ما يهمّني من هذه الرسالة إليك، التذكير بأني أحد تلامذتك السابقين، الأوفياء لكن الخارجين على السلك، وعلى كل سلك. فقد تنشأتُ أيضاً على فن الحفر، وهو الصنعة إياها، تُعمِل في صخرها وترابها، في مائها وغيمها، في خلدها ونسيمها، وفي العابر اللطيف والعواصف، وفي الحواس جميعاً، وما سواها، خيالاً وحساً وموسيقى واستبطاناً، غفلةً وانتباهاً، جبالاً وسهولاً ووهاداً، وفي الفراغ العابث الطلق، نيلاً وإغارةً وبصبر جهيد. كأن الجماد، أو اللاشيء، أو الصَّبا، أو النبع السلسبيل، سينطق بعد قليل، أو سينمو، كلما ذهب أزميلك اللغوي، أو احتفاؤكَ الحيي، أو بناء الموسيقى، في العادي، وفي المادة الصمم، أو في الهباء، إلى أن يشعّ الذهب الخالص من كل عيب، كنهر لا تعتوره شائبة تراب، وكمجرى لا يشبه سوى الرحم الملموسة جنباتها اللينة، بالتؤدة الملحاح خشية الجروح التي تفسد الوئام.
لا شيء يشبهك ولا أحد، سوى انحنائكَ على أمّنا العربية، وهي الفتاة أيضاً، هذه السخية العارية المنيعة المتأبية الخجولة المبذولة على ضمّ وشمّ، تثير أنتَ فيها الشجو حيناً، وأحياناً تثير الغبطة، وما بينهما من أشكالٍ للوصال والأوصال. كأنكَ لا تعرف سوى ذلك، على حبكة موسيقى، وعلى حنكة الخفر الخفيّ المستلذّ بالجنس، حين ينعم ويمعن، وحين يلج وينسحب، وحين يعلو ويخفت، وحين يتعالى ويخفض الجناح، على ألفة السكنى ورحابة التجوال، باغترابٍ ووحشةٍ، وبالتئام الشحذ، على كبرياء التواضع وتواضع الكبرياء، وكلاهما شغل الانشغال، وكلاهما شكلٌ، وأنتَ غير آبه لسوى الوشوشات والمتوازنات، وهي آهاتٌ لا تئنّ إنما لتنادي باليد والوجدان، وإذا تكلمتْ فمن دون استماع، ذلك أن الإنصات إنما هو لصوت الجمال، وهو بلا شبهة ولا صوت.
لن أشبّهكَ بشيء أو بأحد، بسوى الانعطاف الكثيف على أمّنا الفتاة، والذي يخلو من ذاته ليختلي بها. وهو الفعل باللغة الذي ينفعل بنفسه فيلدها ويعشقها، فكأنها البداهة وهي الصنعة حتى لتبدو خلواً من اصطناع الجاهدين المجتهدين. كأنها تهجس بخفية الحرام وهو حلال، وبوضوح الحلال وهو حرام، وكلاهما لصٌّ، وكلاهما شكلٌ، وهو المعنى، وكلاهما توأم الجمال لديك، فلا تنفضّ عن هذا إلاّ لترتدّ على ذاك، في حبكة الورد والشوك، فلا يكون هذا وذاك إلاّ بنفسيهما والجسد معاً، في فتنة الشيء وضدّه. وما أحلاهما، وما ألذّ.
لن تتذكرني بين التلامذة السابقين، لأن من أوصافي الحفر والانصراف عنه، لكن ما يجعل الدويّ يهدر صخّاباً بدون صوت، وأيضاً في ما ينسحب تحت العمق، فيُنسي الانشغال بالبريق وإن ذهباً، ولكن أيضاً من دون أن يُعمي ويُخرج على صراط. حتى لكأنكَ ترضى بالضدّ، وهو جمالك الخلفي، وترتضي المنوال وهو تحريضٌ على الخروج. وكلاهما شكلٌ، وكلاهما المعنى.
لن تتذكرني بين التلامذة قارئاً العربية، أمّنا الفتاة، شعرك ونثرك، وسواهما في اللغة، وناسيهما، أو المتناسي، على انتباه الخارجين. وما أطيب الخروج حين يعرف، وما أجرأ العودة حين لا تقع في التكرار. وهذا وسواه، شغل الذين على الصراط وفي الخروج، يأكلون ويشربون ولا يرمون حجراً في بئر، إلاّ ليرنّ صوت النبع السلسبيل ليس سواه، ولا أحد يدري كيف اللغة تظل المرأة الفتية وإن نحن راودناها مراراً كنهر، ومراراً كخيالٍ لصخر. ولا أحد يدري ما الحجر سوانا، نحفره إلى أن يكون ماء، ولا أحد يدري ما الماء، وما الهجس، وما صناعة الجوهر في هذا كله، إذا شاءت الكيمياء ذلك وسواه.
لن تتذكرني بين التلامذة، ولا أتذكر من ذلك كله سوى أنكَ متألق كحجر من ماس، كموشور تحت شمس أو في عتمة ليل قمري مهيب. أتذكر أيضاً أن الجمال، كم يصعب علينا أن نعرف كيف التعامل مع شكل الجمال، وموسيقاه، وكيف يكون النقش في لذة اللغة التي تصير أخضر مشمساً أو أزرق مقمراً. لا أعرف من ذلك كله سوى أنكَ العامل في الأرض السموح، وهي أحجار وتراب ونار ومياه ومناجم تخييل وعبث، وستضحك لي، وستغمزك اللغة أن تغضّ، لأن لا أحد سيوقف النبع، ولا أنتَ، لأن النبع يظل ينده مياهه إلى التبذير، وأحياناً باجتهاد، وأحياناً بالغفلة الكبرى، وكلاهما الأخ والأخت، كعشّاق الأزمنة البلا حلال وحرام، وهي اللغة التي ستولد من الضرب المستميت، لكن الليّن، على المعدن، وهو الحواس وسواها. وهذه هي اللغة، شكلها، موسيقاها، بناها، وأسرارها. والبقية تأتي.
ما يهمّني من هذه الرسالة إليك، أن أذكّر القراء بأنكَ ولدت عام 1904 وتوفيت عام 1976، أي منذ ثلاثين، وتركتَ "الديوان الجديد"، و"دفتر الغزل"، و"المفكرة الريفية"، و"كتاب المئة"، و"ذات العماد"، و"كتاب الملوك"، و"تحت قناطر أرسطو"، و"الدقائق في اللغة". وأنكَ جدير بإعادة قراءة متأنية، إكراماً لتجربتكَ الفذة نثراً وشعراً، وللجماليات التي تنتمي إلى المدرسة اللبنانية، وخصوصاً لدوركَ في صناعة شكل اللغة العربية، وفي نحت خاتمها.
النهار الثقافي
9 تموز 2006