إلى الآن لا أعرف كيف يتسع القلب والعقل لما قاله لي كاتبٌ عن موقفه حيال ما يجري في لبنان. شيءٌ ما في كلامه، بين معجزة اللغة وحنكة الحب ولذة الدموع، جعلني أعتقد أن البشرية، رغم سقوطها المريع في اللامتناهي من الفجائع، لقادرةٌ ببلاغة الإنسان الفرد، وموهبة الرؤيا، وصدقيتها "المتوحشة"، أن تشقّ لمصائرها دروباً هي غير الدروب التي تحكمها همجية القتل والدمار والآلة والدول والجماعات.
كنا نتحدث عن لبنان تحديداً. عن هذه البلاد التي، على قوله، لا تستطيع أن تموت لأنها محكومة بحياة تولد من فرط الصعوبة، بل من فرط الموت، ورغماً عنه، وتحدياً له.
كان الكاتب العربي، الذي بات يحمل منذ أعوام جنسيةً إضافية بعدما نفته الظروف شريداً في أرجاء الأرض، هو الذي يدير الحديث ويأخذ بتلابيبه، وكنتُ أنا أصغي، في غالب الأحيان، لا إعياءً إنما شغفاً بكلامٍ أريده وأتمناه، وربما أتفادى التصريح به، إكراماً لهشاشة وطنية داخلية، يُستحسن الترفق بها في مثل هذه اللحظات الراهنة. الأجدى أن أقول إن هذا الكاتب لم يترك أمامي مجالاً للإفصاح عن الحرج الذي يصيب لبنانيين لا يريدون أن ينوجدوا بين شاقوفين، ولا يريدون أن يساووا بينهما، كهذين الشاقوفين اللذين يضيّقان الخناق على لبنان إلى حدّ القتل: العدو الإسرائيلي وحلفاؤه الأميركان وسواهم من جهة، و"حزب الله" وسوريا وإيران من جهة ثانية.
قال هذا الكاتب إن لبنان فضيحة ذاتية وعربية وكونية لأن لا أحد - لا بلد ولا شخص - يمكنه أن يتحمل حقيقته الجارحة. لا أهله يستطيعونه، ولا العرب، ولا العالم خصوصاً. مع ذلك، هو محكومٌ بأن ينوجد وبأن يكون، لأنه قدَر، أو لأنه "خطأ" تاريخي، متأصل في جذوره التاريخية، ولا يمكن تدميره بإخراجه من وحدته الجغرافية، أو بابتلاعه من خلال جعله لقمة سائغة في أفواه جيرانه أو أحد هؤلاء الجيران. ولكي ينوجد هذا اللبنان ويكون، عليه، في سياق الديمومة التاريخية، أن يسدد أثمان هذين الإنوجاد والكينونة.
قال الكاتب أيضاً إن لبنان يُرى بالأبيض والأسود، لذا هو محكومٌ بهذا النوع من الأقدار المأسوية المتألمة. وقال إن أهل لبنان حمقى لأنهم، أحياناً، كلٌ بدوره، بعضهم أو جميعهم، يتغاضون عن هذه الحقيقة الناصعة، حقيقة البياض والسواد، أو هم يشوّهونها، إذ يحاولون تلوين هذا اللبنان بألوان شتى، لا هو يستسيغها ويستطيعها، ولا هي تستسيغ أو تستطيع أن تتلون بها. قال أيضاً إن العالم العربي أحمق، بل شديد الحمق، لأنه يملك ما لا يستطيع غيره أن يملكه. هو يملك الكنوز ولا يعرف أن يحفظها. كهذا الكنز الذي يدعى لبنان. فمصالحه العليا، هذا العالم العربي، على اختلافاتها وتناقضاتها، والقول دائماً للكاتب العربي الذي بات يسمّى أجنبياً من أصول عربية، تملي عليه، وإن ممزقاً، "تحرير" هذا البلد من كل معوقاته الداخلية والإقليمية والعالمية، لكي يتمكن من أن يفعل فعله في ذاته وفي محيطه وفي الأوسع، فيكون كنزاً لهذا العالم العربي، قبل أن يكون فائدة موضوعية، لاحقة، للآخرين، أكانوا من الأشقاء أم من الأصدقاء. بل قال الكاتب خصوصاً إن إسرائيل عطبٌ يخلّ بنظام التاريخ والجغرافيا الشرقيين، وكلما أمعن هذا الكيان الدخيل في عطبه أنزل الخراب بالبلد الأول الذي "يهدد" هذا العطب: أي لبنان. قال أيضاً إن سوريا الحالية ترتكب من الأخطاء أفدحها عندما تظن أن هذا البلد، الذي كان يدعى في غابر الأزمان جبل لبنان، خطأ تاريخي وجغرافي، وتطالب بضمه إذ تزعم أنه جزء لا يتجزأ من حقيقتها الطبيعية الغابرة، أو تعمل مباشرة ومداورةً على تدميره. وأضاف الكاتب أن سوريا الحالية هذه عندما تمضي في هذا النوع من الرعونة الجيو السياسية فإنها توصل نفسها حتى عنق الزجاجة، تخريباً لطبائع الصيرورات التاريخية، وتهشيماً لمكوّنات لبنان الداخلية، تمهيداً لابتلاعه او لتقاسمه أو لمحوه. وقال إن مأساة هذا اللبنان تكمن في أنه "مصادَر" عند حدود جنوبه وشرقه وشماله، وأنه كلما حاول التملص من هذه المصادرات المتضادة المتناغمة، في اتجاه البحر، اختلّ شيءٌ جوهري في الموسيقى التي تحكم إيقاعاته الأساسية. وقال إن ذلك كله ليس مدعاة لليأس ولا للاستسلام، بل لحنكة الرؤيا، وصولاً إلى معجزة.
ومضى هذا الشاعر يقول الكلام بعيداً عن الرياء والتكاذب والممالأة والتملق والمداهنة وإخفاض الرؤوس على طريقة النعامة، موضحاً أن المكاشفة السياسية الحكيمة، وإن شاقة، تستطيع وحدها دون سائر المغامرات، ان تصفع محن الانزلاق إلى الحروب والسياسات المستحيلة، بما يمنح الحياة المنكوبة نفسها سلطةً معنويةً تتغلب بها على ما ينكبها ويصرعها.
قال إن لبنان هذا، محكوم بفسيفسائه، فلا هو كاملاً، ولا أحد مكوّناته بالطبع، يستطيع أن يدمّر هذه الفسيفساء، ولا جيرانه جميعاً. فهي فسيفساء منوجدة بقوة الانوجاد والكينونة، وكلما حاول طرف، داخلي أو خارجي، أن يتلاعب بها، وقع الخلل العظيم الذي يصيب بشظاياه الأطراف أجمعين، الداخليين والخارجيين. كهذا الخلل الحاصل الآن، الذي هو استخلاصٌ لتلاعبين، أحدهما تلاعبُ جزءٍ داخلي مفتوح على التلاعب الاقليمي، والثاني إقليمي - دولي.
قال الكاتب أيضاً إن لبنان ضرورة صعبة، لكنها ضرورة مطلقة ولا رجوع عنها، لأنها غير قابلة للضم والمحو الابتلاع والإلغاء والإلحاق. وليس من خيار أمام مكوّناته الداخلية، وأمام الأطراف الاقليميين، أشقاء أم أقرباء أم أعداء، سوى أن يرضخوا لهذه الضرورة الصعبة لكن المطلقة، وأن يبحثوا عن التسويات الحكيمة التي توقف هول المقامرات بالدماء.
ليس هذا الكاتب مستشرقاً مسحوراً، ولا سائحاً ساذجاً، ولا رومنطيقياً من أيام زمان، حملته ظروف قاهرة إلى هذه الأرض، فرمته بجحيمها ولعنتها. هذا الشخص هو كاتب عربي - أجنبي فحسب، أي مزيج من الرائي والعارف والحكيم. بل هو، ببساطة، شخص "يستطيع"، بدون حرج، أن يعلن ما يضمره، وأن يقول الكلام الذي قد لا يرى اللبنانيون (والعرب) أنفسهم قادرين على قوله. بل هو محض إنسان صادق في زمنٍ لم تعد صفة الأنسنة الصادقة مدعاة للمديح وإنما للشفقة والتندر.
قال لي هذا الكاتب إنه يعرفنا تمام المعرفة نحن اللبنانيين، عيوبنا وفضائلنا، سلبياتنا وإيجابياتنا، طوائفنا وعلمانياتنا، انقساماتنا ووحداتنا، ويعرف أننا يمكن أن نصير في لحظة تخلٍّ، بعضنا أو جميعنا، وفي أوقات متفرقة، أعداء بلادنا. وقال أخيراً مخاطباً هؤلاء اللبنانيين، قبل مخاطبته العرب والعالم، وبالطبع قبل مخاطبته إيران وسوريا، وقبل أميركا و... إسرائيل، قال: إرفعوا أيديكم عن لبنان، كي يرفع الآخرون أيديهم عنه. وتصرفوا كأنكم ضيوفه كي لا تكونوا ثقيلي الوطء على أرضه وروحه. والسلام.
ملحق النهار
الأحد 13 آب 2006