عقل العويط
(لبنان)

عقل العويط"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (محمود درويش). على هذه الأرض ليس لنا سوى هذه الأرض، ولنا بضعة أقدار تساوي الجحيم والنعيم، وما يليهما. ولنا بيتٌ للنجوم والهجس كي نظلّ نجد ما يحاور الفجيعة ويرفع عنا كمد السماء في ليل النهار. ولنا كآبة الموت أيضاً، وركام التاريخ لنا، وألم الجغرافيا، ولنا صلف الجنون والأعمار. لكنْ لنا الشعر وفتنة العقل، ولنا ليونة الصخور في الينابيع، واللغة لنا وتخييل الخيال.

على هذه الأرض ليس لنا سوى الحياة. وسوف نحياها. ولنا لذة الخبز ممزوجةً بتشاوف الزيتون والعرق المثلّث وفكرة النبيذ عن نفسه، ولنا سعادة الاختراع في خلوة الكتب وعبقرية النساء، وبعض نيرانٍ لنا نشمّسها متى نشاء في محابر الريف والمدن. وماذا لنا أيضاً. كرامة الحرية وشغب الجنس. ولنا رغبة أن نشرب القهوة في الصباح، وأن نخاطب البحر وغيومه الساخرات في كل آن. ولنا أن نخبز الكلمات ونأكل شهوة جوعها، ولنا أن نلاعب بالزمن، ونتلاعب به، ولنا أن ننام تحت سماء مفتوحة أو مغلقة، ولنا خصوصاً أن لا نموت.

فليكن أيها القاتلون القدامى ما يكون، فليس لكم سوى أن تكونوا غزاةً، وأن تكونوا مَن تكونون، وليس لنا سوى أن نكون ضدّكم وأن نحسن ترتيب الصباح لنجعل المرايا أهلاً لعواطف الوجوه، ولنا أن نتمرد عليكم وعلى سذاجة السهول وعلوّ الجبال، ولنا ان نرفض لنرفض، ولنا أيضاً أن نسخر ملياً من كل شيء، ومن السماء إذا شئنا، ولنا إذا شئنا أن نبصق على تاريخكم ومستقبلكم، ولنا أن نصنع الجغرافيا على غرارنا، وأن نحسن وفادة الخريف والربيع لكي تكون لنا نشوة اللغة والجنس في الأرض وما عليها.

لا شيء يستحق العناء على هذه الأرض سوى الحياة على هذه الأرض. وسوف نحياها. لكنْ لنا الموت في هذه الأرض ولن ننصاع هيّنين في الذهاب إليه. ولنا موتٌ آخر يحيي الحياة وسوف نموته لكي ننجو به ونحياه. فهنا الوقت لا يزال في أوّله، وها هنا لم يحن وقت بكاء الضوء على أسباب الوجود.

إذهبوا إذاً إلى القتل أيها القاتلون القدامى والجدد، وسوف نظلّ نذهب إلى الحياة. ولن نحبّكم أيها الغزاة، ولن. وسوف نظلّ نحبّكِ أيتها البلاد ولن نقول لكِ ما قاله المسيح لأمّه في عرس قانا الجليل، فليس من عرسٍ ها هنا وإن يكن ها هنا شمال الجليل. وليتني في المنام أكون سرّ المسيح أو ظلّه لأصنع أعجوبةً للأرض هذه، وليتني أطرد عطشاً كهذا يطالب بالدم. وليتني أكون نوحاً وشبه سفينةٍ في اليمّ لأجمع من كل حيّ ذكراً وأنثى ينجّيان ذرّية الأرض من لعنة السماء.
وأنتِ، أيتها الأمم العمياء، اهدأي قليلاً لأن نداء ألوهتكِ ليس للسماء. تعيثين موتاً في جسد الأرض وملحها ولا ترتفع حنكةٌ تهدئ روعكِ الساخن أو تطردكِ إلى هدنة الحياة في هذه الأرض. لأجل ماذا ومَن تشربين وقت هذي الدماء. ولأيّ هيكلٍ، ولأيّ موهبةٍ، ولأيّ صنمٍ في السياسة والجغرافيا ترفعين وقاحة القرابين. وما لنا ولكِ أيتها العمياء، تنتزعين من الوقت رعشة الحكمة ثم تفترسين الهبات والآثام اللذيذة لتزعمي أنكِ بوصلة الأرض للسماء. أهاليكِ رهائنكِ، وهُمُ الأهالي جميعاً، والأرض والحياة، وهم لا يعثرون على عصا تقودهم في قسوة الفناء، ولا عربدة المصالح تنبئهم بنعم المصير. خطأكِ لذة الفوز في الحسابات العمياء، ورهبة أنكِ تدفنين الأرض تحت الأرض، وأنكِ تخطئين حياة الأرض والحياة.

إهدأي كثيراً وقليلاً ليأخذكِ الارتواء إلى محنته، ويأخذكِ الهباء إلى لذة الهباء. يسألكِ الجسد أن تذهبي إلى الغفلة لكي يكون نومٌ في الليل واجتهادٌ في النهار. ويسألكِ أن تدمعي قليلاً لكي تمسحي عنه صلف الصحراء.

على هذه الأرض ليس لنا سوى الأرض. وسوف نحياها. ولنا كثرةُ أحقابٍ من التاريخ وبضعُ آهاتٍ من الجغرافيا. فها هنا ما يمنعكِ من مجانية البذل أيتها الروح، وها هنا ما يطالبكَ ببطولة الاجتراح أيها الجسد. فهذه الأرض لا تزال صالحةً للقمح وجنحة الزيتون، وتصلح أيضاً للشعر والحب والغناء. وها هنا الشعراء هؤلاء، يصنعون حياةً للحياة، فأين تذهبين بالأرض وبالحياة.

هلمّي قليلاً أو كثيراً يا كآبة الجسد والروح، فثمة فجرٌ لا يزال يستحق رنين النهار، وثمة جموحٌ لا يزال ينمو في الوهج ليفوز على الفراغ. لكنكِ أيتها العمياء الأمم تسفحين شموع المساء ليزهر خارج النظرات، ولا شيء تجمعينه هنا على هذه الأرض، ولا أيقونة تزيّنين بها أوجاع الثوب لتلطّف أعباء الجسد. حكاياتكِ الصمّاء ترجّ في الأفق فلا ينفتح لها بحرٌ ولا تنمو لها واحةٌ في صحراء. تنزفين المصائر على البشر فلا يجدون رحماً للاحتماء. فبئس ما تفعلين أيتها الناظرة العمياء. ها هنا أيضاً مائدةٌ لفجيعة السمر. وها هنا مائدةٌ لجلاّسكِ أيتها الروح، وهم لا يحسنون سوى فتنة الموت. جلّ ما يستطيعونه لا يمنع عن الأنهر وجع الأنهر. وجلّ ما لا يستطيعونه لا يحول دون القرابين.

تحت الموت، لا شيء نخسره بعد الآن، وقد خسرنا كل شيء تقريباً: الأرض والحياة ولذة اللغة والحب ومتعة العبور بين الجحيم والسماء. القدر الذي يضعنا في معادلات الأرض لا ينقذنا من معادلات الأرض، ولا المكان ينقذ نفسه من محنة الحياة والمكان. لكن، ما لنا ولكِ يا أمم الأصنام. غضبكِ لم يعد يصلح لإنجاب الحياة على هذه الأرض، ولا الأرض نفسها ستصلح بعد الآن لترّهات الشمس والظلال. فها هنا لن يكون من محلٍّ للهواء على هذه الأرض. وها هنا السماء والجحيم ستلتقيان في صلافة الموت. وهنا النزهة، فكرة انتصار الشعر على الموت. فهل من فكرةٍ هنا لتنتصر الأرض على نفسها، وتنتصر للحياة!

على هذه الأرض ليس لنا سوى بقايا الحياة. وسوف نحياها. ولنا ما تبقّى من الأرض لنشيّد حكمةً بيضاء للشعر نحيا ونسترشد بها. ولنا الحرية لنختار ونرفض ما نشاء. ولنا أن نناديكَ يا شكل الموت لتنأى عن المعنى، فاترك لكثافة اللغة أن تحيا بذاتها، واتركها لتحول دون انكسار العشب للكتب. هؤلاء الذين يذهبون إلى الموت، يموتون. هؤلاء الذين يسكرون بالعيش، يسكرون بالعيش حين يتبقى لهم العيش. لن يقول القائل هنيئاً للذين لا يعرفون الشكل لأنهم سيفتقدون هيبة المعنى. ولن يقول هنيئاً للذين يتجاهلون ضوء العيش لأنهم سيتعايشون مع مسؤولية العتمة. فهنا أيضاً لن يكون من محلّ للماء. فليمت الموتى إذاً من نهم الموت. وليحنّ الجوع على الأجساد المهيضة لئلا يرفع عنها رحمة الافتراس. وليدحرج الأصنام إذاً صخرة سيزيف إلى جهنم ليعودوا يرفعونها إلى كذبة الصنم. وهنا، حيث لن يكون من سماءٍ سوى هذه السماء، ماذا تنفع السماء وملائكتها كلما انحدر نجمٌ إلى آفته العليلة. وماذا ينفع ميناء إذا انذهلت مرساة عن قعرها. هنا الرمل سيستوفي شروطه أيتها البيداء، وسيهب المنازل حنكة الدمار أو الاختباء. وهنا قليلٌ من صوتٍ يمنع احتباس الألم. فهذه بلاد صُنعت لتلتهم خدوش أطفالها. وهذه بلادٌ صُنعت لتكون حديقة الفناء. فلِمَ الأطفال إذاً، ولِمَ جنحة الخيال. وثمة الكثير من الجنون لكي ينشغل ضوء الشمس بضوء الركام. فلا بأس إذا قالت امرأة إنها تريد أن تنسى وتنام. ولا بأس إذا لم يشأ طفلٌ أن يروي حكاية نومه العبثي. ثمة الكثير من الصمت ليروى فلا حاجة لإعمال الصراخ. فاذهبوا أيها الأطفال إلى الحياة كي لا تذهبوا إلى لعبة الموتى واجتهاد الرعب. وإذا شئتم هاتوا دموعاً لنرشّها على البحيرات وضجر الملح. فها هنا لا فائدة من الدم ولا فائدة من نقيضه. وها هنا ضاق المكان بالشرود واليتامى. وها هنا لا قيمة للحياء.

إذهبوا إلى القتل أيها القاتلون لكي يشرب الدم فنون الحياة. وخذوا الأرض إلى جهنم لأنها ليست بنت السماء. وماذا بعد. بضعة أقدار تمارس أقدارها إلى أن تجهز الأقدار على خبرة الحياة. ثم ماذا بعد أيها القاتلون. فهذه أرضٌ تنتظر الحب والشعر لكنْ يصادرها جوع الدماء. وهذه حياةٌ تنتظر جنون العيش لكنْ يمنعها قدر البكاء.

إذهبوا إلى مصيركم أيها القاتلون القدامى والجدد، ولا توقفوا مهازل الكتب والأساطير. لا تهدّئوا سماءً ونجومها. لا تبكّتوا جحيماً ونيرانها. فها هنا حديقةٌ كبرى تحفل بمأساة العبث. وها هنا القتلة والشهداء سيجدون مكاناً للالتقاء. وسيعثرون على ظلال وافرة لتزجية الوقت الذليل والعقل المضاد. ولا تحاولوا أن تفسّروا شيئاً يسخر من التفسير. إربحوا الحركات البكماء لأنها ستؤجج الشكل. واربحوا النظرات لأنها تجعل الأسلوب هو المعنى. فما من سبيل إلى لوحة تخربط هندسة الجدار الأعمى. ولن ترضى الموسيقى نفسها بأقلّ من فضاء الموسيقى نفسه. وها هنا ستنام السماء في الجحيم، وها هنا ستتبادلان العري الجوهري. وها هنا في الموت الكثيرُ من الله كالقليل منه، كالهواجس السكرى بنفسها. فماذا يقول المرء لمحنته عندما سيهجر الشكل معناه ليبحث عن المعنى. وماذا يقول الموت للموت حيث لا طائل من شيء يذهب إلى مثواه من تلقائه. وماذا سيقول الشيء للشيء حيث لا طائل منه إذ يعود. خذوا إذاً أيها القتلة والأصنام ما تشاؤون من الحياة وأرضها لأنها ستخضع لمحنتكم في الخيانة. وخذوا ما تشاؤون من الموت لأنه صنيع نفسه. لن تختلفوا حول الروح ومعناها. ستختلفون حول الأرض والحياة. ولن تختلفوا على المعنى لأن الشكل سيحنّ على معانيه ويحتضن خفاياه. لا تزالون قادرين على صنع الانتباه لأشكالكم فاصنعوه. لا تزالون فقط قادرين على ابتداع الموت فابتدعوه. للأسباب هذه ستسخر الأرض منكم عميقاً وستسخر منكم الحياة لأن القتل هو إلهكم الجميل الإضافي، وسيفوز بلذة الموت. القتلة والشهداء سيكفلون لأنفسهم أن يعثروا على المأوى. هاتوا أرضاً وسطوحاً وحياةً واجعلوها شبيهةً بغيوم اللاجدوى. هاتوا ضوءاً لتمنعوا عنه شظايا الهواء. فماذا ستنفع شمسٌ هنا حين تشتدّ، إذا كانت تبعثر شظاياها كلما فكرت في فجاجة ضوء. الموت سيؤجج الشكل وهو يفعل ذلك من أجل معانيكم. إذاً فافعلوا ما يحلو لهذا الموت أن يكون. وكونوا شديدي الوضوح لأن الالتباس يؤذي يأس الرجاء. التراب أيها القاتلون والأصنام يضفي على الضحية رونق العبث. والعبث يضفي عليكم رونق القتل. إذاً فامنحوا التراب رتبة الطقوس العصماء. وامنحوا الصخور خلاص الحواس المهيضة.

أيتها الأمم الصماء، يا فجيعة الحداثة وما بعدها. ليس لنا على هذه الأرض سوى الأرض وسوف نحياها. خذوا الحياة فلن تأخذوها. إذ لا يكفي أن يعمّ الخراب لكي يكتمل الشكل. فها هنا لا يرتوي الشكل إلاّ بالعطش حين يكون لانهائياً، ولا يكتفي بالمعنى لأنه سيزداد. فافعلوا ما يطيب لهذا الشكل أن يؤديه، فالمحنة أن لا تجدوا عطشاً يكفي لكي يعبّر الشكل عن محتواه. هؤلاء أمهات يصلحن للدموع، وهنّ يفتحن المآقي لاستقبال هجرة البحار. إذاً لا خوف على العيون لأنها ستجد دائماً ما يبلّلها ويمنحها غبش الرؤية. من الصعب أن تجدوا مكاناً يستوي على هندسته الجمالية. كل الجماليات تستطيع ان توضح جنونها. يجدر بالعشب أن يحزّ أعناقه لكي يتكئ المكان المهدور على أرض صلبة. ويجدر بالماء أن يعطش لأن العطش شقيق الجوع وتوأمه الخلاصي. لا اكتفاء بعد الآن لأن الاكتفاء صنو القناعة وهذه ليست كنزاً لكنْ خديعة. وماذا ستنفع الكتب لأتباعها والوعود للأرض والأوطان للمواطنين إذا باءت الحياة بالفشل أو إذا التحقت بعبثية اللاشيء. هنا كتبٌ، هنا وعودٌ، وهنا أوطانٌ كثيفة لمواطنين موتى. وهنا أيضاً مواطنون صالحون لأوطان لا تصلح للعيش. فماذا نفعل بهذه وهؤلاء وكيف نرمم الشكل ليكون صالحاً للمعنى.

أيتها الأمم الصمّاء والعمياء، يحسن بالأحياء ان يتركوا لحنان الموت أن يكون جائعاً. يحسن بهم أن يجعلوه كثير العطش لكي يشتدّ أواره في الفرصة القصوى. فليس لهذه الأرض سوى ما يصلح لهذه الأرض من بوار. وهنيئاً للبيادر وقمحها. وهنيئاً للجموح والريح إذا أخذت الدروب في دروبها. اكتبوا على ضريح هذه الأرض أن الأوطان تبنيها الحياة. واكتبوا ما شئتم أن تكتبوا لأن الهواء سيمحو الهراء والهباء والسماء.

على أرض لبنان القتيلة ليس لنا سوى الحياة على هذه الأرض. وسوف نحياها. ولنا الشعر والحب ولنا الغناء. ولنا كرامة الحرية وشغب الجنس واللغة. فليذهب القتلة إلى الجحيم وليذهب الشهداء إلى السماء. لكنْ هل من جحيمٍ وهل من سماء!