يوسف بزي
(لبنان)

يوسف بزيبالتأكيد، نحن نشهد الآن موجة جديدة. شبان يتقدمون إلى الضوء بوصفهم "شعراء". أغلبهم بات لديه ديوان شعري واحد على الأقل. تجارب عدة وأصوات تعلن قصائدها بقوة أو بوقار، بنبرة تحد أو بلهجة خجولة. مهذبة ووقحة، تغني وتصرخ، تحاول لغة مختلفة أو تستدرك لغات منجزة.
تلعب وتختبر... وتبدو مسرعة كثيراً، وأحياناً متسرعة.

الشعر المكتوب، بهذا المعنى، ما زال معافى وتدب الحياة فيه كتابة ونشراً. وهو اليوم أشبه بالنص ـ المرجع، حيث فيه تتجلى وتلتقي تأثيرات السينما والصورة والرواية والثقافة الشعبية والموروث الشفوي. وعلى الرغم من عزلته و"نخبويته" واستغلاقه يبدو راهناً وكأنه يجتذب جمهوره الثقافي، أي ما زال مادة قراءة وسجال، وما زال مختبراً مغرياً.

في لبنان، على الأقل ، المشهد الشعري شديد التنوع والتلوّن والسعة.
أسماء كثيرة ونتاج متواصل يتخلف عنه النقد رغم كل المقالات الصحافية ورغم المتابعة الحثيثة في الآونة الأخيرة.

اللافت هو أن الموجة الجديدة من الشعراء الشبان أعقبت موجة أولى في أواسط التسعينات ضمت أسماء عدة وكتباً عديدة، لم تأخذ حقها في القراءة والتأمل، وغالباً ما تم إغفالها حين جرى تعداد التجارب وتتالي "الأجيال" الشعرية.

في الموجة الأولى كان سامر أبو هواش، فادي طفيلي، علي مطر، حسان الزين، باسم زيتوني.. ودلت تجارب هؤلاء على استمرار السياقات الأساسية في الشعر المكتوب في لبنان: قصيدة البطل المضاد المكتوبة بتقطير لغوي متشدد وبأسلوب مشهدي مقتضب وغني بالصور الحسية. قصيدة السرد المفتوح مع حذف متعمد للبلاغة والإيقاع. قصيدة اليومي والمعيوش بنبرة ساخرة مليئة بالتوتر والمفارقات والهاجس الأخلاقي والوجودي. وبطبيعة الحال هذه السمات غالباً ما كانت تتداخل في نصوص هؤلاء لتشكل المناخ المشترك في كتاباتهم.

بدت تلك التجارب حينها امتداداً طبيعياً للإرث الشعري المتداول في بيروت، وداخلها التطوير الذاتي والاختبار الخاص لكل من هؤلاء الشعراء الذين استطاعوا تلمس مناخات خاصة بهم، خصوصاً في هذه المدينة، في مرحلة ما بعد الحرب، والتي سميت بسنوات "إعادة الأعمار والبناء". وقد عبروا تماماً عن مرحلتهم المتسمة بالإحباط الثقافي والاختلال السياسي، عدا عن الاضطراب الاجتماعي ـ الاقتصادي، في لحظة شهدت انتقالات ديموغرافية كبرى، وتحولات عميقة في النسيج العمراني للمدينة.
كانت قصائدهم، المكتوبة بالألم والخوف والغضب وبنبرة قدرية. مستسلمة أو حتى عدمية... تعبّر عن الاعتلال الثقافي، والبلبلة الفكرية التي سادت حينذاك، حين كان "موت الفن" (ومنها أيضا "موت الشعر") رؤية ثقافية مرفوعة كيافطة كبيرة فوق الجميع.

أولئك الشعراء، وبروح عنيدة ويائسة، أنتجوا نصوصاً قاتمة وسوداوية لكنها مليئة بالقوة التعبيرية وبالنبض الشعري، وكان مصير باسم زيتوني، الشاعر الشاب الذي قُتل صدماً بشاحنة، مثالاً مأسوياً على العنف القدري الذي واجه هؤلاء الشعراء.

زيتوني كتب ديواناً واحداً بعنوان شديد المغزى: "تحت شمس قاتمة" وفيه يقول: "كيفما فتحت يدي أجد الخواء" أو "اعرفني جثة مؤقتة" بل وثمة تنبؤ مذهل وشبه حرفي بموته المفاجئ في إحدى قصائده.

وتشبثت بالأوتوبيس
متجهاً إلى رحم أمي
وانعكس الاتجاه
غصت في فضاء المدينة
عارياً من رأسي
حافياَ مذعوراً
وهناك قرأت تلافيف موتي...

هذه السوداوية نقرأها في "كلاب الروح" لعلي مطر، كما في ديوان حسان الزين "علبتي السوداء" (لنلاحظ أيضا العنوان)، كذلك في ديوان فادي طفيلي "أو أكثر" الذي يبدأ بقصيدة "دم" قائلاً: "قشرة الدم اليابس/ المسودة قليلاً/ بين عيني وأذني" ثم ينهي ديوانه بهذه العبارات:
"وأقضي ما تبقى / من نهار أحد/ مدمى وبطيء/ كسلحفاة متفسخة الظهر...".
أما سامر أبو هواش الذي أصدر عدة مجموعات شعرية، وهو أكثرهم إنتاجا وبروزاً فكتب في ديوانه الأول "الحياة تطبع في نيويورك": "سماء عادية لا تستحق الوصف/ مع ذلك كما نرى أحيانا/ يجدر الحديث عنها". هذه السديمية والقنوط المفرط طبعا مجمل نتاجات تلك الموجة من الشعراء. الذين على الرغم من أناقة أعمالهم وقوتها وتميزها، لم يحدثوا "صدمة" أو ضجة كما فعلت الأجيال السابقة.

مع هؤلاء، أيضا كان خيار قصيدة النثر محسوماً بوصف هذه القصيدة افقأ نهائياً ووحيداً. وإذ امتاز سامر أبو هواش بقدرته على تدوير العبارة والبتر والتقطيع الحاد والبحث عن قماشة لغوية تميل إلى البياض والصمت، فان مجايليه واقرأنه اشتركوا معه في القصيدة التي تطمح إلى أن تروي والتي ترصد الملل والضجر والتبرم الوجودي، مع قول السأم والفراغ وإبرازهما سمة وحيدة للعيش والكتابة.

كانت قصائدهم بلا ضحكات ولا دموع، مغلفة بالحزن الساكن والرمادي، فيما الاحتجاج الاجتماعي مضمر في الهم الفردي الذي يعاني اللاإنتماء واللاجدوى. والبارز في هذا السياق معاناتهم من الفقر والعوز والبطالة. ففي معظم قصائدهم نجد الإشارات الواضحة لهذه المعاناة.
نستعيد تجارب هؤلاء ضد النسيان الذي يستهويه الكلام النقدي اليوم في تداوله للتجارب الشعرية، فيغفل عن تأسيس انطولوجيا شعرية شاملة ورحبة. فقبل أي احتفاء، ببروز الشعراء الجدد علينا أيضا أن لا ننسى المنجز الذي مازال حاضراً ولم يصر بعد تاريخاَ. فان نستحضر الآن تجربة ناظم السيد وغسان جواد والآخرين. فهذا يعني على الأقل أن نرى المشهد على سعته.

ان نقرأ "تمرين على الاختفاء" لغسان جواد، أو أي ديوان جديد يصدر في بيروت، لا بد في لاوعينا أن نستحضر كل ما في ذاكرتنا الشعرية الحديثة من لغات واقتراحات وأشكال وأصوات.. وبهذا المعنى تستقيم القراءة على معناها الفعلي.

هذه البداهة نضطر إلى ذكرها ضد النسيان النقدي المتعمد الذي تشغفه غريزة توزيع الشهادات "والعلامات" أو رغبة النفي والتهميش، فيعمد في مقالات "الركاكة" إلى أعمال التصنيف والتبويب على غير هدى.
من هذا العنقود الشعري، الكبير، نقطف "تمرين على الاختفاء" لغسان جواد الذي ابتعد عن ديوانه الأول "وإنا ظلك" (1997) متجهاً إلى كتابة حية، نظيفة، مرتبة، حيث الكآبة الأنيقة وحيث الحب والجسد مدار العبارات. قصائد متصلة شكلاً ونبرة في نص واحد. تعمد إلى قول الذات والعشق والعزلة والوسواس الجسماني.

وغسان جواد كتب برقّة حلمية، كما لو انه يصور منامات، كما لو انه عثر على ضباب لغوي، هادئ وموحش. ويميل الشاعر إلى تنضيد "الحكمة" في كلمات بسيطة بلااسترسال. انه صوت شبحي، لكائن منزلي متكور على السرير. والمرأة الحاضرة كأنها أيضا في غياب، والشعر الذي يخاطبها كأنه ينتهي إلى مديح ذاته أو كأنه يرتد إلى نرجسية الشاعر وحده.
مشاغل جواد، كما مشاغل ناظم السيد، هي في المحصلة مشاغل الشعراء الذين ذكرناهم سابقاً، كما لو أن هذا "الجيل"، الشعري المكون من موجتين على الأقل، يضع خريطة حضوره وعلاماته التي تميزه عن "جيل الحرب" مثلاً مخاطباً على نحو خاص التجارب السابقة التي كتبها كل من بسام حجار وعباس بيضون وبول شاوول، مع أثر واضح وقوي لأنسي الحاج. هذه المخاطبة تجعل نص جواد هكذا لبنانياً ـ إذا صح التعبير ـ شديد الاعتناء بالنظافة، متقشفاً، بلورياً، و"حلو المذاق" قليل التلقائية...
الجماليات المحتفى بها في هكذا نصوص، هي محض لغوية، وتبدو ملتزمة بـ"دفتر شروط" يكفل لها الظهور بلا ندوب ولا أعطاب، مكتملة وناضجة جداً، وربما قبل أوان النضوج.

المستقبل
الأحد 23 كانون الثاني 2005


إقرأ أيضاُ