مهدي النفري
هولندا

-1-
حديث عابر

مهدي النفريقلت للأعمى يوما وهو يجلس على نهر جف ماءه :
اخبرني عن صيد لم يصطده أحد ؟
التفت إلى جهتي حين سمع سؤالي وقال: هل بقي لديك قليلا من الماء ؟
قلت: نعم .وكنت احسب أن الظمأ اعتصره ،فإذا به يسكب الماء في النهر اليابس.
فصرخت ماذا تفعل يا معلمي ونحن في أرض لا قطرة ماء فيها؟
ضحك ، فجعلتني ضحكته أكثر غضبا لأنها جاءت وكأنه لا مبالٍ بما أقول.
قال:
يا بني، هدئ من روعك وابعد ظنون الظن من قلبك، فما أنا من لا يبالي وما أنا من لا يدرك عواقب الأمور.
قلت:
إذن اجبني على سؤالي.
قال:
هل لديك ماء ؟
قلت:
يا ويحي هل جُن صاحبي هذا اليوم.
من أين آت بماء لك وأنت أرقت كل ما نملك من ماء في النهر اليابس؟
قال:
أرأيت لو إن احدنا أورد الأثر فسقاه ، أتراه يثمر ويحي صاحب الأثر؟
قلت:
ومالي أنا ابني بيتا لا نشأة للظل فيه ولا ريح اسند إليها نافذة صمتي.
قال:
أما وإن أخبرتك،
ألشك في الشك يقين،
والعلة في العلة شك.
فلا أنت موجود حتى ثبت العدم ,
ولا الفناء يزول حتى يُثبت الوجود.

……………..

-2-
في رد شبهة الفناء عن الفناء

قال:
حين احتكم الحكماء إلى الأعمى في رد شبهة الفناء عن الفناء نفسه،
طال صمته ، وبعد مجيء ورواح ، بدأت همهمة تتعالى من الجالسين لتصل آذان الأعمى : ترى هل سيقول شيئاً ، أم يتركنا في درب التيه؟
عندها وقف الأعمى وقال:
ائتوني بعصاي.
فلما جيء بها قال:
أعيدوها لست بحاجة إليها.
ثم عاد ليكمل المجيء والرواح.
والعيون تتعقبه والألسن حيارى. و عادت الهمهمة من جديد بين الحكماء ؛هل يقول شيئا أم سنبقى على حالنا ؟
عندها توقف ليتجه نحو صخرة كبيرة تقع قريبة من المكان.
اعتلاها، وهو الضعيف النحيل، رافضا كل عون مد إليه.
ووقف هناك قائلا:
ويحك أيتها النفوس التي تمشي بلا نفوس،
أما عرفتم أي منزلة لهذه النار وهي تصادق روحها،
أما وأنّ الحطب والحطاب لا فاصل بينهما سوى هذا ( وكان يشير بيده إلى الظل)
فسكت الأعمى وحين أطال السكوت.
تقدم إليه طفل صغير جاء مع أبيه الحكيم سائلا بصوت عال:
أيها الأعمى،
أيها الأعمى،
لقد أفضيت بصورة القبح ونسيت ميزان الأثر، فأي من أصابع يدك تابع لك وأي منها تابع ليدك ؟
عندها بدأ الحكماء بالكلام حتى صارت الساحة غابة تفترسها ريح عاتية.
رفع الأعمى رأسه إلى السماء متأملا.. وبعد طول تأمله استدار نحوهم
قائلاً:
مهلاً، مهلا ؛ مالي أراكم على ما ليس انتم؟ أتداركتكم نطفة الماء وهو يتلو ترنيمة امتزاجه بالطين ؛ أم أن الظمأ تدارك الأنا في قلوبكم حتى ابتل الطبع بالشاكي فجبل اليقين على التحامل والتأويل.
أما وأنً النار لا تُعطي ولا تأخذ ، لكنها قلب يتسع لمن دنى من الفقد حتى صار هو.
فأما الزاهد القانع ببياض آثار قلمه ؛ فهو في غنى حتى يدركه جوهر الفيء،
وأما من اتكأ على الظاهر؛ فبيته الريح وسكناه النفس المتفرقة.

*نصوص من كتاب (لاتأمن الدهشة وانت ضرير )