلب الجريح باللغة التي يفهمها هذا القلب الجريح. وكنا نقول حتى قبل قليل، إن الوقت هو الآن وقت اللغة، أيها الشاعر، لا وقت الأطباء فقط. وكنا نسألك أن تنادي قلبكَ باللهجة التي لا يتقنها سوى الشعر. ومَن مثلكَ، كان يعرف ما به هذا القلب. وكيف يعود ليخفق في صدركَ، في شعركَ، مثلما يخفق ضمير الأرض في شعب فلسطين.
شعراء لبنان، كتّابه، وأهله، كانوا حتى قبل القليل القليل من الوقت، يسألون قلبكَ الشفاء، وكنا نسألك أن ترسل الى قلبكَ نداءنا اليه، مشفوعاً بالرجاء، بل بالحب الكبير.

لكننا، مثلك الآن، نفهم ماذا يعني أن يخرج القلب على الحافة ولا يعود يعرف الطريق اليك.
لا بدّ أن القلب طار، كما العصافير، كما النسور، لينضمّ الى وكر النسور في أرض الجليل.

النهار
9 – اغسطس 2008

* * *

محمود درويش "في حضرة الغياب" (1941- 2008) [3]

صخرة من شمس

المار في الكلمات حمل اسمه وانصرف. حمل قلبه على كتفه ولن يطيل. ذلك ان محمود درويش، في هيئة الغائب، مشخّص باهت للهنيهات الذابلة. فلا الصبر الخامد وصفته، ولا الانتظار الصموت مهنته. هو هزم الموت، والموت انتصر على ما أعلن بنفسه، بعيد جراحته الثانية. وقبلذاك بالاستعارات تحرّر، واليوم بالمجاز يموت. في أربعينية رحيل محمد الماغوط، حضر على الدرج اللولبي المؤدي الى صحبة الموت، ليقول عنه انه في غيابه "أقل موتاً منا وأكثر منا حياة"، منعةً على ما يبدو، لما أهرق كتابة وسيهرق في خصوصه هو الآخر، لحظة يدق الناقوس. لهذا السبب الواحد الأحد، يصير انعطافنا نحو سكوته خيانة ما بعدها خيانة. يتراءى ونحن نلتفت الى انسلاخه عن العيش، لكأننا ننقضّ على الصدى الذي ضرّج أفرادا وجماعات بأبيات الممانعة ومقاومة الخنوع، تتلوها أفواه المنصتين ورَعا وخشوعا، جوقة متجانسة متراصة، في القاهرة وبيروت والجزائر ورام الله وحيفا، وإن بعد غياب، وباريس ولندن وسواها من زوايا المدن والأزقة. كيف لا؟ وهو شاعر المقاومة التي اعتقل في جوارها، لكنه أيضا وفي الأساس خميرتها، ملحُ الالتماع كما رينه شار. محمود درويش شاعر لا يهاب الجموع، ماضيا ومضارعا ومستقبلا، لا يخشى الآلاف المؤلفة التي أنصتت اليه أينما حلّ، وكانت على الموعد قبل أعوام في "المدينة الرياضية"، في نجمته وتفاحته بيروت التي تأملها وسبر فيها القدرة على تجديد حيوية الأسئلة والنقد والنقد الذاتي. لم يعر السمع الى اوكتافيو باث ولم يؤرقه إدعاؤه ان الشاعر "الذي يصفَّق له كثيرا عليه القلق لأنه يمدّ الناس بما يريدون". ما عاد محمود درويش ينظر المسافة بينه وبين شعبه، لأنه صار شعاره ونشيده وبطاقة هويته، وهو سجّل منذ زمن انه فلسطيني وعربي. أراد لقصيدته، على تشعب شطحاتها الأسلوبية، الالتصاق بحبل سرة البدايات، وعدم القطع مع أريج البروة، قريته في الجليل الغربي. قدِّر له أن يلد فيها في 1941 الابن الثاني لأسرة مكتظة من خمسة ابناء وثلاث بنات، وأن يشهد قوات الاحتلال الاسرائيلية تدمرها في 1948 لينشأ ويترعرع على تخومها، في مطارح محاذية حيث بلّله رذاذ مطر قريته ولم يصله ماؤه. تلصص على البروة عن بعد وأحيانا عن قرب، وامتهن الجيئة والإياب وشهد الهويات تحترق وتطمس وتسلب من ماضيها. ومن جمالية الطلق البكر والأنماط التقريرية في الدواوين الأولى شرع يعرّب الضمائر شعرا، ويوزعها في تلاعب حذق بين نحو غيبي (هو وهي) ونحو المخاطب (أنتَ وأنتِ)، ويعبر الى الحنين. تفتحت لغته كزهر الأرض الأم أو أبعد، متقصية تضعضع فلسطين، وأمسى الوجع جرحه النازف الأنجع في مساحة الشعر، شقّ طريقه إليه رفقة كمشة أبيات رنّت خناجر في رقاب كل مستقو. في مهد الغنائية وتجريب بنية القصيدة الايقاعية، عقد حوارا مع تفريغ النفوس وسحل الذاكرة، لأنه غريم استعدائها. وساعة قصّرت القواميس ولم تسعفه ودنا ضجيج الألسنة الخرقاء، استدان رائحة القهوة وفساحة التلال والصفصاف والدروب، واستبقى التماع عيون أطفأتها الفجيعة. ألم يكتب الشاعر روبرت غرايف ان التيمة الشعرية الوحيدة هي الحياة والموت؟ على هذا الشكل ربما، حام درويش في حظيرة الرحيل، لم يصدّق سوى حدسه ودخل حياته كما راق له واختار لإسمه ترصيعا من اللازورد لم تخفت من وهجه الامتيازات. مقاتل هو درويش، صخرة من شمس، وجه من صرخات، طلة ملتهمة للآلام وملتهبة من نار. وفد شعره من جزئيات الوجود، مثل الأنفاس ممسوسا تجليا "ثلاث مرات في الدقيقة". جاء درويش بالكلمات الشفيفة، بأكثرها عادية وبساطة، بتلك التي تسوقنا باليد نحو حفافي المنازل وترانيم الطبيعة، تلك التي تتحول كالخيمياء، لغة من عالم دون عالمنا، لحظة تضيئها عينا الشاعر اللتان تعيدان ضبط توازن الكون. في حديث صحافي، رصد درويش الدور الذي يلعبه التهكم. قال إنه يساعده في تخطي خشونة واقع يعيش فيه وإنه في أي حال قسط من التاريخ الذي يهزأ من الضحية والمعتدي على السواء. فهل من قبيل المصادفة أن يرحل محمود درويش بعدما أعلن ترؤسه اللجنة الوطنية للتهيئة لاحتفالية "القدس العاصمة الثقافية العربية للعام 2009"؟ حسبي اننا نشهد فيها لوصية مبكرة ولأسطورة من جملة تلك "الأساطير التي تطرق أبوابنا حين نحتاج اليها".

رلى راشد

* * *

وردٌ أكثر لك اليوم وكل يوم

متّ غريباً في سريرٍ ليس لك، فمن إذاً سينام في "سرير الغريبة" غيرك. أنت الغريب في بلادٍ غريبة، ذهبت إليها بوساطة، كي تستقبلك "مريضاً" لا شاعراً. كان يمكن أن تظلّ في باريس صحبة صديقنا المشترك صبحي حديدي، كاتم أسرارك، وناقدك، والأقرب إليك روحاً وفكرا. ربّما كنت ستبقى ولو لأيام أو أسابيع ترتّب فيها أعمالك التي حدّثتني عنها ذات يوم في الإسكندرية، هذه الأعمال الشعرية المنجزة التي لم تنشرها في حياتك، أذكر أنّك قلت لي إنها ثلاثة أعمال، أردت أن تشذّبها وتهذّبها وتحذف منها وتصفّيها من "الأثقال" والشوائب. أينها الآن، أهي في عمّان أم رام الله؟ أيمتلك صبحي حديدي نسخةً منها؟ أم أنّك كنت حريصًا كعادتك ألاّ تطلع أحداً عليها.
الآن زادت خساراتي في الحياة. كنت كلّما تأزّمت روحي عدت إليك.
لن تستطيع البروة أن تؤوي جسدك لأنّها – كما تعلم – زالت من على خريطة فلسطينك، لكنّك ستكون في مكانٍ ما قريبٍ منها.
أمّك (92 سنة) تنتظرك، وأخوك أحمد، والأقرباء والأصدقاء، وحتّى الأعداء من الأهل الذي ن حسدوك غيرةً من شعرك، وكدّروا حياتك في السنوات الأخيرة. كنت تضمر غيظك وحزنك وانفعالك وتصمت. لكن عندما فاض كيل الحسد أو قل السباب، بدأت تعلن من دون أن تسمّي أحدهم، كنت أحيانًا تشير أو ترمز حتّى لا تكشفهم وهم يواصلون دون خجل. ماذا يقولون اليوم، سأقول لك يوما ماذا يقولون ويكتبون. لست حصانا وحيدا متروكا في الصحراء العربية، لكنّك حامل السؤال "لماذا؟"، وغيره من الأسئلة، التي ستكبر كنجمة تحمل اسمك ليبقى في سماء الشعر إلى جوار جدّك المتنبي الذي أحببت.
إذ سيبقى شعرك عابرا الأمكنة والأزمنة، باقيا، وشاهدا على روحك، ومهارتك كصائغٍ عظيمٍ لكونك الشعريّ.
سنملأ "فراغك" بشعرك، فقد تركت ما يشغلنا، نستعيده، ونعيد تأويله، لأنه منذ "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" حمّال أوجه. تركت في كلّ منفى ذكرى، تركت قصيدة. أعرف أنّك أنجزت ديوانًا عن مدنك – منافيك، أينه، أريده لنا جميعا، لنعثر عليه قبل أن يضيع في الزحام. أعرف أن الموت لم يكن ليخيفك، لكنك كنت تريد "قليلاً" من الوقت لترتّب بيتك الشعريّ. لكنه لا يستأذن يا صديقي، يباغت ويصرع. الآن ستذهب إلى من جالستهم يوما بمستشفاك في باريس: المتنبي، رينه شار، المعرّي.
محمود، أنت غيّرت إيقاعك، فاستحققت أن نقرأ قلبك الباقي ونحمله كطوق حمامةٍ. إنّك لست صفحةً تطوى – بموتك – في كتاب الشعر، ولست طابع بريد تصدره وزارةٌ فلسطينيةٌ قبل موتك بأيام. أنت قطارنا، استقبلنا ولا تودّع أحدا. لك أرصفتك ومقاهيك وموسيقاك ولغتك وكلامك، وأرضك التي ترث لغتك الصافية التى جرّدتها حتّى استطاعت ذبحك ونالت من قلبك.
تركت قافيةً لنا، فانتظرنا.
أنت الدليل، ولن يدلّك أحدٌ علينا.
هزمت الموت، لكنّ الهزيمة لم تكن بالضربة القاضية، كنت مصارعاً فذّاً لكنّه غافلك، وصرعته بالنقاط.
و"النقاط" كان ينبغي أن تشكّل جملة النهاية "المفيدة". النقاط لم تمنحك فرصة أن تتدبّر أمرك. بأن تختار نوع الزهور وألوانها، مودّعيك، المكان الذي ستدفن فيه، أن تكتب وصيتك، أن تأتي إلى الإسكندرية، أن تذهب إلى الرباط لتتسلّم جائزة الأركانة الدولية. أن وأن وأن...
استدرجت المعنى، لترحل تاركًا أثر فراشتك التي طارت أمام عينيك.
اقتبست الظلال من ظلالك، أنت المتيّم باللعب مع الشعر، بالانجذاب إلى البحر، والنوم مع الموسيقى.
"وردٌ أكثر" لك اليوم وكلّ يوم.

أحمد الشهاوي

* * *

هل ثمة مناسبة ؟

لا أزال على غير يقين بأيٍّ من الصفات أتوّجه إليك، الآن، وليس قبل أن تخرق الحجب لتكون ماثلاً، بكامل أبهتكَ، "في حضرة الغياب"؟ أهي صفة الصديق الذي ما كنته أنا، وإنْ رغبتُ فيه بصدقٍ يصحبه التردد أو علّه الحياء، غير أن حماقة التأجيل حالت دون النفاذ من حالة القوة إلى واقع الفعل؟ ولكن: أحقاً كان من الممكن أن نكون أصدقاء؟ لست أدري. وإني أصارحكَ القول وإنْ جاءت صراحتي متأخرة وخالية من أي جدوى: كنت أفضّل مسافة القرب أن تبقى كما هي، على أن تكسر أو تُختَزَل، فيؤول اللقاء المرغوب مني إلى انقطاع يخشاه قلبي. كنت، ولا أزال، أحبكَ مبقياً مسافةً لتظّل، يا شاعري يا المثقف الكبير، رديف النغمة التي يرّف لها روحي؛ إذ أنت صاحبها. أنت لا تعرف. ليس لأنك صرت هناك. أنت لا تعرف حتّى حين كنت هنا، لا يفصل بين منزلينا سوى ثلاثة شوارع، أو ربما أقلّ (وردُنا كثيرٌ لكنه أقلّ من أن يُكفَّن قصيدةً لك) وكان قلبي، مثل قلبك المريض، قلبك المريض القاتل، قد تعافى للتو... فاحتفلتُ وإيّاه بالإنصات إلى صوتك يتلو "مأساة النرجس وملهاة الفضّة" في ليلٍ كنتَ البرق فيه بينما الشمعة الحيية تتآكل بخفر وتذوب. حدث هذا قبل سنتين، وما كنتَ لتعرف أنّ احتفال قلبي بخروجه من الإنعاش جاء على وقع نشيد قلبكَ أنت! ما قصة القلب هذا؟ ما قصة القلب هذه؟ أيُّ هاتف عصف فرصف منكَ تلك الكلمات وأخرجها لنا: "سأقطع هذا الطريق الطويل، وهذا الطريق الطويل، إلى آخره، إلى آخر القلب أقطع هذا الطريق الطويل الطويل، فما عدت أخسر غير الغبار وما مات مني، وصفُّ النخيل يدلّ على ما يغيب"؟
... وغبتَ! غبتَ لتعود مغتسلاً برنين النبوءة التي ما ادّعيتَ يوماً قدرتكَ على ردّها، وإنْ شاغبتَ وتشاقيتَ، إذ أعلنت: "فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبرٍ لا ينازعني عليه أحدٌ من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إنْ سقط عنها حرفٌ من حروف اسمي"؟

والآن، هل ثمة معنى لكّل ما رأيتَ؟ أنتَ الذي رأى ما أراد؟ ماذا أردتَ، وماذا رأيتَ؟ لن تجيبني. أعرف. لأنك تعرف أنّ ما رأيتَه لم يكن هو ما أردتَه تماماً. وأنّ ما أردتَه لن تراه إلاّ الآن كاملاً! أيُّ نقصٍ هذا الذي نعيشه في الحضور! أيُّ اكتمالٍ هذا الذي نعاينه في الغياب! وأيُّ هشاشة، من قبل، نعايشها بافتتانٍ لا يجرؤ عليه سوى الحمقى! وكنتُ أحمق! أجّلتُ لقاءنا مرّتين على أمل مرّةً ثالثة، لكنها لم تأت.

مرّة أولى: في بيرزيت: إثر اتفاق أوسلو المشؤوم: إحدى ردهات جامعتها: أنتَ وسط جمهرة من معجبيكَ: أنا برفقة مَن سيهّربني إلى حيفا، فهل ألغي حيفا والكرمل لأجتمع بك؟ قلتُ لنفسي: ثمة مناسبات أخرى.
ومرّة ثانية: في فرانكفورت: نحن ضيوف معرضها قبل سنوات قليلة: داخل مصعد الفندق الوسيع: تصادف أن كنّا وحدنا فيه: هبطنا: اتخذ الواحدُ منا لنفسه جانباً بمواجهة الآخر: مرحبا! مرحبا! وسألتني بما يقرب الخفوت: لماذا لا نلتقي ونحن نسكن في مدينة واحدة؟ وكان مني: يبدو أنّ المناسبة لم تحن بعد! فهززتَ رأسكَ كأنما توافق، أو تحاول، لكنك لم تنبس، وواصل المصعد هبوطه بنا.

لم أعد أذكر من منّا سبق الآخر في الخروج من المصعد، ذاك اليوم؛ فكلانا كان مهذباً. غير أني لستُ في حاجةٍ الى من يذكّرني بأن ليس كل من دخل المصعد سيغادره وفي روحه أثر الفراشة!

ولم تكن ثمة مناسبة؛ إذ ربح الموت كعادته!

الياس فركوح

* * *

سلامٌ عليك يا فتى الشعر النبيل !

هل حقّاً مات الذي قال: "ولنا ما ليس فيكم/ وطنٌ ينزف شعباً ينزف وطناً يصلح للنسيان أو للذاكرة"؟ كيف تركه هذا الوطن يرحل؟ الوطن الذي حملَ شعبا بأسره، شعبا ينزف أوطانا؟ هذا الوطن كيف يعجز عن حمل درويش كما حمل ملايين الأرواح والقلوب؟ وكيف سمح درويش للموت أن يهزمه هذه المرة؟ وهو الذي هزمَ الموت قبل أعوام مرتين. أليس هو القائل في "جداريته": "هزمتُك يا موتُ/ الفنون الجميلة جميعُها هزمتك/ سوف أكون ما سأصير في الفلك الأخير/ وكلُّ شيء أبيض/ البحر المعلَّق فوق سقف غمامةٍ بيضاءَ/ واللا شيء أبيض في سماء المطلق البيضاء/ كنتُ/ ولم أكن/ فأنا وحيدٌ في نواحي هذه الأبديّة البيضاء/ جئت قبيَل ميعادي:/ فلم يظهر ملاك واحد ليقولَ لي:/ "ماذا فعلتَ/ هناك/ في الدنيا؟". لو كان محمود درويش يدرك كم قلبا عربيا، من مثقفين وشعراء وقراء ومناضلين وقوميين، يتعلّق بقلبه الآن، وهو راقد في مشفاه "ميموريال هيرمان "في هيوستن بولاية تكساس بالجنوب الأميركي بين يدي أطبائه، ما مات. لو كان يدري كم روحا تتوجه الى السماء تصلي من أجله وتدعوه الى العودة فارسا للشعر النبيل، لهزمَ الموت مثلما هزمه من قبل في أواخر التسعينات في عملية قلب مفتوح مشابهة لما يمرّ بها الآن.

لكنه يعرف! ومات على رغم هذا! يعرف مكانته ومكانه. يعرف قامته في مدونة الشعر العربي، ومقامَه في قلوب الشعراء. يعرف كيف هزّت كلمته أركانَ الكنيست والمجتمع الصهيوني على نحو أشرسَ مما فعلت الرصاصات والمدافع. يعرف أن قصائدَه شحنت المناضلين بالطاقة وغذّت جيوبَهم بالذخيرة.

فلماذا مات؟ كيف لم يهزم الموت هذه المرة أيضا؟ كيف سمحَ للموت بأن يخطفه من بيننا فيما لا نزال نحتاج إليه احتياجَنا الشعر والهواء وجلاء المحتّل وعودة القدس؟ كيف للرجل أن يلملم أوراقه ويرحل هكذا سريعا قبل أن يرى العابرين بين الكلمات العابرة يحملون أسماءهم وينصرفون كما أمرهم أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا؟

وهذه الأرض قد أطلعته على أسرارها. "قالتْ لنا الأرض أسرارها الدموية/ في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمسُ بنات/ وقفن على باب مدرسة ابتدائية/ واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ/ افتتحن نشيد التراب/ دخلن العناق النهائي/ آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي/ ومن رقصة الفتيات/ البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات/ العصافير مدّت مناقيرها في اتجاه النشيد وقلبي/ أنا الأرض/ والأرض أنا/ خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل". فكيف يموت من دون ان يطلعنا على أسرار الأرض؟ كيف يخون وعدا قطعه على نفسه ألا يموت قبل أمه كي لا يفجعها فيه؟ كيف سيواجه ثكلها ودموعَها تسيل حارقةً فوق وجنتيها مع دموع ملايين ممن أحبوه وحفظوه في عقولهم وقلوبهم شعراً وإنسانا ومقاتلا أبيضَ اليدين؟ قال إنه يعشق عمره لأنه لو مات سيخجل من دمع أمه؟: "أحنُّ إلى خبزِ أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر فيَّ الطفولة/ يوماً على صدر يومٍ/ وأعشق عمري لأني إذا متُّ أخجل من دمع أمي/ خذيني أمي إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهدبك/ وغطي عظامي بعشب/ تعمّدَ من طهر كعبك/ وشدّي وثاقي/ بخصلة شعرٍ/ بخيطٍ يلوّح في ذيل ثوبك/ عساني أصير إلهاً/ إلهاً أصيرْ/ إذا ما لمستُ قرارة قلبكِ/ ضعيني إذا ما رجعتُ/ وقوداً بتنّور ناركِ/ وحبلَ غسيلٍ على سطحِ داركِ/ لأني فقدتُ الوقوف/ بدون صلاة نهارك/ هَرِمتُ فردّي نجومَ الطفولة/ حتى أشاركَ صغارَ العصافير دربَ الرجوع/ لعشِّ انتظارك".
عليكَ الشعر والسلام أيها الفارس الاستثنائيّ. وصلِّ من أجلنا أن تجودَ الأرض علينا بمثلك.

فاطمة ناعوت

* * *

العابر ترك دليل وجودنا

لرسول الموت أن يغتبط بما علق في شباكه، وللحياة أن تسخر؛ فمن وصل به إلى الشاطئ الآخر لا يتعدى ما وصل به سانتياغو، صياد همنغواي. سانتياغو كان في حاجة إلى الهيكل العظمي لسمكته العملاقة كي يثبت أنه لم يزل في كامل لياقته. ولم يكن رسول الموت المخادع القادر في حاجة إلى دليل جديد على قدرته، يستمده من الظفر بجسد محمود درويش المنمنم الهش. لكنها الحياة؛ حياتنا المشكوك في واقعيتها، كانت في حاجة إلى دليل، طالما وجدته في أثر العابر الذي راكم أدلة وجودنا عبر سنوات عمره. لكنه شاء أيضاً ألا يمضي من دون أن يؤكد لنا أننا أحياء، ولم يزل يعترينا ما يعتري الأحياء من مشاعر. كنا نتصور، من فرط ما متنا ورأينا من موت، أن زمن الإحساس بالحزن كألم عضوي قد انتهى، لكن رحيل درويش نبهنا إلى أن الموت، الذي صار عادياً، لم يزل في مقدوره أن يعضّ قلوبنا، وأن نتأكد من فرط الألم أنها لا تزال حية.مات درويش في زمن الهواتف النقالة، التي وفرت ديموقراطية الحزن، ومكّنت كلاً منا من الوصول إلى الصدور التي يحب أن يبكي عليها. وسيكون مدهشاً لو كانت هناك قوة في وسعها رسم خريطة المكالمات والرسائل النصية طوال يوم أول من أمس السبت: - محمود درويش في حالة حرجة. - يا ليت، لقد مات. - أعرف لكني أضحك على نفسي!

اكتشفنا أننا لا نزال نحزن، ولا نزال جمعاً، في وسعنا أن نتفق على قيمة في هذا الزمن الصعب، وفي وسع خسارة فرد أن تردع أنانيتنا التي لم ترتدع أمام تبدد أوطان، وخسارة مئات الآلاف من الأرواح. هذه هي عظمة الكتابة؛ بالأحرى عظمة الإخلاص للكتابة الذي لم ينفع درويش وحده، أن يصبح دليلاً على وجوده، بل صار دليلاً على وجودنا معه.

كان دليلاً على وجودنا، عندما كانت قصيدته صوتاً لشعبه، وصار دليلاً على وجودنا عندما صارت قصيدته صوتاً للإنسانية. خطبة الهندي الأحمر صارت فلسطينية أكثر من أحمد الزعتر. كلما أوغل درويش في مقاومة نزوع اختصاره في القضية الفلسطينية، صار فلسطينياً وعربياً أكثر وأكثر؛ فلغة تلد هذا الشاعر، هي لغة أحياء. ولسوف نحزن لأن الوسيم الهش لم يعد بيننا، ولسوف نغبط أنفسنا بكل ما سيعيش في ذاكرتنا من شعر كتبه ميتٌ لم يمت.

عزت القمحاوي

* * *

مات آخر الشعراء النجوم

فإن سقطتُ وكفّي رافعٌ علمي/ سيكتب الناس فوق القبر: لم يمتِ
منذ بدأ محمود درويش أغنيته الطويلة التي امتدت بطول عمره، منذ "أوراق الزيتون"، و"عاشق من فلسطين"، و"آخر الليل"، الى أن بلغ قمته "في حضرة الغياب" و"أثر الفراشة"، منذ توهجت حنجرته في قريته البروة وحتى تخشبت في المستشفى الأميركي محبوساً بين وجع القلب ووجع الشقاق الفلسطيني، حيث الطرفان وقد أصبح يخشى كليهما، وخصوصاً الطرف الذي يزعم أنه طرف الرب، منذ إقامته في وطنه، إقامته في قهوة أمه، منذ ريتا، منذ رحيله وانتقاله الى القاهرة، منذ احتفال القاهرة به، ثم احتفال بيروت، ثم بقية العواصم، بلوغاً الى احتفال حيفا التي قابلته وقالت له: "أنت منذ الآن أنت"، منذ كل هذه المدة، كل هذه الأوقات، منذ كل هذا الحب، ومحمود درويش يتجهز لأن يكون آخر الشعراء النجوم. سبقه نزار قباني وشغل هذا الكرسي، ولما مات شغله محمود باقتدار. لم تكن جائزة نوبل ستضيف اليه الكثير، فهو يملك كل المؤهلات اللازمة لأن يكون آخر الشعراء النجوم. كان يملك وسامته واعتزازه بنفسه، وذكاءه، وغرام جمهوره به، وعدم ترخصه، يملك قلوب النساء وعدالتهن في محبته، من دون منافسة، من دون غيرة. كان يملك القدرة على ضبط المسافة بينه وبين كل الآخرين، بشراً عاديين وبشراً في السلطة، شعراء وغير شعراء. كان يملك فوق ذلك كله قضيته، التي ظلت قضيتنا منذ ولدنا، الأصح قبل أن نولد، وستظل قضيتنا الى أن نموت، الأصح بعد أن نموت. كان الوحيد الذي يملك أن يكون عندنا مثلما هو نيرودا وناظم حكمت عند غيرنا. كان يملك شهوة أبي الطيب، وقدرته على مصاحبة سيف الدولة الجديد، على مصاحبة زعيمه، وعلى الإيمان به، وقدرته على بكائه يوم وفاته. كان محشمود يملشك الصوت وملكاته غير المختلف عليها، ملكاته في معاشرة اللغة وملاطفتها واصطياد اجمل مخلوقاتها، ملكاته في معاشرة الموسيقى وملاطفتها والتغرير بها إذا أمكن. استطاع محمود أن يصبح شاعراً ورمزاً، شاعراً كبيراً ومعنى، شارعاً وطابع بريد، بيتاً وحديقة، وطناً مفقوداً ووطناً نحلم باستعادته. كما رفع رجاء النقاش النقاب عن وجه محمود وعن شعره، كان يفعل ما يفعله العراق لشاعر رأى أنه سيكون آخر النجوم. في أكثر من عشرين ديواناً وأربعة كتب نثر، كشف محمود درويش عمق اتصاله الدائم والدعوب بما سبق، بما يحدث حوله، الذي هنا والذي هناك، بما يكتبه الشبان الموهوبون، وبما سيكتبه الشبان الأغوات، بتجاربهم كلها على رغم الاختلاف. لم يحاربهم كشعراء قصيدة نثر، ولكنه صحح لنا ولهم خطأ ما يشاع بيننا عن أن الانسان يركب الحياة بشبابه. دلّنا على أن الحياة هي التي تركبه في شبابه، وتركض به من غير أن يكون له رأي أو إرادة، ولا يركب الحياة بالرأي والإرادة إلا صاحب تجربة، أو صاحب معارف. في آخرة أيامه أدرك أن القصيدة التي تحكي عن النضال هي أضعف قصائد النضال. أن القصيدة تناضل فقط بإنسانيتها، بفضائها المفتوح، ببساطتها وطزاجتها، بالجديد فيها. ان القصيدة بخفتها تناضل أكثر. في آخرة أيامه كتب "أثر الفراشة" فانتصر على نصوص كثيرة في عصر الرجال الجوف، نصوص كانت تدعي عليه وتطعن فيه وتزعم أنها تناهضه.

مات محمود درويش. المؤسف أنه مات في أميركا. كنت أتمنى أن يموت في مكان آخر. مات وبودي أن يمتد به الأجل الى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الموت المعادي، هذا الموت المؤكد. في كل الفنون يوجد الفنان الخالص وإن بقلة، ويوجد النجم الخالص الخالي من الفن وإن بكثرة، بينما الندرة تكون من نصيب الفنان النجم، ومحمود درويش في ميدان الشعر آخر هؤلاء. لذا تبدو خسارتنا فيه فادحة، لأنه كان الجسر العظيم بين الشعر والجمهور العام، وبعده إما أن نفقد هذا الجسر، ولن نفقده، وإما أن يقيمه نجوم بغير شعر ويساهمون في صناعة ذائقة ضحلة مريضة، نرى منذ الآن بعض ملامحها في الفنون كافة.

موت محمود درويش سوف تستثمره جماعات ومؤسسات وأنظمة الجدير بها أن تكرهه، لأنه خصمها في العمق. لكنه ما دام قد تصالح معها في الحياة أحياناً، ما دام قد قبل جوائزها في الحياة أحياناً، فإنها سوف تستثمر موته بوقاحة ومن دون شفقة. مات محمود درويش، الدمعة الأولى التي سننزفها عليه، أظنها تمتلئ بأحلامه التي لم تتحقق. الدمعة الثانية أظنها تتسخ بأنفاس هؤلاء المتعصبين الدينيين الذين ظل محمود كرمز كبير يمنعهم من تمام الزعامة والقيادة وتحديد المساء. مات محمود درويش كأنه شخص ضائع، كأنه المتنبي، كأنه الهواء القليل، كأنه بعض إله، وسنندبه مع الندّابة: راح يبغي نجوةً من هلاكٍ فهلك، والمنايا رصّدٌ للفتى حيث سلك، كل شيء قاتلٌ حين تلقى أجلك.

عبد المنعم رمضان

* * *

سأعوّد نفسي على غيابك

لن أراك بعد الآن يا صديقي. لن أحظى بطلّتك عليَّ مبتسما بكامل أناقتك، وأنت تفتح لي الباب. فأسألك هل أنت خارج إلى موعد، فتقول: لا، أريد أن أستقبلك. لن أشرب بعد اليوم قهوتك التي لم أشرب مثلها في أي مكان. لن أرى عينيك الذكيتين، أو أسمع مناكفاتك وتعليقاتك السريعة الخاطفة التي تبلغ جوهر المسألة من دون كبير عناء. لن أتحفظ في إجاباتي وأسئلتي حتى لا أقع فريسة حضور بديهتك. كنتَ في الشهور الأخيرة مهموما بفكرة العمر، تهجس بالموت في كل حديث، في كل مهاتفة، وكأنك تعدّ نفسك للموت الذي قلت له في جداريتك "هزمتك يا موت". كأنك كنت تريد مصالحته بعد خصام ليأتي سريعا وينهب روحك التي تعبت من هذا الصراع الطويل الطويل على أرض بقّعها الدم ومزّقها الخصام.

كنت تقول لي إنك تحمل في صدرك قنبلة موقوتة، ولكنك تعيش هكذا أياما، شهورا، لا تدري ما تفعل بشرايينك الضعيفة التي ورثتها عن أبيك. لم يورثك وإخوتك إلا شرايينه الضعيفة. لكنك كنت تخاف إذا أجريت العملية أن يصيبك الشلل، ولم تكن مستعدا (وأنت الشخص الأنوف الذي يعتمد على نفسه في كل شيء، يصنع قهوته لنفسه وأصدقائه، يعدّ طعامه بنفسه في كثير من الأحيان) أن تصبح عالة على غيرك. هل اخترت الموت إذاً أم أنه هو الذي اختارك في غفلة منا نحن الذين شجّعناك على ضرورة أن تجري تلك العملية الدقيقة التي أخذتك منا؟

هكذا إذاً، رحل محمود درويش فجأة من دون أن ينبهنا. هكذا من دون أي إنذار ولا تلويحة وداع، من دون ابتسامته العذبة التي تلوح من بعيد، وطوله الفارع يكاد ينحني على قلبه وشرايينه الضعيفة التي رققتها حوادث الأيام والانكسارات الكثيرة التي أكلت أيامه وأيامنا. رحل وهو في عنفوانه وشبابه وقمة تألقه ونضجه الإبداعيين، في ذروة حماسته واندفاعه الى الكتابة والتجريب ودخول معارج جديدة في الخلق وابتكار الأشكال والطرق والأساليب. لم يصب الهرم روحه ولا كتابته. كان في السنوات الأخيرة وكأنه يبدأ الكتابة من جديد شابا في العشرين من العمر يفتش عن لغته وفكرته وسط آلاف اللغات والأفكار. كان يزوّج النثر للشعر والشعر للنثر، يقرّب بين فلسطين واليومي، بين الحكايات الكبرى للعرب والفلسطينيين ومقاطع مختارة من سيرته الذاتية ليكتشف الكوني فيه وفينا، والعادي في القضية. كان يخفض من إيقاع قصائده الأخيرة لتتناسب ومنحنى الحكاية الفلسطينية التي صعد بها حصان شعره شاقاً الآفاق نحو جهات الأرض الأربع ليصبح شعره اسما حركيا لفلسطين. فهل كان اندفاعه وحماسته المتقدان للكتابة خلال الشهور الأخيرة إحساسا بقرب النهاية، بدبيب الموت يسري من شرايينه الضعيفة إلى أنحاء جسده؟ لقد استشرف النهاية، لا بل رآها مقبلة من داخله، من شرايينه الضعيفة التي غدرت به وهو في أوج عطائه. وداعا يا صديقي، لن أكحل عيني بمرآك. سأعوّد نفسي على غيابك.

فخري صالح

النهار
12 اغسطس 2008

يتبع