عقل العويط
(لبنان)

عقل العويطالشعر موجود في كل مكان. إنه في كل مكان مطلقاً... باستثناء وجوده لدى الشعراء الرديئين. بهذا القول للشاعر الفرنسي بول كلوديل نفتتح هذا المقال الذي يأتي غداة الاحتفال العالمي بعيد الشعر، ونريد من خلاله إبداء رأينا في أن الشعر ليس في أزمة ولا هو على فراش الاحتضار ولا هو تالياً قد أسلم الروح أيضاً إلاّ لدى بعض الشعراء أنفسهم. ولا نجد مبرّراً لا اليوم ولا في الغد إلى أيّ قول يردد مقولات لا سند دامغاً لها عن موت الشعر
لكي نضع هذا المقال في موضعه النقدي الدقيق، نوضح بدايةً أن التحولات الجوهرية التي يعيشها عالم اليوم باتت، بحكم الوقائع الموضوعية، تنعكس سلباً على بعض "المجتمعات الشعرية" وتضيّق الخناق عليها وعلى أهلها الشعراء. لكن هذه المسألة لا علاقة لها البتة بالموهبة والشعرية، فهاتان موجودتان في الجوهر الإنساني ومقيمتان فيه بالضرورة المطلقة، وهما تسبحان في باطن الدخيلاء، ولا تستطيع أيّ قوة أن تلغيهما وتستأصلهما وإنْ كانت تحولات عالم اليوم تناصبهما العداء وتهددهما وترعبهما.
ربما أخطأنا في أحد الأيام عندما قلنا إن الشعر في أزمة، والأكيد أن بعضنا أيضاً وقع في خطأ مميت عندما قال بموت الشعر. الآن، يمكننا أن نكون أكثر منهجيةً ووضوحاً فنقول إن هذه المسألة قد تكون حقيقية ومشروعة في معنى ما، لكنها مقيمة حكماً خارج شرطَي الموهبة والشعرية. كرة الأزمة إذا كان ثمة أزمة موجودة فحسب وبوضوح ساطع في ملعب بعض الشعراء، فإما أن تكون هاتان الموهبة والشعرية موجودتين لديهم ويعمل الموهوبون منهم على حمايتهما بلغاتهم ودخيلائهم وأقلامهم، وإما يكونون هم في أزمة.
هل الموهبة والشعرية في خطر شديد بسبب "العالم"؟ ربما. فكل شيء في هذا "العالم" يتغيّر: من الطبيعة إلى التكنولوجيا إلى الطب إلى الاختراعات التي تعيد النظر في الكثير من المسلّمات. لكن مشكلة الشعر ليست هنا ولن تكون هنا على الإطلاق، لأنه يحيا في "مكان" آخر لا يزال محمياً من الاختراقات التي تهدد "طبيعته" وجوهره.
نقول هذا من دون أن نعرف تماماً ما إذا كان في مقدور "العلم الشرير"، الخلاّق والعبقري، أن يمدّ يده إلى... الطبيعة البشرية نفسها. لكنْ من الآن حتى تتغيّر هذه المعادلة نقول إن المشقات التي تعترض سبيل الشعر في "العالم" ينبغي لها أن تحفّز الشعراء لا أن تحبطهم، وأن تزيدهم بحثاً عن الشعرية المخبوءة لا أن تقعدهم، لأنهم وحدهم يقبضون على النار.
ثمة نقطة أولى إذاً: لم يُكتَب الشعرُ كله. هذا في الأقل رأينا في الموضوع. فالقصيدة لا تزال تتطلع إلى مستقبلها. لذا لا يمكن القول باحتضار الشعر وموته كقصيدة لأن ثمة قصيدة لم تُكتب بعد، وينبغي للشعراء أن يكتبوها الآن أو في أحد الأيام. وفي اعتقادنا أن الشعر، كإنتاج لغوي، لم يستنفد طاقاته كلها رغم كل النظريات التي تتحدث عن جدار اللغة وموت الشعر وهلمّ. أرض القصيدة لا تزال، لغوياً، متلهفة إلى أيدٍ تحفر أعماقها وتلجها وتقلب تربتها. ورغم كل التحديات والتحولات التي تعيشها اللغة، ورغم كل الإغراءات التي توحي أن اللغة، لغة القصيدة، لم تعد في المقام الأول بين "اللغات"، ورغم أن عالم الصورة يطغى، ومعه كل "لغاته" التي ليست بالكلمة، فإننا لا نزال نقول بأن الإنتاج اللغوي للقصيدة لا يزال ينظر إلى غده.
ثمة نقطة ثانية لا بدّ من الإشارة إليها. فالشعر لم يعد وجوده مقتصراً على القصيدة، بعدما بات منسرباً في كل شيء تقريباً. وأعني في كل فن وجمال. فمن يريد الشعر البحت مكتوباً في قصيدة، يستطيع أن يعثر عليه لدى الشعراء، هنا وفي العالم. ومن يريد الشعرية منسربةً في الكائنات والفنون والأشياء، يستطيع أن يعثر عليها هنا وفي جهات الأرض: في الحياة أولاً، في الرواية ثانياً، ثم في النثر ثالثاً، وفي الموسيقى، وفي السينما، وفي الفن التشكيلي رسماً ونحتاً، وفي الرقص التعبيري، وفي المسرح، وفي الغناء، وفي العمارة، وفي فنون التجهيز، فضلاً عن وجودها في الطبيعة نفسها التي هي أم الفنون مطلقاً.
لذا سنجد قول غيوم أبولينير طبيعياً جداً ومنطقياً عندما يعلن أنه يمكننا أن نكون شعراء في كل الميادين والمجالات حتى في تلك التي تخلو من الشعر والشعرية. يكفي، والقول لأبولينير، أن نكون مغامرين وأن نذهب في مغامرة البحث والكشف والاكتشاف لكي نعثر على الشعر ونكتبه، أو لكي نجد وسائل فنية وروحية وحياتية وحسية أخرى للتعبير عنه. في القصيدة أولاً وفي خارجها أولاً وثانياً وثالثاً.
سنجد صعوبة كبيرة في قراءة رواية خلاّقة، أو في النظر إلى لوحة فنية رائعة، أو في الاستماع إلى موسيقى كلاسيكية، وموسيقى الجاز، وموسيقى عاصي الرحباني، وصوت فيروز، وبعض موسيقى أفريقيا، وبعض موسيقى الشرق الأقصى، أو في رؤية فيلم من روائع السينما، أو ممثل هائل فوق خشبة مسرح، بدون أن تزجّ هذه الأعمال نفسها في أتون الشعر وأن تضع "لغاتها" تحت سمائه وغيومه. ونعتقد أنه لن يتاح لأيّ متخصص أو متذوق أن يعيش هذه الفنون باعتبارها أعمالاً خلاّقة فحسب ومعزولة عن دلالاتها الشعرية. فهي، إلى كونها فنوناً ذات مقاييس وقيم جمالية ومعايير تقنية وأسلوبية محددة في مجالاتها، لا تستطيع أن تعثر على حياتها وإيحاءاتها المتكاملة في معزل عن الشعر وخارجه. فهذه الفنون هي هذه الفنون بالذات، لكنْ مضافاً إليها الشعر، أولاً وأخيراً. وهي، معزولةً عن شعريتها، ستكون في يتم عظيم.
ثمة نقطة ثالثة. في العالم الكثير من البشاعة والقبح، وفيه الكثير من الرعب والقتل والحروب والدمار والموت، وفيه الكثير من الرداءة والتفاهة، وفيه الكثير من اللاشعر، وفيه الكثير من الأمية، وفيه الكثير من التكنولوجيا "الشريرة" والاختراعات الماجنة واللامسؤولة التي قد تناصب الشعر العداء... لكن هذه كلها، وغيرها، لن تستطيع أن تحول لا اليوم ولا في أيّ يوم، دون وجود الشعر. ولن تستطيع تالياً أن تمحوه وتضع حداً لصورته فينا، إلاّ إذا "أرادت"، أو استطاعت، أن تدمّر "الطبيعة" البشرية نفسها.
ثمة نقطة رابعة. نتحدث عن الشعر ونغفل الحبّ. فهل من حبّ يعاش في الكون، هل من إيروتيكية تتجسد في امرأة وفي امرأة عارية استطراداً أو بين رجل وامرأة، خارج الشعر؟! هل نستطيع يوماً أن نتخيّل أنفسنا نحيا ونعشق ونقيم سريراً للغرام وننام ونحلم، "محرَّرين" من هذا الشعر؟! لا نعتقد أن هذا سيكون ممكناً في أحد الأيام لأن الشعر مقيم فينا وحولنا، في جوهر الحياة البشرية، في الوجدان، كما في جوهر الطبيعة، وفي الجنس، وفي الحواس، وفي اللاحواس، في الفضاء، وفي الأرض، وفي البحار والأنهر والضفاف والموانئ والصحارى والمطر والغيم والقمر والبرق والأودية والجبال والسهول والعشب والظلال والعتمة والضوء والفجر ومنتصف الليل، وفي الفصول كلها، وفي المشاهد المرئية وفي غير المرئية، كما في الأعماق الدفينة واللامعروفة واللامحسوسة في باطن الإنسان وفي مشاعره وحواسه، فأين المفر؟!
جوهر الفن، يقول مارتن هايدغر، هو القصيدة. فإذا كان الفيلسوف يقول ما يقول عن الفنون مطلقاً، وإذا كانت هذه الفنون "تسيطر" على نواحٍ جوهرية من الحياة البشرية، هل يصحّ "منطقياً" أن نقول إن الشعر في أزمة وإنه يحتضر؟!
يعلن جان كوكتو في أحد الأيام: أعرف أن الشعر ضرورة، لكني لا أعرف لماذا. أجمل ما في هذا القول أن هذه الضرورة تتخطى منطق المعرفة وحسابات العقل، وهذا دليل إضافي لكي نبرهن أن نبع الشعر مقيم تحت الأرض مطلقاً، في أعماقها الباطنة التي لا تصل إليها حجة العقل، وأن الحياة لم تستنفد نفسها شعرياً، بل هي في حاجة إلى ما يكتشفها إلى ما لا نهاية. ونعتقد أن الشعر وحده، أكثر من غيره، كفيل تقديم هذا البرهان اللانهائي وغير المستنفَد عن جدوى الحياة. يكفي، لتحقيق ذلك، أن يحفر الشعراء أعمق أعمق، حيث لم يصل معول ولا رفش ولا يد... لكي يتفجر ماء الشعر كما لم يتفجر من قبل.
سنقول مع فدريكو غرثيا لوركا إن الأشياء كلها لها أسرارها، أما الشعر فهو سرّ أسرار هذه الأشياء. فإذا استطاعت البشرية، إذا استطاع الإنسان عندما يكبر، أن يعرف الشعر ويتعلم إخماد الجروح ودملها، فآنذاك يصير إنساناً. وإذا عرفنا هاتين المعرفتين وخصوصاً إذا عرفنا أن نعيش كل حدث يومي وفق إحداثيات الأبدية، فهذا، والقول لأوجين غيوفيك، هو الشعر في رأيي.
ينبغي للذين يؤمنون بأن الشعر في أزمة وبأنه مشرف على الموت والهلاك أن يعرفوا أن ثمة فرقاً نوعياً هائلاً بين هذا الرأي وحقيقة الشعر وطبيعته. ينبغي لهم أن يعرفوا أن هذا القول الكابوس قد يكون صحيحاً في معنى ما بسبب "الجرائم" التي تمعن في قتل الشعر يومياً عبر تعميم السطحية والجهل والأمية وعبر تتفيه أسرار العبقرية في الطبيعة وعبر إلغاء الجمال وتدمير الكون والبيئة وعبر تشويه الكلمات بالبشاعات الهائلة التي تتراكم إلى حدّ إلغاء بصيص الضوء والأمل في اللغات كلها. لكن ينبغي لهم أن يعرفوا خصوصاً أن هذه "الحقيقة" (؟!) موجودة خارج الشعرية والموهبة، لأن "مادة" الشعر وطبيعته غير قابلتين للموت. هما موجودتان في "الشيء" الذي لا يمكن القبض عليه. وما دام متعذَّراً القبض على هذا "الشيء" فسيظل الشعر بألف خير.
لا يمكن أن ننظر إلى حضور الشعر فينا بمثل ما كنا ننظر إلى هذا الحضور في أربعينات القرن الفائت أو ستيناته وهلمّ، قبلاً وبعداً. ولا يمكن أن نقيم مقارنةً بين حضوره الكثيف ذاك، في لبنان وفي العالم، وحضوره هذا، الراهن والملتبس والذي يكاد يكون في نظر البعض خافتاً ومحتضراً أو ميتاً.
ثمة نقطة إضافية. لم يعد يهمّ إلى أيّ حدّ يحضر الشعر في العالم وكم يغيّره. يهمّ فقط القول إن هذا الشعر لا يزال يغيّر الحياة الشخصية. وهو يفعل ذلك من دون أن تستطيع تحوّلات الحياة المعاصرة أن تحرفه عن هذا الفعل أو أن تحول دون الإحساس به. هذا ما نزعمه في الأقل، وقد زعمه قبلنا شعراء كبار قدّموا للبشرية جمعاء، هنا وفي العالم، أعمالاً شعرية خالدة لا نزال نستقوي بها على "جرائم" الحياة المعاصرة هذه.
الشعر ينبغي ألاّ يكون مهتماً بما يجري في العالم على مستوى الإيديولوجيات والتكنولوجيات وهواجس العولمة ومنطق البيع والشراء والاستهلاك، أو على مستوى المسائل الحزبية والاجتماعية والاقتصادية. لأن الشعر ليس حالة إيديولوجية واجتماعية. إنه حياة مطلقة، فحسب. الشعر هو حالة في كل الأحيان، وفي بعضها حالة مكتوبة، وفي بعضها الآخر حالة منسربة في الكائنات والجمالات والفنون مطلقاً. لذا، فإن الشعر مهتم بكونه شعراً وبأنه يريد أن يخترق السطوح والظواهر ويفتح كوةً هائلة لينفذ منها إلى الضوء والعتمة المقيمتين معاً في شمس اللغة وليلها، وذلك من أجل أن يفتح عالماً مطلقاً مؤسَّساً على "معرفة" المصير الداخلي والروحي والديناميكي للفكر الإنساني، وأن يصنع له كلمات تولد على سرير، شراشفُهُ المخربطة هي فجر الأشياء. وهي مساحة مطلقة ومملكة مشيَّدة في قلب مملكة العالم أو في موازاتها أو على نقيضها وأنقاضها.
هل من شعراء لبنانيين أو عرب أو إنسانيين يواصلون هذا الدور الآن، ويمارسون صلة الوصل الأبدية بين الماضي والحاضر، بين المنجز وما يُنتظر اجتراحه؟ الجواب هو نعم بالتأكيد، لكنه نسبي وموضع للنقاش في كل الأحوال.
نستطيع أن نقول إن الشعر ليس أمام أي امتحان سوى امتحان ذاته، فهو ليس معنياً بالعالم على مستوى الوقائع والحوادث وكيفية وجودها وتحققها. إنه معنيّ فقط بوجوده وبإقامته في جوهره وطبيعته ومادته ومكانه وعزلته التي تصنع له حياة كلية ومطلقة، تحيا بقوتها لا بقوة الحياة الموجودة. وهو موجود تالياً، على مستوى التحقق بالكلمات، بقوة عبقرية الشعراء التي تمنحهم أن يرفعوا الغطاء عن المخبوء. فلنبحث إذاً عن الشعراء لأن الشعر موجود فحسب.
وليس مهماً أن يقول أحدنا إن الشعر مأزوم أو ميت أو أن الغلبة باتت لغيره، كما ليس مهماً أن يفعل الشعر فعله الجارح في المجتمع لأن شأنه مختلف عن هذا الأخير تماماً.
ربما يكون محقاً أو يكون غير محقّ من يزعم أن الشعر لم يعد له "مكانة" مجتمعية متقدمة في عالم الصورة، كتلك التي كانت له في أزمنة مضت. ربما يكون محقاً أو غير محقّ من يزعم أيضاً أن هذا الشعر هو في لحظة تراجع نوعي أو ضمور أو خفوت، ومعه عالم الآداب والفنون عموماً. لسنا ندري حقاً مدى صحة هذا الكلام، إلاّ أنه يكفي الشعر أن شاعراً ما، لا يزال عاكفاً على نبعه، مؤمناً بأن ما يحفره سيغيّر الحياة حقاً، حتى وإنْ كان ما يؤمن به ويكتبه لن يجد من يقرأه. فلربما الأجدى، اليوم، أن يكون الشعر وحيداً وأعزل، لكي تكتشف الفنون، والحياة مطلقاً، يتمها الأبدي الفادح. فبهذا سيكون الشعر أكثر برقاً وأشدّ سطوعاً وأمضى سلاحاً في مواجهة اللاشعر والرعب والعتمة الماحقة التي تغزو العالم.
ربما، ينبغي لنا أيضاً أن نعترف بأن شيئاً ما قد تغيّر. ربما العالم. ربما الحياة نفسها. ربما العلاقة بين الإنسان واللغة. و... ربما الشعراء. لكن ينبغي لنا أن نقول أيضاً إنه يكفينا شاعرٌ واحد، قصيدة واحدة، لكي نظل نؤمن بأن الشعر يقيم الحياة... الشخصية من الموت.
ثمة الكثير من الشعر الرديء والقبيح والمرعب. ثمة الكثير الكثير من كتب الشعر التي تحتاج ربما إلى حرق لتخليص القرّاء منها وللحؤول دون تنفيرهم من الشعر، لكن ثمة الكثير أو القليل من الشعر الذي لا تستطيع البشرية ولا الفنون ولا الطبيعة نفسها أن تحيا بدونه، وهذا يكفي لكي تواصل الحياة سيرها بغبطة رغم كل شيء.
الشعر في أزمة؟! ومتى لم يكن الشعر مأزوماً؟! في كل الأحوال، من شأن القول الذي يرفع شعار أزمة الشعر وموته أن يحمل الشعراء الحقيقيين في كل مكان وزمان على أن يتابعوا فعلهم التراجيدي، لا أن يدعوهم هذا القول إلى "تصديقه" أو إلى اليأس و... الصلاة على روح الشعر، وإنْ كان الكثير مما في العالم الراهن يدعو إلى ذلك.
نعود فنكرر مع جان جيونو أن الشعراء هم أساتذة الأمل، فهل يئدونه؟!

ملحق النهار- السبت 23 آذار 2002

منتخبات (جهة الشعر)