عاشوا طويلا في ظله

حاوره في سوريا: سيد محمود حسن

أدونيس لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أحاور فيها ادونيس، لكنها أول مرة كنت ادخل فيها إلى بيته الذي أقامه في قريته "قصابين" الواقعة على بعد 25 كيلو من اللاذقية وما أثارني في البيت لم يكن ذوقه الجمالي الرفيع وأثاثه العربي الدمشقي وإنما بساطته اللافتة التي انعكست على سلوك صاحبه فبدا لي في صورة غير صورته التي عملت الصحافة على ترسيخها كشاعر نجم ينتظر منذ سنوات طويلة جائزة نوبل في الآداب وعبر سنوات من هذا الانتظار تعرض ادونيس للكثير من الإساءات وحملات التشويه حيث رأى البعض في أفكاره وقراءته النقدية لتراثنا العربي "المستفزة" للقوى المحافظة نوع من الغزل الصريح للمؤسسات الغربية المانحة للجوائز ولا شك أن الكثير من هؤلاء لم يقرأ حرف لصاحب "مهيار الدمشقي" أو قرأ وترك نفسه لتأويل أوقعه ضحية سهلة لنظرية المؤامرة التي تغيب الانجازات التي قدمها ادونيس للثقافة العربية فكتابه التأسيسي "الثابت والمتحول" لا يزال بعد ما يقرب من 30 عاما على كتابته من المراجع الأساسية في قراءة تاريخ الثقافة العربية كما أن شعره كان دائما علامة "خلاف" أساسية في !
الشعر العربي المعاصر بين مؤيد ومعارض لكن هذا الخلاف لم يهمش تأثيره "الثوري" او الانقلابي كما يرى البعض .
وفي هذا الحوار الذي رأى ادونيس ان نشره في "الأهرام" قد يكون وسيلة عملية لإزالة طبقات تاريخية من سوء الفهم لحقت به وبتجاربه كشاعر ومفكر يتحدث بصراحة عن أفكاره كما تنطق بها مؤلفاته الأخيرة وعن مفهومه للهوية " غير المكتملة والولادة المتجددة " ورأيه في حملات الهجوم التي يتعرض لها .

* قلت له: المتابع لمسيرتك الإبداعية يلاحظ انك مغرم بما يمكن ان نسميه "الولادات المتجددة فما هو السر في ذلك السعي نحو مغامرة الولادة من جديد ؟

الإنسان كائن حي لأنه يتجدد باستمرار وبهذا المعنى ليست هناك هوية جاهزة ومسبقة ونهائية للإنسان والهوية الجاهزة هي هوية الأشياء الجامدة والإنسان كائن متحرك وهويته أمامه وهو يخلقها باستمرار وعندي ان الإنسان الحقيقي يعيش من الحركة والولادة المستمرة ولذلك أنا ميال دائما الى التغيير وأحيانا عندما لا أرى نفسي أتجدد أحب رؤية هذا التجدد في نصوص المبدعين الآخرين .
وما اكتبه أنا فيه وخارجه ايضا ولذلك لدي قدرة الحكم عليه، واشعر ان ما أريد أن اكتبه أو ما اطمح في كتابته لم اكتبه بعد وكل ما فعلته ما هو الا نوع من تلمس للأشياء وإحساسي العميق أنني كائن يجيء من المستقبل وما كتبته ليس نهائيا ولو كنت قادرا لتخليت عن أشياء كثيرة كتبتها، لأني عندما أقارن كتاباتي القديمة من موقعي الراهن أجد نفسي مقصرا وكتاباتي دون ما أريد، فهي لا تمثلني ولا تكملني . وستندهش عندما أقول لك أنني لست متشبثا بكل حرف كتبته كما يفعل الآخرون . فأنا كائن " شكاك "على الصعيد الفني ولا أرضى عما افعله ابدأ لذلك أنا مقل شعريا وبعد ما يقارب نصف قرن من الكتابة هناك شباب عمرهم الفني نصف هذا العمر وكتاباتهم أكثر من كتاباتي على صعيد الكم.

* اذا سألتك الى أي مرحلة من عمر إبداعك تبدو أكثر انحيازا فماذا تقول ؟

- أنا منحاز للمرحلة المقبلة

* لاحظت ان أشعارك التي نشرت أخيرا انتقلت فيها من الانشغال بالزمان الى الانشغال بالمكان وتأمل حركة الذات بداخله وإقامة حوار معه فكيف نقرأ هذا التحول ونفسره ؟

-في الماضي كان بإمكانك أن تلمس أثر المشروعات الكبرى والإيديولوجية في شعري ومعها إرادة التحرر وكلها أمور كانت مهيمنة على تجربتي ونصوصي ولذلك انشغلت فيها بفكرة التغيير والزمن وأتصور أن هذا الهاجس لم ينقطع تماما لكني أحاول أنا أرى طبيعة المكان والعلاقات القائمة فيه تحت تصور " زماكاني " يجمع الزمان بالمكان. وهذا ما يجعل علاقتي بالمكان عناية أخرى بالزمان.
* أنت تفاجئني عندما تقول:"ان المرحلة الأولى في شعرك كانت مسكونة بالإيديولوجية" خاصة وأنت من أوائل من دعوا الى مغادرة هيمنة الإيديولوجية وهدمها في النص بمعنى آخر كنت ضدها تماما ولذلك أسألك ما الذي تعنيه بالأيدلوجية ؟

طوال عمري ضد الأيديولوجية التي تنتج شعرا تعليميا أو تبشيريا مباشرا ولكني عندما أتحدث عن المرحلة الأولى في شعري أقصد المرحلة التي كنت فيها فرد ضمن مشروع عام وشعري في تلك المرحلة لم يكن سياسيا بالمعنى الأفلاطوني وإنما كان معنيا ببناء الإنسان .

* على ذكر الايدولوجيا ما الذي تبقى داخل ادونيس من أفكار الحزب القومي السوري الذي انتميت إليه لفترة ليست قصيرة ؟

- الكثير من أفكار انطون سعادة منظر الحزب القومي السوري مؤثرة ومنها مثلا أفكاره المعادية للعنصرية وابتكاره لمفهوم "السلالة التاريخية" التي تشير لتلاحم الثقافات داخل المجتمع الواحد فضلا عن مفهومه "للسلالة الحضارية" في مجتمعنا العربي حيث يشير الى تراكم حضارات مختلفة كانت سابقة على الحضارة العربية الإسلامية في المنطقة التي انتهينا إليها ومنحتنا لغتنا العربية التي نفخر بها وبفضله ترسخ لدينا إيمان بأننا عرب بالمعنى الثقافي ونحن كذلك جزء من هذا الكل الحضاري الذي يشمل الحضارة الفرعونية والسومرية والفينيقية وهناك أيضا أفكاره عن ضرورة فصل الدين عن الدولة وقناعته بأن الدين مسألة شخصية لابد ان تحترم في هذا الإطار و أتصور ان الكثير من هذه الأفكار لا يزال يخضع لتأويل خاطئ واعتقد أن الفكرة العميقة لانطون سعادة كانت ضد جميع العرقيات والعنصريات ومن ثم فهي ضرورية الآن أكثر من أي وقت مضى وتقديري ان كل شاعر او مفكر حقيقي لا يمكن ان يكون فاشيا او عرقيا . وكثيرا ما يلفت نظري في سيرة " سعادة " علاقته العميقة بالأدب والفن خلافا لمعاصريه من الساسة والمفكرين الذين تحدثوا طويلا عن الأدب كمرآة عاكسة للمجتمع عليها ان تعبر عنه كان يقول رحمه الله عليه " الفن منارة " والفارق واضح لان ما كان يعنيه كان أكثر أهمية لمجتمعنا والشيء الآخر الذي تعلمته منه ان كل مشروع فكري او فني هو مشروع مفتوح ولا مجال للأفكار النهائية المغلقة . وكثير من هذا موجود لدي بصيغ أخرى اشتغلت عليها من موقعي ومزجتها بعملي الشعري

* هل تعتقد انك ورثت الى جانب بعض أفكار انطون سعادة الكثير من إساءة الفهم التي لحقتها بها من التأويل الخاطئ لك ولها ؟

- طبعا فقد عانيت ولا أزال من سوء فهم تاريخي ولكني أتصور انه سوء فهم مقصود وليس عشوائيا أو اعتباطيا فأنا أحيانا اقرأ هجوم على شخصي من أشخاص لم يقرأ وني وبعض الهجوم سببه التنافس والحسد والغيرة مني ومما وصلت إليه من شهرة أو حضور عالمي وبعض ممن يهاجموني أيضا ليس لديهم إيمان بأن الفرد العربي يستطيع أن يكون مؤثرا ويحقق أشياء مهمة في مجاله بصورة مستقلة وعقلية المؤامرة دائما تظن أن من ينجح عالميا أما ورائه نظام عربي وأما جهاز أجنبي . ومعظمهم لا يستوعب ان ادونيس الشاب الفقير الذي خرج من ضيعة صغيرة على أطراف "اللاذقية" اسمها "قصابين " يمكن أن ينجز شيئا من دون ان يكون مدعوما من جهة او نظام ورأيي ان هذا يعكس أزمة ثقة في قدرات الفرد العربي فالكاتب العربي لا تقرأ نصوصه وإنما تقرأ انتماءاته والمشكلة لم تعد في نصوصنا وإنما في العقلية التي تقرأ هذه النصوص. ورأيي أن مشكلة الثقافة العربية اليوم هي مشكلة قراءة وليست مشكلة كتابة ولذلك كثيرا من النصوص المهمة مغيبة.

* من مؤلفاتك الأخيرة التي أثارت ضجة كتابك "الكتاب" الذي يحضر فيه المتنبي كصوت مهيمن وأساسي هل تعتقد ان هذا الكتاب قد اكتمل بصدور جزءه ا لثالث العام الماضي ؟

كما قلت لك أنا ضد الاكتمال ولكن لابد من الوقوف عند حد معين والهدف من " الكتاب" كان إعطاء صورة عن المرحلة التأسيسية الأولى في ثقافتنا العربية منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول عليه السلام وصولا الى عام 354 هجرية عام وفاة المتنبي وهو إجمالا محاولة لتأمل تاريخنا العربي وربما اكتمل ككتاب ولكن كمشروع لا يزال مفتوحا .

* لكن بعض نقاد هذا الكتاب قال انك لم تر في هذه المرحلة الا التاريخ الدموي للعرب والمسلمين !!

-هؤلاء لم يقرؤوا الكتاب وأنا قلت عنه مرارا انه رواية حب للتاريخ العربي ومن يعرف تاريخنا جيدا يعرف إنني لم اخترع شيئا وما ذكرته من سلبيات موجود في المصادر التاريخية وأنا لم احكي فقط عن لحظات الإظلام والكتاب مليء بمنارات الضوء وعلى منتقدي الكتاب ان يعرفوا ان تاريخنا ليس حالة فريدة و شأنه شأن تاريخ مختلف الأمم فيه السلبي والايجابي لكن هذه الأمم تخلصت من أسس الاستبداد فيه ومن الطاقة الظلامية فيه لذلك لا يتهم أبناءها بارتكاب جرائم إرهابية أما نحن فقد تم اختصار صورتنا في صورة "الإرهابي " وللأسف هذه الصورة موجودة في صلب البنية الثقافية العربية وأنت عندما تقر صحفنا العربية ترى مختلف صنوف القتل والاغتيال المعنوي فهناك مقالات اتهامية يسيل منها الدم ايضا .

* وكيف واجهتك محاولات "اغتيال المعنوي" اذا جاز لنا التعبير ؟

لا بشيء سوى العمل لأني اعرف نفسي كما اعرف الآخرين ممن يحاولون اغتيالي ومعظمهم عاشوا في ظلي. وبعضهم يعتبر الجرأة علي محاولة للتحرر من الأب " وهذا جيد ولكن التحرر مني لا يكون بلغتي فعلى المتحرر ان يخترع لغته وثانيا لا يقوم بتشويه هذا الأب وأتمنى لكل شخص ان يبتكر شخصيته وطوال تاريخ وفي كل المجلات التي عملت فيها لم انشر حرف لشخص كنت أرى انه يقلدني لأني دائما مع تحرير الفرد من أبيه ومن نفسه ايضا.