سوسن بشير
(مصر)

أدونيسجاء أدونيس إلى القاهرة مفكراً محاضراً لا شاعراً، مدعواً من قبل الجامعة الأميركية في إطار الموسم الثقافي العربي، فقدم بحثاً بعنوان "معوقات الحداثة في الثقافة العربية بعامة والشعر العربي بخاصة"، طرح من خلاله قضيتين أساسيتين؛ الأولى هي الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم، تلك التي تفصح عن نفسها بثقافة العنف والإقصاء والتكفير، بتبني حقيقة واحدة مطلقة وربطها باللغة في النص الديني، الذي يتم تأويله تأويلاً سياسياً سلطوياً. والثانية هي انعدام الذاتية التي تحصر حقيقة الإنسان والعالم في ذات التأويل السائد للنص الديني، حيث تتحدد المعرفة ويكون ختامها، وبالتالي لا يكون للفرد إلا الاتباعية في مقابل الذاتية التي يجب أن تتحدد بعالم الفرد الداخلي لا بكل ما هو خارجه؛ بالنص والشريعة والأمة. وقد أكد أدونيس أكثر من مرة، أنه لا يتحدث عن النص الديني المقدس، بل عن تأويله السائد الذي ألغى "الأنا" في سبيل "النحن"، وبالتالي انعكس ذلك على الثقافة العربية وعلى أصواتها الشعرية التي أصبحت بين مطرقة السياسة وسندان اللاهوت. ومحاضرة أدونيس، تأتي مباشرة قبل يومين من زيارته الأولى لإيران، مما يفسر ان يرى البعض في مضمونها ما ينطبق على إيران أكثر من غيرها من الدول الإسلامية. وبعد المحاضرة كان لنا هذا الحوار الخاص مع أدونيس، الذي طرح فيه بعض القضايا للمرة الأولى.

* تأتي محاضرتك في الجامعة الأميركية في القاهرة عن الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم وانعدام الذاتية، قبل يومين فقط من زيارتك الأولى لإيران. ما الذي يأمله أدونيس تحديداً من تلبية الدعوة التي جاءته من الملحقية الثقافية الفرنسية هناك؟

ـ إيران بلاد عظيمة ولها تاريخ عريق، خصوصاً على الصعيد الشعري والفني. وأنا أحب أن أرى الأرض التي سار عليها عمر الخيام وحافظ وسعدي، وأرى أيضاً الأماكن التي أبدعت فيها الأيدي الإيرانية السجاد، وهذه نقطة مهمة. فأنا أتمنى ذات يوم أن أقرأ تاريخاً لعبقرية اليد العربية التي قد تكون أكثر أهمية من رؤوس عربية كثيرة. وللأسف كنت أتمنى أن تكون الدعوة من إيران نفسها، ولا أعرف إن كنت أستطيع أن أتصل بالأوساط الفنية والثقافية والسياسية التي أود لقاءها. وأتمنى ألا تكون هناك عواقب دبلوماسية تحول دون الاتصالات التي أنجزها، خاصة بما يتعلق بالمرأة الإيرانية الشاعرة والرسامة والسينمائية، والمبدعة بشكل عام، وكذلك الشباب في الوسط الطلابي.

* كنت أحد المؤيدين للثورة الإيرانية، ما الذي تسعى إليه اليوم من الاتصال ببعض السياسيين الإيرانيين؟

ـ نعم، أيدت الثورة الإيرانية في بدايتها، وكذلك فعل معظم المثقفين الفرنسيين والأوروبيين، فكذلك فعل ميشيل فوكو، لكننا حصرنا التأييد في الخلاص من إمبراطورية الشاه. وعلينا أن نتذكر أن الثورة الإيرانية نموذج لا سابق له في التاريخ، لأنها ثورة كاملة قام بها شعب بكل طبقاته، ولم تقم بها لا فئة عمالية ولا تجارية ولا انقلاب عسكري، لكن قامت بطريقة فريدة من نوعها، وهذا ما جذبني وأيدته. لكن منذ أن بدأت هذه الثورة تؤسس السياسة على الدين انفصلت عنها وانتقدتها نقداً شديداً، وكتبت مقالة عن ذلك أسميتها "الفقيه العسكري"، تحدثت فيها عن الخطر المقبل حينذاك على إيران، لماذا لا يتذكر لي أحد ذلك، وفقط يقولون إنني أيدت الثورة وأيدت الخميني. أما اليوم فأنا أتمنى أن أقوم باتصالات ببعض السياسيين لأعرف كيف يفهمون العلاقة بين السياسة والدين، فهذه مسألة تهمني كثيراً، كما يهمني رأي مفكري إيران في هذه المسألة، لا رأي رجال السياسة فقط.

* أدونيس المسكون والمهموم دوماً برابطة السياسي ـ الديني ـ الثقافي، ما الجديد الذي أتى به في محاضرة القاهرة على مستوى المضمون، أليست هذه أفكار أدونيس في الثابت والمتحول؟

ـ لا أعتقد انني كتبت من قبل عن الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم في أي من كتبي، وإن كانت هناك إشارات في بعض الكتب. كذلك لم أكتب عن انعدام الذاتية في الثقافة العربية، كما تحدثت بنوع من الإسهاب في هذه المحاضرة. لكن المفكرين مثل الشعراء، منغرسون في تربة الفكر كمثل شجرة لها جذور وأغصان تمتد في جميع الاتجاهات. ما أريد قوله إنه ليس لأي مفكر في العالم أفكار كثيرة، كل مفكر له فكرة واحدة يدور حولها، ويشعبها حسب علاقتها بالعلوم الأخرى. ولو تتبعت الفلاسفة منذ القدم حتى اليوم، ستجدين الفيلسوف يدور حول فكرة مركزية واحدة لكنها تتشعب. وأنا ليس لدي مائة فكرة، بل فكرة واحدة متمحورة حول الثبات والتحول في الثقافة العربية، ولهذه الفكرة امتدادات وتشعبات في الشعر والدين والحياة الإنسانية الاجتماعية ومختلف الميادين، ومن هذا المنطلق يجب أن تنظري لمحاضرتي، التي هي تنويع موسع، على قضايا تكلمت عليها في الماضي.

* حديثك عن الفلسفة يحيلني لإجاباتك على أسئلة الحضور، حيث عرجت على أبي العلاء المعري وحداثيته. وبالرجوع لمقدمتك للمجلد الثاني لديوان الشعر العربي، نجدك تؤكد على أن أبا العلاء هو أول شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري، وليس شاعراً فيلسوفاً، ما هو مقياسك للشاعر الفيلسوف، وهل يرى أدونيس نفسه شاعراً فيلسوفاً؟

ـ حينما تصفين شاعراً أو مفكراً بأنه فيلسوف تعنين بالضرورة المصطلح العلمي والفلسفي، الذي يتحقق عبر إبداء الشاعر والمفكر رأيه في الوجود والأخلاق والمصير؛ أي أصل الإنسان، والأخلاق التي يجب أن يعيشها، والمصير الذي يؤول إليه، ومن هذا المنطلق ستجدين عدد الفلاسفة قلة في العالم، فهناك أمثلة كأرسطو وأفلاطون قديماً، وهيجل حديثاً. أما البقية ممن يسمون بالفلاسفة من باب التوسع والتيمن فهم أشخاص عالجوا قضايا فلسفية، ولم يجيبوا على الأسئلة الكبرى التي ذكرتها. ومن هنا أقول إن دريدا لا يصح أن يسمى فيلسوفاً بهذا المعنى، بل ولا حتى سارتر نفسه، وإنما هم مفكرون بحثوا في قضايا فلسفية. وكذلك الشاعر الميتافيزيقي غير ملزم بالإجابة على المشكلات الثلاث، وإنما يستشف ماوراء الفيزيقا، أي ما وراء الطبيعة، فيتكلم في الفناء والخلود وعبث العالم، وبهذا المعنى أردت أن أنقذ أبا العلاء من التحديد المغلق لكلمة فيلسوف الذي لا ينطبق عليه، فأسميته ميتافيزيقاً. وكل شاعر عظيم هو شاعر ميتافيزيقي، لا يكتفي برؤية العين والتعبير عنها، وإنما يتخطى ذلك برؤية العين الداخلية، أي رؤية القلب. ومن هنا فأنا أتمنى فقط أن أكون شاعراً ميتافيزيقياً كأبي العلاء، لأنه من الصعب في الحقيقة أن يكون هناك شاعر فيلسوف، فأنا لا أجده في تاريخ الشعر.

* وصفت في إجاباتك أيضاً كلاً من أبي نواس وأبي العلاء والنفري بالشعراء الحداثيين، في حين صمتّ تماماً عن المتنبي، أليس هذا غريباً على أدونيس صاحب "الكتاب"؟

ـ كل شاعر حديث في لغة ما يجب أن يعيد النظر في القيم السائدة، وأن يكون سلسلة من التساؤلات حول انتسابه اللغوي، وكذلك حول تحدره من أصول لغوية وقيمية واجتماعية معينة. وأول من تساءل حول القيم السائدة وأفصح عنها بطريقة جديدة هو أبو نواس؛ تساءل عن القيم الدينية وقيم البداوة، وانتقدها، وأقام قيم الحياة المدنية وأكد على الحرية الفردية. أما المعري فأعاد النظر كلياً في القيم السائدة لعصره على جميع المستويات، وشكك في تلك القيم، وأراد أن يؤسس لعالم جديد، والنفري كتب بطريقة مختلفة كلياً. ما أود أن أقوله إنهم بهذا المعني حديثين نسبياً داخل تراثهم وأوضاعهم التاريخية، أما المتنبي فكان طاغية شعرية احتضن التراث بأكمله والتهمه وسار به كأنه عاصفة تغير وتدمر كل شيء، لكن ضمن المعايير والمقاييس والمفاهيم القائمة لعصره، ومن هنا فالمتنبي ليس بشاعر حداثي.

* تطرقت في مجمل محاضرتك أيضاً إلى قضية الناسخ والمنسوخ عموماً، لا في النص الديني فحسب، وهذا يذكرنا بحادثة تمت منذ عشر سنوات تقريباً، حين خرجت بديوانك في ثلاثة مجلدات، تخليت فيها عن التتابع الزمني للقصائد وفاء لما أسميته "تتابع البنية والإيقاع" مؤكداً أن هذه الطبعة تقطع كلياً مع الطبعات السابقة لهذه الأعمال إضافة إلى أنها تنسخها"، فهل نتوقع أن ينسخ أدونيس أعماله مجدداً؟

ـ سؤالك فرصة جيدة لتوضيح الفارق بين النسخ والتغيير، رداً على ما تم تداوله قبلاً، ممن لم يقرأوا كتبي وأطلقوا شائعات تؤكد أنني أغير في قصائدي، وهذا ما لم يحدث. فأنا أحذف فقط ولا أبدل أو ألعب بالجمل الشعرية. فهناك قصائد طويلة، أو تعبيرها ضعيف، ولم تعد تعبر عني، فأقوم بحذفها بعد إعادة النظر بها، وهذا من حقي، فهذه القصائد ملكي، وهذا ما حدث في قصيدة "قالت الأرض" على سبيل المثال. وجميع الشعراء العالميين يفعلون ذلك، بل منهم من يفعل ما لم أفعله أنا وهو إعادة كتابة قصائدهم، وتسمية ذلك بالتنويع على النص، فما يكتبونه ليس منزلاً، والإنسان أهم مما يكتبه، وسيظل النص ملك شاعره حتى بعد موته. أما ما تطرحينه من مسألة النسخ فهذا ما حدث بالفعل، لا التغيير، وقد اقتضته ضرورة تجارية أضمن بها حقوقي، حيث دأبت إحدى دور النشر على طبع ديواني عدة مرات من دون وجه حق، والزعم أن كل طبعاتهم هي طبعة واحدة، فأعدت ترتيب كتبي بشكل آخر لألغي إمكانية تجديد هذه الطبعة، فالنسخ هو الإلغاء، أي لأمنع قرصنة ديواني. أما اليوم فأفكر بإعادة طبع دواويني كما كانت في الماضي بشكل تاريخي تسلسلي.

الشرق الأوسط
7 ديسمبر 2005