بول شاوول

غازي القصيبيرحيل الشاعر والكاتب والوزير السعودي غازي القصيبي خسارة كبيرة للأدب السعودي والعربي باعتباره أحد الموفقين بين الحساسيتين الحديثة والموروثة في الشعر العربي المعاصر. وقد دافع عن المعطيات التجديدية ضمن الحدود التي يؤمن بها سواء في الرواية أو القصيدة أو القصة. دائماً بين عالمين يجمعهما جمع المبدع، وبين تناقضات والانعطافات غير الحادة، بين عوالم الكتابة والمسؤوليات الإدارية والوزارية والأفكار والمقاربات التنموية والاجتماعية والإدارية: جامع الماء والصلب، جامع الواقع اليومي والوظيفي والعالم الشعري. ولكن وفي مختلف هذه الأمور كان الشاعر والكاتب هو الفيصل وهو الحاسم، سواء باستمراره في إصدار دواوينه ونتاجاته القصصية والروائية، أو من خلال تعاطيه مع الأمور الأخرى، شفافية المسؤول السياسي وشفافية الكاتب، شفافية الناقد والمعلق وصائغ المقالة والموقف وحلم الإنسان الخاص. وهي معادلة ليست بالسهلة؛ كأن يقول قائل إن الوظيفة المسؤولة كالوزارة أو السفارة.. من شأنها أن تجفف التجارب الداخلية أو الكتابية، أو أن تقطرها بالتزامها المباشر أو بإلزامياتها المحافظة. هذا القول قد ينطبق على العديد من الكتاب الذين "التهمتهم" المهنة أو الوظيفة أو المنصب، ولكنها ليست قاعدة باعتبار إن شعراء وكتاباً كباراً تسلموا مناصب ومهام وزارية ووظيفية في الإدارات والسفارات كعمر أبو ريشة ونزار قباني وكذلك حديثاَ الشاعر المغربي محمد الأشعري الذي تولى وزارة الثقافة وقبله الفنانة ثريا جبران وكذلك الفنان المصري فاروق حسني والشاعر السوري علي عبد الكريم سفيراً لسوريا في لبنان ولا ننسى بعض كبار الشعراء العالميين كبول كلوديل (عُيّن سفيراً) ومثله سان جون برس، وقبلهما لامارتين وغوته (وزير في عدة وزارات)..

الكاتب الراحل القصيبي (مواليد 1940) ينتمي إلى هؤلاء الذين لم تحجب وظائفهم لا مواهبهم ولا عطاءاتهم ولا حيويتهم ولا روح المبادرة والتجديد. فهو خاض كشاعر السياسة والوزارة والسفارة والتنمية والإدارات. خاض كشاعر ينظر إلى كل هذه العوالم المختلفة نظرة توحيدية كشاعر وكإنساني: أي انه في مزجه الخاص بالعالم تغلب الخاص. وفي توليه المهام "الجماعية" (كالتي تخدم الناس) تغلب الفرد بكل التفرد، وفي نظرته إلى التنمية ربط الفكرة الواقعية العلمية بأفق التقدم وفي تنكبه المواقف السياسية أو الوطنية تنكّبها كشاعر ملتزم بالقضايا التزامه بالشعر.

هذا الكاتب المتعدد الذي رحل في عز عطائه، وتدفقه، خَلَّف حزناً وأسفاً وراءه، كما خلَّف أثراً دامغاً من دواوين وكتابات وأقاصيص وكتب اجتماعية وتنموية وخلّف كذلك فراغاً أدبياً ملموساً. ولكن ما دام هذا الشاعر كان من المدشنين المعروفين للقصيدة السعودية الحديثة، ومن مخترقي بعض الالتزامات المتصلة بالدوافع ومن المقتحمين للشعر الحداثي من الباب الكلاسيكي، والمقدمين الكلاسيكي من الباب التحديثي، فإن هذه المعادلة أعطت ثماراً، وأزهاراً في السعودية والخليج، كإشارات واضحة من نوافذ مفتوحة على التطور والتجاوز.

المستقبل
الثلاثاء 17 آب 2010 - العدد 3743

* * *

غازي القصيبي رحل

وخلّف فراغاً في الشعر السعودي

كان غازي القصيبي الذي توفي قبل يومين في السعودية شاعراً وكاتباً ووزيراً ومسؤولاً، حالة خاصة في الأدب السعودي، حالة تتنوع بين الهموم العامة، والهموم الشعرية والنقدية والفكرية في سيرة غنية بالتجارب، وثرية بالمواقف الاستثنائية. فالقصيبي انحاز إلى التحديث الأدبي من ضمن التراث، وقارب التراث من باب التحديث على تخوم واضحة ومحددة وإن ملتبسة في بعض نصوصها، بحيث تعانق هنا "المغامرة" الحداثية المحسوبة أحياناً وتعانق الفضاء الكلاسيكي أحياناً، سواء بالعمودي أو باعتماد التفعيلة. واللافت أن هذا الانحياز الخاص بين الكلاسيكي والتحديثي ليس غريباً عن الانحياز إلى المواقف النقدية الاجتماعية أو الحكومية، من خلال "قصائد" أثارت جدلاً أم مقالات حركت سجالاً. كأنما التزامه الواقع السعودي لم يعن تخليه عن "الهوامش" الضرورية لكل فنان أو شاعر أياً كان حجم هذه الهوامش وظروفه. وعلى امتداد المناصب الوزارية والثقافية التي شغلها وهي عديدة، كان الشاعر هو الغالب سواء في إبقائه على الحيز الشعري في نتاجه القصصي أو النقدي أو في رؤيته المتقدمة لبعض أصول الاقتراب من السلطة فلا يكون صاحبها أحادياً، وإنما على انفتاح على كل جديد.
فقد الشعر السعودي كبيراً من شعرائه، والعرب واحداً من أهل التحديث والتجديد ومدافعاً عن القيم الثقافية العالية.

سيرة وأعمال

مناصبه

  • أستاذ مساعد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود في الرياض (1965)
  • عميد كلية العلوم الإدارية بجامة الملك سعود (1971)
  • وزير الصناعة والكهرباء (1976)
  • سفير السعودية لدى البحرين (1984)
  • سفير السعودية لدى بريطانيا (1992)
  • وزير العمل (2005)

نتاجه

(رواية وقصص)

"شقة الحرية" و"وتسكو" و"أبو شلاغ البرمائي" و"العصفورية" و"سبعة" و"سعادة السفير" و"الجبنة" وأخيراً "الزهايمر" عن دار بيسان، بيروت.

شعره

  • "معركة بلا راية"
  • أشعار من جزائر اللؤلؤ
  • وللشهداء
  • "سحيم" ، "الأشبح"، "اللون عن الأوراد" و"حديقة الغروب".

تنمية وسياسة

وله مؤلفات في التنمية والسياسة والتاريخ منها "التنمية والأسئلة الكبرى" و"عن هذا وذاك" و"باي باي لندن ومقالات أخرى" و"الأسطورة ديانا" و"من أقوالي المأثورة" و"ثورة في السنة النبوية" و"حتى لا تكون فتنة".

المستقبل
الثلاثاء 17 آب 2010 - العدد 3743 - ثقافة و فنون

* * *

الديوان الذي باغت القصيبي به نفسه!

شوقي بزيع

غازي القصيبيلم يسبق لي أن تعرفت إلى الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي معرفة شخصية ولا شاءت الصدف ان ألتقي به ولو مرة واحدة خلال ملتقيات الشعر العربي ومهرجاناته. لكن ذلك لم يكن ليمنعني بأي حال من قراءة الكثير من مجموعاته ومؤلفاته الشعرية والأدبية التي ظلت تحتفظ لنفسها بنكهة مميزة هي أقرب الى الرشاقة والرقة والهم الجمالي منها الى الشعرية المتصلة بالكدح الذهني والمعادلات العقلية والفلسفية. لقد بدا الشعر في معظم أعمال القصيبي محاولة دائبة لجعل الحياة أكثر خفة وقابلية لأن تعاش في عالم القسوة والفظاظة وخراب القيم. وهو قد توسل لتحقيق ذلك لغة شفافة وآهلة بالإيقاعات والقوافي المتناغمة مع حاجة الشاعر الى الفرح والاستكانة ومعابثة العالم. وكانت لغته اللينة وتلويناته الصورية والصوتية تقربه الى حد بعيد من مناخات الكتابة «الشامية» التي تجمع بين طراوة نزار قباني وحسينة الكرنفالية الشهوانية من جهة وبين المدرسة الجمالية اللبنانية التي تحتفي باللغة المصقولة وأناقة التعبير وتوشيته من جهة أخرى.

تقع تجربة غازي القصيبي، بشقيها الخليلي والتفعيلي، في خانة ما يمكن تسميته بالكلاسيكية الجديدة. لذلك ظلت علاقته بشعراء الحداثة ملتبسة ومحكومة بالتوجس المتبادل. ومع ذلك، فإن قلة من الشعراء والمتابعين قد انتبهوا الى النقلة المفاجئة وغير المتوقعة التي حققها الشاعر من خلال مجموعته الاستثنائية «سحيم» التي أطلقت شاعريته، المحافظة نسبياً، من عقالها ووضعتها في قلب الحداثة الشعرية العربية. فنحن هنا امام عمل شعري شديد التكامل والتنوع والتناغم بين عناصره. ذلك ان الشاعر استطاع من جهة ان يطلق قصة سحيم، عبد بني الحسحاس، الذي عُرف بفحولته وجاذبيته النسائية وسطوته على النساء البيضاوات، من إطارها الزمني الظرفي الى فضاء المطلق ورحابته. انها المعادل الآخر لقصة عنتر العبسي سوى ان سحيم لم يقسم فحولته بين النساء والسيوف ولم يتعرف إلى لمعان ثغورهن بل من خلال المغامرات العاطفية المشبوبة التي جعلته لا يرتضي بامرأة واحدة. انه مزيج من عنترة وعمر بن ابي ربيعة، من الانتقام للسواد المهان عند الأول ومن الوصف الحسي وتلمس السعادة عبر الجسد الأنثوي المتكرر الظلال عند الثاني.

غير ان بيت القصيد في هذه المجموعة ليست القصة او الفكرة وحدها بل ذلك الانسياب الشعري الذي يتدافع كالنهر من أول الحكاية حتى آخرها ومن مقطع الى مقطع. ثمة تداخل في الأصوات والأزمنة والضمائر بقدر ما تتداخل الرؤى والأطياف والمشاعر المتناقضة والملتبسة، وبقدر ما تتداخل ايضاً ابيات سحيم بسطور القصيبي ووجدانه بوجدانه والأنا الأولى بالأنا الثانية في عملية تماهٍ نادرة. في هذه المجموعة تتحد الأضداد وتتصارع الخيارات فوق سطح واحد: الخير والشر، الجسد والروح، الذكورة والأنوثة والحرية والاستعباد:

«أنا عبد وحرُّ/ سميّة كانت مليكة كل النساء/ وكنت أنا العبد، كنت/ مليك جميع الرجال/ وحين اعتنقنا تصادم ليلٌ وفجرُ/ وفي الانفجار تحوّلت الأرض عرساً/ وجاء الشهود».

وكما الرؤية والمعنى كذلك اللغة والأسلوب والجسد البلاغي للنص. فالشاعر الذي يسلم القياد للتداعي العفوي في السرد واللفظ والتقفية يعمد أحياناً الى استخدام مهاراته البلاغية من خلال الطباق والجناس والإحالة والتناظر. لكن ذلك يأتي بلا كلفة ولا افتعال لا بل انه يصب في خدمة المعنى وتطوير الدلالة، كما هو في المقطع التالي الذي يلعب فيه الشاعر، عبر قناعه التاريخي، على اسم «سمية» واشتقاقاته الكثيرة والمؤثرة بما يخدم المعنى والقصد من ناحية ويخلق من خلال تكرار الحروف الصوتية مناخاً موسيقياً بالغ الجمال من جهة أخرى:

وأهمية مثل هذه النصوص انها لا تنجح في الإفلات من الآثار الجانبية السلبية للمحسنات البديعية والتزيين البلاغي والمهارات اللفظية فحسب بل انها تنجح في تطويع الشكل وترشيقه. بما يتلاءم مع طبيعة الموقف المعبَّر عنه والمعنى المراد إيصاله الى القارئ. كما ان تكرار حرف السين، وهو حرف صوتي بامتياز، يحول الشعر هنا الى نوع من الزقزقة التي تشبه زقزقة العصافير، والتي تتوافق أتم التوافق مع حالة العشق والوله التي يعبر عنها القصيبي بلسان بطله الذي يعرف كيف يتلاعب عن طريق اللغة بمشاعر النساء وعواطفهن. فالقصيبي يعرف بحسه الذكوري وخبرته العاطفية وحساسيته الشعرية المفرطة ان اللغة هي إحدى المفاتيح الأكثر نجاعة وفاعلية لولوج قلب المرأة والاستحواذ على إعجابها ولأنه يتقاسم مع سحيم افتتانه بالنساء وباللغة على حد سواء فهو يحول بطله «الاستشهادي» الى قناع له ويحمله بالتالي كل ما يختزنه في داخله من لواعج وشجون إزاء النساء اللواتي أحبهن واللواتي يتحولن الى ظلال متعددة لروح الانوثة الابدية التي تجرنا وراءها، كما يقول الشاعر الألماني غوته. وليس من الغرابة تبعاً لذلك أن تتعدد أسماء الحبيبات المقصودات بالخطاب بين سمية وأسماء وعميرة ومي وهند وبثينة وغيرهن فيما يحافظ الخطاب الشعري على وتيرته الساخنة والقلب على توتره وخفقانه. وحين يخطئ سحيم من دون قصد في تسمية احدى عشيقاته التي تسارع الى لومه ومعاتبته يقول لها: «أنا، هند، عبد الجميلات/أصبو لكل الجميلات/ لكن بعض الجميلات يعبرن مثل السحابة/ بعض الجميلات يرسخن في الروح كالنخل...».
ثمة في ديوان «سحيم» ما يظهر معرفة الشاعر العميقة بعلم النفس وبالكثير من وجوه التحليل النفسي لشخصية سحيم كما للشخصيات الأخرى. فسحيم لا يجد ما يرد به على استعباده من قبل بني الحسحاس كما على سواد لونه سوى شعوره العارم بفحولة طاغية لا يمتلكها أسياده المترهلون من الترف، لذلك فإن اندفاعه الشهواني الأهوج يجيء انتقاماً من هؤلاء الاسياد المستبدين من جهة وهجوماً على الحياة الجائرة التي حرمته من حقوقه الانسانية المختلفة من جهة أخرى. كأن سحيماً هنا يواجه سلطة المجتمع الاستبدادي والعنصري عبر سلطتين اثنتين توفرتا له في آن هما سلطة اللغة والجسد الفتي، وكلاهما معاً ضرب من ضروب الفحولة.

أما الوجه الآخر للتحليل النفسي فيظهر من خلال افتتان نساء بني الحسحاس بعبد قبيلتهن الأسود متجاوزات عقدة التفوق الاجتماعي وعقدة اللون والوسامة والشكل. فالنساء اللواتي افتتن بسحيم لم يفعلن ذلك بسبب وسامته النادرة، كما الحال بالنسبة لزليخة ويوسف النبي، بل لسبب معاكس تماماً ومتصل بجمال القبح، إذا جاز التعبير، حيث ينجح هذا الأخير في استثارة الغرائز الفطرية والشهوات غير المروضة. وهذه الظاهرة يتكرر التعبير عنها في الآداب العالمية المختلفة حيث يتكفل كل من الشهوة والحب في ازالة الفوارق بين الطبقات والأعراق والأعمار. اضافة الى مسالة أخرى تتعلق بما يمكن أن نسميه «حسن الغريب». فالعادة عدوة الجمال، كما يقول بعض المفكرين، لأنها تفسده بالتكرار والرتابة الباعثين على الضجر، في حين أن الغريب والوافد يحتفظ بسحره الخاص الناجم عن الغموض والمباغتة والفضول. وهو ما نرى نظائره في «ألف ليلة وليلة» حيث النساء، كما المدن، يسلسن قيادهن وزمام أمورهن للغريب الوافد.

ثمة بعد قدري في شخصية سحيم، كما يرسمها بنجاح غازي القصيبي، حيث يبدو البطل مشدوداً الى مصيره المأسوي من دون إبطاء وحيث تقوم علاقة ثنائية جدلية بين الحب والموت وبين الشهوة والألم، وهو ما يظهر في غير موقع من الديوان. فحين تطلب أم سحيم من ابنها أن يعلن ندمه وتوبته يرفض الأمر لأنه يرفض أن يخون معنى حياته الموزع بالتساوي بين الشعر والغيد، وفق تعبير الشاعر. وإذ تبدي أم الشاعر خوفها عليه من الاغتيال والقتل يتساءل مندهشاً: «أموت؟ متى خفت من ضمة الموت؟!»، بما يجعل شخصية البطل تراجيدية بامتياز وقريبة من التراجيديا الإغريقية أو الشكسبيرية. لكنه في أي حال ليس وحيداً على جلجلة الحب القاتلة تلك بل ثمة كثيرون في صحراء العرب شاركوه ذلك المصير الفاجع بدءاً من العذريين الذين قادهم الحب الى الجنون والعزلة والهلاك ووصولاً الى وضاح اليمن الذي دفنه الوليد بن عبدالملك حياً في أقبية قصره بعد أن استشعر خيانته له.

يبقى القول أخيراً بأن غازي القصيبي في ديوانه «سحيم» قد ترك لنا ولقرائه جميعاً أحد أجمل دواوين الشعر العربي المعاصر. لكن هذا الديوان لم يكن مأثرة الشاعر فحسب بل كان مأزقه وتحديه ورهانه الأهم على مواجهة الموت.

***

غازي القصيبي أيقونة الخلود

طفول العقبي - لندن

مغويةٌ هي الحياة!
تترك لنا تلك المساحة من السراب اللا متناهي، نركض في دهاليزه، نشرب من ينبوعه، يتعاقبنا نهاره وليله. لا نشعر بأن عجلة الحياة ستقف يوماً أو على حين غرّةٍ، هكذا من دون مقدماتٍ ولا مبررات!
في صباح الخامس من رمضان ضجّ رنين هاتفي بترنيماتِ حزنٍ مفاجئة! مخيفٌ أن تشعر بأن الغياب غيابٌ أبديٌ وليس موقتاً تماماً كما نتمنى أو كما يمنينا الأمل!
تمر أمامي صورٌ مختلفة! تختلط ثم تنطلق في الفضاء وتتناثر كنجومٍ مشعة كقناديلَ مشتعلةٍ، كأكاليلَ من العوسجِ والياسمين.
غازي القصيبي عرّابي وأبي الروحي، هذا الإسم الذي يحمل في ثناياه جزراً من اللؤلؤ وعناقيدَ من التجارب المميزة التي تتدلى اليوم فوق عرش نعشه مشكِّلة أيقونةَ الخلود.
لا أعرف من أين لي أن أبدأ وكيف سأنتهي! وأنا أقف حائرة أمام المشهد، أحاول أن أطرد تلك الغيوم الملبّدة فوق عيني.
غازي القصيبي تلك القامة الفارهة، وذلك الغصن العنيد في خضرته. غازي القصيبي رجل الإدارة المحنّك، السياسي غير المسيّس، الشاعر العذب، الطفل الشقي، الشاب المتمرد، الصديق الحاضر، الجار السخي، والمستقبل الذي نحلم أن يكون.

أطالع الصحف وتتردد أمامي كلمة رحل ورحيل. تربكني هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى أبدي وقاسٍ للغياب. أهرع إلى مكتبتي التي تصطف في الجزء العلوي منها كتب غازي، شعراً ونثراً فكراً وأدباً، كانت كل تلك الإهداءات المميزة باسمي بمثابة أجنحة للحلم، أعماله الناجحة التي جعلتني أبكي أحياناً وأضحك بصوت عالٍ أحياناً أخرى تطل عليّ من نوافذه المشرَعة من بين أغلفة كتبه المفزوعة اليوم، شعرت بأن أيدي غازي الكثيرة امتدت إليّ وربتَت على كتفي. حينها تأكدت أن غازي لم يرحل ولن يرحل، هو باقٍ فينا، يعلمنا ويخجلنا بمواقفه وتجاربه التي لم يتركها لنفسه بل أشرك بها أجيالاً وأجيالاً.
كشريط سينمائي تمر أمامي صورُ غازي القصيبي. أتذكره عندما تسلّم وزارة العمل وزيراً «كووول» يلبس الجينز والقبعة الشبابية، وبضحكته المجلجلة يشارك الشباب العمل بعفوية فنان واستراتيجية إداري يطمح أن يغير الوطن للأفضل.

أتذكره في تلك المقابلة الفذّة له مع كوثر البشراوي على قناة MBC أواخر التسعينات حينها وعلى رغم صغري العمري هتفت من أعماقي بصوت عالٍ لا بد أن أقابل هذا الشاعر الساحر. وقد ظننت أن تلك الأمنية الطفلة ضاعت وسط ضحكات أسرتي من أمنيتي لحظتها واحمرار وجهي. غير أنه لا يلبث أن يشاء القدر فتشرق شمس غازي على عالمي بسخاء، كان ذلك قبل أقل من عامين، كنت أحاول أن ألمح تلك الخلطة الساحرة التي تمتع بها غازي وهو يسألني عن أحلام الشباب وأمانينا للوطن وللمستقبل. كان يستمع إليّ بحنوّ أبٍ، بخشوع راهبٍ، وبإنصات صديقٍ. واليوم وأنا أشهد عبَرات العصافير وبكاء السماء لرحيله، تحيط بي صور غازي المتعددة وتطل على أفقي من جديد، ستظل رسالته لي عن كتابي الأول «طفولة سعودية» مدخراً ملهماً، وسيظل مداد القلم الذي أهداني مشكاة ضوءٍ لا ينضب.
لم يعبر غازي الحياة ليرحل! عبر غازي الحياة ليبقى يحيي بداخلنا الأمل بالأمس واليوم وغداً.

الاربعاء, 18 أغسطس 2010

* * *

وغربت حياة غازى القصيبي.. الرجل القضية!

علي محمد الرابغي

سيظل غازي القصيبي الابن البار لهذا الوطن.. الذي من حقه أن يفاخر بأبنائه من أمثال غازي القصيبي الذين تبوأ مكانة سامقة.. وكان غازي بحق الرجل القضية.. ذلك (الحجر) الذي يحرك رواكد البحيرات الساكنة.
عرفت غازي القصيبي إنسانا يفيض نبلا وحبا وذكاء وإشعاعا.. كالمعدن الثمين الغالي وقد كان كذلك.. كان كلما لقينى لا تهدأ عبارته المؤطرة برقة التعبير (أهلا يا أستاذنا) وما أكثرهم أساتذة غازي القصيبي.. وهو يرى الناس دائما بعين طبعه ويصدر عن كنز من المعرفة والمحبة والشموخ.. كان رائعا ومبدعا ونبيلا بكل ما تعني هذه الكلمة.. وكان وطنيا حتى النخاع.. تمرس فى العمل الحكومي تدفع به الثقة الكريمة من كل الملوك الذين عمل تحت مظلتهم.. وزيرا للصناعة والكهرباء ووزيرا للصحة وللمياه وللعمل.. كان غازي القصيبى (السهل الممتنع)، نعم كان قريبا من كل الناس يتعامل مع كبيرهم وصغيرهم.. يشقى بهمومهم ويلتقي بآمالهم.. تلقيت منه رسالة عندما كان وزيرا للصحة يعلق فيها على مقالة لي عن استثمار الأجانب فى مستشفيات الدولة.. والذي يحرم منه المواطنون أتتني الرسالة ترف رفا.

غازي القصيبي المبدع الفنان الموهوب:

يخطئ كثيرا من يجرد غازي القصيبي من شرنقة الإيمان وعلاقته بربه ثم بوطنه.. غازي القصيبي.. يمتلئ إهابه إيمانا بربه وحبا يغطي كل الوطن ومواطنيه.. ماذا أقول.. ماذا أدع.. فغازي القصيبي حديقة غناء.. غازي القصيبي ديوان مليء بالعبر والحكم وبالإبداع وبالأخبار وبالتناقضات.. غازي باقة من كل هذه، ولكن ما يميزه هو أنه قادر على صياغة المعاني فى روعة وإبداع لا يمتلك هذه القدرة سوى الندرة من الذين آتاهم الله قوة البيان وسحره.. ملأ غازي الدنيا طولا وعرضا وذاع صيته فى الداخل والخارج.. فرض نفسه وارتفعت قامته وهامته تيها وشموخا وكبرياء كان جديرا به.. نعم جمع غازي فى قصيدته حديقة الغروب حياته المكتظة المليئة بالعطاءات المثمرة وجسد من خلالها تجربته كإنسان بعد أن أدركه مرض الموت يقول:

هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيت.. مرعى خريف جائع ضار
الطير هاجر.. والأغصان شاحبة
والورد أطرق يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقها تلقاك أخباري

ويجسد عمق حبه لبلاده قائلا:

ويا بلاداً نذرت العمر.. زهرته
لعزها!.. دمت!.. إني حان إبحاري
تركت بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئك المسحورِ.. أسماري
إن ساءلوك فقولي: لم أبع قلمي
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيت.. فقولي: لم يكن بطلا
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري

رحمك الله ياغازى فقد كنت طفلا ومحبوبا وقيثارة تجسد معاناة المعدمين والمسحوقين.. لم تنسهم فى غمرة مسؤولياتك.. وحياتك المشتعلة زهوا وإعجابا من الكثيرين.. مسؤولين وقراء ومحبين.. ويجيب غازى القصيبي على تساؤلات الكثيرين ممن يشككون فى إيمان هذا الرجل من الذين يظلمون الحقيقة كثيرا.. تأخذهم المظاهر وما يطفو على السطح.. يتجلى غازي فى مناجاة ربه قائلا:

يا عالم الغيب! ذنبي أنت تعرفه
وأنت تعلم إعلاني.. وإسراري
وأنت أدرى بإيمانٍ مننت به
علي.. ما خدشته كل أوزاري
أحببت لقياك.. حسن الظن يشفع لي
أيرتجى العفو إلا عند غفار؟

رائع أنت يا غازى.. مؤمن أنت يا غازى.. وهنيئا لك بأن تلقى ربك بهذه الشفافية وهذا التجلي وهذا الارتقاء فى معرفة ربك.
رحمك الله أبا سهيل وأسكنك فسيح جناته.. وللوطن ولمواطنيه ولأسرته الصغيرة والكبيرة كل العزاء فى فقدان علم من أعلام هذا الوطن.. لقد ارتحل غازى من دنيانا فى صمت وفى هدوء بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا وحراكا مبدعا.. وشغل الناس وأسهم فى كل المناسبات.. كان ترجمانا لمشاعر الإنسان المقهور فى هذا الوطن العربي الكبير من الخليج إلى المحيط.. لم يغادر مناسبة دامية إلا وجسدها بحبر دمه.. كان غازى الرجل القضية بحق.. ومع إيماننا بقضاء الله وقدره.. إلا أننا من حقنا أن نقول.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا غازي لمحزونون.
وحسبي الله ونعم الوكيل.

عكاظ
18-8-2010

* * *

من غازي .. إلى المسؤولين حمود أبو طالب

د. حمود أبو طالب

كم أتمنى أن يتأمل المسؤولون جيدا ما فجره رحيل غازي القصيبي من مشاعر في نفوس الناس بمختلف شرائحهم وثقافاتهم واهتمامتهم.. كم أتمنى عليهم أن يتمعنوا جيدا في دفق هذه المشاعر، ليس فقط المكتوبة في الصحف، بل التي يعبر عنها الناس في كل مكان..

نحن اليوم لا نتحدث عن غازي القصيبي الأديب والمفكر والفنان والشاعر، وإنما نتحدث عن غازي القصيبي (المسؤول)، والدرس البليغ الذي يحسن بكل مسؤول أن يستوعبه وهو يسمع ما يردده المجتمع من سيرة غازي في كل مواقع المسؤولية التي أدارها.. لقد كان غازي يعطي دروسا بليغة في حياته، وها هو يعطي درسا أبلغ عند رحيله..
تأملوا، أيها السادة المسؤولون، ما يمكن أن يتركه المسؤول بعد رحيله.. تأملوا كيف رحل كثيرون بصمت، كيف تلاشوا من الذاكرة سريعا بعد نشر خبر رحيلهم، وتأملوا في المقابل كيف سيبقى غازي القصيبي خالدا في الذاكرة.. وإذا حاولتم أن تسألوا: لماذا، ستجدون الإجابة حاضرة وبسيطة ومباشرة وواضحة..

الصدق.. الأمانة.. العفة.. الإخلاص.. الإبداع.. الفكر الإداري الذي يستشرف المستقبل.. شجاعة القرار.. الصراحة مع ولاة الأمر والجهر بالرأي الذي يصب في صالح الوطن.. الوضوح مع النفس والآخرين.. الالتزام بقول الحقيقة وعدم تلبيسها أو تحريفها أو تجميلها.. الاعتراف بالخطأ والاجتهاد الصادق لتصحيحه.. مقت المجاملات على حساب مصلحة الوطن.. التواضع.. الترفع عن هوس المنصب وبهرجه وخيلائه.. وكثير من الصفات والخصال التي لا يتشبث بها في كل الظروف والأحوال سوى المسؤول الذي يدرك المعنى الحقيقي للمسؤولية أمام الله وضميره ومجتمعه ومن ولوه تلك المسؤولية..

لقد تولى غازي القصيبي ــ رحمه الله ــ أكثر من مسؤولية كبيرة وحساسة.. أخطأ وأصاب كما يخطئ ويصيب الآخرون، لكنه كان يتميز بحرصه على أن يكون مبتكرا وخلاقا ومبدعا في كل الأوقات.. حين يصيب لا يبحث عن الإطراء والثناء، وحين لا يحالفه الحظ لا يتنصل من المسؤولية ولا يعلقها على الآخرين..

لتلك الأسباب وكثير غيرها لم يتهامس الناس يوما عن شبهة تلوثه، ولم يشيروا إليه بالتقصير المتعمد، أو التهاون والتراخي..
حاولوا أن تستعيدوا بعض مواقفه وممارساته في كل المواقع التي مر بها، وستعرفون كيف يبقى مسؤول في ذاكرة المجتمع ناصعا، وكيف يذهب آخر مع الريح..

عكاظ
18-8-2010

* * *

شاهدت القصيبي يذرف الدمع في مستشفى الصحة النفسية

محمد الهتار - جدة

غازي القصيبي«شاهدت القصيبي يذرف الدمع لدى زيارته لمستشفى الصحة النفسية في الطائف، ولم يرتح له بال، إلا بعد أن حصل على موافقة الملك فهد بن عبدالعزيز بتوسعة المستشفى وإنشاء أقسام للصحة النفسية في مناطق المملكة».. بهذه العبارة المبللة بدموع الإنسان غازي القصيبي استعاد أمين جدة الأسبق الدكتور نزيه نصيف، مشهدا من آلاف المشاهد التي رسمها القصيبي بحس المسؤول الصادق والفنان المرهف الذي لا ينفصل عمله عن إنسانيته في جميع مواقفه العملية والحياتية .

وأبلغ «عكاظ» نزيه نصيف عن بعض التفاصيل الدقيقة في حياة الراحل، قائلا: «عملت مع غازي القصيبي فقيد الوطن وفقيد الأمة خمسة أعوام في وزارة الصناعة» وعامين آخرين في وزارة الصحة كوكيل له, وهذه المدة جعلتني أتعرف عليه عن قرب حتى أننا تواصلنا مع بعضنا كأصدقاء واستمرت هذه الصداقة حتى بعد مغادرتي للوزارة, وقد وجدته وطنيا من الدرجة الأولى وأمينا بدليل انه لم يوجهني طوال فترة عملي معه بترسية مشروع على شركة أو مؤسسة رغم أن وزارة الصحة في ذلك الحين صرفت 22 مليار ريال في عامين.

وزاد أمين جدة الأسبق ،الذي بدا متأثرا برحيل صديقه القصيبي «كان القفيد يرحمه الله حريصا على صلواته حيثما كان، فقد كان أول الداخلين إلى مسجد الوزارة لأداء صلاة الجماعة، وكان عاشقا للقراءة ، إلى درجة أنه يقرأ كتابا في كل يوم تقريبا، وكان إداريا محنكا يتخذ أصعب القرارات بشجاعة وإيمان، وكان رقيقا في أحاسيسه ومشاعره ولا يتوانى أن يساعد مواطنا أو يلبي حاجة إنسان».
واختتم نزيه حديثه بالترحم على القصيبي «الذي أحب وطنه فأحبه الوطن».

عكاظ

* * *

القصيبي .. ليلة لا تنسى

علي فقندش

إلى جانب كل ما تعرفه عن شاعرنا الوزير الراحل غازي القصيبي، فإنك من غير الممكن أن تتعرف عليه تماما كإنسان مثقل بكثير من المواهب التي أصبح سيدا لأغلبها في المملكة وواحدا ممن يشار إليهم على المستوى العربي فيها، لا سيما تلك الاهتمامات الأدبية.
غازي القصيبي الشاعر كان مرجعية للمتعاملين معه، لمست ذلك في أمسية محفوفة بالفن والإعلام والأدب، دعانا إليها أستاذنا الدكتور عبد العزيز خوجة في بيروت التي كان فيها سفيرا للمملكة وقتها، الأمسية حضرها كل من الدكتور محمد عبده يماني، الدكتور غازي القصيبي، شاعرنا إبراهيم خفاجي الذي كنت أرافقه في تلك الرحلة إلى بيروت، رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، كوثر البشراوي، الراحلة الفنانة المغربية رجاء بالمليح، النجمة الراحلة نادية أرسلان، والمطربة اللبنانية جاهدة وهبي التي تتعامل مع عيون الشعر العربي قديمه وحديثه في شدوها الجميل، يومها صحح القصيبي لجاهدة بيتا من الشعر لحنت فيه بسبب خطأ في النص أو نسيان، لم يكتفِ الراحل بالتصحيح لها إنما جعلنا كمستمعين فاغري الأفواه لما سرده عن القصيدة وشاعرها الذي كان من المجيدين والمقلين في الشعر العربي، شعرنا يومها أننا أمام محاضر في الأدب وتأريخ الأدب العربي وليس الشاعر المعني. المشهد لم يكن جديدا ولكن ليس من سمع كمن رأى، فأن ترى المشهد الذي يقوم ببطولته الراحل غازي القصيبي فيه اختلاف كبير عن أن تسمع أو تقرأ.
كثيرون يتساءلون: من أين يأتي القصيبي بالوقت لكل هذا العطاء في دنيا الأدب، فهو الشاعر والروائي والمفكر الذي وضع لنا أسس الإدارة، وقدم لنا أساليب للتناول الأدبي في ما كتبه ونشره من روايات تعكس واقعنا، وكان من المزاوجين فيها بين الواقع وخيال ورومانسيات الطرح، كل ذلك إلى جانب نجاحاته كوزير وسفير وما نعرفه جميعا عنه.
رحم الله أبا يارا، تلك الشخصية المرنة المبتسمة الفذة وغير المتجهمة.

فاصلة: للقصيبي مساء تشغيل جسر الملك فهد الرابط بين المملكة والبحرين:

ضرب من الحب لا درب من الحجر
هذا الذي طار بالواحات للجزر

عكاظ
18-8-2010

* * *

ومضى القصيبي.. من مدرسة الهداية إلى مكتب الوزير

عكاظ حضرت مراسم العزاء في منتجع الأسرة
مدرسة الهداية مطلع نبوغ الأديب.. السفير.. الوزير

بندر الطائفي ـ المنامة
تسعة كيلو مترات.. أو تزيد، تلك التي تفصل ما بين مجلس عزاء فقيد الوطن غازي القصيبي في منتجع الأسرة في الجسرة، وبين مدرسته (الهداية الخليفية) في المحرق، ذلك الصرح العتيق، الرفيع، والشاهد على نبوغه وتفوقه بين أقرانه التلاميذ، في أواخر الستينيات الهجرية.

استوقفنا أحد أهالي المحرق قبل ظهر أمس، وسألناه عن موقع مدرسة الهداية، بعد أن شهدنا مراسم العزاء التي بدأت منذ الصباح الباكر، فأوصلنا مشكورا بعد أن أكرمنا بالسير أمامنا إلى المدرسة الأثرية الشامخة، وهناك قدمنا له الشكر والثناء إزاء تعاونه، وأوضحنا له بأننا نريد توثيق زيارتنا للمحرق بالوقوف ميدانيا على المدرسة التي أنجبت فقيد الوطن، الراحل الكبير غازي القصيبي، فما كان من الرجل الستيني إلا أن تحشرج بالصوت، والتمعت في عينيه لفافات رقيقة من الدمع، وقال لنا وسط ذهول من قبلي وزميلي المصور: ومن لا يعرف غازي القصيبي، الأديب الإنسان الرفيع البليغ. ثم غادرنا والعبرات تكاد تخنق قامته، بل وتخثر صوت حنجرته، داعيا للفقيد بالرحمة والمغفرة.

حاولنا الاسترسال في الحديث معه، لكن الحزن الذي بدا على الرجل حال دون ذلك.
نسوق تلك المقدمة ــ بلا رتوش ــ توثيقا لتبيان مكانة الراحل في قلوب العامة والخاصة على السواء، داخل حدود الوطن وخارجه، ولدى الجميع صغارا وكبارا.
وكانت «عكاظ» قد التقت سهيل، ابن الراحل، الذي غالب هو الآخر حزنه واستقبل برفقة شقيقيه وذوي الفقيد، مئات المعزين الذين توافدوا منذ الصباح الباكر إلى منتجع الأسرة في الجسرة، وفي مقدمتهم عدد من الأمراء والشيوخ وكبار المسؤولين والأدباء والمثقفين في المملكتين. وأوضح سهيل في حديثه لـ«عكاظ» أن والده كان يفضل قضاء فترات النقاهة والإجازات في البحرين وفي هذا المنتجع الذي شهد مجلس العزاء، وأنه كان يفرح كثيرا ــ رحمه الله ــ حينما يرى الآخرين سعداء ويقضون أيامهم بأمن وطمأنينة وسلام، مشيرا إلى أنه كان أبا وأخا وصديقا محبا ومتسامحا مع الجميع داخل الوطن وخارجه.

مثقفون عرب: إنتاجه تميز بالجرأة ومواقفه اتصفت بالشجاعة
وزير الثقافة المصري: القصيبي أنموذج الفارس العربي النبيل
هناء البنهاوي ـ القاهرة، فادي الغوش ـ بيروت، أروى خشيفاتي ـ المنامة (هاتفيا)

توقف أدباء ومفكرون عرب عند رحيل المبدع الدكتور غازي القصيبي، منهم وزير الثقافة المصري فاروق حسني الذي وصف القصيبي بنموذج للفارس العربي النبيل.
المثقفون العرب الذين تحدثوا لـ «عكاظ» عبروا عن حزنهم العميق لرحيل القصيبي، لافتين إلى أنه ترجل عن فرسه بعد أن ملأ الدنيا إبداعا شعريا ونثريا فتح بها الأفاق لحرية الفكر والانتصار للعروبة وللحقوق المرأة، مؤكدين في الوقت نفسه أن رحيله خسارة فادحة لكل العرب، «ولكن العزاء يبقى فيما أفرزته قريحته من إبداع تخلده كلماته الشعرية وفنه الحكائي الذي سيظل حيا نابضا تستفيد منه الأجيال المبدعة سواء في وطنه السعودي وفي العالم العربي».

سيظل رمزاً
القصيبي سيظل بعد وفاته رمزا للفارس العربي النبيل الذي لم تمنعه مسؤولياته المهنية والإدارية الكبيرة من إعلاء قيمة الفكر والذود عن قضايا الإنسان في وطنه وأمته العربية بالكلمة، وهو ما تجلى في مظاهر عديدة من إبداعاته ومنها على سبيل المثال لا الحصر قصيدته الرائعة عن الشهيد محمد الدرة، كما أننا جميعا لا ننسى أشهر رواياته «شقة الحرية» التي استقى فضاءها الأدبي واستلهم شخوصها من القاهرة حين كان يدرس فيها.

فاروق حسني (وزير الثقافة المصري)
قامة فكرية

القصيبي كان وسيزال بعد رحيله قامة فكرية وأدبية سجلت لنفسها اسما في تاريخ الإبداع العربي، والتاريخ يحفظ للأجيال إسهامات القصيبي المضيئة في سماء الفكر العربي بوصفه واحدا من أهم الرموز الأدبية في المملكة والعالم العربي. القصيبي انفتح على ثقافات الشرق عربيا وعلى الغرب خلال وجوده في لندن كمسؤول سياسي، وهذا الانفتاح الجغرافي ساهم بشكل كبير في تعميق وعيه بالذات وبعروبته، واستفاد من ذلك الخير الكبير في تكوين الحصانة الفكرية التي تمنعه من الذوبان في الآخر، فجاءت تجربته الإبداعية عميقة في قضاياها جريئة في أفكارها قوية في لغتها. إن الحصانة الفكرية التي تمتع بها القصيبي جعلته لا يخشى لومة لائم في إبداعه مهما صادف من المنع أو أي شكل من أشكال الرقابة مثلما حدث مع روايته «شقة الحرية»، وكما حدث مع ديوانه الشعري الثالث «معركة بلا راية». فالرقابة لم تمنع القصيبي من أداء رسالته الأدبية، بل كانت حافزا له على مواصلة الطريق الوعر وهو شرف الكلمة حتى انقادت له الكلمات وخلدته أيضا.

محمد سلماوي (رئيس اتحاد كتاب مصر والعرب)
حوار الثقافات

أقدم عزائي للثقافة العربية وللمملكة، فالقصيبي سيبقى بعد رحيله عن دنينا رمزا للكلمة الأدبية الشجاعة وللحوار بين الثقافات. انفتح على ثقافات عربية أخرى غربية أتاحت له فرصة جمع لغته العربية الأم واللغات الأجنبية مما فتح له أبواب الاطلاع على الإنتاج الأدبي والفكري في الغرب، ولا شك أن حصيلة الجمع بين موروثه وثقافته العربية في قديمها وحديثها اتصاله بالثقافات الأجنبية المغايرة والمعاصرة قد انعكس بشكل كبير في إنتاجه الإدبي الذي تميز بالجرأة والثقة رغم علمه أن هذه الجرأة قد يدفع ثمنها غاليا من منع أو رقابة، لكنه تحدى هذه المخاوف التي كانت حقيقية، وساهم منع نشر أعماله في تحقيق المزيد من شهرتها.
جرأة القصيبي دفعته إلى الاهتمام المبكر بالهم العربي وانقساماته منذ أولى تجاربه في هذا المضمار «شقة الحرية» التي صدرت عام 1994 التي تناولت واقع الشباب العربي خلال الفترة (1948 ــ 1967)، حيث يعيش أبطال الرواية في شقة في مدينة القاهرة وسط أجواء فكرية وسياسية عاصفة بتوجهات فكرية مختلفة لكل منهم. أما رواية «سبعة» فتعكس قدرة القصيبي على استثمار لغته الشعرية في السخرية من الواقع العربي.
رحمه الله كان فارسا ترجل وبقيت كلماته الصادقة التي رثى فيها نفسه قبل الموت ليؤكد على صدقه الإنساني شاعرا وروائيا مبدعا، وليؤكد فيها ثقته بربه وحبه في لقائه كما قال:
«أحببت لقياك .. حسن الظن يشفع لي
أيرتجي العفو إلا عند غفار».

د. جابر عصفور (ناقد ورئيس المركز القومي للترجمة في مصر)
فضائل نادرة

غازي مجموعة من الفضائل النادرة التي قلما تجتمع في شخص وحد.في 2006 كتبت فيه قصيدة تقول:
إن غازي كينونة هو وحده
صنوه لم يكن وهيهات بعده
وكتاب لا تسألن عن مداه
فمداه لم يبلغ الناس حده
إن غازي من الناس الذين تستعذب حديثه والجلوس معه، أيضا ممن لا تعلم يسراهم ما أنفقت يمناهم، فقد شمل الكثيرين بعطفه ورعايته.

ومن المواقف التي تدل على كرم أخلاقة أنه عندما أتى إلى البحرين سفيرا للمملكة وظل عشر سنوات ولمعرفة الناس بمدى قرب غازي مني وقربي منه أثقلوا عليّ بالطلبات سواء طلبات ابتعاث للمملكة للدراسة أو للعلاج أو غيرها وكل هؤلاء لم يردهم القصيبي. إلى درجة أني قلت له مرة (هؤلاء الناس يظنون أنك في جيبي فرد عليّ قائلا أنا في جيبك). وكنت وقتها أكتب عمودا في إحدى الصحف فقلت فيه متعمدا كي يراه القصيبي:

كثر الطارقون باسمك بابي
يستعينون بي إليك وصولا
يطلبون الشفاء
لم يبق خل من رفاقي إلا وافاك خليلا
أستحي منهم ومنك
فليلي بات من وطئت العناء طويلا
فأعني عليهم إن صبري كاد ألا يكون صبرا جميلا.

القصيبي صديق من معدن لا يصدأ وهو نسيج منفرد، رجل يصدق في صداقته إلى حد النبالة والطهارة القصوى، إنسان لا تشوب صداقته شائبة إنسان نبيل كامل الأوصاف، لا يتكرر ولا يجود به الزمان دائما. هو كيان متعدد المواهب بدأ شاعرا وانتهى روائيا، وهو من الناس الذين ينجحون ويبدعون أينما وضعوه، فقد عمل في عدة وزارات وأبدع فيها وآخرها وزارة العمل والعمال. وكان صاحب فكاهة فعندما أتى البحرين وزيرا للصناعة والكهرباء مازحه أحد الأصدقاء فقال: (أشعارك كلها صناعة فرد القصيبي وفيها كهرباء).

عبد الرحمن محمد الرفيع (شاعر من البحرين وصديق القصيبي)
القصيدة فازت به
لم يكن القصيبي شاعرا عابرا، لقد فاز به الشعر وحققت القصيدة الجائزة به.
شاء القصيبي أن يبني مظلة من نسيج أدبي تمتد على عمودين: التخيل والواقع، فوقها سحابة منفردة مخاضها لا يزيد ولا يفيض عن الحاجة لأن قدرته فاعلة، ولأن تأثيره حاسم. لقد شق في جبل الفكر خطا زلزاليا تتكسر عنده اجترارات قديمة لم يتمكن أن يجاريه فيه أحد. أراد أن يطلق النار على المكرر فأحسن مخاطبة العقول والمشاعر معا. تفرس في الفكر ودقق في الشخصية البشرية، فكان حاد النظر صائب التحليل.
إن تقويم ما أتانا به العزيز الشاعر والأستاذ والسفير والوزير غازي القصيبي أمر جلل لا يلفي نظيره لأن فذلكته هي بيان للأسباب الموجبة للإبداع. تغمد الله الرحل العزيز غازي القصيبي برحمته، وأني أعتبره من أعمدة الحضارة الراهنة.
د. روحي بعلبكي (الرئيس السابق لاتحاد الكتاب اللبنانيين)

ثمنوا مواقفه الوطنية وصرامته الإدارية .. أدباء وكتاب لـ «عكاظ»:

أحمد عائل فقيهي، فاطمة آل عمرو ــ جدة، مريم الصغير ـ الرياض

عبر أدباء ومثقفون عن حزنهم البالغ لرحيل الدكتور غازي القصيبي وقالوا: «بغياب القصيبي تفقد الحركة الأدبية والثقافية في المملكة واحدا من أهم رموزها الكبار، بصفته شاعرا وكاتبا وروائيا ومثقفا فاعلا أثار الكثير من القضايا والمسائل الفكرية والأدبية، وهو أحد المجددين في تاريخ الكتابة الإبداعية في المملكة».

خصال جميلة

رجل شجاع ذو مواقف.. وصادق يتميز بالخصال الجميلة والسمعة العالية، خصائص كبيرة فقدتها الأمة وفقدها الوطن. حسناته كثيرة.. رحمه الله ــ أرجو الله أن يعوض الوطن فيه خيرا ــ إنه قيمة وذو قيمة.. لقد قدم الكثير لوطنه والساحة الأدبية والفكرية من خلال دواوينه الشعرية ورواياته، وكتبه الكثيرة.

عبد الفتاح أبو مدين

عبر عن هويتنا

هو رمز يتوج رؤوسنا ويرفع هاماتنا ونركن إلى اسمه.. وإذ يغيب اليوم فإنه يغيب شامخ الهامة بما تركه لنا ولثقافتنا ولاسمنا في كل مكان، فهو الذي إذا قلنا اسمه في أية بقعة من بقاع العالم فإننا معه نعلن عن هويتنا وثقافاتنا ورمزيتنا. رحمك الله يا أبا يارا وحفظ يارا وسهيلا، ونحن من بعدك باقون على حبك والوفاء لك والافتخار بك وبمنجزاتك التي تبقى ولا تموت وتخلد فينا وفي تعاقبات أجيالنا، عليك الرحمة أيها الغالي.

د. عبدالله الغذامي

شمس غازي

بغياب الدكتور غازي غابت شمس من الشموس النادرة التي لم يخجلها بريق السلطة عن مشاغبة الظلام بجرأة وبأدوات مبتكرة أو ماكرة مرحة أحيانا وجادة وساخرة أحيانا أخرى، فالمهم في كل حالات غازي وتحولات تاريخه الخاطف الأخاذ عدم الاستسلام، هكذا كانت شمس غازي وهكذا ستبقى لأجيال، وهو وان رحل فستبقى وهج شجاعته في الإنجاز للحق والجمال وموهبة الإبداعية والإدارية الفذة على جرح الظلام بماء الحبر.

فوزية أبو خالد

رجل مواقف

رحيل غازي القصيبي مصاب جلل، خاصة بالنسبة لمن عرفه شخصيا بالإضافة إلى كونه مثقفا من طراز مميز وإداري من طراز رفيع، فهو من ناحية إنسانية كان مثالا للأخلاق والعلاقات الإنسانية الرفيعة.
عرفت غازي القصيبي منذ السنة الأولى في الجامعة، فقد فرض شخصيته على الجميع، سواء بثقافته أو أخلاقه أو تعامله الإنساني مع الطلبة.
القصيبي رجل مواقف، فنحن لا ننسى موقفه من موجة التعصب الديني إبان حرب الخليج عندما واجه ذلك التعصب بسلسلة مقالاته وكتبه ومنها «لكيلا لا تكون فتنه»، ولم يستغل القصيبي منصبه لمواجهة منتقديه، بقدر ما واجههم بقوة الحجة، وكان غازي القصيبي جريئا في إدارته فما من وزارة يتسلمها إلا ويقلبها رأسا على عقب، وذلك بالمعنى الإيجابي.
غازي القصيبي علامة فارقة في الثقافة السعودية والعربية.
يعتبر القصيبي مدشن الرواية السعودية الحديثة الواقعية، فعندما أصدر روايته «شقة الحرية» كان ذلك بداية جديدة للرواية في المملكة ولا ننسى بطبيعة الحال شاعريته الرقيقة وشعره الذي يمس الروح، وكذلك لا ننسى كتاباته الإدارية التي ألقت الضوء على ما يجري وراء الكواليس في كتابه حياة في الإدارة.
توفي غازي القصيبي عن 70 عاما وهو عمر قصير، ولكن لا نقول إلا: لله ما أعطى ولله ما أخذ، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

د. تركي الحمد

لن يتكرر مرتين

الوزير الدكتور غازي القصيبي رجل لن يتكرر مرتين وإنسان نبيل، وأضاف لكل الألقاب التي تقدمت اسمه، وليس الألقاب التي أضافت له، صاحب مشروعات وطنية مخلص جدا لها، الدكتور غازي القصيبي خسارة كبيرة أثرى إثرانا وأثرى المجتمع فكرا وأدبا وادارة وكان من الوجوه العربية المعروفة في الوسط الثقافي العربي، الوزير لم يمت لأنه ترك بين أيدينا الكثير من الكتب والإنجازات والتجارب والمشاريع الوطنية والأدبية والفكرية. والسؤال هل سنستفيد مما تركه لنا من إرث أم أنها ستمر مرور الكرام ويبقى مجرد اسم في حياتنا؟.

حليمة مظفر

حاج خصومه

كان غازي القصيبي.. مثقفا غزير الإنتاج.. كتب في السياسة والشعر والرواية والإدارة وفي مجالات أخرى.. وكان رجل معارك، حيث اصطدم مع الكثير من المتشددين أثناء حرب الخليج، وتظهر أهمية مواقف غازي القصيبي في الآراء التي عبر عنها وحاج بها خصومه، ولقد أصبحت هذه الآراء متبناة من جانب أولئك الخصوم.. وفوق هذا وذاك كان رجلا لطيفا بكل ما في كلمة اللطف من معنى، حلو المعشر، لين الحديث، يشعر بالألفة معه الصديق والبعيد.

د. توفيق السيف

صديق الحرف

ها قد غابت نبضات غازي القصيبي صديق الحرف والكلمة والقصيدة.. غازي الرجل والوزير الذي اجتهد في العطاء الوطني ولملم شتات الحروف ليغزلها أبيات كانت وما زالت تتراقص بين دفتي كل ديوان وكل كتاب، وهاهو صاحب الحمى والعصفورية والإدارة قد ترجل عن الحياة فما لنا سوى الدعاء بأن يجعل الله قبره روضة من رياض الجنة، ويجمعنا وإياه في جنات الفردوس ويا لها من أيام فضيلة أثر رب السماء بأن يختاره إلى جواره.

هويدا خوجة

غذاء الروح

أدعو له بالرحمة.. لقد توفاه الله في أيام كريمة ومباركة في هذا الشهر الكريم، ومع سماع وفاة غازي القصيبي أستعيد أحلى ذكريات القراءة والتكوين، فمع هذا الأديب والمفكر الكبير بدأت رحلتي منذ مرحلة الفتوة مع القراءة وتذوق الشعر، وكان القصيبي رافدا أساسيا من روافد تكويني، حيث كان يتحفنا الفقيد الكبير بدواوينه الشعرية ورواياته الجريئة ومقالاته الممتعة التي كانت غذاء روحيا مهما، فلم يكن القصيبي بالحدث اليسير في ثقافة هذه البلاد، وإنما كان عاملا مهما من عوامل نهضتها الأدبية والثقافية، حتى الناس البسطاء الذين لا يعرفونه شاعرا أو أديبا عرفوه وزيرا قريبا منهم، حينما كسر هذا الرجل الكبير التقاليد الرسمية قبل عقود من الزمان، واستطاع بانسانيته الكبيرة أن يتصل بالناس البسطاء في مدنهم وقراهم وهجرهم.

حسين بافقيه

غازي اسم لن يموت

كلمات صعبة لا نريد أن نعيشها أو حتى نصدقها، منذ وعينا على هذه الدنيا واسمك راسخ في أذهاننا، يرن في مسامعنا، وفي كل مكان نذهب إليه نرى بصمتك، فحبك مزروع منذ الصغر، خبر رحيلك كان صدمة كبيرة لنا، من شدتها تخطينا مرحلة الحزن إلى مرحلة اللاوعي بالذي حصل.
من قال إنك رحلت؟ أنت مازلت باقيا في أعماقنا، صورك، كتاباتك، لقاءاتك، مواقفك، دبلوماسيتك، شخصيتك، وطيبة قلبك، ستبقى ترفرف كالأعلام التي يرحل حاكمها وهي مازالت واقفة عاليا، رافعة رأسها بكل فخر واعتزاز.
دكتور غازي نحبك، ولن نبكي لغيابك لأنك مازلت حيا في قلوبنا وقلوب كل من أحبك، فأنت الرجل الذي ليس له مثيل، فهناك شخص يندفن ويدفن اسمه معه، ولكن (غازي القصيبي) شخص اندفن تحت الثرى واسمه مازال حيا ولآخر لحظة نعيشها، فكل ما قدمته لبلدك وأسرتك وحياتك التي سخرتها لأجلنا، وعملك الصالح، لن يضيع فسنكافئك عليه بالدعاء والذكر الحسن، رحمك الله يا قدوتنا ويا فخر أسرتنا ومملكتنا الحبيبة.
(اللهم إنه صبر على البلاء فلم يجزع فامنحه درجة الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب فإنك القائل «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»).

ابنة أخت الفقيد
عالية القصيبي

* * *

داعب الطباخين .. ونهرني: «لن أتحدث»

هادي الفقيه ـ جدة
المكان: قاعة أفراح شهيرة في جدة.
الزمان: 31/5/2004
الحدث: وزير يتحول إلى طباخ.

كان واحدا من صباحات جدة، إلا أنه اختلف كثيرا، فمن روتين التوجه إلى العمل إلى رحلة مختلفة مع وزير وأديب ومفكر ملهم، وإنسان قبل كل شيء.
هاتفني صديق ليبلغني أن وزير العمل الدكتور غازي القصيبي متوجه إلى قاعة أفراح شهيرة في جدة ليلتقي أول دفعة من الطباخين السعوديين الذين تدربوا في برنامج عبداللطيف جميل لخدمة المجتمع.
دلف القصيبي ومرافق واحد فقط واثنان من القائمين على البرنامج ومسؤولو القاعة، وكنت محظوظا، إذ لم يتسرب الخبر للصحافيين بعد، فحظيت بمرافقة الوزير وسط لبس مع أعضاء الوفد، فاعتقدوا مرة أنني من مرافقي الوزير وتارة أخرى من وفد البرنامج دون السؤال، وما زاد الوضع سهولة بساطة الوزير وتوجه الأنظار إليه عقب أن سحب القلوب والعقول إلى عفويته وروحه المرحة.
توقف الوزير عند كل طباخ على حده.. مازحه وداعبه وطلب أن يلبس غطاء الرأس الخاص بالطباخين وسحب شماغه وعقاله جانبا ومضى يمسك بيد هذا تارة ويقف عند الآخر ليسأل بإسهاب إلا أن السمة المشتركة كانت الابتسامة العريضة والفخر بالعمل الشريف.
رفع الوزير الشاعر حاجبيه ويديه عندما وصل إلى الطباخ المسؤول عن إعداد الحلويات وكان شابا أسمر ضخما يسكب شكولاتة ساخنة في أكواب صغيرة فقال له الوزير: «كل هذا بسبب هذا»، وكان يقصد ضخامة جسده والحلوى، فدخل الشاب في نوبة ضحك متواصلة حتى دمعت عيناه من كثر الضحك فاحتضنه الوزير وقبله بعيدا عن الكاميرات مشجعا ورابتا على كتفه.
واصل الوزير جولته مفاخرا بالشبان الذين كسروا حاجز العيب الاجتماعي، وقبل أن يصل إلى قاعة تجمع فيها الصحافيون، طلب أن يأخذ صورة تذكارية في جولته الأولى مع الطباخين السعوديين الجدد، مباركا بداية دورة للحلاقين كانت ستنطلق بعد أيام حينذاك.
وعقب ذلك بأربعة أعوام في مطلع عام 2008، كلفني الزميل خالد المطرفي عندما كنت أعمل مراسلا لقناة العربية في الرياض بإعداد تقرير عن وضع العمالة البنجلاديشية في المملكة وما تتناوله الصحف.
كنت أعلم جيدا أن الإنسان غازي القصيبي كان يكره العنصرية بكل صورها، وحاولت أن أكون حذرا قدر الإمكان وانتهزت فرصة محاضرة نظمت في وزارة العمل لألتقيه، وما إن وضعت المايكرفون أمامه وسألته عن القضية ثار ورد: «هذا الموضوع لن أتحدث عنه». وغادر إلى ضيوفه ثم أوصلت رسالتي إليه أنني كنت أود التطرق إلى الموضوع بحياد. وعرفت أنه متألم من الطرح الصحافي أحادي الجانب إزاء العمالة البنجلاديشية وتصويرهم كمجرمين.
في حلمه وغضبه .. كان القصيبي استثنائيا وأديبا وشاعرا وإنسانا هذا ما يجمع عليه كل من عرفه، حتى عندما فقد أعصابه وغضب كان غاضبا من أجل الإنسان.

* * *

«عكاظ» جسر تواصل بين القصيبي ومحمد عبده في «سلمت يداك»

علي فقندش ـ جدة

مدت «عكـاظ» جسرا لترسيخ التواصل في آخر لقاء جمع الشاعر الراحل الدكتور غازي القصيبي والفنان محمد عبده، وذلك في العمل الوطني الغنائي «سلمت يداك» في فبراير 2009.
القصيدة التي نشرتها «عكـاظ» في صفحة كاملة، ترجم فيها القصيبي إعجابه الكبير بمنجز الملك عبدالله على الصعيدين الداخلي والدولي، وكل ما هو مرتبط بمصالح الوطن والمواطن ومنها:
بكل عزم وهمة تنجلي كل غمة
شمل الأمة تلمه كلنا عبدالله
سم يا بو اليتامى أمرك اللي تسامى شوف صف النشامى كلنا عبدالله
قرأ الموسيقار محمد شفيق القصيدة وأحالها أغنية وطنية بعد تلحينها ليغنيها فنان العرب محمد عبده. وتابعت «عكـاظ» العمل وتسجيله بين القاهرة وجدة.
وارتبط اسم الراحل غازي القصيبي بالإبداع الكتابي (الأدب، الرواية، القصة، والشعر) منذ يفاعته، وكان أول من تعامل مع إبداعه الشعري في مطلع السبعينيات الميلادية الفنان محمد عبده الذي أحال قصيدته «تلك لورا.. فداء لورا الغواني» أغنية تغنينا بها جميعا باعتبارها أول قصيدة لحنت له مما كتبه خلال الدراسة في الخارج، ومنها كان الانطلاق إلى عالم التعامل مع الموسيقى والألحان والأغنيات، وحسبه الإعلام والنقاد شاعرا غنائيا فذا؛ بل أنه ناصر في توجهه في التعامل مع الأغنية المتجهين إلى الفصحى في دنيا الغناء، فجاءت مواقفه الوطنية غناء بالفصحى ببروز وتألق مختلف، استطاع ترجمته محمد عبده سيما في موقف في أحلك مواقف الوطن أثناء محنة حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت) والتي كان أشهرها «أجل نحن الحجاز ونحن نجد» عندما تصدى لإعلام صدام والصحاف، ولوحته الإبداعية «أقسمت يا كويت»، وأتبعها غازي برفقة موسيقى محمد عبده بالعمل الوطني الكبير الذي قدم افتتاحا لدورة مهرجان الجنادرية بعد تحرير الكويت «أوبريت أرض الرسالات والبطولات» والذي كان أول أوبريت يقدم بالفصحى في هذا المهرجان وهو من ألحان محمد عبده وشاركه الأداء الراحل طلال مداح ـــ رحمه الله. كذلك الأغنية الوصفية الشهيرة عن أبها «عروس الربى أبها» بصوت محمد عبده أيضا وألحان الراحل عمر كدرس. وقصيدة «كالحلم جئت» التي لحنها محمد عبده، وأيضا توج محمد عبده مشواره مع إبداعات القصيبي بقصيدة «مغرورة» التي طرحت في ألبومه قبل الأخير «الهوى الغائب» من ألحان الفنان الأردني الدكتور أيمن عبدالله. قدمت من أشعار الراحل القصيبي الكثير من الأغنيات ومن كتاباته ورواياته الكثير من الأعمال التلفزيونية لعل من أشهرها «شقة الحرية»، والمسلسل المحلي الناقد «أبو شلاخ البرمائي» بطولة فايز المالكي قبل أعوام أربعة تقريبا.
شاعر فذ
وعن رحيله يقول الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن:
«شاعر فذ، وروائي لافت في نقاشاته، وأديب بحجم وزير وسفير، وهو أيضا أديب بحجم شاعر أكثر جمالا ومتعاملا مع اللغة والصور الإبداعية، فمن جماليات الإبداع في الراحل غازي القصيبي ـــ رحمه الله ـــ ترجمته السريعة لما يخالج وجدانه بدا ذلك واضحا في وجدانياته ووطنياته».
فقد المبدع
ويقول فنان العرب محمد عبده عن غياب القصيبي: «أقل ما يقال عن غياب المبدع في فنه وكتاباته غازي القصيبي إننا نعيش خسارة فقد المبدع والمسؤول، فلطالما قاد القصيبي وزارات خدمية قدم فيها للمواطن وللوطن الكثير من العطاءات الفكرية وسبل القيادة الحديثة، أما عن شاعريته فلا حدود لجمال إبداعاته التي استحالت أغنيات للوطن وللعاطفة».
ويذكر عبده أن علاقته بالراحل تعود لأكثر من ثلاثة عقود «اجتمعنا خلالها في كثير من الأعمال لكن ذكرياتي الأكبر معه في حفل عودتي للحياة الفنية عام 1997 في لندن عندما جمع بيننا يومها عمل غنائي كبير «مشرق الشمس», في هذا الحفل مواصلة لإبداعه الكبير الذي استحال أغنيات أحبها الناس».

* * *

«تلك لورا» سجال جمع خالد الفيصل والقصيبي

علي فقندش ـ جدة

يستعيد الفنان محمد عبده قصة أول تعاون له مع الراحل القصيبي، وذلك عبر أغنية «تلك لورا»، موضحا أنها وليدة جلسة فن وإبداع بين الراحل والأمير الشاعر خالد الفيصل، «وكنت معهما في سبعينيات القرن الميلادي الماضي، حيث كانت القصيدة عبارة عن سجال بينهما فكتب غازي:

ذاب من فرط حسنها الفنان
لورا تلك لورا فداء لورا الغواني

فرد عليه خالد الفيصل:

تتوارى عن العيون احتشاما
وحنانا بمهجة الفنان
أنت «غاز» ومثلها ينشد الرفق
صوابا في لجة من حنان

ثم أكمل غازي بقية النص :

وتوارت تحت الحنايا فكانت نابضا
في مشاعري وكياني
لا تسلني ياشاعري عن هواها

يستطرد محمد عبده جمعت القصيدة من أطرافها، وغيرنا لفظة أنت «غاز» إلى «شاد»، واكتمل لحنها وطرحت في البدء بتسجيل الجلسة نفسها ثم سجلتها مرارا.

* * *

أمراء ومسؤولون لـ «عكاظ» :
إنجازات القصيبي منارة إشعاع يقتدي بها المخلصون

عبد الله الحارثي ـ جدة

استحضر عدد من الأمراء والمسؤولين مواقف جمعتهم بالدكتور غازي القصيبي، مؤكدين أن الوطن فقد أحد رجالاته الأوفياء.
ولفتوا إلى أن فوز الراحل بثقة ثلاثة ملوك (الملك خالد، الملك فهد، والملك عبدالله) خير دليل على تفانيه ووطنيته الصادقة، واصفين إنجازاته بمنارة إشعاع يقتدي بها المخلصون من أبناء هذا الوطن المعطاء. ورفع الأمراء والمسؤولون أحر التعازي لذوي الراحل ومحبي القصيبي «رجل الدولة الذي فقدناه كإنسان وصديق أفنى حياته في خدمة الوطن».

رجل المهمات والإنسانية

أعزي نفسي في وفاته لأنه من أصدقائي، وأعزي أهله والوطن في فقده، لقد عرف عنه إخلاصه وتواضعه وطيبته وإنسانيته التي لا توصف.
تأثرت كثيرا عندما بلغني نبأ وفاته، ونزل الخبر عليّ كالصاعقة؛ لأن غازي إنسان يحمل في داخله وعقله معاني ومبادئ وأفكارا لا توصف، ويكفيني القول إن الوطن فقد أحد رجالاته الأوفياء، وفقد الأديب والشاعر والوزير.
رأيت في غازي صفات متعددة على الجانب الإنساني والأخوي، فهو رجل بسيط في تواضعه ورقته وتعامله وسهل التعرف عليه من خلال ما يكتب وينثر من شعر وأدب وفكر، وتجده في الجانب الآخر مبدعا وحكيما يدير عمله بكل اقتدار سواء كان في الوزارات التي أدارها أو في عمله في السلك الدبلوماسي عندما كان سفيرا للمملكة في الخارج.
نتضرع للمولى عز وجل في هذا الشهر أن يسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.

صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز
رئيس الاستخبارات العامة.

النقد والتبريرات

غازي كفاءة وطنية مميزة، له أدوار في كل مناحي الحياة في الوطن، حقق فيها منجزات ليس كمسؤول ناجح أثبت جدارته، بل لأنه رجل وطني حقيقي ورجل مبادئ، أمين على كل ما اؤتمن عليه، خسارته علينا جميعا.
بحكم عملي كان لي احتكاك دائم به، كنا نستفيد من النقاشات معه، ونقدر راية لأنه وطني، أجده متجاوبا ويتقبل النقد ولا تجد لديه تبريرات بل حقائق، ويعمل كل ما في وسعه لإرضاء كل الناس.
الفقد عزيز والخسارة كبيرة وإن شاء الله أعماله الطيبة تشفع له عن رب العالمين، وداعا غازي وإلى جنة الفردوس.

صاحب السمو الملكي الأمير
سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز
أمير منطقة حائل.

ثقة الملوك الثلاثة

كنت أرى غازي القصيبي في مجلس الملك خالد وكان له حضور بارز وسريع البديهة وذكي ويتسم بصفات إنسانية متعددة، عرفته عن قرب آنذاك لقربه من والدي الملك خالد يرحمه الله، فهو رجل دولة من الطراز الأول، وحظي بثقة ثلاثة ملوك الملك خالد والملك فهد والملك عبد الله.
الوطن فقد برحيله ابنا من أبنائه البارين، فقد الوزير والسفير والشاعر والأديب، شعرنا بفقده والكل حزين للمصاب الجلل، ولكن نحتسبه عند الله وهذا قضاء الله وقدره علينا جميعا.
الوطن قادر على أنجاب رجال يخدمون بلدهم ويعوضون هؤلاء الرجال الذين نفقدهم، رحمك الله يا غازي وأسكنك الجنة.

صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز
أمير منطقة عسير.

الذكرى والإرث الخالد

نعزي الجميع في وفاة الدكتور غازي القصيبي رجل الدولة الذي سنفتقده كإنسان وصديق أفنى حياته في خدمة الوطن.
رحل وترك له إرثا كبيرا في عمله الحكومي والأدبي والإنساني سيبقى خالدا وسيذكره الناس ويسطرون له في التاريخ تلك الإنجازات والصفات التي حققها واتسم بها.
إرادة الله اختارته في الشهر الفضيل، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.

صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن عبد العزيز أمير
منطقة تبوك.

غازي .. مآثر خالدة

تمر على المرء حالات ومواقف يكون ما يجيش في فؤاده وما يعتلج في صدره أكثر من أن تعبر عنه الكلمات وأكبر من أن تجسده العبارات، إن كنا نتحدث عن رجل سيرته ملء السمع والبصر بما اشتهر به من خلال ومناقب أجمع عليها أجيال أحبته.
فقد الوطن علما بارزا من أعلام الدولة ومن عظماء نماذجها وأخلص أبنائها خدم دينه وأمته ووطنه ومليكه طيلة عقود مضت لم تفتر همته، ولم يضعف عزمه، بل ما زادته الأيام إلا قوة، ولم يزده الألم إلا خبرة وتجربة ونضجا.
كان يرحمه الله أديبا، وكاتبا، وسياسيا، ومحاورا، ومناقشا، ونبغ في كل تلك الجوانب، وخدم دينه ووطنه في كل تلك المجالات، كان محل ثقة ولاة أمر هذه البلاد جميعا، وشارك بفكره وبعد نظره في صناعة القرار الاستراتيجي وكان (مع علو مكانته الاجتماعية ورفعة منزلته بالدولة) شديد التواضع محبا للخير قريبا من المساكين والمحتاجين يواسيهم ويساعدهم ويشارك في أعمال الخير والبر والإحسان، وليس أصدق من ذلك تصديه بسلاح المواطنة والحزم في معركتي البطالة والاستقدام، خدمة لأجيال هذه الأمة واستشعارا مسبقا بخطورة التراخي في تطبيق سياسات الدولة في التوظيف، ووقف نزيف الاستقدام غير المبرر.
وبفقدان الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي ــ يرحمه الله ــ تكون البلاد قد فقدت أحد رجالاتها المخلصين، وأحد كوادرها المبدعين، وعزاؤنا فيه أن أعماله ومآثره وإنجازاته باقية وستبقى ماثلة أمامنا لتكون منارة إشعاع يقتدي بها المخلصون. وإني إذ أعزي أبناءه وأهله وأبناء أمته وكل محبيه، لأسأل المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه جميل الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.

صاحب السمو الملكي الأميرعبد العزيز بن ماجد بن عبد العزيز أمير
منطقة المدينة المنورة.

شاعر رقيق وإداري ناجح

فقيد ملء العين والبصر، محبوب من الجميع، إداري ممتاز، الأعمال التي مر بها في منتهى النجاح.
رحيل غازي فقد كبير علينا جميعا في هذا الوطن، كونه شاعرا رقيقا وإداريا ناجحا وكاتبا مميزا وصناعيا بارعا، أثاره لا تنسى في الصناعة، ورجل له إسهامات كبيرة وكفاءات مختلفة.
ندعو الله أن تكون أعماله في موازين حسناته.
عملت في موقعه أثناء فترة علاجه ولم نزعجه بالاتصال وكنت أطمئن عليه برسائل الجوال بعد أن حدد الأطباء الزيارة عليه وكنا نحرص على ألا يزعجه الآخرون بالزيارات أو الاتصالات حفاظا على صحته يرحمه الله.

د. عبد العزيز الخويطر وزير الدولة
عضو مجلس الوزراء ووزير العمل بالنيابة.

مكتب الوزير .. صمت وبقايا ضحكات في كاريكاتير

هدأت رنات هاتف مكتب الوزير وغادر الأديب مكتبه، وبقيت وريقات ومقالات وروايات الوزير على مكتبه، بعد أن رحل عن الدنيا صباح أمس الأول.
جولة «عكاظ» لوزارة العمل توقفت أمام مكتب الوزير الشاعر الأديب الراحل الدكتور غازي القصيبي، حيث رصدت الحزن على وجوه العاملين في الوزارة وتأثرهم برحيل وزيرهم الذي لم يوفر جهدا لخدمة الوزارة وأبناء الوطن عبر تطبيق نظام السعودة على رجال الأعمال في القطاع الخاص، وإعطاء المرأة مكانتها وأن تكون عضوة فاعلة في مجتمعها بالعمل في القطاع الخاص.
مكتب الوزير القصيبي كل شيء فيه صامت، لكنك وأنت تتجول فيه ترصد في جنباته صورا يحتفظ بها الراحل تمثل مشاركته في مناسبات مهنية، ورسومات كاريكاتيرية تتضمن نقدا وإشادة بالوزارة، ودروعا وهدايا.. لكن بكل حق وأنت تتجول في مكتب الوزير الراحل تشعر أن كل جزء فيه حزين يحمل ذكريات، والآلام تتلمسها في هدوء المكتب الصامت.

* * *

منذ 33 عاماً واكب ميلاد جمعية المعوقين
سلطان بن سلمان: غازي صاحب بصمات

وفاء باداود ـ جدة

رأى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز «أن الدكتور غازي القصيبي كان من أبناء الوطن المخلصين الذين كانت لهم بصمات واضحة وجهد ملموس في كل ما أسند إليهم من مهمات، وكان طيب الله ثراه كفاءة إدارية نادرة ومن أصحاب المبادرات المتميزة».

وتقدم الأمير سلطان بن سلمان بالإنابة عن مجلس إدارة جمعية الأطفال المعوقين وكافة منسوبيها والآلاف من المشمولين بخدماتها بخالص التعازي إلى حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين والنائب الثاني في وفاة الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي وزير العمل وأول رئيس مجلس إدارة للجمعية، سائلا المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
وذكر الأمير سلطان بن سلمان أنه قبل 33 عاما وعلى وجه التحديد في مثل هذه الأيام الطيبة المباركة من شهر رمضان عام 1398 هـ، اجتمع نخبة من أبناء المملكة المخلصين، ليعلنوا عن ميلاد فكرة تأسيس جمعية الأطفال المعوقين التي باتت اليوم صرحا علاجيا تأهيليا تعليميا يخدم الآلاف من أبنائنا في العديد من مناطق المملكة.

وزاد «في هذه الأيام المباركة أيضا، شاءت إرادة رب العالمين أن تفقد هذه الجمعية الرجل الذي تبني فكرة تأسيسها ورعى انطلاقتها الأولى الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، ولا نملك في هذه الأيام الطيبة المباركة إلا الابتهال إلى الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يجعل جهده في تأسيس الجمعية في ميزان حسناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون».

* * *

ناشر «الزهايمر » لـ«عكاظ»:
القصيبي يمتلك قدرة هائلة على إزالة الفوارق

زياد عيتاني ـ بيروت

أفاد عيسى أحوش مدير مكتبة بيسان في بيروت أن «أقصوصة الزهايمر» للوزير الراحل غازي القصيبي ستقدم اليوم باليد إلى الدوائر المختصة في المملكة للحصول على الفسح، على أن تكون مباشرة في الأسواق وبمتناول محبيه وقرائه.
أحوش وفي تصريح خاص بـ «عكاظ» قال: «تعرفت على الوزير الراحل القصيبي منذ ثلاث سنوات في المكتبة في بيروت عبر أصدقاء مشتركين، ومن حينها أصبحنا على تواصل دائم».
وزاد «السمة الأساسية للوزير القصيبي أنه يمتلك قدرة هائلة على إزالة الحواجز والفوارق مع من يحاور ويتعاطى معك بحب وود لا يمكنك أن تجدها بسهولة مع غيره».
وحول أقصوصة «الزهايمر» أوضح «منذ شهر تقريبا تلقيت عبر البريد السريع مسودة الأقصوصة، ومنها تصحيحات بخط يده وأنجزنا اللمسات الأخيرة، وكان من المفترض أن تصدر قبل عشرة أيام، إلا أننا قررنا إضافة بعض الرسومات إليها مما دفعنا لتأجيل الصدور».
وحول المواصفات الفنية للكتاب قال أحوش: «أقصوصة الزهايمر ستصدر في 128 صفحة بحجم 14x21 والطبعة الأولى تتضمن سبعة آلاف نسخة، ونتوقع أن تصدر طبعات عدة للعمل الجميل الذي كتبه الراحل الكبير غازي القصيبي».

عكاظ

* * *

غازي بدأ إشعاعه من «الإشعاع» قبل 55 عاما

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

صدرت مجلة الإشعاع الشهرية الأدبية الاجتماعية في الخبر بدءاً من شهر محرم 1375هـ/ سبتمبر 1955م صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ الشاعر سعد البواردي. جاءت المجلة تلبية لحاجة ملحة للتجمعات العمالية وللنخب المثقفة في المنطقة الشرقية من المملكة، وذلك بعد أشهر من توقف أو إيقاف الصحيفة الأسبوعية (الفجر الجديد) والتي لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد (11 رجب 1374هـ - 9 شعبان 1374هـ) وقال صاحب الإشعاع ((.. ولأن (الفجر الجديد) احتجبت اخترت (الإشعاع) امتداداً لذلك الفجر الغارب .. كان هذا في منتصف عام 1374هـ وجاءت الموافقة سريعة .. )).
صدرت الإشعاع واستقطبت الكثير من الكتاب من أبناء المملكة في كل المناطق ومن أبناء البحرين بحكم القرب الجغرافي إضافة لغيرهم من سوريا ومصر ولبنان .. إلخ .
لنحصر هذا المقال بدور أو مشاركة غازي القصيبي والذي بدأ بالتواصل مع المجلة من العدد السادس الصادر في جمادى الآخرة 1375هـ يناير 1956م بقصيدة تحمل عنوان (ابتهال) نشرت في الصفحة (11) وبزاوية (روضة الشعر) وباسم مستعار هو (البحرين: محمد العليني) وقد قدم لهذه القصيدة بقوله: وهل كان يبتهل إلا لحبيبته .. وقرينة حياته التي هجرته فزادته إيماناً بحبه!)
وفي العدد التالي (السابع) نجده في بريد القراء يشكر المجلة قائلاً: (( أهنئكم على مجلتكم القيمة وأكبر فيكم الإخلاص والنشاط .. البحرين: محمد العليني، فترد عليه المجلة قائلة: الإشعاع: شكراً لك. قصائدك منها ما أخذ طريقه إلى النشر ومنها سننشره في أعدادنا القادمة .. إننا نرحب بإنتاجك)) .
وفي العدد الحادي عشر من السنة الأولى الصادر في شهر ذي القعدة 1375هـ الموافق شهر يونيو 1956م نجده يشارك بالاسم المستعار السابق ذكره بقصيدة أخرى عنوانها (إليك).
وفي العدد الذي يليه محرم 1376هـ ينشر قصيدة أخرى بعنوان (المصدوم) ويقدم لها بقوله: هذا الإنسان البائس الذي يمر علينا بأطماره البالية حاملاً الداء في صدره المنهوك ألا يستحق منا كبشر أكثر من الرثاء والاشمئزاز؟
ونجده في العدد الثاني من السنة الثانية الصادر في شهر صفر سنة 1376هـ الموافق شهر سبتمبر سنة 1956م يفصح عن اسمه الحقيقي وينشر قصيدة (مناجاة ..) قائلاً : إلى ذلك الحلم الحبيب.. بالرغم من أنه لم يطل !!)) ووقعها باسمه الصريح ـ البحرين ـ غازي القصيبي.
وفيما يلي بعض ما استخلصته من معلومات تسجل بداياته مع الكتابة والنشر كما ورد في (معجم المطبوعات العربية لعلي جواد الطاهر) و كتاب (الاستثناء .. غازي القصيبي شهادات ودراسات ) من إصدار الجزيرة الثقافية.
ولد غازي بن عبدالرحمن القصيبي في الأحساء سنة 1359هـ/ مارس 1940م وعاش فيها حتى الخامسة من عمره، ثم انتقل إلى البحرين مع عائلته، وبها أنهى دراسته الابتدائية والثانوية، ومنها سافر إلى القاهرة ونال الليسانس من كلية الحقوق، ثم سافر إلى أمريكا وحصل على الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا في العلاقات الدولية، وعاد في عام 1385هـ/ 1966م وعين مدرساً في كلية التجارة من جامعة الرياض (الملك سعود)، وانتدب خلال ذلك مستشاراً في لجنة السلام في اليمن وحضر مؤتمر حرض. ثم حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن على رسالته (تاريخ اليمن السياسي وعلاقاتها الدبلوماسية بين سنتي 1948 – 1962م، أول ديوان شعر يصدر له في بيروت عام 1960م (أشعار من جزائر اللؤلؤ)، وقد استشار الدكتور عبدالقادر القط – وكان وقتها طالباً في كلية الحقوق في القاهرة – قبل نشر ديوانه الأول وكان عنوانه: (ليالي الصبا) ثم أصبح (أشعار من جزائر اللؤلؤ) وكان على أبواب العشرين من عمره – فكان يسأل القط هل ينشر؟ أم يمزق الأوراق؟ فانتظر شهراً وهو في قبضة الرعب، قبل أن يجيء رده السخي: (يجب أن تنشر!) .
يقول الدكتور غازي إنه عرض قصيدته الأولى وهو في الثانية عشرة من عمره ـ التي لم يكن فيها بيت موزون واحد ـ على الصديق العزيز الشاعر عبدالرحمن رفيع، وكان زميله في الفصل، وانتظر رأيه بخوف، وجاء رأيه أكثر من سخي.
ولهذا نجده يتجرأ ويرسل على استحياء قصيدته الأولى ـ كما أعتقد ـ وباسم مستعار (محمد العليني) وقصيدته هذه (ابتهال) وهي أول قصيدة تنشر له في مجلة (الإشعاع) التي أصدرها أستاذنا سعد البواردي بالخبر عام 1375 / 1376هـ في العدد السادس وعمره ست عشرة سنة. أي قبل سفره للقاهرة للدراسة الجامعية .
أعاد الله لنا غازي وهو يرفل بالصحة والعافية؛ ليواصل مشواره المعهود في العلم والعمل.

عكاظ
18-8-2010

* * *

ما أجملهم حين يرحلون

حسام ميرو

ما أجملهم حين يرحلون!

حين يخرجون من شجر الأرض إلى ترابها .

هم الذين قرأنا على أيديهم أن الثمرة في أصلها بويضة لقحتها نطفة الحب، وأن الإقامة موت، وأن الرحيل بداية، فظلوا يرحلون إلى أنفسهم، حتى كادوا أن يختفوا عنا .

هم الذين لم يتركوا سوى كتبهم على أرفف الوقت .

لم يسألوا الوقت إن كان الوقت مناسباً للرحيل .

سلاماً إلى غازي القصيبي، والطاهر وطار، الأول دق الأجراس فأصابه البرق، لكنه غامر إلى نهايات الشرر، والآخر نبش في الأرض ذاكرتها زارعاً لها شجرة أخرى اسمها البدايات .

حقاً “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا!” هذا ما قاله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مشيراً إلينا نحن السائرون من دون هدى، ومن دون دليل، فإذا ما ضرب الرعد في أوصالنا فتحنا أفواهنا تعجباً .

على أحدهم أن يذكر أن مأساة العرب في الربع الأخير من القرن العشرين لا تكمن في غياب القدرة على الإبداع، أو عدم وجود مبدعين كبار، وإنما في غياب الوعي بالأهمية النوعية للمبدعين العرب، وهم ممتدون على مساحة الخريطة العربية كما تمتد القافية في صوت المغني، فلماذا خرج الإخوة على يوسف متباهين بدهائهم، غير مدركين أن في يوسف نجاتهم، أليس الحب قارب إنقاذ من قسوة الجفاف؟

بين “الهنا وهناك” محنة أن تعترف النفس بنفسها، ألم يقرر الفرنسيون تسمية ساحة في عاصمتهم باسم محمود درويش، وقد عز على العرب أن يجتمعوا على إقامة ليلة باسمه كي يكون قمرها، يقرأ الشعراء قصائده، ويغني المغنون أشعاره، في طقس يذكرنا بأنه كان هنا، وهو هنا بيننا، لأننا نحن يمكن أن نكون نحن، إذاً، أليس من حق أحد ما أن يستعير صوت شكسبير: “فإما أن تكون أو لا تكون” .

لماذا نغيب حين يجب أن نحضر؟

لقد قدمت مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الفائت نخبة من أهم مبدعي ومثقفي الوطن العربي الذي يحتاج كل واحد منهم إلى برنامج تعريفي خاص به يقدمه للأجيال الجديدة، هذه الأجيال التي لا يعرف الكثير من خريجيها الجامعيين في ما إذا كان نجيب محفوظ روائياً أو طبيباً أو موظفاً، ولا يعرفون من هو حنا مينة أو قاسم محمد أو أمل دنقل وغيرهم، فما بالنا إذاً بمفكرين مثل عبد الله العروي، أو الياس مرقص، أو ناصيف نصار وغيرهم، وقد كان لإحدى الفضائيات الفضل في أن استطلعت الموضوع ذاته في الحرم الجامعي فلم تتجاوز نسبة من تعرفوا إلى الهوية الإبداعية لقامات عربية كبيرة أكثر من 10% من العينة، وهو رقم يشير إلى ذاكرة تتأسس على النسيان .

حقاً ما أجملهم حين يرحلون، يذكرون بأنهم كانوا بيننا، ولم نكن بينهم، ولم نكن بين أنفسنا . حقاً ما الذي يسرقنا منا، أو منهم، وما الذي يسرق الهواء من الهواء؟

الخليج
18/08/2010

* * *

هاجس القضية الفلسطينية في رؤية غازي القصيبي

د. عبدالرحمن بن حسن المحسني*

القضية الفلسطينية منطقة محورية في رؤية غازي القصيبي الفكرية والشعرية ،وحين ننظر في عمله الفكري والشعري سنجد هذه القضية تحضر بشكل لافت،وهو حضور مركزي يعبر بصدق عن حرقة الشاعر وصدق مشاعره تجاه قضية المسلمين الأولى ،وهو إضافة لذلك حضور لم يفتر منذ بداية القضية ،الأمر الذي سبب له حرجا سياسيا أحيانا لكنه بروحه الأدبية يستطيع دائما أن يتجاوز كثيرا من العقبات ، ونقف هنا مع نص له بعنوان: ( الموت في حزيران )، وقد كتبه سنة (1970م) ، وهي مرحلة مبكرة جدا ، إلا أن تلك القصيدة تمثل تماوجات عاطفية تعتمد على عملية الالتفات الفني كحركة إيقاعية فنية داخلية تعبر عن حلول واستراتيجيات ذهنية كان يرمز لها منذ ذلك الحين . والنص عبارة عن مشاهد متعددة يحمل كل مشهد صورة معينة يريد الشاعر أن ينقلها لنا . وليس المهم هنا الصورة بقدر ما تهمنا حركة الإيقاع الداخلي داخل هذا النص المعتمدة على الالتفات الذهني الذي يحدث خروجا فنيا على استرسال النص . ونلاحظ أن الشاعر يصور مشهد الجندي العربي (حزيران 1967م) ، وهو جندي له رؤية مزدوجة واحدة ظاهرة ، وأخرى خفية لاتلبث أن تطل ، لم يغفلها الشاعر بل أوردها نصا في متابعة دقيقة وتحليل بارع لنفسية هذا الجندي :

أنا ملقى عبر الهجير.. يغطي
الرمل وجهي ..وتلعق الشمس
جرحي
وبقربي المذياع يعلن باسم المجد
فتحا مظفرا ..
بعد فتح
لم أمت بعد ..لاتزال شفاهي جمرة..

أين قربة الماء ؟
نشاهد هنا الالتفات من معنى إلى آخر؛ فالشاعر يصور هذا الجندي ملقى عبر الهجير يتحدث عن نفسه ، حالة الارتباك النفسية ظاهرة عليه وهو ما امتد على مستوى النص وتوزيعه إلى أوصال شعرية اتصلت . وحالة الارتباك والضعف هذه تلتقي مع حالة مضادة ، هي صوت المذياع يعلن النصر والفتح . ثم تنعطف الصورة مرة أخرى إلى الجندي الذي ينازع الموت ولما يمت ، ويبحث عن قربة ماء الحياة ، لكن اليهود سرقوها هي الأخرى . ثم يحاول الشاعر بعد هذا أن يرسم مشهدا فيه أيضا نصيب من حركة الالتفات المتضادة :

لم أمت بعد ..لاتزال شفاهي جمرة ..
أين قربة الماء ؟هل يدري جناب المذيع
(يا ليت صوتي كان عذبا كصوته ) أنني أفنى؟

ها هنا صورتان : صورة الجندي يقضي عطشا في الميدان والمذيع حسن الصوت يلبس على الأمة الحقيقة ، والشاعر هنا يستخدم أيضا قدرة الالتفات في نقل الخاطر الذهني الذي دار بخلد الجندي الملقى في الهجير الباحث عن قطرة ماء يبل بها حلقه ، والمذيع حسن الصوت عذب الجرس (يا ليت صوتي كان عذبا كصوته ). ثم يتابع الشاعر الحركة التي يمور بها ذهن الجندي في هذه اللحظات الحرجة من حياته ، فيخرجه من ميدان المعركة والموت إلى ميدان الحياة، عن طريق متابعة حركة ذهن الشاعر النشطة للحياة خارج الميدان ،وكأن الشاعر لا يعيش في المعركة إلا جسدا لا روحا ، يقول :

ويا رباه ماذا غدا تقول سعاد ؟ أنا
لو كنت حاضرا حفلة التأبين (هل ثم
حفلة في زحام الحرب ؟ ) أبدعت في رثائي..
تنحنحت وكبرت ثم قلت: " وداعا !
يا شهيدا يعيش في خاطر الشعب.." نفاق!
من مات ينسى ..ستبكيني سعادي شهرين..
ثم يقول الناس "لا تندبي الشهيد " ويأتيها
خطيب ..ويبلغ الدرج رسمي ...

والنص في مشهد آخر يقدم الصورة النفسية للفدائي العربي في حزيران (1968م) ذلك الشجاع الجبان ، الذي يرسم له أبعادا متضادة !،ونجد أيضا حركة الالتفات ظاهرة تعطي إيقاعا داخليا قائما على التضاد ، حين يقول :

خائف صاحبي .. وأشعر رغم الصيف
بالبرد .. هل جبنت ؟ ونمضي..

ثم يمضي الشاعر في رسم الصورة النفسية القائمة على التناقض بين ظاهر الفدائية وحقيقة الخوف المستبد بالجندي على مستقبله :

أترانا نعود من رحلة الليلة ؟ أم تعلن
الجرائد "مات اثنان" والموت يا فلسطين
مر . نحن متنا من قبل حين تركنا الدار(طفلا
إذ ذاك كنت وقالوا بعد حين نعود )..حين
انتظرنا فارسا يزرع الطريق إلى يافا سيوفا
صقيلة ..حين عشنا في شتاء الخيام نشحذ قمحا .
"ازرع اللغم هاهنا " حين قالوا
نحن بعناك يا فلسطين ".أسرع! !لا تقف أنت !"
لا أحس بشيء غير دفء الدماء.. هل مرت الطلقة

حقا؟ هل انتهيت ؟
إنها تناقضات الواقع الخفي والمشاهد ، صراع الفدائية مع الحقيقة وحب الواقع ،كل ذلك يرسمه الشاعر في لوحة داخلية يمثل فيها الالتفات من حالة الخطاب للغياب ، ومن الحديث السطحي إلى خلجات النفس وخواطرها التي تفرض وجودها قسرا على النص ، فلا يغفلها الشاعر ، بل يثبتها كما جاءت (نحن متنا من قبل حين تركنا الدار (طفلا إذ ذاك كنت وقالوا بعد حين نعود ) ..
وفي ملمح التفاتي تناقضي يمضي الشاعر في متابعة حركة الفدائي الذي يبدو أنه يدفع دون رغبة وفدائية حقيقية ، فهو ينتقل من حديث عن الماضي إلى الأمر وتعديل نمط الخطاب ، وروح التوجس والخوف تسري مع نبرات صوته (حين عشنا في شتاء الخيام .. ازرع اللغم ها هنا ) . وهكذا نرى الشاعر من خلال سبر أغوار الموقف يسعى إلى تجلية أسباب الهزيمة معتمدا على حركية التضاد في إعطاء مساحة إيقاعية للمدى الذي يريد الحديث عنه ..

(1) المجموعة الشعرية الكاملة ، ص 405411 0

* أكاديمي .عضو مجلس إدارة أدبي أبها.

الرياض
18-8-2010

* * *

مثقفو وأدباء جازان:
برحيل غازي.. فقدنا رمزاً للتنوير والإصلاح في العالم العربي

جازان - محمد عبده يامي

ومازالت مشاعر الحزن والاسى على رحيل فقيد الأدب والثقافة معالي الدكتور غازي القصيبي حيث نعت عدد من الاوساط الأدبية في منطقة جازان الفقيد الراحل ووصفت رحيله بالخسارة الكبيرة لرجل أثرى المكتبة العربية بشتى اطياف الثقافة. فأوضح الاستاذ أحمد ابراهيم الحربي رئيس نادي جازان الأدبي قائلا: اننا نعزي الادب والأدباء في وفاة الأديب الموسوعي الدكتور غازي القصيبي والذي بموته يفقد الأدب ركنا من أركانه الأساسية وكشف الحربي أن الملتقى الشعري الذي ينظمه النادي سنويا كان من ضمن دائرة اهتماماته أن يكون الدكتور غازي ضيف الملتقى الا أن القدر كان أسرع مشيرا الى الحب الكبير الذي يمتلكه الدكتور القصيبي في نفوس محبيه.
من جانبه قال الأديب والناقد الأستاذ عمر طاهر زيلع عضو مجلس ادارة نادي جازان الأدبي: رحم الله الراحل عن دنيانا الدكتور غازي. ان أكثر معرفتي به من خلال ما اطلعت عليه من كتاباته شعرا ونثرا وما يكتب عنه من دراسات نقدية أو اشادات. وحينما كنت قائما بعمل نادي جازان الأدبي كانت بيني وبينه مراسلات ومهادات كتب. كان رحمه الله قامة ابداعية وثقافية اضافة الى تجاربه الادارية وتأملاته الفكرية والاجتماعية. أكثر ما كان يميزه وقلة من القامات ان ابداعهم كان شاهدا وسفيرا للتعريف بمستوى ما حققه الادب العربي السعودي من تطور ونضج واتساع بما امتلكوه تعبيرا في كتاباتهم وانفتاحاتهم اقليميا وعالميا. التقيته مرة قبل أربع سنوات في البحرين فكان لايزال يذكر تواصلي القديم معه رغم ما بدى عليه من الوهن رحمه الله.
أما الشاعر محمد ابراهيم يعقوب فيعتبر أن وفاة الدكتور القصيبي فاجعة وخسارة كبيرة على كافة المستويات فهو الشاعر والروائي الحقيقي وهو رجل الدولة والوزير والسفير والمثقف والاداري المثير لقد فقدنا بحق أنمودجا مشرفا للإنسان السعودي الذي أعطى حتى آخر رمق في حياته رجل تفاعل مع قضايا وطنه وأمته بكل شجاعة نرجو من الله العلي القدير ان يتغمده بواسع رحمته وأن يلهمنا الصبر على فقده و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
أما القاص احمد أسماعيل زين فقال: بموت الدكتور غازي فقدت الساحة الأدبية علما من أعلامها فهو شاعر وروائي، واثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات ومهما قلنا لا يمكن ان نوفيه حقه وحجم ومكانة هذا العلم.
اما الشاعر ابراهيم زولي فقال: لا أعرف وزيرا زار قريتي التي تقبع في أقاصي جنوب الجنوب سوى غازي القصيبي عندما كان وزيرا للصحة ومذّاك لم أرَ وزيرا.. حلقة تسقط من حلقات التنوير والإصلاح في العالم العربي مرورا بالجابري ونصر حامد أبوزيد وليس انتهاء يصاحب عرس بغل واللاز الروائي الجزائري الطاهر وطار.. صاحب (حتى لا تكون فتنة) كان رمزا للتفكير في زمن التكفير..
ويضيف زولي: تعرفت على غازي القصيبي مبدعا في المرحلة المتوسطة في عمله الحمّى سمعته آنذاك في تسجيل صوتي وكانت تجربة جديدة حينذاك.. ثم بعد ذلك قرأت أعماله الشعرية الكاملة.. رغم أنه كان متهما بالتلمذة في المدرسة النزارية إلا أن صوته كان فريدا..
ها أنت تعود إلى الأماكن القديمة حرّا لم ينكسر قلمك أمام الظلاميين. ولم يقف إبداعك عند جنس معيّن كنت رجلا في مؤسسة ومؤسسة في رجل.. أحببناك شعرا, وسردا, وناقدا, ومفكرا, ووزيرا, ودبلوماسيا, وإداريا استثنائيا, كتابك في الإدارة حتما ستعرف قيمته الأجيال القادمة.. هاأنت ترحل سيّدي ولم تبح بالسرّ العظيم.. أنّى لك كل هذا الوقت واللغة العصيّة للكتابة.. وداعا أبا التنويريين في الجزيرة والخليج.

الرياض

***

غازي.. أنت الحي وهم الميتون!!

عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ

مات غازي القصيبي..
ومن المؤكد انه عند موته أن هناك الكثير من المسؤولين من أصحاب المعالي وأصحاب السعادة الحاليين والمتقاعدين.. سيتساءلون وهم في حيرة من أمرهم عن أسباب حجم هذا الحزن الكبير الذي عم الناس عندما ذاع خبر موته!!
وسيتساءلون فيما بينهم في كل لحظات وفي كل أجواء هذا الحزن الوطني لماذا حظي غازي القصيبي بهذا الكم من الحزن عند موته كما كان يحضى أيضا في حياته بحجم اكبر من الإعجاب ومن التقدير ومن الاحترام من كل الناس!!
هم يتساءلون.. وسيتساءلون دوما بكل استغراب وبكل حيرة ما الذي جعل الناس يبدون كل هذا الحزن في موت غازي!!. بل وسيسألهم أبناؤهم وستسألهم أسرهم هل سيحضون (هم) بعد وفاتهم بمثل ما حظي به غازي عند وفاته من حزن وطني واجتماعي تجسد في كل المظاهر؟؟
- ترى لماذا يوزع الناس الحزن بقدر دقيق جدا وتلقائي وطبيعي بين الأموات؟؟
- لماذا يتفاوت حجم حزن الناس بين شخص لآخر عند موته؟؟
- الإجابة هنا أن هناك مسؤولين جاءوا وغادروا كرسي العمل والمسؤولية والسلطة كما حضروا!! مسؤولون جاءوا واستمروا على كرسي المنصب سنوات طويلة ثم منهم من غادر كرسي السلطة دون ان يحس به الوطن والمواطن ودون ان يلمس على الواقع شيئا من انجازاتهم..!!
بل إن هناك منهم الان من هم في ذاكرة النسيان حتى وان كانوا حاضرين على كرسي المسؤولية..!! ولكنهم في أعين الناس كالأموات بانجازاتهم وان كانوا أحياء بأجسادهم؟؟ فهم الان يشاهدون حجم الحزن على غازي القصيبي ومشاهدتهم هذه خير دليل على ان الناس والمجتمع خير من يمنح الإعجاب في المسؤول وفي درجة النجاح والتميز في مسؤوليته في حياته وعند مماته!! ولذلك فهم الان يدركون ان المجتمع هو من يمنح درجات الحزن عند موت الإنسان بكل عدالة وبكل إنصاف قياسا على حجم انجازات المسؤول وحجم إخلاصه وأمانته في مسؤوليته التي تربع على كرسيها لسنوات طويلة؟!!
مات غازي القصيبي وعند موته نعاه بكل صدق كل من سمع عنه وكل من عرفه وكل من قرأ له وكل من سمع له الصغير والكبير الرجال والنساء..
مات غازي القصيبي الوزير والمسؤول والأديب والشاعر والمثقف والإعلامي والناقد والروائي والسفير والدبلوماسي والمتحدث.. وبموته نعاه بكل أسى كل من عمل معه في التعليم وفي سكة الحديد وفي الصناعة والكهرباء وفي الصحة وفي المياه وفي العمل وفي السياسة وفي الأدب وفي الشعر وفي الثقافة!!
مات غازي القصيبي.. وبوفاته تكون وزارة العمل قد خسرت أهم قادتها وفارسها الأول في معركة السعودة وهي المعركة الطويلة التي تخوضها مع (عناصر) أعداء هذه السعودة.. وهي خسارة من المؤكد أنها مكسب وانتصار كبير جدا للطرف الآخر في هذه المعركة!!
مات غازي المواطن المسؤول الذي جاهد خير جهاد في كل معارك الوطن وعلى رأسها معركة تحرير الكويت والدفاع عن الوطن وجهاد غازي كان من خلال الكلمة والشعر البليغ الذي لازال ساطعا كسطوع شمس اليوم في سماء الوطن وفي سماء الخليج ككل.. جهاد سيبقى حاضرا في أذهان كل المواطنين الذي عاصروا تلك الفترة الزمنية العصيبة ومعهم إخوانهم الكويتيين الذين يتذكرون قصيدته المشهورة انذاك خلال الاحتلال عنوانها.. (أقسمت يا كويت برب هذا البيت سترجعين من خنادق الظلام.. لؤلؤة رائعة كروعة السلام)؟؟
مات غازي من غير ان نسمع او نقرا او نشاهد انه وظف احد أبنائه أو احد أقاربه او احد أنسابه في أي من مواقع المسؤوليات الكثيرة التي تولاها على مدى خمسة وثلاثين عاما وهي سنوات مسؤولياته ابتداء من عمله كمدير للمؤسسة العامة للسكك الحديدية في عام 1393ه. ثم وزيرا للصناعة والكهرباء ثم وزيرا للصحة ثم سفيرا للمملكة لدى البحرين ثم سفيرا للمملكة لدى بريطانيا ثم وزيرا للمياه والكهرباء ثم وزيرا للعمل!! وهذه (من المؤكد) انها ظاهرة فريدة جدا؟!!

- مات غازي دون ان نشاهد له قصورا ومخططات وأبراجا سكنية ومزارع واستراحات في كل موقع!!
- هنيئا لك يا غازي في قبرك بحجم هذا الحزن الطبيعي الصادق والدعاء المقبول ان شاء الله..
- وهنيئا لأسرتك بهذه المحبة الوطنية التي زرعها غازي على مدى خمسة وثلاثين عاما بالنزاهة والإخلاص والتواضع..
- هنيئا لكم أبناء غازي بهذا الإرث العملي والفكري الذي تركه والدكم من بعده وهو ارث ليس لكم بل للوطن..

وعزاؤك يا وطني الغالي في فقدان رجل شامل ونادر في كل صفات المسؤولية..

الرياض

***

لنقرأ ما كتبه القصيبي

عبد العزيز الصقعبي

هي إرادة الله أن يرحل الدكتور غازي القصيبي، في وقت نشعر أنه بئر متدفقة من الإبداع لم تنضب بعد، ندعو له بالرحمة وأن يبدله بخير من دار الفناء، الجميع حزن لموته، والجميع كتب عنه وعبروا عن مشاعرهم بفقده، وهذا ليس بغريب، بالذات إذا كان الفقيد جمع بين العلم والعمل، بعضهم توقف عند الرجل الذي تحمل العديد من المسئوليات الإدارية وكانت له بصماته الخاصة بها، ولهم الحق أن يتحدثوا عن الوزير المسئول صاحب القرار الجريء، بالنسبة لنا ككتاب فبكل تأكيد يهمنا غازي القصيبي المبدع المفكر المثقف، مؤلف الكتب العديدة في الشأن العام والإدارة والمختارات لشعرية، وقبل ذلك الشاعر المتميز ومن ثم الروائي والقاص وأيضاً المسرحي، هو إبداع شامل، والقصيبي رحمه الله، مثال حي بأن المبدع يستطيع أن يكتب شعراً ونثراً، ولكن من المهم أن يكون لديه الوعي بذلك النسق الإبداعي، لقد أعجبتني رؤيته في مقدمة المسرحية التي ألفها بعنوان «القفص الذهبي» وهي ربما ترد على نقاش طويل بدأ عندما أصدر روايته الشهيرة « شقة الحرية»، يقول بعد أن تحدث عن الدوافع التي جعلته يكتب مسرحية « القفص الذهبي»:عندما بدأت قبل بضع سنين أنشر أعمالاً روائية تساءل البعض كيف يمكن لشاعر أن «ينبغ» فجأة فيكتب روايات ..حسناً!، في العمل الإبداعي لا يوجد نبوغ مفاجىء. يوجد مجهود دائب صامت طويل يرى القراء نتيجته ولا يعرفون شيئاً عن مقدماته.هنا، في هذا العمل المبكر «القفص الذهبي» المقدمات التي انتهت، فيما بعد بأعمال فاجأت الناس» انتهى كلام القصيبي، هذه المسرحية صدرت في البحرين عام 1998م، ومنذ أيام وجه معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة بفسح وتوزيع جميع كتب الدكتور غازي القصيبي، وهو يشكر على هذه المبادرة المهمة، ولكن نحن نعرف واقع النشر العربي، فكثير من الأعمال الصادرة لا يتجاوز المطبوع منها الألف نسخة، وربما منها هذه المسرحية، فبكل تأكيد، ستصل نسخ محدودة وستنفد مباشرة، وربما سيكون هنالك شيء من المتاجرة بإبداع القصيبي بحيث تتعمد بعض دور النشر بزيادة النسخ المطبوعة وطرحها في السوق السعودي دون حقوق نشر، نريد مبادرة أخرى بطباعة أعمال القصيبي وغيره من رواد الأدب السعودي الراحلين وتوزيعها في جميع المكتبات بأسعار معقولة تدفع من يحب غازي القصيبي وما أكثرهم أن يقتني كل أعماله.

الرياض

* * *

غازي القلوب وداعاً

أحمد المغلوث

لا لم يكن معالي الدكتور غازي القصيبي الذي فقده الوطن .. مسؤولا ومبدعا فقط..؟!! ولكنه كان إنسانا متواضعا ومتميزا ومختلفا وأحد نوابغ هذه الارض المعطاءة وشاعرا من فحولها .. يواكب الحدث معبرا عنه بصدق وشفافية أكان ذلك من خلال الكلمة التي يكتبها بدون صراخ او القصيدة التي يشحنها بالموسيقى او من خلال العبارة الساخرة بدون سفسطة كما فعل خلال حرب الخليج . لقد وظف الكلمة الشعرية في العديد من كتاباته المختلفة فكانت كتاباته أشبه بالحز الشفاف يشف عن حب مواطن صادق لوطنه .. مخلصا فيما يقوله .. لقد خبر الحياة وجعلها اهتمامه الأول .. الحياة المثالية التي كان يحلم بها للجميع .. حياة يتساوى فيها الجميع .. عندما كان الفقيد وزيرا للصحة زار الاحساء في مهمة عمل وكنت الى جواره في الصالة الكبرى بهيئة الري والصرف انتظر منه إجابة على استفسار عندما اقترب احد الأعيان من معاليه وقال له معالي الدكتور : نريد غرفا خاصة في المستشفى فنحن نعاني من عدم وجود غرف خاصة بنا ..؟؟ عندها أجابه هامسا الله خلق الناس سواسية كأسنان المشط وسوف يكونون في هذا المستشفى وغيره سواسية .. .؟ شعر الرجل بحرج كبير وانسحب في صمت .. وعام 1404ه كان لي شرف المشاركة في المعرض التشكيلي السادس المعاصر واقتنيت اعمالي مع ثلاثة من الزملاء وتبرعنا بقيمتها لصالح جمعية رعاية المعوقين التي كان يرأس مجلس إدارتها معاليه رحمه الله .. وفوجئت بعد عدة أيام باتصال هاتفي من معاليه يشكرني على مشاركتي ويثمن تبرعي البسيط بل ويشير الى أنه أرسل لي خطابا بهذا الخصوص مع شهادة من الجمعية .. وبعد سنوات كان لي شرف أن أقدم لوحة ( ديانا والعباءة ) والتي رسمتها بمناسبة زيارة الاميرة الراحلة ديانا للمملكة وقدمها لها معاليه خلال زيارتها للجمعية .. لقد ثمن معاليه ما قمت به من عمل متواضع ونقل لي من خلال اتصاله تقدير الاميرة باللوحة بل وإعجابها الكبير بها .. كان رحمه الله يثمن ويقدر كل عمل يقوم به أبناء الوطن أكان ذلك من خلال الاتصال المباشر بهم او عبر الرسائل الرسمية او حتى الهدايا الرمزية التي يبعث بها اليهم كباقات الزهور والبطاقات البريدية .. كانت هذه الأشياء من معاليه تفعل فعلها السحري في نفوس من تصل لهم .. فغزا قلوب الناس بأفعاله وأعماله وإبداعاته المختلفة .. ولقد امتاز رحمه الله بجمال خطه وفصاحة بيانه وروعة الالقاء.. فكان إذا أنشد قصيدة ملك من السامعين لا آذانهم ولكن قلوبهم ونفوسهم فله أسلوبه الخاص في الالقاء المؤثر .؟؟ جميعنا يذكر قصيدته خلال احتفالية افتتاح جسر الملك فهد .. جسر من الحب لا جسر من الحجر .. وكيف لحظتها سلب القلوب وكانت القصيدة يومها ولعدة شهور حديث الناس كل الناس .. وقد كان شاعرنا الفقيد كاتبا كبيرا بليغ الأسلوب قوي العبارة وكتبه المختلفة في الأدب والشعر والرواية من أكثر الكتب مبيعا في المكتبات .. وماذا بعد رحل عنا المبدع الدكتور غازي .. وهو يحتل المكانة الرفيعة في قلوب الناس .. من أحبه او من اختلف معه .. رحم الله الدكتور غازي رحمة واسعة وجعل ما قدمه خلال مشوار حياته من أعمال جليلة لوطنه في ميزان حسناته وإنا لله وانا اليه راجعون ..

الرياض
18-8-2010

* * *

«شقة الحرية»... رفقاء القصيبي

خطف الموت غازي القصيبي لكن أعماله تبقى عالقة في ذاكرتنا البحرينية ولاسيما في روايته التي مُنعت لفترة من التداول في العام 1994 التي روت من واقع تجربة القصيبي عن مجموعة شبان، أصحاب التوجهات والأفكار المختلفة يسكنون معاً في القاهرة أثناء دراستهم الجامعية في فترة ساخنة من التاريخ العربي الحديث من 1948 إلى 1967 حيث كانت حركات التحرر والاستقلال في أوجها.

«شقة الحرية» التي قرأتها بشغف عندما كنت طالبة في مقاعد الدراسة الجامعية ببريطانيا إبان حقبة التسعينيات من القرن الماضي هي إحدى الروايات التي تركت أثراً في نفسي؛ كونها تحدثت عن أناس قد نعايشهم أو نلتقيهم في حياتنا اليومية وهي قريبة من التجارب والمراحل التي مر بها أهل البحرين؛ لأن القصيبي السعودي كان ابن البحرين أيضاً.

لقد فصّلت روايته حالة التيارات الفكرية لدى الشباب العرب في تلك الفترة المتميزة بمناخ سياسي وثقافي وفني، يحاول فيه بطل الرواية كتابة القصة والانتماء إلى أهل الأدب فتنطلق مشاهداته من صالون العقاد إلى جلسة مع نجيب محفوظ مروراً بأنيس منصور.

وبالنظر إلى ما كتبه القصيبي في زمن قلّما تحدث عن الماديات مقارنة بالزمن الذي نعيشه اليوم فإن هذه «الشقة» قد فتحت باباً عن الحديث حول جوهر الاختلاف وصولاً إلى أهمية الحوار مع الطرف الآخر.

هناك من اعتبر هذه الرواية سيرة ذاتية للقصيبي بسبب تقاطع أحداثها مع جزء من حياته أيام كان طالباً وآخرون انحرجوا منها ولم يحبوها وآخرون وجدوا فيها انطلاقة متميزة وجديدة في كتابة الرواية العربية من منطقة الخليج وتجاوز الممنوعات المتعارف عليها في الكتابة.

ورغم أن هذه الرواية تحولت إلى عمل درامي لم يكن موفقاً إلا أننا نأمل أن نراها تعاد بصورة أفضل، تلامس الواقع الذي كان يتحدث عنه كاتبها، في رمضان المقبل.

لقد كتب القصيبي من بعد هذه الرواية ست روايات، غير أن « شقة الحرية» تبقى رواية شاهدة على فترة وتجربة لا يمكن شطبها من صفحات التاريخ العربي لاسيما بالنسبة إلى تجارب أبناء الخليج، فتحدثت بصراحة وقالت ما كان يجب أن يُقال؛ لأنها كانت «شقة» لكل رفيق عايش القصيبي.

الوسط- البحرينية

* * *

وزير ممنوع في بلاده!

الحبيب الأسود

قد يكون آخر خبر زرع البهجة والارتياح في قلب وزير العمل السعودي غازي القصيبي، قبيل رحيله عن هذه الدنيا صباح الأحد الماضي، هو إعلان زميله وزير الثقافة والإعلام في المملكة بأنه وجه بفسح جميع كتبه والسماح بعرضها في مكتبات بلاده.

فالدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة، قال بأن القصيبي "أديب بارع ويملك تجربة حياتية وأدبية وإدارية متميزة جدا، ووجود نتاجه الأدبي في مكتباتنا يعد إضافة حقيقية لها وللمشهد الثقافي السعودي". ولكن لا أحد حاول أن يبرر حرمان مسؤول كبير في المملكة، عمل سفيرا ووزيرا، من أن يرى مؤلفاته في واجهات مكتبات بلده طوال حياته، رغم أن الجميع يعترف بأنه شاعر وأديب وروائي مرموق، وأنه صاحب رؤية تقدمية وفكر مستنير.

وغازي القصيبي دفع، مثل سعوديين كثر، فاتورة التناقض في سلوكيات مؤسسة الحكم في المملكة، تلك المؤسسة التي تدعم الفكر الليبرالي وتسنده وتحترمه على شرط أن يلعب بعيدا عن مرمى السلطة الدينية المهيمنة على كل شرايين الثقافة والإعلام وعلى حركة المجتمع في الداخل، حتى أن الشخص قد يحظى بثقة الملك والحكومة وقد يشغل أرفع المناصب، وقد تقربه الأسرة المالكة من خصوصياتها شريطة أن لا يحرجها مع شيوخ الدين المتحفزين دائما لمواجهة أو معاقبة كل من يرى ما لا يرون، أو يدعو إلى ما لا يقبلون.

وهذا نلاحظه في وسائل الإعلام السعودية الموجهة إلى الداخل من خارج الحدود، وفي مؤلفات مفكرين وأدباء سعوديين متميزين لا تصل إلى القارئ في المملكة إلا عبر التهريب أو النسخ الإلكتروني، ومنها مؤلفات الأديب والشاعر الكبير الراحل غازي القصيبي الذي اتخذ منه المتشددون في المملكة موقفا متشددا منذ العام 1971 عندما فكرت الدولة بوضع برنامج الأنظمة، وجميع مستشاريه غير سعوديين، وذلك لتدريس خريجي كليات الشريعة أنظمة السعودية لمدة سنتين، وكلفته الدولة بإدارة هذا البرنامج ووضع منهجه، مما جعل الكثيرين يتصورون أنه يدرس الناس "الأنظمة"، أي القانون الوضعي.. حتى أصبح كل ما يقوله يُفسر وفق هذا الفهم.

رحم الله غازي القصيبي الذي أنصفته بلاده في مواقع المسؤولية، وظلمته في ساحة الأدب والإبداع، والذي انتظر طويلا أن تفسح مؤلفاته في بلاده إلى أن تم ذلك قبل أيام قليلة من وفاته من خلال إجراء وزير الثقافة والإعلام عبد العزيز بن محيي الدين خوجة، الذي شاركه هاجس الشعر، ومركز السفارة ثم الوزارة... ولكن المؤكد أن القصيبي لم ينعم بمشاهدة كتبه في واجهات مكتبات الرياض! وهنا تكمن قمة المأساة..

العرب اون لاين

* * *

رحيل الأديب الليبرالي السعودي غازي القصيبي

• أقيل من منصب وزير الصحة بسبب قصيدة "رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة"
• عمل في مطعم هامبرجر في جدة لمدة ثلاث ساعات عندما كان وزيراً للعمل
• كتبه كانت محظورة في السعودية إلى عهد قريب عندما اتُخذ قرار رسمي بالسماح ببيعها

إعداد - هيثم الاشقر :
رحل عن عالمنا امس الدبلوماسي والأديب الليبرالي السعودي غازي القصيبي ، عن سبعين عاما إثر صراع طويل مع المرض.

وتوفي القصيبي بمرض السرطان في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض حيث كان يرقد منذ عودته من البحرين قبل شهر. وكان القصيبي يحظى بتقدير كبير لدى القوى التقدمية في السعودية لجرأته في تناول مشاكل المجتمع السعودي المحافظ. لذلك فإن الكثير من كتب القصيبي، العدو اللدود لأنصار التيار المحافظ لكنه حظي دائما بدعم العائلة المالكة، وكانت كتبه محظورة في السعودية الى عهد قريب عندما اتخذ قرار رسمي بالسماح ببيعها.

وولد غازي القصيبي في الثالث من مارس 1940 في الهفوف لاسرة تجار ميسورة الحال. وبعد ان قضى في الاحساء سنوات عمره الاولى انتقل الى المنامة بالبحرين ليتابع دراسته. ونال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة، ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا. أما الدكتوراه في العلاقات الدولية فنالها من جامعة لندن وكانت رسالته فيها حول اليمن، كما أوضح ذلك في كتابه الشهير "حياة في الادارة".

عمل غازي القصيبي مديرا للمؤسسة العامة للسكك الحديد في السبعينات قبل ان يتولى وزارة الصناعة ويطلق قطاع الصناعات البتروكيماوية السعودية. ولتشجيع الشباب السعودي الذي لا يهتم سوى بالوظائف السهلة العالية الاجر على العمل في الوظائف التي تعتبر في نظره غير محترمة، عمل القصيبي عام 2008، وكان يومها وزيرا للعمل في مطعم هامبرجر في جدة لمدة ثلاث ساعات.

وصراحة القصيبي وجرأة كتاباته جلبت له ايضا الكثير من المتاعب، على الاقل مرتين خلال عمله. ففي عام 1984 عندما كان وزيرا للصحة تم اعفاؤه من منصبه هذا بسبب قصيدة "رسالة المتنبي الاخيرة الى سيف الدولة" التي انتقد فيها الفساد والامتيازات التي كانت تحظى بها الطبقة الحاكمة في عهد الملك فهد.

وفي عام 2002 أعفي ايضا من منصبه كسفير للمملكة في لندن بسبب قصيدة "الشهداء" التي اشاد فيها بالفلسطينية آيات الاخرس التي فجرت نفسها في سوق في القدس ما ادى الى مقتل اثنين من الاسرائيليين في الوقت الذي كانت فيه الاجواء مشحونة بسبب احداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك. وبعد عودته الى الرياض عين وزيرا للمياه والكهرباء الامر الذي يدل على دعم القصر الملكي له.

وخلال عمله كسفير للسعودية في البحرين عند غزو العراق للكويت عام 1990 كتب القصيبي مقالات ينتقد فيها الحكومات العربية والمجموعات الاسلامية التي تأخذ على السعودية تحالفها مع الولايات المتحدة متسائلا كيف يمكن لاحد الدفاع عن صدام حسين. ويعتبر كتابه "ازمة الخليج: محاولة للفهم" دراسة جادة لمعرفة أسباب هذه الحرب ودوافعها وسياساتها وصنع قراراتها والنتائج التي تمخضت عنها.

وللوزير الراحل نحو 20 كتابا ورواية، فضلا عن كم كبير من المشاركات الكتابية والمحاضرات وغيرها. ومن اشهر رواياته "شقة الحرية" (1996) التي كانت ممنوعة من التداول في السعودية، وتحكي قصة مجموعة من الشبان المختلفي التوجهات والأفكار يسكنون معا في القاهرة اثناء دراستهم الجامعية هناك لتفصل الرواية حالة التيارات الفكرية لدى الشباب العرب في الفترة الملتهبة من التاريخ العربي 1948 - 1967. وهذه القصة مستوحاة من التجربة الذاتية للكاتب نفسه اثناء فترة دراسته للقانون في جامعة القاهرة والتي وصفها بأنها فترة غنية جدا.

وبعد فشل القصيبي في الوصول الى رئاسة منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) عام 1999 امام المرشح الياباني كوشيرو ماتسورا، اصدر روايته "دنسكو" التي ينتقد فيها هذه المنظمة الدولية من خلال قصة مرشحين من عدة قارات يتنافسون للفوز برئاسة منظمة تسمى دنسكو.

وبعد احداث 11 سبتمبر حذر القصيبي من "صراع حضارات"، مدينا في الوقت نفسه زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن الذي وصفه بانه "ارهابي" و"وحش بشري". وقال في حديث للـ بي.بي.سي "نخشى ان تتحول هذه الحرب على الارهاب، التي ندعمها بلا اي تحفظ، الى حرب لامريكا والغرب على الاسلام".

ومن ابرز الاعمال الاخرى للقصيبي "العصفورية"، "سبعة"، "هما"، "سعادة السفير"، "سلمى"، "ابو شلاخ البرمائي". ومن مؤلفاته في الشعر "صوت من الخليج"، "الاشج"، "اللون عن الاوراد"، "اشعار من جزائر اللؤلؤ"، "سحيم"، و"للشهداء".

وقد أدى الأمير سطام بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض بالنيابة صلاة الميت على الدكتور غازي القصيبي عصر امس بجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض. وقد أم المصلين سماحة مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ. كما أدى الصلاة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز مساعد وزير البترول والثروة المعدنية وصاحب السمو الأمير سعود بن ثنيان آل سعود رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع وصاحب السمو الأمير خالد بن سعود بن خالد وكيل وزارة الخارجية وأبناء الفقيد سهيل وفارس ونجاد وعدد من أصحاب الفضيلة والمعالي الوزراء وكبار المسؤولين وجمع من المواطنين.

الراية القطرية
18-8-2010

* * *

وترجل الفارس غازي القصيبي

كتب فيصل العلي:

غيب الموت الشاعر الأديب الدكتور غازي القصيبي بعد رحلة علاج طويلة كانت آخر محطة لها في الولايات المتحدة الأمريكية والذي كان يشغل منصب وزير العمل في المملكة العربية السعودية.
ولد غازي عبدالرحمن القصيبي في عام 1940 في منطقة الإحساء بالمملكة العربية السعودية.

ودرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ليحصل على الليسانس في القانون في عام 1961 ومن ثم درس الماجستير في العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا في عام 1964 ولم يتوقف القصيبي عن طلب العلم ليتابع الدراسة حتى نال شهادة الدكتوراه في القانون الدولي في جامعة لندن في عام 1979 ليعود بعدها الى بلده فعمل أستاذا مشاركا في كلية التجارة بجامعة الملك سعود في الرياض ثم عمل مستشارا قانونيا في مكاتب استشارية وفي وزارة الدفاع والطيران ووزارة المالية ومعهد الإدارة العامة ثم أصبح عميدا لكلية التجارة بجامعة الملك سعود ثم مدير المؤسسة العامة للسكك الحديدية ثم أصبح وزيرا في أكثر من وزارة منها الصناعة والكهرباء والصحة ثم تم تعيينه سفيرا في مملكة البحرين ثم في المملكة المتحدة ليعود وزيراً للمياه والكهرباء ثم وزيرا للعمل.

وقبل العمل السياسي والدبلوماسي اكتسب القصيبي شهرة واسعة شعرياً وأدبياً انطلقت من المملكة العربية السعودية لتصل الى منطقة الخليج العربي ثم الى بقية البلدان العربية بل والى بعض البلاد الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

مواقف لا تنسى

وهناك الكثير من المواقف التي لا تنسى للشاعر الراحل خاصة إبان الاحتلال العراقي للكويت في عام 1990 فقد كان سفيرا فلم يحصل على إجازته السنوية وكان حلقة وصل بين وجدان أهل الكويت والخليج ووسائل الإعلام فاضافة الى التصاريح الصحافية والمقالات التي كان يكتبها بشكل شبه يومي كانت له قصائد عدة تندد بالاحتلال العراقي للكويت ومنها ما تغنى به الفنان محمد عبده الذي غنى له أكثر من أغنية فعمل مع فنان العرب في مجموعة من الأغنيات التي يمكن ان تصنف ضمن أدب الحرب منها:

«أجل نحن الحجاز ونحن نجد» و«أقسمت يا كويت» التي منها:

أقسمت يا كويت
برب هذا البيت
سترجعين وردة رائعة كروعة النهار

بين الشعر والرواية

وقد كتب الشاعر القصيبي العديد من دواوين الشعر هي «ورود على ضفائر سناء» و«للشهداء»: ديوان شعر «سلمى» و«قراءة في وجه لندن» و«يا فدى ناظريك» و«اللون عن الأوراد» و«سحيم» كملحمة شعرية ومختارات شعرية عن «الإلمام بغزل الفقهاء الأعلام» ومختارات من الشعر العربي اضافة الى انه فاجأ الجمهور برواية تحمل اسم «شقة الحرية» التي كان لها وقع كبير على الساحة الأدبية والنقدية في السعودية والخليج والوطن العربي خاصة أنها تمثل مرحلة مهمة من حياة الشاعر والوطن العربي حيث المد القومي وكاريزما جمال عبدالناصر وإشارة الى حياة صدام حسين في مصر وامور أخرى بين السعودية والبحرين وقد تحولت الرواية الى مسلسل تلفزيوني ثم تبعها بروايات عدة هي «العصفورية» و«رجل جاء وذهب» و«سلمى وحكاية حب» و«سبعة وسعادة السفير» و«العودة سائحا الى كاليفورنيا» وهما: حكاية الرجل والمرأة كما كتب بعض الكتب مثل الاسطورة عن الأميرة ديانا وكتاب عن التنمية السعودية وعن الثورة في السنة النبوية والخليج يتحدث شعراً ونثراً سير أعلام من الخليج العربي وعن ترشحه لمنظمة اليونسكو وأمريكا والسعودية، حملة إعلامية أم مواجهة سياسية: عن الحملة الإعلامية الأمريكية ضد السعودية بعد أحداث 11 سبتمبر.

ولقد أطلق عليه لقب «الظاهرة» لأنه كان متعدد المواهب وأبدع بالعديد من المجالات من الشعر إلى الرواية إلى المقالة، وكان سفيرا يحظى بحضور إعلامي كبير كما كان وزيرا له انجازات كبيرة ساهمت في خدمة بلده المملكة العربية السعودية التي تفخر بان بها ابن بار هو غازي القصيبي الذي سيبقى خالدا ومعه شعره الرائع.

الوطن الكويتية

* * *

أدباء مصريون: كان كله موقفا أصيلا

محمد الحمامصي

محمد الحمامصي من القاهرة: شكل رحيل الشاعر السعودي غازي القصيبي فاجعة للكثير من المثقفين والكتاب والأدباء العرب، ففضلا عن حضور القصيبي المتميز شاعرا وكاتبا وروائيا، كان له حضوره الثقافي والإنساني، حيث استقبلته العواصم العربية في محافلها وأمسياتها وندواتها الأمر الذي جعله قريبا حتى في ظل مسئولياته سواء عندما كان وزيرا أو دبلوماسيا.

القصيدة والإنسان
يقول الشاعر جمال القصاص: لم أحظ بمقابلة الشاعر والأديب العربي د.غازي القصيبي لكنني بحكم عملي في جريدة الشرق الأوسط وعلى مدار سنوات طويلة كنت أستمتع بمقالاته التي كان يكتبها بين الحين والآخر، لقد كان رحمه الله صاحب معدن أصيل، كان له موقف وطني ناصع وهو أن العرب أصحاب حضارة ويملكون المقدرة على المشاركة بقوة في صناعة مستقبل العالم، وأنهم يرفضون دور التابع والخانع لسياسات الغرب التي يمليها وفقا لشروطه ومصالحه السياسية والاقتصادية.
تحمل القصيبي تبعات هذا الموقف المشرف بشرف وأمانة ولم يكترث لما قد ينجم عنه من مواقف قد تكد حياته، وبالفعل تجسد هذا الكدر في عملية إقصائه المباغتة من قيادة سفارة المملكة العربية السعودية في لندن، وبعد سنوات طويلة من العمل في السلك الدبلوماسي استطاع خلالها أن يبلور موقفا صلبا للدبلوماسية العربية في الغرب يساند ويدافع عنها، ويكشف زيف التواطؤات والمؤامرات التي تحاك ضدها.
موقف كل هذا لا ينفصل عن موقف القصيبي الشاعر والأديب، فلقد كان الهم العربي وقضايا الإنسان العربي أحد الشواغل الأساسية في شعره، حتى أنه كان يوحد في الكثير من قصائده بين مأزق الإنسان العربي ومأزق القصيدة نفسها، حيث تقنية الكتابة وشكل اللغة والدلالات والرموز، فالإنسان في شعره هو القصيدة وهو ما وراءها من أفكار ورؤى.
لقد امتازت قصيدة القصيبي بطاقة هائلة على الحلم والحب تجسد في لغة شفيفة وعذبة وقدرة طازجة على إثارة الخيال والأسئلة، وبهذه الروح الشعرية خاض مغامرة الكتابة الروائية، فمس في روايته "شقة الحرية" عصب الحداثة، بالمزج بين إيقاع السيرة الذاتية ومكاشفة الروح في مرآة زمن حي دوار، يجمع الماضي والحاضر في نسق سردي خصب، له رائحة خاصة حميمة، قادرة على أن تنقلك من دور القارئ المحايد إلى دور الصديق والعاشق، وكأنك أحد أبطال هذه الشقة بالفعل، أو كأنك تحلم بذلك.
رحم الله غازي القصيبي وأظن أن عطاءه الخصب سواء في الشعر أو في الأدب سيظل علامة لافتة وإضافة حقيقية في ذاكرة الثقافة العربية.

واضح الحجة
وقد نعت الشاعر والكاتب الكبير الدوائر الثقافية في مصر وفي مقدمتها مكتبة الإسكندرية، حيث نعى مديرها د.إسماعيل سراج الدين الفقيد في بيان جاء فيه "رحل عن دنيانا، إلا أنه لم ولن يرحل عن ذاكرتنا، إنه الأكاديمي والشاعر والأديب والدبلوماسي والوزير والإنسان غازي القصيبي الذي ننعى وفاته ببالغ الحزن والأسى، عرفته قويّ الشكيمة، طويل الباع، لا يحيد عن هدفه، واضح الحجة، منطقي التفكير، مر الرجل على مدار حياته بالكثير من التجارب الحياتية التي لم تزده إلا شجاعة وثبات؛ إذ أحدثت معظم مؤلفاته الأدبية ضجة كبرى حال طبعها، ومُنع كثير منها من التداول في بلده، وهاجمه ضيقوا التفكير والمتسلطين الذين نصبوا أنفسهم قضاة على الفكر والإبداع. تميز الراحل في كافة المواقع التي تولاها تعاونا سويا حينما كان وزيرا للصناعة من خلال عملي في البنك الدولي فكانت ثمرة هذا التعاون العديد من المشروعات التنموية ، كما أنه ذو شخصية متعددة المواهب؛ وهو ما يظهر جليا في تنوع المواقع التي شغلها.كانت بيننا منافسة علي منصب مدير اليونسكو بالرغم من كونها معركة انتخابية إلا أنها لم تمس صداقتنا الوطيدة بل تقابلنا بعدها في لندن في جلسة مطولة كانت صريحة إلي أبعد حد أكدت هذه الجلسة مدي ما يجمعنا سويا من الحرص علي الثقافة المعاصرة الحيوية التي تعطي للعرب الكثير، إنني إذ أنعي هذا الرجل المستنير، أؤكد أن إرثه سيظل باقيا في وجدان وعقل هذه الأمة".

جيل تشكل وعيه عليه
ويؤكد الشاعر السعودي محمد خضر أن رحيل القصيبي يعد خسارة فادحة، ويقول: من زمن وفي وجداننا الإبداعي والإنساني كان صوته من خلال أعماله الأدبية وحضوره ومواقفه الشجاعة مؤثرا، ولعل جيل كامل تشكل وعيه بقراءة القصيبي المبدع والدبلوماسي والمثال على النجاح والوعي المغاير في زمن مبكر.
القصيبي المبدع والشاعر الكبير الإشكالي والمثقف المختلف.. أذكر أنه في أحد حواراته كان يقول إذا تذكرني التاريخ يوما فإنه حتما سينسى كل شيء ويتذكرني شاعرا، ومع كل هذا لا ننسى وعيه المبكر بالحداثة في حياته وأفكاره ورؤاه ومؤلفاته في الإدارة والتنمية.
رحيل القصيبي حقا يكاد لا يصدق فهو الشاعر والمبدع الكبير الذي نشأنا ونحن نعرفه ونقرأه له ونختلف معه ونتفق معه.. وكأنما هو جزء من وجداننا وتكويننا الثقافي بل لا يكاد أن نلتقي بأحد من الناس بكافة شرائحهم هنا لا يعرف غازي القصيبي.

ريادة في الدبلوماسية والأدب معا
وعدّ الشاعر الإماراتي خالد الظنحاني القصيبي رمزا فجع الشعر والأدب برحيله، وأضاف: ليس من السهولة بمكان أن تمر فاجعة رحيل د.غازي القصيبي دونما بكاء للقلب والعين معا، فهو من رموز الأدب العربي، ورجل من الطراز الأول في فعل الإبداع وقول الحقيقة ،هذه الأخيرة التي غابت عن المثقف العربي في زمن تمجد فيه المجاملات على حساب الحق،،هذا الرمز، شاعر من أهم الشعراء الذين عملوا بحب وتفانٍ،،هذا الرمز كاتب وروائي أسهم إسهاماً فاعلاً في خدمة الشعر والأدب والثقافة عموما من خلاله أعماله ومبادراته الأدبية التي لا ينكرها أحد، لقد كان رحمه الله متعاوناً ومتفاعلاً مع هموم المجتمع المحلي والعربي وقضايا الأمتين العربية والإسلامية كقضية فلسطين وغيرها، وقد تميزت إبداعاته بروعة العبارة، وبأسلوب متناغم مرهف وخلاق.
نعم نحن اليوم نودع رائدا من رواد الدبلوماسية والأدب معا، ونشعر بالخسارة التي حلت بالمشهد الثقافي العربي برحيله المفاجئ،وسنعمل جاهدين على إقامة العديد من الفعاليات الأدبية في دولة الإمارات، احتفاءً بإبداعاته المميزة وتخليدا لذكراه المجيدة.

في ساحة الإبداع
الكاتب مصطفى عبد الله "مساعد مدير تحرير جريدة الأخبار" ربما كان د.غازى القصيبى من ألمع المبدعين السعوديين في زماننا بما امتلكه من موهبة في العديد من مجالات الإبداع الأدبي ورؤية مستنيرة مما أكسبه هذه الشعبية والشهرة في مختلف أرجاء العالم العربي على المستوى الإبداعي والأكاديمي أيضاً، وقد عكست أعماله الأدبية بدءاً من "شقة الحرية" تجاربه فى المراحل العمرية المختلفة: طالباً مغترباً ودبلوماسياً ووزيراً حمل أكثر من حقيبة كلها كانت بعيدة عن الثقافة والإبداع، وقد كان ناجحاً فى حياته العملية بنفس القدر الذي شهدناه في ساحة الإبداع وكم أسعدنى قرار صديقي الشاعر د.عبد العزيز خوجة، وزير الثقافة السعودي، بإتاحة مؤلفات القصيبي للقارئ في داخل المملكة، وأتصور أن إبداع القصيبي يصلح لأن يكون مادة للعديد من الرسائل الجامعية في جامعات مصر وغيرها من البلدان العربية، وربما الأجنبية أيضاً.

المثقف صاحب الموقف
الكاتب الروائي السيد نجم : أحيانا يقع المثقف العربي فى حيرة من أمره، أمام بعض الشخصيات أو المواقف أو حتى الأخبار، منها ما شعرت به فور قراءة خبر المثقف (عرفته هكذا) السعودي "غازي القصيبى!
فقد التبستنى قناعة أن الرجل من المثقفين العرب الجديرين بالمتابعة، وذلك منذ سنوات طويلة، يوم أن وقعت فى يدى مجلة تصدرها السفارة السعودية بلندن، وأظن كان ذلك فى إحدى رحلات السفر بالطائرة، بينما وجدت المجلة ضمن المطبوعات في ظهر المقعد أمامي، وان تصفحتها على أنها مجلة رسمية تصدر عن سفارة، في بادئ الأمر، إلا أنني سرعان ما انتبهت إلى الجهد الحرفي والفكري المتضمن ببعض موادها، ما جعلني انتبه على اسم رئيس التحرير والسفير "غازي القصيبى".
ومنذ ذلك اليوم البعيد أتابع أية أخبار عنه، وأي نشاط فكرى أو إنتاج أدبي، وزاد تطلعي فوري علمي بوفاته، حيث كانت المقالات التي نشرت على الانترنت توجز وتجمل ما أعرفه أكثر كثيرا عما كنت أعرفه من قبل، لذا أعود إلى سؤالي عن سر عدم التواصل أو التقصير بين مثقفي العالم العربي، هل يرجع إلى المثقف أم إلى المؤسسات الإعلامية؟ أم إلى النظم الحاكمة التي لم تعد تولى للثقافة أو المثقفين القدر الواجب من الاهتمام والرعاية والمتابعة.
رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان عربي الانتماء، تشغله القيم العليا وقضايا الإنسان، في الحرية والحياة الكريمة.

* * *

غازي القصيبي، كتب بالأشخاص وليس عنهم!

عصام عبدالله

العظماء فقط، هم الذين لا نسبق أسماءهم بأية ألقاب، غازي القصيبي واحد منهم. أهداني كتابه عن " أزمة الخليج " الصادر عن دار الساقي بلندن (علي ما أتذكر) وكتبت عنه مقالا في جريدة الأهرام في أوائل التسعينيات، كان سبب شهرة لي لمجرد عرضه وتقديمه للقارئ. الصدق والموضوعية والحرفية العالية في هذا الكتاب، والقضايا المسكوت عنها التي فجرها بسلاسة وعمق، جعلت منه أهم مرجع توثقي للطبقات " الجيو – نفسية " العربية - العربية.

الشخصيات التي رسم ملامحها قبل عشرين عاما، هي هي نفسها التي صورها في كتابه " الوزير المرافق "، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 2010، ربما لأنه لم يكتب عن الأشخاص الذين عايشهم فترة عمله وزيراً للصناعة ووزيراً للصحة، إذ قام بدور الوزير المرافق لرؤساء وملوك زاروا المملكة، وأيضا مرافقة ولي العهد أو الملك السعودي في فترة السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وإنما لأن القصيبي الأديب كان يكتب (بالأشخاص) ويرسم بهم لوحة طبيعية شديدة الخصوبة والحيوية والتنوع.
يقول: " في هذا الكتاب فصول تحمل انطباعاتي الشخصية عن عدد من رؤساء الدول والحكومات، وقد حرصت على أن تبقى الانطباعات كما دونتها أول مرة منذ سنين طويلة...".
ولنبدأ من الصفحات الأخيرة والمعنونة " فاس... بين قمتين " حيث يستعرض القصيبي معظم الرؤساء العرب (بعبلهم) أو كما رآهم في القمة: ياسر عرفات، الذي عاصر كل التجارب المريرة – علي حد تعبيره - كان «يلقي بالكلام على عواهنه، وألفاظه تسبق تفكيره...». والملك حسين كعادته «منطقي منظم الأفكار شمولي النظرة». و«صدام حسين تمثيل بشري صادق للعنجهية والغرور». بينما «حافظ الأسد» هو «أكثر الزعماء العرب قدرة على الشرح والإقناع». و«الملك فهد.. لا يتكلم إلا قليلاً وبحساب». أما زعماء الخليج فقد " صمتوا طوال الوقت ".
لن تفارقك الابتسامة علي طول صفحات الكتاب، وأحيانا تمتزج ابتسامتك بالبكاء أو الرثاء أو السخرية، لا يهم، لأن عين القصيبي هي عين كاميرا في النهاية، تسجل اللحظة كما هي وتقبض عليها في طلاوتها وبراءتها، بدأت قمة فاس الأولى بمناقشة مشروع فهد للسلام الذي انطلق من تصريح للأمير وتباينت الآراء حول كلمة «تعايش» في ديباجته، وهنا قرر رئيس القمة الملك «الحسن الثاني» سحب المشروع، بعد أن أصرّ الأمير فهد على ذلك لوقف تطاول بعض الألسنة التي جرّحت المملكة. الغريب أنه في القمة الثانية انقلب الحال 180 درجة، وأصبحت الأجواء مهيأة لتبني المشروع من (جميع الدول) بعد إصرار سورية على تعديل كلمة " تعايش"، فقط.

عاش الأمير فهد سنوات طويلة يشعر بالحسرة علي أهم فرصة ضائعة أمام الفلسطينيين والعرب، فقد كان الأمير فهد كما يصفه القصيبي متمسكا بدولة فلسطينية مستقلة، ورغم أن الرئيس الأمريكي " جيمي كارتر " أنكر دور الأمير فهد حين صرح ذات يوم بأنه " لا يوجد قائد عربي طالب بالدولة المستقلة "، مع أنه ذكر في مذكراته بأن: " السعوديين وحدهم من يقولون في العلن ما يقولونه تماماً في المحادثات الخاصة " كما يؤكد (الوزير المرافق).

حنكة الأمير فهد السياسية تظهر جلية في هذا الكتاب، ففي الفصل المعنون «البيت الأبيض.. بين سيدين» تحدث القصيبي عن «نيكسون إمبراطور واشنطن» وقضية «ووترجيت» التي أطاحت به في الولايات المتحدة الأميركية حيث قدم استقالته ورحل، وكان هو السيد الأول الذي التقاه القصيبي في الزيارة الأولى عام 1974 مع النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير فهد.
ويحكي القصيبي أن وزير الدفاع في عهد نيكسون هو شليسنجر وحين صار وزيراً للطاقة في عهد «كارتر» ترأس الوفد الأميركي في اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي بين السعودية وأميركا، بينما تولي الأمير فهد رئاسة الجانب السعودي، وعرض شليسنجر وقتئذ مقترحاً - لا يخلو من غرابة وطرافة في نفس الوقت، ومفاده أن تقوم المملكة وعلى نفقتها ببناء المخازن المعدة للاحتياطي الاستراتيجي النفطي في أميركا، ثم تشحن النفط على نفقتها الخاصة إلى أميركا لوضعه في المخازن، وذلك لضمان تدفق النفط لو حصلت اضطرابات، وأنه بوسع المملكة أن تحظر النفط بكل اطمئنان، بعد ذلك!
يقول القصيبي: «كوزراء سعوديين حاضرين جميعنا نظرنا لبعض وحسدنا الأمير فهد على سعة صدره وهدوء أعصابه ورباطة جأشه، فقد قال للوزير الأميركي: «هذه على كل حال فكرة تستحق الدرس والعناية...». تلك كانت واشنطن «نيكسون» أما واشنطن «كارتر» فليس هناك أباطرة ولا نجوم. رئيس متواضع لكنه كما وصفه الأمير فهد «لا ينفع صديقاً ولا يضر عدواً»، فقد تبنى الاعتراف في تلك الأيام بمنظمة التحرير بشروط ليست صعبة وذلك برعاية الأمير فهد.

الرئيس الفرنسي " ميتران " حسب الوزير المرافق: «رجل ذكي، قوي الشخصية، ولكنه إنسان متجهم لا يتصف بالمرونة... نادراً ما رأيته يبتسم خلال الزيارة»... " ابتسامته النادرة كالورد الاصطناعي، هل هذه طبيعته؟ لا أدري. ربما كان السبب القلق الطبيعي الذي حسّه رجل اشتراكي ماركسي وهو يزور بلداً محافظاً ».
أما الرئيس الأوغندي " عيدي أمين "، قاهر الإمبراطورية البريطانية وحامل وسام الملكة فكتوريا، فقد طلب القصيبي مرافقته من رئيس المراسم الملكية أحمد عبدالوهاب وقتئذ، ربما ليرسم لنا أصعب فترة حكم في القارة السمراء أمتدت عقدا من الزمان وشهدت المجازر وأجهزة المخابرات والجثث الطافية على النهر والفضائح النسائية لأكثر الرؤساء تخلفا وجهلا. ففي أثناء حرب أكتوبر 1973، زار عيدي أمين المملكة وحسب رواية الأمير فهد الذي حضر اجتماع " أمين " بالملك فيصل، عرض " أمين " «خطة جهنمية» لمهاجمة إسرائيل بحيث تنقل طائرات عربية مئات الطيارين العرب إلى المطارات العسكرية الإسرائيلية وتحط بهدوء ثم ينقض الطيارون العرب على الطائرات الإسرائيلية ويطيرون بها ثم يدكّون إسرائيل، فرد عليه الملك فيصل بذكاء دون أن يحرج مضيفه: بأن عليه عرض الخطة على دول المواجهة، وأن المملكة جاهزة لأي رأي تراه الدول العربية المعنية!

وفي مرة زار الملك فيصل أوغندا وتفاجأ بحفل ترقص فيه فتيات ويغنين للملك «إنا أعطيناك الكوثر» فشاح الملك فيصل بنظره بعيداً، بينما أعتقد «أمين» أنه قدم للملك حفلة (إسلامية) حسب وصف القصيبي الذي راح يعدد مطالب الرئيس الزائر بعد أن استقبله الأمير فهد - ولي العهد آنذاك - مع الوزير المرافق وخرج عليهما من طائرته الصغيرة بلباس عجيب جعل الأمير فهد يُخفي ابتسامته عن الرجل والصحافة. لقد انتهى حكم " عيدي أمين " وفر إلي ليبيا ثم لاذ بالمملكة حيث توفي سنة 2003.

لكن أغرب صفحات هذا الكتاب الممتع كانت من نصيب ليبيا أيضا، خاصة لقاء القصيبي «مع الأخ العقيد.. في الحافلة»، حيث يذكر أن أول ليلة في ضيافة العقيد نام الوفد السعودي في البلكونات لشدة الحر وخلو الغرف من المكيفات، ثم يُبرز لنا الوزير نقاشات مختلفة بين مستشار الملك خالد الشرعي وبين العقيد في جوانب فقهية كثيرة وأهمها اختراعه لتاريخ هجري لمخالفة المسيحيين الذين يؤرخون بميلاد السيد المسيح، وحجة القذافي إنه ابتكر هذا التاريخ لأنه حاكم مسلم وعمر بن الخطاب حاكم مسلم، فسأله «الملك خالد مذهولاً: أنت مثل عمر بن الخطاب؟!».. كان رد العقيد صادما: «الأيام بيننا.. سوف ترون...».
لاحظ الملك خالد علامات القهر بادية علي الرائد الليبي «عبدالسلام جلّود» الذي لا يكاد يجلس حتى يأمره العقيد القذافي بأمر لا قيمة له كجلب الشاي أو توجيه الشرطة ألا تسرع أمامهم، فأراد الملك خالد أن يطيب خاطره، وقال: «يا أخ عبدالسلام، شكراً لك، سيد القوم خادمهم ». لكن يبدو أن هذا الرائد كان (حالة خاصة)! فقد كان شديد السذاجة حسب وصف القصيبي، فقد سأل الرائد جلود الوزير المرافق: «لماذا لا يثق (الرئيس السوداني) جعفر نميري بنا؟...»، فأجابه القصيبي: لأنكم دبرتم انقلاباً رهيبا ضده ً... فقال الرائد: «صحيح إنا «دبرنا عليه انقلاب». ولكننا اعتذرنا له بعد ذلك. ألا يكفي؟».. يعلق القصيبي على كلام الرائد بأنه كان يتحدث بجد ولا يمزح، فـ«بإمكانك أن «تُدير» انقلاباً على رئيس دولة مجاورة يقتل فيه المئات وتسفك الدماء البريئة... ثم يفشل الانقلاب، فتعتذر له، وكأن شيئا لم يكن!
رحم الله " غازي القصيبي " رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وخالص العزاء لأسرته ومحبيه في كل مكان وزمان.

2010 الثلائاء 17 أغسطس

* * *

وها هو القصيبي أيضا يغادرناا....

عزيز الحاج

ما بين أيام وأيام رحلت عنا، وعن الفكر والإبداع، مجموعة من خيرة المثقفين العرب، ممن كان لكل منهم دوره وتأثيره، وكل منهم ترك وراءه فراغا مؤلما.
"رحلات" بدأت بالمفكر الجريء الدكتور حامد أبي زيد، ثم المفكر الشجاع أحمد البغدادي، فالروائي الجزائري المبدع الطاهر وطار؛ والآن فجيعتنا بالدكتور الأديب والمفكر، المرحوم غازي القصيبي.
قبل رحيل القصيبي بأسابيع قليلة جدا، قرأت خبر "الإفراج" الرسمي عن مؤلفاته في السعودية، ولم أكن لأتصور حظرها وهو، عدا دوره الأدبي والفكري، كان وزيرا. فكيف يجري حظر كتبه مع أنه وزير؟!! تلكم مفارقة تدل، كما تدل ظواهر وحقائق أخرى، على قوة التيارات الدينية السلفية المتعصبة في المملكة، والتي ناصبت الفقيد منذ السبعينات عداء متواصلا، إن على أفكاره التجديدية أو على شعره، وهي نفس القوى التي وصمت أشعار نزار قباني الغزلية بالفسق والفجور. ومما يحسب لغازي القصيبي جرأته في الرد، وصموده أمام قوى التخلف والتزمت، ومواصلة عطائه الفكري والروائي والشعري. ومع أن بعض الخطوات الانفتاحية قد تمت في السعودية، فإن المعركة ستكون طويلة شاقة نظرا لرسوخ قوى وأفكار التطرف والتزمت الدينيين. وأذكر ما كتبه طارق الحميد، في العام الماضي، تعليقا على وجود عدد كبير من المعتقلين الإرهابيين السعوديين في العراق وغير العراق، ودعوته لبذل كفاح فكري مستمر، خصوصا في مجال التعليم والإعلام.
وغازي القصيبي جلب اهتمامي أيضا عندما كان مرشحا لمنصب المدير العام اليونسكو في عام!999، وكان هناك إجماع عربي رسمي على ترشيحه، ولكن ذلك لم يمنع الأكاديمي المصري، الدكتور إسماعيل سراج الدين من أن يدخل منافسا بترشيح نفسه مدعوما من دولة من أفريقيا السوداء لا من دولة عربية، وإن اشتغلت الدبلوماسية المصرية لصالحه في الكواليس! وكان هذا الترشيح الجديد بمثابة الشرخ في الجهد العربي المشترك.

لقد كنت أرى أن غازي القصيبي، كشخص ومؤهلات فكرية وإدارية، جدير بقيادة سكرتارية اليونسكو باقتدار، ولكنني لم أكن متفائلا من النجاح، لأن المجتمع الدولي كان ينظر إلى أبعد من أشخاص المرشحين، وأعني إلى أوضاع المرأة في السعودية والبلدان العربية، وعدم توقيع بعضها على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان. وقد عبرتْ عن التقدير السلبي للوضع والمجتمعات العربية صحيفة الغارديان بتاريخ 7 أغسطس!999. فبعد إشادة الصحيفة بكل من القصيبي وسراج الدين، نقلت على لسان سفير غربي ما يلي:
" لا نريد أوروبيا آخر [ للمنصب]، ولكن تحرير المرأة، وحقوق الإنسان، وإلغاء الرق، وغيرها هي في مقدمة قائمة أوليات اليونسكو، وهذا ما لا ينطبق بالضرورة على الثقافة العربية."
وقد تميزت حملة القصيبي الانتخابية بالموضوعية والنزاهة وعفة اللسان وسلامة الأساليب، والأخلاقية العالية، ولم يمس، في بياناته وتصريحاته، أية دولة من الدول ذات المرشحين، كما ترفع عن الرد على بعض المهاترات. وهكذا كشفت تلك المعركة الدولية، ورغم الخسارة لصالح مرشح اليابان، عن قوة شخصية غازي القصيبي ورصانته، بجنب مؤهلاته الأخرى.
إن المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى مثقفين متنورين شجعان، لا يترددون عن قول الحق، وعن إدانة التخلف والتطرف والإرهاب المتستر بالدين، وعن الدفاع عن المرأة وحرية الرأي والمعتقد. ومن حسن الحظ أن لدينا فريقا من هؤلاء، ولكن المنطقة تحتاج للمزيد نظرا لقوة التيارات المحافظة والمعادية لقيم الديمقراطية والحداثة. وقد كان غازي القصيبي يشغل مكانا خاصا في هذه المعركة الفكرية، ومن هنا فداحة الخسارة. فمجدا لذكراه.

ايلاف
2010 الثلائاء 17 أغسطس

* * *

عندما بلغ الوزير والمفكر والشاعر الراحل غازي القصيبي سبعون عاما في 7/3/2010مـ ، كتب قصيدته

" سيدتي السبعون":

ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟!
لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ
جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً
كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ
أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً
إذا التقينا ولم يعصفْ بيَ الجَذَلُ
قد كنتُ أحسبُ أنَّ الدربَ منقطعٌ
وأنَّني قبلَ لقيانا سأرتحلُ
أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً
بأيِّ شيءٍ من الأشياءِ نحتفل؟!
أبالشبابِ الذي شابتَ حدائقُهُ؟
أم بالأماني التي باليأسِ تشتعلُ؟
أم بالحياةِ التي ولَّتْ نضارتُها؟
أم بالعزيمةِ أصمت قلبَها العِلَلُ؟
أم بالرفاقِ الأحباءِ الأُلى ذهبوا
وخلَّفوني لعيشٍ أُنسُه مَلَلُ؟
تباركَ اللهُ! قد شاءتْ إرادتُه
ليَ البقاءَ.. فهذا العبدُ ممتثلُ!
واللهُ يعلمُ ما يلقى.. وفي يدِه
أودعتُ نفسي.. وفيه وحدَه الأملُ

* * *

وعلى فراش المرض الذي داهمه قبل عشرة أشهر كتب قصيدته " سامحيني هديل" وهو يعاني الألأم الجسدية والنفسيه مناجيا ربه ، ومصوراً معاناة ابنته " هديل" :

" سامحيني ياهديل"

أغالب الليل الحزين الطويل
أغالب الداء المقيم الوبيل

أغالب الألأم مهما طغت
بحسبي الله ونعم الوكيل

فحسبي الله قبيل الشروق
وحسبي الله بُعيد الأصيل

وحسبي الله إذا رضنّي
بصدره المشؤوم همي الثقيل

وحسبي الله إذا أسبلت
دموعها عين الفقير العليل

يا رب أنت المرتجي سيدي
أنر لخطوتي سواء السبيل

قضيت عمري تائهاً ، ها أنا
أعود إذ لم يبق إلا القليل

الله يدري أنني مؤمن
في عمق قلبي رهبة للجليل

مهما طغى القبح يظل الهدى
كالطود يختال بوجه جميل

أنا الشريد اليوم يا سيدي
فأغفر أيا رب لعبد ذليل

ذرفت أمس دمعتي توبة
ولم تزل على خدودي تسيل

يا ليتني ما زلت طفلاً وفي
عيني ما زال جمال النخيل

أرتل القرآن يا ليتني
ما زلت طفلاً .. في الإهاب النحيل

على جبين الحب في مخدعي
يؤزني في الليل صوت الخليل

هديل بنتي مثل نور الضحى
أسمع فيها هدهدات العويل

تقول يا بابا تريث فلا
أقول إلا سامحيني .. هديل

* * *

من أقوال الفقيد:

- لاتقل أصلي وفصلي ؛ أذكر أيضا حسابك في البنك.
- الغرور السافر أكثر نزاهة من التواضع الكاذب
ان القناعة كنز تسهل الاضافة اليه ولكن يستحيل الصرف منه !
- إذا قال أحد إنه سيزورك لطلب النصيحة فخبئ دفتر الشيكات.
- لاجدوى من الحوار مع أصحاب نظرية المؤامرة ... أو قصيدة النثر.
- القمل والحلاقون والنقاد يعيشون من رؤوس الآخرين !
- النقاد والبيروقراطيون يعرفون مايجب أن يكون ولايعرفون كيفية الوصول اليه.
- أكثر ما يزعج النقاد أنهم - بخلاف منتقديهم - لايتحولون لنجوم.
- إذا قرأت شعراً لاتفهمه لاتحتقر ذكاءك ؛ احتقر ذكاء الشاعر.
- لاشيء يضيق الصدر مثل زائر يعلن أنه قادم ... ليوسع صدرك..
- لاشيء يصيبني بالذعر كالحديث عن "سلام الشجعان".
- يزداد تعلقنا بالمبدأ بقدر ما يزداد تعلق مصالحنا به ..
- الأم مدرسة إذا أعددتها .. هاجمك المتطرفون !!؟
- لا شيء أظرف من المتطرف الذي يطلب اللجوء في أعظم الدول كفراً.
- الخيل والليل والبيداء تعرفني .. كما تعرف بقية قطاع الطرق.
- لا أحد يفوق الجمل في الصبر سوى مضيفات الطيران.
- لا تبتسم لطفل في الطائرة إلا إذا كنت تنوي قضاء الرحلة في ملاعبته .
- قم للمعلم وفه التبجيلا .. وحاول أيضا زيادة راتبه .
- أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي .. فحمد الله على عماه.
- اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية - إلا في العالمين العربي والإسلامي.
- إياك أن تسأل موسوساً "كيف حالك"
- العرب ظاهرة صوتية غير موزونة وغير مقفاة.
- كل مرض يعجز الاطباء عن علاجه يتحول الى حساسية أو فيروس.
- من علمني حرفاً .. أذلني بقية حياتي.
- ما أسهل الدفاع عن حقوق الانسان من مقاهي لندن وباريس.
- "ظلم ذوي القربى" .. أكثر أنواع الظلم انتشاراً ..
- من راقب الناس مات هما ، ومن لم يراقبهم مات ضجراً.
- "الكرم العربي" .. ظاهرة غذائية.
- لا مال يكفي لإرضاء الجشعين .. ولا ثناء يكفي لإرضاء الشعراء.
- لا أستطيع منعك من كرهي ، ولكن أرجوك لا تمنحه اسما أجمل.
- يستطيع السفراء تجاوز أي أزمة باستثناء جلوسهم في أماكن لا تليق بهم.
- الذين يشتمون الشهرة هم من فشلوا في الحصول عليها .
- دع عنك لومي وهات ما لديك من الإطراء.
- وأخيرا يقول المؤلف (بخط يده ) :
بعد أن تجاوزت ستين عاماً وخمسين كتاباً تجاوزت الحاجة الى تعريف أو تصنيف

يتبع ...