حكيم عنكر

في أي كهف ينام الشعر العربي ومن أي فضاء ينطلق؟ انطلقت أمس فعاليات "ملتقى الشارقة الرابع للشعر العربي" في دار الندوة في الشارقة والذي ينظم تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وبإشراف دائرة الثقافة والإعلام و"بيت الشعر".

ويعتبر الملتقى الرابع للشعر العربي موعداً مهماً من مواعيد الشارقة الثقافية، وفيه وبه تنفتح لحظة جديدة للتأمل في "شأن" القصيدة العربية والإنصات لأصواتها واهتجاساتها وتتبع مسارات تجاربها وحفرياتها في الشعر واعتنائها بالقصيدة وانتمائها للجمال والأساسي والجوهري في الحياة والوجود.

اليوم، لا يكتب الشعراء العرب قصيدة واحدة، إنه شعر مختلف ومتعدد وباختيارات جمالية وأسلوبية مغايرة ورؤى تكاد كل واحدة تقيم في قارتها وتبني أكوانها الخاصة، وتستند إلى تجربتها الذاتية في فهم وتفكيك الوجود.
وإذا كان المحور الفكري المصاحب للملتقى الشعري يطرح موضوع ماهية الشعر العظيم كلقاء نظري وخلفية للتأمل والتفكير فإن شهادات الشعراء المشاركين ستغرف من معدن آخر، ليس مجاله التأمل النظري ولكنه ينصت الى حرائق الذات والى العلاقة الملتبسة بين الشاعر والتجربة، وهي علاقة تطرح سؤال الواقع والمتخيل، وسؤال الإبداع والابتداع وسؤال الشعر نفسه.
أين يوجد الشعر اليوم؟ من هو الشاعر؟ من هو غير الشاعر؟ هل للشعر وظيفة اخرى غير الوظيفة الجمالية؟ وأين تكمن هذه الوظيفة، في السياق أم في التلقي؟ أسئلة نقاربها من خلال ثنائية الشاعر والتجربة: تجربة الكتابة وتجربة الحياة.

"يمكن القول وبلا تردد، إنني حينما انتقلت عام 1963 من بغداد الى لندن، إنما انتقلت من مدينة شفاهية الى مدينة تدوينية بكل ما في الكلمة من معنى، وما التصادم الحضاري في هذه الحالة، إلا تصادم هاتين العقليتين. أزال أعاني من التوفيق بينهما حتى بعد أربعين عاماً". هذا الكلام للشاعر العراقي صلاح نيازي وهو يتحدث عن "جراحات" علاقته بالمكان الغريب والمفارق (الغرب)، هذا المكان الذي ليس توصيفاً مكان إقامة جسدية مادية بل هو إقامة روحية، والأهم من كل ذلك إقامة في الكتابة وفي القصيدة تحديداً.
إن الأمر لا ينسحب فقط على الشعراء العرب الذين عاشوا تجربة منفى ليس بالمعنى المكاني او الجغرافي ولكن حتى بالنسبة للشعراء العرب في أوطانهم، وفي المجمل يمكن الحديث جمالياً عن معنى الاغتراب، اغتراب النص واغتراب ذات الشاعر في العالم. فأية تجربة شعرية تساوق ذاتها أو تختلف عنها، أو تقيم في المنطقة الصامتة التي تخولها إنجاز هذا الحوار الشعري والذي لا يعتبر فعل الكتابة الا التمظهر الخارجي او الفوري لعلاقة الشاعر بتجربته وبإقامته الفعلية والرمزية في العالم.

في البداية، لابد من محدد نظري لمفهوم التجربة، إنها ليست المعنى الأمبريقي بالمفهوم العلمي وليست متواليات اختبارات ونتائج، أي أنها، هنا، ليست مادة جامدة ومحايدة معطاة قابلة للاستجابة الفيزيائية التي تبحث في الذرات والعناصر، ولكن التجربة الإبداعية هي كيان متحرك، متحول ومتفاعل، إنها بتعبير الناقد محمد مفتاح دينامية متحولة تتطابق مع دينامية النص الشعري نفسه. فهي تجربة محسوسة وحسية عند الشاعر الأمريكي "والت وايتمان" في ديوانه "أوراق العشب" و"أغاني الأرض التي تدور" وهي تجربة قيامية عند الشاعر الانجليزي في عمله "الأرض اليباب" ومادية عرفانية عند الشاعر الفرنسي رامبو في ديوانه "المركب السكران" وتراثية حوارية عند أدونيس في "أغاني مهيار الدمشقي" وأسطورية عند محمود درويش في "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"، ويومية اعتيادية عند عباس بيضون في ديوانه "مريض اسمه الأمل"، وهي وجهة نظر واقتراح تجاه العالم عند الشاعر أنسي الحاج في ديوانه "لن"، وهي صمت وبياض عند حسن نجمي في ديوانه "سقط سهواً"، وهي نفي وإلغاء عند الشاعر محمد بنيس في "جنازة بين نهرين"، وهي تلصص عند عبدالقادر الجنابي أو سركون بولص، وهي شيء آخر مختلف، غير واضح المعالم، شيء ليس له اسم، لكنه يملك الشجاعة أن يكون عند أسماء التجربة الشعرية العربية الجديدة "بعيداً عن غموض والتباس "العربية" هنا" والتي قد تكون استعادة أو تجاوزاً، لكنها تسير وفق نظامها الشعري الخاص، نظام الاختراقات المفتوحة اللسان على تجربة فردية، تتجاوز مفهوم "الفرد" وتعيد تشكيله وبناءه.
يقول غاستون باشلار في "حدس اللحظة" وهو يتحدث عن اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية: "الشعر ميتافيزيقا لحظية، ذلك انه في قصيدة مقتضبة، يجب ان تعطي رؤية عن الكون وسراً نفسياً، ووجوداً وأشياء، كل شيء في الآن ذاته. إذا تعقب زمان الحياة هو، ببساطة أقل من الحياة، ولا يمكن ان يكون أكثر من الحياة الا بتمجيد ما، ثم ان نعيش في اللحظة ديالكتيكية الأفراح والأحزان. إنه إذاً مبدأ التواقت الضروري حيث الكائن الأكثر تبعثراً وانفعالاً يجد ذاته".

من السهل استشفاف الآلية التحويلية التي تحكم وتؤلف التجربة الشعرية كآلية مقول شعري وكاستلهام للتجربة والمعيش، وبرغم ذلك لايزال طابعها التحويلي وميكانزمها الحيوي غامضاً، فأين تكمن التجربة؟ وأين يقيم الخلق؟ وفي أي منطقة يتناظر الإبداع والإتباع؟ وداخل أي إطار تلتمع الصورة ويتمظهر الأصل؟ ثم كيف تعبر تجربة الحياة المتدفقة الى تجربة الكتابة القصيدة والتي تقيم بدورها في اللغة كتجربة إنسانية مفتوحة وغير مكتملة؟
يعتبر باشلار أن اللحظة الشعرية هي بالضرورة معقدة، إنها تؤثر وتبرهن وتغري وتسلي، كما أنها مباغته ومألوفة، غير ان الشاعر في كل هذا هو "المرشد الميتافيزيقي" الذي يسعى الى فهم قوى الترابطات اللحظية دون ان يترك للثنائية (الذات والموضوع) فرصة الانقسام ودون ان توقفه ثنائية الأنانية والواجب. يضيف باشلار شارحاً: "الشاعر يثير جدلية أكثر نفاذاً، إنه يظهر في الآن نفسه وفي اللحظة نفسها ترابط الشكل والشخص، يبرهن على ان الشكل شخص والشخص شكل، هكذا تصبح القصيدة لحظة للسبب الشكلي، لحظة للقوة الشخصية"، ويصل باشلار الى الخلاصة الجوهرية التالية: ان القصيدة تجد ديناميكيتها النوعية في اللحظة الثابتة للزمن العمودي، فهناك دينامية خالصة لقصيدة محضة، إنها تلك التي تنمو عمودياً في زمان الأشكال والأشخاص".
لنمض قدماً إذاً، حين يجيب شاعر عن سؤال قائلاً: إني أكتب قصيدتي. ماذا يعني بذلك؟ هل يعني انه يكتب حياته وتجربته؟ أو أنه يكتب ما يعتقده انه "قصيدته"؟ وما هي هذه القصيدة؟ ألا ينتابه قلق الشاعر الذي توجع قائلاً: "هل غادر الشعراء من متردم" أم انه يهتف بالصوت المشبع بذاته:
"سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم".
أو بتعبير الجواهري:

"أقول لنفسي إذا ضمها
وأترابها محفل يزدهي
تسامي فإنك خير النفوس
إذا قيس كل على ما انطوى".

لقد اخترق القصيدة العربية الحديثة او الحداثة الشعرية العربية، بنية الشهادة والاستشهاد أو "الثابت والمتحول" أو "قياس الشاهد على الغائب" فيما انشغلت في محاولاتها الأشد تجريبية بالبحث عن أبدالات جديدة، أي تحقق آخر خارج زمن الكتابة الخطي، وبمعنى من المعاني: التحقق الشعري الذي لم يكن بمستطاع هذه الجحافل من "الشعراء" بلوغه. لقد تحققت الكتابة باعتبارها فعلاً مفتوحاً وحراً غير مرتهن بأي نمذجة أو نظام، لكن حصتها من الشعر ظلت في الدرجة الصفر للكتابة. هل يعود الأمر الى ما أشار اليه ابن عربي حين قال: "معرفتنا بنا بحر لا ساحل له (..) ففينا نتكلم وعلينا نحوم وما يبدو لنا سوانا". أو الى قوله: "مشهودك فيك وهو صورتك لكن لا تراها الا فيه" أو الى قوله: "فيك أخفى مطلوبك وأنت حامله" أم ان "المعرفة الخفية أنوار تشرق، فإن أخذتها العبارات فبلسان لا يعقل وخطاب لا يفهم"؟
إن الشاعر والتجربة إشكالية عميقة ومتشعبة، وتعقيداتها متأتية من آليات اشتغال الخيال وتداخل مفهوم الكتابة (مىْك) بمفهوم الشعر (مىمُذ) ومفهوم التجربة (مكمىْمِ)، وهي تعقيدات لا يكفي الرجوع الى المتن الشعري العربي الحداثي للتدليل عليها، انها إشكاليات ذات خلفية انطولوجية ومعرفية وليست أبعاداً توصيفية أو ظاهراتية مبسطة وسطحية، فالسؤال يذهب تواً باتجاه كشف الترابطات والعلاقات السرية التي توجه عملية الكتابة وتجعل القصيدة تحتل مكان الإقامة الرمزية في العالم.

الشاعر ومكانه الرمزي والواقعي

يقول الشاعر بلند الحيدري في قصيدته المعنونة ب"الطريق الى بيروت":

مشينا إليك مسافة أجيال/ ويوم وصلناك كنت بعيدة/ وكان بأعيننا لايزال اشتياق إليك/ وكنا هرمنا/ فأرجلنا المتعبات تساقطن جزءاً فجزءاً/ وأن غبار الطريق أضل سرانا نسينا/ وأنا دمينا/ وجال بنا ألف درب ودرب".
يتحدث بلند الحيدري عن رحلته من بغداد الى بيروت، رحلة من المكان الاول وإقامة في المكان الثاني، رحلة من "الاختيار" الى "النفي" ومن الحضور الى الغياب، ومن اليقين الى الشك ومن المدينة الفاضلة الى الجحيم، ومن الحقيقة الى الخيال.

ولعل تيمة الغربة في المكان الواقعي أو المحلوم به ستتكرر في تجارب شعراء السبعينات والثمانينات، وستصبح سمة غالبة ودالة. إنها في وجه منها موقف اجتماعي وتاريخي وسياسي، أي موقف جدلي مادي، لكنها سترتفع في نصوص شعرية اخرى الى موقف وجودي، فالمكان الأدونيسي افتراضي بينما المكان الدرويشي واقعي افتراضي - فلسطين، فلسطين الأخرى، ليست الدولة إذ "ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة"، وهو عند سميح القاسم أندلس مهربة، وعند الشاعر العراقي جان دمو "أسمال" وعند عبدالوهاب البياتي "ديوان عائشة" وعند محمد بنطلحة "خريف البطريق" وعند احمد المجاطي "الفروسية" وهو عند محمد علي شمس الدين "قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا"، وهو عند الشاعر المغربي عبدالكريم الطبال المكان الواقعي، حيث تحضر مدينته الأم (الشاون) بواقعيتها وهندستها المعمارية وأمكنتها، لا يتعلق الأمر هنا بقصيدة "سياحية" ولكن بالاغتراب داخل مكان العيش نفسه، مكان يتنفس خارج ذات الشاعر ويحيا في قانون طبيعته الخاص.
يقول عبدالكريم الطبال في قصيدة: "الشاون":

الجسد "جشر البياض"
والى "وطاء الحمام" يترقرق العاشقون
كأنهم "بستان الله"
ليلة يلتمع القصيد
وينزف كالشهاب..
ومن شرفة الفندق
كانت تختلج في الروح
حاضنة في السر ثلجها.. وأطفالها
الشعراء ودواليها المخمورة
سيدة الوشاح الأخضر
سيدة الضباب الشفيف
سيدة البحر والبياض
في السفح كانت تهب منّ العشق
وسلوى الصبابة.

الشاعر الفلسطيني غسان زقطان بخلاف عبدالكريم الطبال يصبح المكان بالنسبة اليه أكثر عنفاً، رديفاً للموت وللألم، عنواناً للذكرى البعيدة، إنه مكان لا يتحقق مكاناً واقعياً ولكن لكونه مكاناً مقيماً في الذاكرة وفي الجرح "الأنوي" الذي يتماهى مع الجرح الجماعي، تتساوق هنا التجربة الفردية بالتجربة الجماعية، فيما تكون "الخبرة الشعرية" قد نسجت أطراف معادلاتها الخاصة، يقول باشلار مستجلياً الأمر: "إن تناقضات بمثل هذه الحيوية وهذا العمق تقوم على ميتافيزيقا مباشرة، نعيش فيها الاهتزاز لحظة واحدة بالانجذابات والانحدارات.. وحدها بسيكولوجيا متعمقة للحظة يمكنها ان تعطينا الخطاطات الأساسية، وذلك من أجل فهم الدراما الشعرية الجوهرية".
وهذا ما ينطبق تماماً على قصيدة "خيول سوداء" للشاعر غسان زقطان، يكتب خالقاً هذه الدراما الشعرية:

"على طاولتي في "رام الله" رسائل ناقصة وصور لأصدقاء قدامى،
مخطوطة لشاعر شاب من "غزة"، ساعة رمل
ومطالع تخفق في رأسي مثل الأجنحة.
أريد ان أحفظك مثل تلك الأغنية في الصف الاول الابتدائي
تلك التي أحملها كاملة دون أخطاء
اللثغة والرأس والنشاز..
الأقدام الصغيرة التي تطرق أرضية الاسمنت بحماس
والأيدي المفتوحة التي تطرق المقاعد
ماتوا جميعاً في الحرب، أصدقائي وأولاد صفي
وبقيت أقدامهم الصغيرة وأيديهم المتحمسة.. تطرق
أرضيات الغرف
والموائد وأرصفة الشوارع وظهور المارة وأكتافهم
وحيث ذهبت
أسمعها
وأراها".

وبصدد المكان الرمزي او المكان البديل، مكان جنة الحلم والناتج عن اتساع الرؤيا ما نجده عند الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، حيث يصبح المكان جزءاً من تجربة مريرة، تجربة شخصية بنبرة جماعية. وليس ضيق المكان إلا وصول المواضعات والقيم السائدة الى مأزق استمراريتها، حينها لابد من البحث عن بديل ذاتي. هل يكتسب هذا المكان صيغة انهزامية؟ هل تدشن تجربة الشاعر منعطفاً جديداً يخول لها الإقامة في تجربة شعرية جديدة، كون لغوي ليس فيه ما يكدر صفو الخاطر، خال من الفشل الذريع الذي تصاب به الحاسة الشعرية في مقتل؟ أم ان الأمر يتعلق بإعادة صوغ جمالي للمتواليات الشعرية ولقيم الجمال وسيرورة التجربة غير الملتزمة بأي مواثيق قبل شعرية؟
والبديل الذي يطرحه محمد علي شمس الدين هو البرزخ العرفاني، حيث لا يعود عالم الشهود "الواقع" إلا صورة ترابية لعالم الغياب، بينما الانسان الحق يرتفع في مدارجه او معارجه، وبالتالي فإن نظام الشعر نفسه يتكسر ويتشظى ويتحرر، إنه يخرج من القصيدة الى الكتابة ومن الفرد الى الكينونة، وطبقاً لذلك يتعالى الشاعر وحينها يتجاوز "الكتابة" الى "الكلام".
لنذكر هنا قول ابن عربي:

(ما أنا القائل بل قال بنا
عين الفرقان أعيان المحال
هو ظل للذي تعرفه
ولهذا حكمه حكم الظلال
ما كمال الشخص الا ظله
إن بالظل له عين الكمال)

والكمال هنا هو نشدان الشاعر، أمله الذي به يكون وصورته المشتهاة، لكنه هنا كمال "ظلي" غير واقعي، إذ لا جدوى من الواقع الحريف.
ولغة "الظلال" تبعاً لذلك هي لغة صامتة، مصغية للوجود، لغة رؤياوية لا تقترح نفسها كمنجز جاهز وإنما كسيرورة عرفانية وكطاقة في برزخ البرازخ، وهو الأمر الذي عبر عنه محمد علي شمس الدين في ديوانه "ممالك عالية"، ولا تخفى هنا القوة الايحائية لكلمة "ممالك" والحقول الدلالية التي تحيل عليها. هل يتعلق الأمر باقتراح وجودي؟ هل يتعلق الأمر بالشعر؟ هل هي تجربة في الشعر وفي الحياة؟ هل المسألة جزء من ميتافيزيقا القصيدة؟ أم انه مأزق الشعر نفسه حين يصير الى الانفصال عن واقعه "الموضوعي"؟
يقول شمس الدين:

"شيدت مملكتي
وأسدلت الغناء على قصوري
أعلى الممالك ما يشاد على الزهور
لا السيف: هذه حكمتي
منقوشة فوق السحاب
وفوق سارية الأثير
ونظرت نحو سمائها الزرقاء
فاحتشدت نسوري
في الجو
قال الله حين رأى مفاتنها
تعال وخذ إليك فهي
واليك نوري
وتعال نلعب
كي نغير ما تقادم في الزمان وفي الدهور
من هذه الأرض التي هرمت
وزاحمت الكلاب على القبور
وقرعت كأسي بالذي برأ الحياة
وقال للأفلاك دوري
وجلست أكتب والنجوم شواهد حولي
ومملكتي سطوري".

هكذا، إذاً، تكتمل مملكة الشاعر محمد علي شمس الدين ب"الكتابة"، تجابه نقصها المروع وفراغها المذهل، فالطبيعة تخشى الفراغ، وكذلك طبيعة الشاعر التي تقيم في الشعر بالمعنى الأرسطي، الشعر كمحاكاة للطبيعة الأولى وملحمة كونية، ما قبل الطبيعة وما قبل العلم وليست بأية حال تجربة في المحسوس، إنها فكرة تبحر في "الزمان الوجودي" أي في الموت وبتعبير صوفي في "فناء الذات عن الصفات".

شعرية اليومي والتفاصيل الصغيرة

"شعراء بلا آباء شعريين" ذاك هو الشعار الذي استند إليه جيل الثمانينات وما بعده في خلق قطيعة شعرية بينه وبين الجيل السابق بالرغم من استمرار الجيل المؤسس للحداثة الشعرية العربية في الزمن وفي الكتابة، وطبقاً لذلك تخلصت القصيدة الجديدة من نبرتها التحريضية والمنبرية والخطابية ومن ثقلها الأسطوري وجغرافياتها القديمة وأصبحت أكثر تطلعاً نحو أراض بكر، جديدة وآفاق غير مفترعة، وتوجهت الى الدوائر الأكثر اتساعاً للمغامرة الشعرية التي تحرص على الانتباه أكثر للتفاصيل واليومي والعابر وأصبحت الذات الفردية مصدر كل معرفة وموطن كل خلق والوسيط الوحيد ما بين الفرد والعالم.
واليوم، تواجه هذه القصيدة الجيدة، قدرها الشخصي ويتمها وما به تكون، وتواجه أيضاً تحدياً معرفياً وجمالياً تجاه صورتها الشعرية وضائقتها النثرية، وتحدي الواقع السريع لها. فهل يصمد الفرد أمام سلطة الجماعة؟ هل يستطيع أن يعيش داخل "أوكواريوم"؟ كيف يكون الاقتراف الفردي للشعر إنسانياً وكونياً؟ ما هي بلاغته الجديدة؟ قيمه؟ ذاكرته؟ ما هي محمولات القصيدة الجديدة اليوم؟ هل يمكن لها ان تكون "ذاتاً"؟ أليست صيغة النفي التي تشكل خلفية نظرية أو سريرة، أليس هذا النفي هو في جوهره إثباتا؟ ما هو مشروع هذه القصيدة الجديدة؟ ما هو برنامجها الشعري؟
إنها أسئلة شائكة ومعقدة ولا يملك النقد المواكب والمصاحب (على قلة المحاولات) صيغاً وإجابات ولا حتى مقاربات تنظر الى هذه التجربة على طاولة خارطة "الوطن العربي" وهي قيد التبلور في جوانبها الكمية والنوعية. إنها لحدود الآن، تبقى نهباً ليتمها الشخصي، ممعنة في إلغاء سلطة الأب الشعري، خالية من كل تعميد. إنها بمعنى آخر حرة في ظل هذا النسيان الثقافي المحاط بعتاد المؤسسة الثقافية وسلطتها، فيما يتحدد الهامش الشعري والذي تكونه هذه التجربة كمرحلة زرقاء واعدة.
يقول الناقد السعودي محمد العباس متأملاً في هذه التجربة الشعرية الجديدة وراصداً بعض علاماتها: "إن الأصوات الجديدة تحاول الفرار من مرجعيات "الآخر" وتبتعد بقصدية عن إلحاحية التأهيل الصوفي العرفاني والميتالغوي، لتكون مرجع نفسها بما هي قدر الفرد، حيث انهدام زمن الكليات المغلقة وبداية الفردانيات المنفتحة، بممارسة أقصى طاقة لحرية التعبير. فهي من الوجهة الحسية، قصيدة تنكتب داخل الجسد بما هو امتداد عضوي للنص، بحيث تبدو الذات عرضة للتنصيص بوله فرداني، على عكس قصيدة الآباء التي تمارس شيئاً من سلخ "الأنا" عن منطوقها". ويضيف: "هناك واقع فوضوي متفجر، يتفجر على إثره التعبير اللغوي، بنص مجنون، مرتبك، مشوش، انكفائي، ومبعثر يتأتى من جنون اللحظة وفوضاها، تقترفه كائنات لم تعد مأخوذة بأسطورة الشعراء ككائنات فوق - بشرية".
يقول الشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار في قصيدته "النائم في أرجوحة بين شجرتين": (القمر هو القمر/لم يتغير شكله منذ البارحة/ أشجار المنحدرات تفقد لونها/ وتغرق في لون الفضة/ وأزهار المارغريت/ تغدو في الليل ظلاً فقط لأزهار المارغريت).
وبنفس الجملة الشعرية المتخففة من ثقل البلاغة الكلاسيكية يقول الشاعر الإماراتي ابراهيم محمد ابراهيم في حديثه عن تجربة عشق في ديوانه الأخير "مس من شتاء" وفي قصيدة بنفس العنوان:
"دعيني أقلب دفتر
أحلامك القزحية
وانتظريني بلا زينة
ريثما أتهجاك
بين سطورك ثمة
ما يستحق القراءة".

الخليج الثقافي
2005-01-10


إقرأ أيضاً:-