بطاقة لشخصين
القطارات لا تخيف لكننا نظل نفكر بأن لها ماضياً مع الحيوانات المفترسة وتجارة العبيد. أنها لم تصل إلى هذا الضبط إلا بالعسف. وأنها لا تزال تجر طولها المؤلم بحثاً عن نهاية هاربة. إذذاك يمكن للخط الحديدي أن يختفي كعلامة رق لم تعد لازمة.
نظل نفكر بأن فنها لم يتقدم. أنها تزداد شبهاً بالأقفاص وتبدو هي نفسها مكبلة مهجورة في أرض المحطات. يلازمنا الشعور بأننا لا نكون أبداً في حجمنا فيها، لنا القاع نفسه الذي لحقائبنا. الضيق يجعلنا نصدع للأمر فيما يشكل السقف والجدران القاسية قانوناً. ذلك لن يصمد أمام المسافة التي لا يتوقف فيها القطار عن التمدد. تبتلعه السرعة والمدى فلا يبقى سوى طول مؤلم يصفر بلا انقطاع وينمو بلا حياة كشعور الموتى. أذذاك نختفي نحن في البعد الواحد، بدون أن نتحرر ولا يبقى على الحائط الواحد أي شيء.
يسلموننا أرقاماً متسلسلة، البطاقة لشخصين ومعها يمكن أن نستدعي شخصاً واحداً، سيكون في الغالب مفقوداً.
تنزّ من يومين أو ثلاثة في باريس ولن تتوقف إلى أن لا تبقى روح واحدة في الشارع وتمتلئ المحطات بالموتى. الأرواح أيضاً محصورة وتطير بثقل. ربما لهذا نرتطم بها أو نشعر بأن الكآبة والبرد يزنان في رئاتنا وأننا نزفر هواء ثخيناً.
تنزّ من يومين أو ثلاثة في باريس والهواء، أزرق تماماً. الأرواح أيضاً قابلة للتكسر أو أنها تشف في الزجاج، ويمكن، بلا خوف، أن نرحل سوية في الجو المبلل نفسه.
البلل يسوقها إلى المحطات، وببطاقة لشخصين يمكن أن نستدعي واحداً.
سيكلف هذا أكثر من خاطرة. سيتطلب رقماً متسلسلاً وتذكرة فالمراقبون يعرفون، أن لا بد من ميت، ليساعدنا على اجتياز هذه المنطقة الخالية من الريح. لا بد منه لنستطيع القفز معاً إلى البعد الواحد والرجوع بعد لحظة اختفاء كاملة. نعود مبللين أو غائمين. هذا ما يجعلنا، بسهولة الرادارات، قادرين على أن نلتقط هذه الكائنات التي تقع مع النز الخفيف. ولا نعرف من أين جاءتنا.
نسافر مع كتاب. يقول إن التحضير للموت يتطلب وقتاً أطول من الحياة. الموتى يفضلون أن يسافروا في كتاب.
تنز من يومين والهواء أزرق والزجاج يحملهم إلينا. لن نحتاج إلى زرع مؤلم لهم في أجسادنا، لا إلى تمزيق الجلد ولا عملية التحول المؤلمة. لن يخرجوا. سنكون اختفينا قبلهم وسيتم ذلك بقفزة واحدة. سنكون معاً سياحاً تحت المطر. سنحملهم كالعصافير على أكتافنا.
سيكون (ب. ح) في عيني اليسرى. سنرى أشجاراً تتفرق وتجتمع بدون أي ذكريات مركبة، وبدون الحذر من الفراغات التي ملأت صداقتنا. فنحن هنا لم نذنب وسيكون أسهل علينا أن نردّ المفتاح، الذي لم نستطعه، إلى العالم.
بوذا
شاب عمره مئة عام
قرأ عن القرد ذي القفزة الطويلة
الذي بواحدة يجتاز جزائر ومدناً
وبالطبع لا ينظر إلى أسفل
يريد فقط أن ينتقل فحسب
أن يكون كل لحظة في مكان آخر
مزيداً من المسافات ولا يهمه أن يعرف
أين ولا ماذا يوجد هناك
كان يطوي العالم بدون أن يراه
في النهاية لم يبقَ أمامه شيء ولا مسافة
بلغ آخر العالم
ولم يجد بشراً ولا حيواناً ولا حتى مكاناً
لم يجد نهاية
كان بلغ الخلاء الكامل
ولم يعد أمام القرد ذي القفزة الطويلة
إلا أن يجعل نفسه بوذا
ويجلس على العرش
شاب عمره مئة عام
لم يكن ذا قفزة طويلة ولا قرداً عجائبياً
كان بالعكس يكره الخروج
يمضي أوقاته في الحجرة نفسها
كل يوم بالترتيب نفسه
لقد وصل بالتدريج إلى هذا الكمال
ولا بد أن هذه هي الشيفرة الصحيحة
وأي تغيير سيقلب حظه
ويجعله عرضة للتهديد
لذا كان من مكانه
يقفز عن كل رغبة مخالفة
أو تجربة طنانة
عن طفولة بقيت في الكيس
وفؤاد مشطور
عن حياة آخرين
لم يحسنوا المشي على الجدران
كان يقفز قبل أن تصبح الحياة جَبَلاً
وقبل أن يتعسّر عليه حمل مكتبته
ونقل بيته على ظهره
كان يقفز عن بضع سنوات
وأحياناً عن عقود كاملة
يقفز ويقفز
وفي النهاية يصل إلى مكتبه فقط
وليس هذا آخر العالم
لقد قطع مئة عام ووصل شاباً
تجاوز كل التجارب بدون أن يعيشها
إنها حياته كاملة لم تمس
لكنها تخشبت من قلة الاستعمال
هذه التضحية بدون مقابل
تستحق إلهاً
الشباب الذي يدوم طويلاً
هو نصف السلطة
نصف الموهبة
النصف الذي يحزّ على الإصبع
وأحياناً على العنق
وهو أحياناً نصف الوجه المقلوب
الذي يمكن أن يكون
لأخناتون
أو بوذا
مُنَصّبيْن على المكتب
اليد
لم يخطئ طلقة واحدة بينما لم أصب أنا في أي مرة. تذكرت أنه أمضى صيفاً في معسكر تدريب. مع ذلك أعاد البندقية الى بيار. لم يكن يحبّ البرية ولا العصافير وخصوصاً البنادق.
كان يصيب لأنه لا يستطيع أن يفعل العكس. حين تملك يدين قادرتين فإنك تستطيع أن تتكلم وان ترقص وان تغازل وتستطيع أيضاً أن تخاصم وأن تقتل. اليد سعيدة لأنها لا تعرف الحيرة ولا تقدر على اليأس وبالضبط لا تستطيع أن تتوقف. هذه هي المشكلة، فمن لا يستطيع أن يتوقف لا يعود حراً ويفقد قراره وربما يفتك بأي شيء، وفي مرحلة لاحقة لن يجد سوى نفسه ليدمّرها.
اليد تشبهنا كشقيقة توأم لكنها يمكن أن تكون أيضاً مسخاً بشرياً. إنها تشبهنا ويمكن أن نقيم فيها. أن نوجد على شكل قبضة مضمونة أو أصابع لاهية، ويمكن أن نغتر بهذه السعادة، بدون أن ننتبه الى أنها تجعلنا نفكر بأن نلوي أعناقاً.
لم يكن ب بحاجة الى أن يصيب وفي الحقيقة ليس لديه ما يصيبه. كان يصل بدون أن يتحرك أو بطرق أخرى. انسحب من عالم الأيدي المتشابكة أو المتضامنة أو المتصارعة. لم يجد نفسه في هذه التقاطعات.
كان يعرف أن اليد هي إنساننا الصغير ومن الجميل أن نولد كأيدٍ في حياة ثانية، لكن لم يملك قلباً لهاتين اليدين. وفي لحظة رآهما كفأسين محتملين وخاف منهما على نفسه. لذا كان يطويهما كما يفعل طائر عاجز عن الطيران ويتوقف عن استعمالهما. يتركهما أحياناً تلهوان لكن رشاقتهما لم تعد تخدع، وتلك المحاولة لتقليده أو إعادته شاباً أو ولداً لم تعد تؤثر.
كان يفضّل أن يعيش في رأسه حيث يمكنه أن لا يفكر. في قلبه وكبده وحتى في عموده الفقري بعيداً عن تعريشة الأيدي المتشابكة المتضامنة في الشارع، أو أكياس القفّازات الجماعية.
كان حياً أكثر في قاموس للمهن وحتى في دليل للهاتف، حيث شبكات اللاشيء.
كان سعيداً حين يبتلع التاريخ العائلي لكلمة، أو يعرف عن أشخاص لم يكونوا في الواقع سوى قواميس كانت هنا حياة أخرى ولا تحتاج الى أكثر من فهرسة صحيحة وترتيب مقبول. كان شعره ينوفر ويسيل بدون أن يعني ذلك سوى أن وجوده يزداد قشاً. يا للسهولة، يا للوفرة التي لا تحتاج الى أي قوة.
كان فقط يجلس، وبيدين غير موجودتين يرفع الكأس ويرشف، ببطء، الزوال.
علب الصمت
يظل الكتاب يتشرّب رطوبة ويبتلع غباراً طوال سنوات. إنه مليء بشيء غير الكلمات. ذلك ما لا نعيره انتباهاً إذا كان للكتب وزن بالنسبة لنا فهو للنشارة التي صنعت منها. الكلمات لا تّزِنُ ولا توجد وليس لها جسم أو نَفْس بالطبع. لذا لا نعرف من نتهم حين نجد ورقتين ملتصقتين، ولا نفهم إذا كان هذا ذنب الكلمة أم ذنب الصفحة.
لن يخطر أن الأوراق سايرت طبيعتها، وأن الغبار والرطوبة تفاعلاً، وأن ثمة عناصر يمكن أن تؤدي الى تآكل الأوراق واهترائها. سيكون عطباً كاملاً بالنسبة لنا ان تتوارى الكلمات، فيما أن الأمر لا يعدو أن الأوراق مارست مادتها على نحو كامل، وأن قدرتها الآن بدت أفضل بكثير.
لن نفهم أن الكلمات لا تزال موجودة تحت الصفحات الملتصقة، وأنها الآن، أكثر من الأول، في حفظ وأمان. لن نصدق أن هذه هي حقيقة الكتب وحقيقة الكلمات، وأن أي اتفاق آخر ليس سوى بيننا وبين أنفسنا.
الكتب وهي تنطبق أو تتماس تتوصل الى شكلها أو تحققه بالتدريج. فيما لم يكن للصفحات المنثورة المفتوحة من الجانبين أي شبيه حقيقي. انها عملية عظيمة وصعبة وينبغي أن تتم بقدر من الرصانة والجد، لذا لا تبدو الكتب في حال من التفكير كما تبدو خلالها. لها عندئذ وجوه مكشرة تصرّ طوال الوقت على أسنانها. إنها بين فكّي ملزمة تمضغ الغبار وستندغم كل صفحة باعتداء فعلي. هكذا يتم إخلاؤها من الرطوبة والهواء وكل علّة أخرى للحياة والفساد.
أما الكلمات فستتعرّض لحنق صامت وتنتثر كالنمال الميتة في انتظار أن تتحجر مع الوقت وتنطبع نهائياً في الداخل، هكذا تصل تقريباً الى كمالها. ستتخذ أشكالاً ليست لها. ستنطبع على هياكل زهور وأعشاب وحشرات، وتخرج من محنة المعنى بهذا النحت الذي لن يكون أقل استغلاقاً.
ستكون هكذا إشارات هيروغليفية تتحطم حين نحاول فكّها أو التفكير فيها، تمائم للحظ والحب نحملها حين نفقد إيماننا بالحظ أو الحب. لقد ظلت تمضغ غباراً أو فراغاً، ونحن نصغي ولا نعلم أن هذا كان صوتها وهي تأكل من الصفحة والزمن. لم يكن مهماً سوى أن تنطبع نهائياً فيهما، سوى الفراغ الجامد، الفراغ الذي يزن وينطبق. إنها تخلد كأعشاب متبلرة في المادة التي تتكون، في الكتب التي تنغلق الى الأبد متطلعة الى القرون الجديدة. الكتب التي تتحول الى علب للصمت.
السفير
30-10-2009